فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
29

رقصات الغُنْج من أين وكيف ظهرت؟ 

العدد 29 - موسيقى وأداء حركي
رقصات الغُنْج من أين وكيف ظهرت؟ 

من أكثر الكلمات شيوعا واستخداما، وبالذات فى حفلات الزفاف والأفراح فى جميع طبقات المجتمع هي كلمة “عوالم”، حتى ولو كانت على سبيل المزاح. وسواء كانت الزفة أو الفرح في فندق خمسة نجوم أو في زقاق لحارة ضيقة متفرعة من شارع كبير، نجد الطلب وبشدة على هذا الشكل والأداء التعبيرى الحركي، حتى ولو كان غير مرغوب فيه. فالعوالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، أداؤهن التعبيري الحركي كان من أوائل العروض المطلوبة فى حفلات الزفاف والأفراح والكثير من الحفلات العامة والخاصة.

أما اليوم فيقمن بعروضهن في البعض من حفلات الزفاف والأفراح الشعبية. كما أصبح هناك فِرَقٌ متخصصة في هذا النوع من الأداء فقط لزفة العرائس والعرسان.
ومن الأدوات المشهورة والمستخدمة من قِبَلْ المؤديات لهذا الأداء الحركي في حفلات الزفاف والأفراح في جميع طبقات المجتمع هي:
- الشمعدان: والذي يوضع على الرأس وله عدة أشكال والتى تغيرت بمرور الوقت، سواء لخدمة الأداء الوظيفى أو كعملية من عمليات التطوير، فالشمعدان فى أواخر القرن التاسع عشر غير شمعدان القرن العشرين، والذي تغير الآن وأصبح يضاء بالكهرباء.
- الصاجات: التي تُعلَّق في أصابع اليد وتستخدم لعمل أصوات إيقاعية مكملة “percussion” والتي تضبط وتقوم المؤديات بأدائهن الحركي على إيقاعها.
- الدفوف: التي يُدَق عليها سواء من المؤديات “الراقصات” أو الفرقة الموسيقية المتواجدة في حفل الزفاف، وفي بعض الأحيان يُدَق عليها “الدفوف” من قِبَلْ أحد المدعوين من أهل العريس أو العروس.
ولكل من هذه الأدوات تاريخ، وقصة، وجذور، وفكرة، في العادات والتقاليد والتصور الشعبي في تاريخ الرقص الشعبي المصري، بل وأيضا في المعتقد الديني.فمنها ما بدأ بفكرة ومر باستلهام وتطور لينتهي بالشكل الذي هو عليه الآن، ومنها ما يزال كما هو ولم يطرأ عليه أي تغيير، سواء في طريقة الأداء أو الشكل.
وما زالت راقصات هذا النوع من الأداء تستخدمن الشمعدان حتى الآن في حفلات الزفاف، والتي تتكون من موسيقى وغناء وخطوات تعبيرية حركية. فيبدأن أداؤهن الحركي من أمام باب الفندق وذلك أثناء سير العريس والعروس مع أهليهما والأصدقاء وحتى قاعة الحفل المعدة للفرح. هذا بالإضافة إلى استخدام المؤديات للدفوف والصاجات أو أي منهما. وبنفس الطريقة والأداء، يتم ممارسة هذا الشكل من التعبير الحركي في الكثير من حفلات الزفاف في أي مكان آخر، والتي تبدأ من أمام بوابة المكان أو الصوان المقام فيه الفرح وحتى مكان جلوس العريس والعروس “الكوشة”، مع الاختلاف في عدد الراقصات وعدد الموسيقيين التابعين. وكانت الراقصات في الماضي يؤدين عروضهن الراقصة بعد انتهائهن من رقصة الزفة أمام الحضور والمدعوين وذلك بعد وصول العريس والعروس للكوشة، ولكن اليوم تغير الحال وأصبحت هذه العروض تؤديها راقصة أو عدة راقصات أخريات، والمعروفات اليوم بالراقصات الشرقي، وذلك إما مع فرقة موسيقية أو على موسيقى مسجلة. وأما موسيقى وغناء الزفة، فما زالا كما هما، وعلى أقصى تقدير منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى الآن، مع تغيير في سرعة إيقاع الأداء الموسيقي والغناء ودخول الأغاني الجديدة والحديثة للأفراح.
ولكن يبقى السؤال عن ماهية العوالم، وهذا الأداء الحركي ومدى تداخله وارتباطه في  الفكر العام على كافة مستويات المجتمع، بالإضافة إلى المؤديات والمراحل التاريخية لنشأتهن وطريقة أدائهن وملابسهن. .. إلخ. إذ لا يقتضي الأمر عند حدود التخيل والاستلهام لخطوات المؤديات أو ذلك المشهد وتلك الرقصة. وهذا الأمر يقتضي الكثير من البحث والتنقيب بل والاطلاع على المصادر التى أدت إلى هذا الشكل الأدائي الحركي، سواء في الحضارات القديمة التي توالت على مصر، والعادات والتقاليد القديمة والتصورات والمعتقدات الدينية التي أثًّرت على الشكل والأداء الحركي ولو أنه من الصعوبة تتبع هذا النوع من الأداء في التاريخ وتقويمه على أسس فنية صحيحة. ذلك لعدم وجود دراسات وافية له، ولأنه ظل فترة طويلة من الزمن يُنعتْ أو يُتخذ كوسيلة من وسائل إثارة الحواس واستهواء الشهوات. والرقص عموما، والشعبي منه على وجه الخصوص يحتاج إلى النظر في حلقات التاريخ وأحقابه على أنها متداخلة، حتى تلك التي يتداخل عهدها بالعهود الحديثة ولا يكترث بحصرها المنقبون.
ففي الآثار القبطية نجد صورا على الأقمشة الصوفية يرجع تاريخها إلى القرون الأولى الميلادية وعليها صور من الرقصات القديمة والتي كانت تشترك فيها الصبية والنساء، وحركاتهن تمثل فنونا من الرقص الشديد الشبه بالرقص اليوناني القديم. وفي  العهد الإسلامى نجد نماذج للرقص ممثلة على بعض الحليات والزخارف أغلبها من العصر الفاطمي والذي استمر في مصر ما بين القرنين العاشر والثاني عشر، وعلى الرغم من قلتها إلا أننا نجد أن أسلوب الرقص في تلك الفترة كان يتميز بالاحتشام أكثر من ذي قبل مع فقدان الطابع الديني الذي كان يدعمه. ويتعذر بعد هذا العصر متابعة الأطوار التي مر بها الرقص باستثناء التنويهات الوجيزة عنه في بعض الكتب العربية لعدة قرون، إلى أن يظهر مرة أخرى في مراجع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وذلك من خلال رسومات ووصف الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر في تلك الفترة، فنجد الكثير مما كُتِب عن أساليب الرقص والمؤديات له، وشرح لطرق أدائهن، وتفاصيل ثيابهن، وأنواع الحركات، والأغاني والموسيقى المستخدمة.
وإذ نجد فجأة أن هذا الشكل من الأداء الحركي يأخذ في التدهور تدريجيا في القرون الأخيرة، فنجد الكثير من كتب النصف الثاني من القرن التاسع عشر تصوره بعيدا عن الذوق السليم وقريبا من الابتذال، ولكنه استطاع أن يجد لنفسه مكانا ويظل واضحا في المجتمع على كافة طبقاته وإلى الآن!
وعند تتبع هذا النوع من الأداء الحركي للعوالم وصولا إلى معرفة بداياته معرفة جيدة وذلك بداية من أواخر القرن الثامن عشر، نظرا لأقرب تعداد سكاني يمكن الرجوع إليه ومعرفة الحالة العامة للمعيشة في مصر وبالأخص المدن الكبرى والتي كان يتواجد بها العوالم، وأيضا لتوافر كتابات الرحالة الأجانب وما استطاعوا مشاهدته وتدوينه - كتابة ورسما.

