فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
29

الذاكرة الشعبية في أمثال الشعوب العربية

العدد 29 - أدب شعبي
الذاكرة الشعبية  في أمثال الشعوب العربية
كاتب من مصر

إن الذاكرة الشعبية لمختلف الأمم والدول والجماعات البشرية تختزن العديد من المظاهر الثقافية والنفسية والاجتماعية التي تجعل الكائن البشري داخل نسق ما يسمى بالوعي الجمعي، أو الثقافة الشعبية التي تختزنها ذاكرة الإنسان المنتمي لبيئة حضارية معينة.

هذا الوعي الجمعي تساهم فيه الكثير من العوامل النفسية والثقافية بتشكيل نسق نمطي يسعى الإنسان داخل بيئة معينة أن ينساب وراءه طوعا أو كرها، نظرا للإحكام الخطير والمحاط بسياجات معرفية مختلفة تبدأ بالقمع، وتنتهي بالتأطير القسري للعقل الإنساني شاء أم أبى.
ولعل خير ما يمثل هذا الوعي الجمعي والذاكرة الشعبية ما تعرفه جميع الثقافات والحضارات على حد سواء من اختزال الرؤية النمطية تجاه موضوعات الحياة المختلفة عبر ما يسمى بالمثل الشعبي، والذي اعتبر الخزان الثقافي الكبير المعبر عن درجة وعي المجتمع وتخلفه ونظرته لمختلف أجزاء هذه الحياة ومناحيها، وشكَّل على مرِّ العصور - ولا زال - أحد الروافد الخطيرة في تكريس بعض المظاهر الاجتماعية والفكرية المساهمة في قضية النمطية الفكرية.
فالمثل يُمثل حكمة الشعب وتاريخه، وهو الصورة الصادقة لحياة الشعوب والأمم، فيه خلاصة الخبرات العميقة التي تمرست بها عبر أمد بعيد من حضارتها، وهو الخلاصة المركزة لمعاناتها وشقائها وسعادتها وغضبها ورضاها، نجـد في طيّات الأمثال مختلف التعبيرات التي تمثل حياة مجتمعها وتصورات أفرادها بأساليب متنوعة. وقد قيل: إن ضرب المثل لم يأت إلا رد فعل عميق لما في النفس من مشاعر وأحاسيس؛ نتيجة للمؤثرات الشعورية التي اختفت في العقل الباطن، فجاء سلوكه تعبيرا عن عمق المؤثرات التي دعت إلى ضرب المثل.
ويعد المثل مصدراً خصباً لمن يريد أن يفهم الشخصية القومية ومذهبها الفطري في التفكير وفي الحياة بصفة عامة، وبالتالي فرصدُ الخصائص