سكان مصر وطبقاتهم المختلفة أواخر القرن الثامن عشر
في أواخر القرن الثامن عشر كان تعداد سكان مصر لا يزيد عن  ( 2,5 مليون نسمة)  دون العربان الذين يعمرون الصحراوات، ذلك لأنه كان من الصعب إخضاعهم لتعداد دقيق، ولكن مسيو جوبير Joubert قدَّر عدد الفرسان حسب الإحصاء الذي قام به بــ ( 27,000 فارس)، وبإضافة نفس العدد لأشخاص راجلين وعدد يتناسب مع ذلك من السيدات والأطفال، فإن مجموع تعداد قبائل العربان سوف يكون  (130,000 نفس ). أما القاهرة فقد كان تعداد السكان بها فى عام 1798 ما بين ( 250 – 260 ) ألفا من الأشخاص بما في ذلك المماليك والتجار الأجانب. وهناك إحصاء آخر هام قد تم قبل مجيئ الحملة الفرنسية وقد قدر تعداد القاهرة بــ ( 300,000)  نسمة ومقسم إلى:
- المماليك بما فيهم جنود الأوجاقت “كل الفرق العسكرية المكونة من رقيق تم تحريرهم وهم مثل المماليك”:12,000
-المماليك: 6,000
-التجار الذين تمتد معاملاتهم إلى خارج البلاد، ويتضمن الأجانب الذين لا يستقرون في القاهرة إلا لوقت محدد، والذين يمتلكون محلات في خان الخليلي كذلك التجار القادمين من أزمير والقسطنطينية وبغداد وحلب وجدة وينبع… إلخ. “  كان هؤلاء التجار يصلون إلى القاهرة محملين ببضائعهم التي يبيعونها ويرحلون بعد ثلاثة لأربعة أشهر محملين ببضائع أخرى عند العودة”:4,000
-حرفيون مستقرون، سواء كانوا أسطوات أو عمالا عاديين: 25,000
-صغار تجار القطاع الذين يبيعون المأكولات والزيت والأرز والخضروات ومواد أخرى. وهم يبيعون في النهار ما يحصلون عليه في الليل استدانة من تجار الجملة، ونادرا ما يكون هؤلاء التجار ميسوري الحال، بل تتدهور حالتهم يوما بعد يوم حتى ينتهي بهم الأمر أن يهجروا هذه المهنة: 5,000
-القهوجية، وهم أصحاب محال القهاوي والتى تقدم القهوة والشربات والتدخين وكان يقضي الناس في هذه المحال أوقاتهم في استماع الموسيقيين والرواة: 2,000
- خدم ذكور، مثال القواس والسايس والسقاء والفراش: 30,000
-عمال وحمالون وعمال يومية: 15,000
- إجمالى الذكور البالغين.  : 99,000
- ويمكن أن يصل عدد النساء البالغات إلى : 126,000
-كما يمكن أن يصل عدد الأطفال من الجنسين إلى:75,000
-وهكذا يبلغ إجمالي عدد سكان القاهرة : 300,000
ولو نظرنا إلى تعداد المماليك سنجده قليلا، نظرا إلى عاداتهم في الزواج من نساء أجنبيات مثلهم، كما أن طقس مصر كان يحول دون تكاثر الأجانب عموما في ذلك الوقت، حتى ولو تزوجوا من مصريات، فأطفالهم في الحالة الأولى كانوا يموتون بعد بضع سنين من الولادة. لذلك كان المماليك يشترون الرقيق الشبان الذين ينحدرون من نفس أصولهم، فيدربونهم عسكريا ثم يعتقونهم بعد ذلك. ومعظم هؤلاء الشبان إما شراكسة أو قوقازيون. وتنتسب زوجات المماليك إلى هذين الإقليمين أيضا. وإن كان في بعض الأحيان أحد المماليك يتزوج من مصرية، فيكون له الحظ في الإنجاب ولكن تتميز ذريته دائما بالضعف.
أما العبيد السود من الجنسين، فقد كانوا يُجلَبون من أعماق إفريقيا، ففي كل عام كانت أسواق القاهرة تمتلئ بهم، وعدد النساء يتجاوز عدد الرجال، وقد كانت هذه التجارة رائجة في ذلك الوقت، ومن أسواق القاهرة، تذهب أفواج العبيد إلى المدن الكبرى في آسيا.  وقد كان يفضِّل المصريون النساء الزنجيات. في نفس الوقت كان العثمانيون المقيمون في مصر قليلي العدد، وكانت ذريتهم تنقرض شأنهم شأن المماليك ولنفس الأسباب. أما المسيحيون الأجانب، فقد كانوا يستقرون في مناطق التجارة الكبرى كالإسكندرية ورشيد ودمياط والقاهرة(1).
هذا الخضم والخليط من الأجناس المختلفة كان هو المُكوِّن الأساسي للمجتمع المصري الحديث، والذي بدوره أثر على العادات والتقاليد في المدن المصرية، لأن لكل جماعة فكرها الخاص وعاداتها وتقاليدها، ماعدا المدن والقرى البعيدة عن المحافظات الكبرى والتي لم تتأثر بشكل واضح.
أما الأداء التعبيري الحركي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فقد كان ينقسم إلى:
- رقص الغجر.
- رقص الغوازي.
- الرقص داخل القصور “الجواري والمحظيات”.
ولن نغفل في هذا الصدد أنواع وأشكال الأداء الحركي المختلفة للرقصات الشعبية، والتي كانت تمارس من قِبَلْ الجماعات الشعبية سواء في المدن الساحلية، أو الوجه البحري أو القبلي أو حتى رقصات البدو والواحات.
مما سوف يقودنا لبحث آخر سيحدد هذه الأشكال والتنويعات المختلفة للأداء الحركي على خريطة الرقص الشعبي المصري خلال التاريخ …
أما الغجر فمن عاداتهم الترحال وعدم الثبوت في مكان محدد لفترة طويلة، لذلك كان تواجدهم الأساسى في الموالد والمهرجانات والاحتفالات الشعبية، نظرا لتعدد واختلاف أنواع عروضهم الفنية من رقص وموسيقى وغناء وألعاب سحرية ومؤدي القصص الشعبى والقرداتية...إلخ، والذي أدى بدوره إلى الاتصال بشكل أو بآخر مع الغوازي والذين كانوا يعيشون في المدينة بشكل كامل، ويقدمون عروضهم في الأفراح والمهرجانات والاحتفالات الشعبية أكثر منها في الموالد. والفارق بين شكلي الأداء، أن الأداء الحركي للغجر يتميز بالخشونة “نظرا لتغير أماكن إقامتهم المستمر”؛ وعدم الاحتشام “نظرا لمحاولة الراقصات لاسترضاء المشاهديهن بخطواتهن الحركية”.
أما الغوازى، فالأشكال الأساسية لأداهم الحركي يتميز بالنعومة ووضوح الحركة الممتلئة بالدلع والدلال.
وقد ذكر إدوارد وليم لاين في احتفال بالمولد النبوى سنة (1250هـ – 1834م) أنه،
“تجمع الناس في فترة النهار في الفسحة الرئيسية للاحتفال وتمتعوا بقصص (الشعراء) (وهم رواة قصة أبو زيد) والمشعوذين والمهرجين. ولقد أجبرت الغوازي مؤخرا على القيام بنذر والتخلي عن مهنة الرقص ؛ ونتيجة لذلك غابت هؤلاء برقصهن عن العيد. وكانت هؤلاء من الراقصات الفاتنات الجذابات. وتنصب في الشوارع المجاورة المدومات والأرجوحات ويثبت الباعة كشوكهم لبيع الحلويات وغيرها. وكان الاحتفال يشهد رقص الغجر على الحبال ولكنهم غابوا بدورهم عن احتفالات هذه السنة”(2).
ومن النادر جدا أن يدعو المسلمون الغوازي إلى منازلهم، وإذا وجد بين سكان مصر من يجيز لنفسه هذا الترخيص فإنما هم اليهود والأوربيون(3).
ولكن عند تواجد الغوازي في منازل المسلمين للرقص، فلا يكون ذلك إلا على مشهد من الرجال وحدهم أومن النساء بمعزل عن الرجال، ويحدث هذا في بهو الاستقبال. وفي الحالة الأولى يجلس الموسيقيون في ركن من أركان البهو وتؤدي الراقصات رقصهن بالمكان المعروف بالدركة ويجلس المدعوون في سكون تام على الدواوين ليستمتعوا بهذا المشهد وهم يدخنون الشُبُكات، ويطاف بها على الراقصات والموسيقيين.
أما إذا كان الرقص في الحرم، فلا يحضر الموسيقيون، وتوزن حركات الراقصات بالطار والدربكة اللذين تنقر عليهما نساء من حاشية ربة المنزل(4).
وإذ يتضح لنا من هذين المشهدان شكلين من أشكال الأداء الحركي، واللذان كانا أساسا في ظهور نوعين جديدين من الرقص والمعروفين الآن برقص البطن “Belly Dance” والرقص الشرقى “Oriental Dance”، وهناك خلط كبير وشائع بين هذين النوعين من الأداء الراقص. فمشهد الرقص عند الرجال يتخلله الكثير من الحركات الأدائية الأكثر تحريكا للشهوة، والتي أدت إلى ظهور رقص البطن، أما عند النساء فيتخلله الكثير من الحركات ذات الدلع الزائد مع نعومة الحركات والتي أدت إلى ظهور نوع من الرقص التعبيري والذي يُدعى بالرقص البلدي المصري، والذي تلاه الرقص الشرقي في وقت لاحق. وأما الرقص البلدي المصري فلا يمت بصلة أو بأي شكل من الأشكال للرقص الأسباني – كما ذُكِر في بعض من المراجع المصرية(5)،  نظرا لأن الأخير يتسم بالحركات ذات الأداء السريع وعمل كثير من الأرتام بالأرجل على الأرض وعدم استخدام خطوات أو حركات “هز” الخصر السريعة والمعروفة بـ“الرعشة، Shimmy”، كما أن موسيقى الرقص الأسباني تغلب فيه الإيقاعات العرجاء “الخماسية والسباعية”(6)، وعلى النقيض، فالرقص البلدي من أساسياته نعومة الخطوات واستخدام الحركات التمايلية للوسط والتي تؤدي إلى حركات الدلع والخجل،  مع عدم عمل أرتام بالأرجل أو أداء سريع للحركات التعبيرية، وموسيقاه تتسم أيضا بالنعومة وعدم التركيز على الآلات الموسيقية التي تعطي أنغاما متقطعة مثل العود والقانون، هذا بالإضافة إلى ندرة أو عدم وجود صولو للطبلة، ونجد أن إيقاعه في الأوكتاف خليط بين “ ثمانية و أربعة” ولكن يغلب إيقاع الثمانية على الأربعة.
“وتمارس نساء الغجر أعمالا متعددة فهن راقصات شعبيات وتعمل الكثير منهن في ضرب الودع ورؤية الطالع أو العلاج الشعبي”(7).
“ كذلك فإن الغجر الذين يعملون في الغناء والرقص قد يغادرون المنطقة إلى محافظات أخرى للعمل هناك في مواسم معينة والعودة بعد انتهاء الموسم”(8)،  والغجر كان لهم الفضل الأكبر في توصيل وتعليم الغوازي للأغاني الشعبية والتي تعلموها في النجوع والقرى.
أما الغوازي، فلا يوجد لهم وصف شامل عن حياتهم الاجتماعية غير بعض الإشارات المتفرقة لبعض الظواهر المرتبطة بهم، وكما ذكر “كريمر” أن أفراد هذه القبائل يعيشون حياة بدوية يقيمون في الخيام ويتواجدون في الأسواق. كما أن كل البنات الغازيات يعملن راقصات، وأن نساءهم المتقدمات في السن يعملن في رؤية الطالع، وهن لا يتزوجن إلا بعد تكوين قدر كاف من المال حتى تستطيع كل منهن أن تختار من تعتبره صالحا ليكون زوجا لها، فزوج الغازية ليس أكثر من خادم. فهو يلعب على الصفارة أو يطبل أثناء رقص الغازية. كما يمكن أن يأتي لها أيضا بالرفقاء(9).”
غير أنه تعددت الآراء في مسألة انتساب الغوازي  للغجر والذي لم يتوصل أي بحث حتى الآن إلى تأكيد هذه الآراء.
والغوازي كن الراقصات العموميات اللائي اشتهرن بالرقص في ذك الوقت سواء في المنازل الخاصة أو الطرقات والميادين العامة على ملأ من الجمهور(10).
وجدير بالذكر أن الغجر والغوازي لهن كثير من الفضل للحفاظ على تراث الغناء الشعبي من الزوال ووصله لنا كاملا.
لذلك نجد أن الحركات التعبيرية الراقصة لكلا الفصيلين “الغجر والغوازي” متقاربة الشكل، ومختلفة عن الحركات التعبيرية لراقصات القصور، واللاتى كن يؤدين عروضهن في القصور فقط. ولما كان الرقص من وسائل التسلية والابتهاج التي تروق السيدات كثيرا، فقد اعتاد العظماء والأثرياء اتخاذ الراقصات في منازلهم من الجواري ولإدخال السرور على زوجاتهم، برقصهن وشرح صدورهن بحركاتهن.
و كانت الراقصات يجالسن الأكابر والمماليك ويستمعن ويتحدثن معهم في شتى الموضوعات، وبلغت مكانتهن الاجتماعية إلى أعلى مدى، على الرغم من حرية حياتهن الإباحية حتى أن أحدا لم يجرؤ وقتئذ على قذفهن بالشتائم.
وتصور لنا رسوم النصف الأول من القرن التاسع عشر، راقصات نحيلات الأجسام وثيابهن متناهية في الرقة والشياكة والاحتشام، واشتهرن بالرقص بالسيوف أو الصاجات أو الدفوف(11).
وظل الحال هكذا إلى أن حدثت مذبحة القلعة فى 1مارس1811 والتي دبرها محمد علي للتخلص من المماليك وقضى عليهم بالإضافة إلى الكثير من الأكابر، مما أدى إلى هروب راقصات القصور، فخرجت الجواري والمحظيات إلى الشارع خوفا من الموت المتربص بهن. وبعد حياة الترف والعز، فخرجن للشارع يبحثن عن لقمة العيش(12). فخالطن الغجر والغوازي وأصبحن يعشن معهم، والذي أدى بدوره إلى ظهور خطوات وأشكال تعبيرية جديدة في الحركات التعبيرية الراقصة. فاتجهن إلى فن الغناء والرقص وتجمعن وأقمن في  شارع محمد علي “حارة العوالم”، وذلك بعد إصدار قانون محمد علي لإبعاد الغوازي عن القاهرة والإسكندرية بسبب مزاولتهن في ذلك الوقت ألوانا من النشاط الخارج عن حدود الأدب(13).

تقسيم ميادين وشوارع القاهرة وشق الطريق المسمى بشارع محمد علي
القاهرة كان لها نصيب كبير فى تقسيم ميادينها وشوارعها منذ القرون الإسلامية الأولى ومرورا بعصر المماليك وحتى إصدار أول مرسوم رسمي للشوارع والميادين بالأسماء والأرقام عام (1262هـ - 1847م) والذي كان مستهلا بتلك الديباجة:
“ولما كانت كتابة أسماء الأزقة بمصر المحروسة على محل يناسبها فوق زواياها، وتنمير البيوت الكبيرة والصغيرة برقم نمرها بأعلى أبوابها أو بجانبها، كأسلوب أوروبا، مما يستوجب المنافع العظيمة للمملكة، ويورث السهولة لمن يقصد زقاقا أو بيتا، سواء كان من الأهالى أو من الأجانب، استقر الرأي بمجلس تنظيم المحروسة، على التدابير اللازمة لذلك، طبق الإرادة السنية، واندرج بيانها في نسخ الوقائع المنمرة برقم 64 وحصل في هذه الأيام المشروع في إجراء ذلك ابتداء من باب الخلق بمقتضى الترتيب الآتي ذكره أدناه وهو خمسة عشر بندا:”
كما ظهرت ميادين ومتنزهات جديدة، ففي سنة (1847م) حولت المنطقة عند كوبري الليمون إلى متنزه عام غرست فيه أنواع الزهور والأشجار. كما شرع في توسعة الشارع من باب الحديد إلى الظاهر، والمتصل بطريق السويس، وأيضا شارع درب الجماميز وباب الخلق والمشهد الحسينى، وغرست الأشجار في الشوارع. وكذلك ردمت بركة الأزبكية وحولت إلى متنزه عام (14).
وعلى ذكر تجميل القاهرة، فقد عرفت مصر فرش الرمل الأصفر في الحفلات الرسمية منذ ألف عام، عندما كان نظام حفلات الاستقبال في الدولة الفاطمة يقضي بفرش الرمل في الطريق المؤدي إلى القصر الفاطمي وأمامه(15).وظلت العناية بتعبيد الطرق وإصلاحها وتجميلها موكلة إلى سكان القاهرة حتى أُصدرت الأوامر من قبل الحكومة سنة 1848م بتعيين أربع بلوكات من ديوان الجهادية للقيام بتسوية وتمهيد الطرقات والشوارع في كل من نواحي الموسكى والأزبكية وبولاق(16).
وأثناء هذه الفترة حدثت تغيرات اقتصادية وتكنولوجية كبيرة في القاهرة، مما أدى إلى ظهور العربات التي تجرها الخيول، ونظرا لعدم انتظام الشوارع والذي يمثل عقبات أمام تلك التغيرات، لذا شرع محمد علي في شق طريقين، الأول باسم السكة الجديدة وكان عرضه 8 أمتار والثاني شارع محمد علي. ولقد قام المهندس الفرنسي “هوسمان” والذي خطط شارع ريفولى بباريس بتخطيط شارع محمد علي، على غرار شارع ريفولى، وكان الشارع يمتد من ميدان العتبة وحتى شارع عبد العزيز في وسط مدينة القاهرة، ويعد شارع محمد علي من أهم شوارع القاهرة في العصر الحديث ومن أهم معالمه مسجد قيسون - وحمام بشتك - وسوق السلاح - والمناصره والتي تشتهر حاليا بالمنتجات الخشبية. يبدأ شارع محمد علي من مسجد النصر الأثرى - ميدان القلعه - وبنتهى بميدان العتبة الخضراء بطول 2 كيلو متر تقريبا وأهم ما يميزه البواكى الحجرية ذات الطراز الفرنسي والتي لم يتبق منها الا القليل.
ولقد اكتسب شارع محمد علي شهرة كبيرة منذ القرن الماضي، نتيجة سكن أكبر عدد من الفنانين والفنانات فيه، ونتيجة الحياة الصاخبة في هذا الشارع، ولأن الجنازات في القرن الماضى كانت تشيع بالموسيقى، فكان لابد أن تتجه الجنازة ومشيعوها إلى شارع محمد علي.
وظهر النشاط الفني في أحياء متفرقة من القاهرة ومن أهمها: شارع محمد علي،  شارع عماد الدين، ومنطقة الأزبكية، وروض الفرج. فقد كان من الطبيعي أن يضم شارع محمد علي الكثير من أهل الفن لقربه من الملاهي، فضم الكثير من العوالم.
ولقد أخرج لنا شارع محمد علي معظم فناني القرن الحديث في مصر، ويقول أبناء الحي:
“ لم يمش فنان على درب الفن إلا وتخطى عتبات شارع محمد علي”
فمن هذا الشارع خرج لنا ألمع فنانو مصر مثل : صالح عبد الحي، ومحمد حلمي، و شكوكو، وعمر الجيزاوي، وشفيق جلال، وعبد الحليم حافظ وغيرهم الكثير.
وتجد أثناء مسيرتك في هذا الشارع العريق أسماء طريفة وغريبة مثل: “نعيمة شخلع” “زوبة الكمسارية” “أنوس المصرية” “عزيزة كهربة”. ..إلخ.
كما اشتهر من عوالم الرقص “شوق عمر أفندي (وكانت مشهورة بأنها راقصة ومطربة)” وشفيقة القبطية (وهي كانت من أسرة قبطية، تبرأ منها أهلها بسبب عملها بالفن)” ويروى أنها رقصت في عام 1891 وهي مرتدية حذاء ذا كعب مصنوع من الذهب الخالص وقد كانت راقصة عالمية، فتربعت على عرش العوالم لفترة طويلة. ثم ظهرت “بنبة كشر” والتي جمعت بين الرقص والغناء... وغيرهن الكثيرات. ..
وقد اشتهر شارع محمد علي بصناعة الآلات الموسيقية وبيعها في دكاكين على جانبي الشارع والحواري وما زال هناك بعض من هذه الدكاكين حتى الآن(17).
(كانت الأسطى تقعد على الكرسى وكلنا واقفون أوصادها على المسرح، تِقَسّمْ علينا الشغل إللى مكتوب معاها في الكُراسة)
بدأت “ نيللى”- وهذا هو الاسم الفني الذي اشتهرت به -  حديثها معي بهذه الجملة وهي تحكي لي قصتها عن عالم العوالم، والذي بدأته في سن الثالثة عشر في محافظة الإسكندرية، وكان ذلك عام (1950)  عندما ذهبت إلى واحدة من العوالم الكبار والتي قالت أنهن كن ينادينها “بالأسطى” أو “الأسطى عالمة”  لتتعلم وتمارس هذا النوع من الرقص. فكن يتدربن بالنهار ويمارسن الرقص في الحفلات والأفراح ليلا، ولا تقل الليلة الواحدة عن عشر حفلات تُقَسَّم على الراقصات كما يحلو للأسطى عالمة، فتوزع العمل على من تحب أكثر من الأخريات. وكن يتقاضين جنيهين نظير أجر للحفلة الواحدة ولكن آخر الشهر، والذي تقتطع الأسطى عالمة بعضا منه إذا ما أخطأت واحدة منهن أو أدت أداء لم يعجب أصحاب الحفلة. والأسطى عالمة لا تدرب الراقصات ولكن كن يدربن بعضهن البعض ثم تعطى الأسطى عالمة في النهاية رأيها في شكل أدائهن للخطوات. ولقد أرسلتها الأسطى عالمة للقاهرة عندما أرادت الراقصة المشهورة  “سهير زكي”،  القيام بإجازة من عرض مسرحي كانت تعمل به، فسكنت نيللى شارع محمد علي لفترة، ومنذ ذلك الحين وهي تقطن القاهرة. وهي ما زالت تؤمن وتقول - “ عندنا ظبط وربط، إللى بيطلع م العوالم، بيطلع مظبوط” -   فهى تؤمن تماما أن من تعلَّم الرقص من العوالم يستطيع أن يؤدي أحسن أداء في الرقص الشرقي.

معنى كلمة العوالم، ومن أين أتت:
كان الفساد يعم البر والبحر في الزمن المملوكي من تاريخ مصر، فقد كان المماليك منعزلين عن المصريين ولا يُعرَف للواحد منهم في معظم الأحيان أب (والد). فنجدهم يحملون أسماء مفردة مثل: قلاوون، بيبرس، قطز، سنقر، شيركوه… إلخ. لذلك وصفهم المصريون بأنهم “أولاد الناس” لعدم وجود أب معروف لأي منهم.  ونظرا لأن حكام هذا الزمان كانوا رجالا مثلما الحال الآن، فقد كان للنساء نصيب كبير فى تسيير الأمور والاطلاع على خوافيها ومعرفة مداخلها. والمقصود هنا النساء الجميلات اللواتي كُن يتأنقن بأنوثتهن ويتعلمن الرقص والغناء وفنون “الغنج”   ما يضمن لهن مكانة عند الحاكم في قصره ومن هنا لا زلنا نسمى الراقصات الخليعات عوالم، ونسمي الواحدة منهن عالمة، لأنهن دائما أبدا العالمات ببواطن الأمور(18). وقد ذكر إدوارد وليم لاين في كتابه أنه “لا يقتصر الأداء الموسيقي على الرجال فتزخر الحفلات (بالعوالم )  مفردها (عالمة) اللواتي يحيين الحفلات التي تقام في حريم أحد الأغنياء.  وقد يغنين في الطُقَّيْسَة أو المُغَنَّى – عبارة عن حجرة صغيرة مرتفعة مجاورة لدار الحريم-  فيُعزلن بشعرية خشبية يغنين من ورائها أو في مكان آخر مناسب يحجبن فيه عن أنظار سيد المنزل في حال وجوده داخل الحريم بين نسائه. تنتقل النساء في حال اقتصر الحفل على الرجال إلى الباحة أو إلى حجرة سفلية فيسمعن أغنيات العوالم اللواتى يجلسن عادة عند حافة نافذة الحريم فتحجبهن الشعريات؛ ومن العوالم من هن عازفات..... وقد نصادف في القاهرة فئة فى العوالم الجديرات بأن يخلع عليهن لقب (النساء المتعلمات) لإتمامهن بعض الإنجازات الأدبية ومنهن من ينتمى إلى مرتبة أدنى ويرقصن أحيانا في الحريم؛ ومن هنا خلط المسافرون بين مفهومى (العوالم)  والراقصات الشعبية(19).”
أما في النصف الثانى من القرن التاسع عشر، فالخطوات الراقصة للعوالم في هذة الفترة كانت تتميز بالخشونة والعنف في الحركة وتنطبق تقاطيع وجوههن بالافتعال والابتذال نتيجة ارتباط العوالم بالغوازي والغجر. وكن يرقصن حافيات الأرجل وأجسامهن ممتلئة ولبسهن لا يداري جميع أجزاء أجسامهن مما يؤدي الى إثارة جنسية للمشاهدين. وتكشف لنا رسوم أواخر القرن التاسع عشر الغجر في أسيوط والأقصر والكرنك يرقصن رقصة القلة ورقصة النحلة ورقصة العصا(20).
وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تغيرت الحركات التعبيرية في الرقص مرة أخرى لتصبح ناعمة وبها الكثير من الجمال الحركي والذي أدى بدوره الى ظهور الشكل التعبيري الحركي في العروض التي نراها الآن.
ويبقى السؤال :
هل رقصات العوالم تُدرج تحت الرقص الشعبي المصري؟ أم هي حرفة من الحرف الفنية في مصر؟

 

المراجع :

1 - كتاب وصف مصر، الجزء الأول، المصريون المحدثون، الطبعة الثالثة 1992، ص 23

2 - إدوارد وليم لاين: عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، (مصر بين 1833 – 1835)،  مكتبة مدبولى، القاهرة، الطبعة الأولى 1411هـ،1991م، ص 460

3 - سعد الخادم: الرقص الشعبي في مصر، طبعة 1972، ص14

4 - سعد الخادم: مرجع سابق.

5 - راجع : أحمد أمين: قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، تقديم ومراجعة محمد الجوهري، القاهرة 2007، ص225 – “والذى يشرح فيه مدى احتمالية الشبه بين الرقص البلدي المصري والرقص الأسباني”

6 - سمحة الخولي :القومية فى موسيقى القرن العشرين، عالم المعرفة، العدد 162، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص24

7 - نبيل صبحي حنا: البناء الإجتماعي والثقافي فى مجتمع الغجر، دراسة أنثروبولوجية لتأثير البناء والثقافة والشخصية على التكامل الاجتماعي، دار المعارف، الطبعة الأولى، 1983، ص138

8 - نبيل صبحي حنا: المرجع السابق، ص 220

9 - نبيل صبحي حنا: المرجع السابق ص 120

10 - محمد الجوهري: موسوعة التراث الشعبى العربى، المجلد الثالث، الفنون الشعبية، سلسلة الدراسات الشعبية 145، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الثانية.

11 - سعد الخادم: مرجع سابق.

12 - رتيبة الحفنى: السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها، دار الشروق، طبعة 2001

13 - سعد الخادم: مرجع سابق.

14 - حسن عبد الوهاب: تخطيط القاهرة منذ نشأتها، 1957 عن الوقائع المصرية، العدد 75، 13 شعبان 1263

15 - المقريزي: المواعظ والاعتبار،ج1، ص 433

16 - الوقائع المصرية، العدد 106، الصادر في 23 ربيع الأول 1274 هـ.

17 - سمحة الخولي مرجع سابق.

   الغنج = الدلال وملاحة العين “المعجم الوسيط”

18 - يوسف زيدان: كلمات “التقاط الماس من كلام الناس”، دار نهضة مصر، الطبعة الرابعة، يناير 2011، ص 30

19 - إدوارد وليم لاين: مرجع سابق، ص 367

20 - سعد الخادم: مرجع سابق.

مختار الكسباني محاضرات، أكاديمية الفنون، القاهرة، 2013.

 

أعداد المجلة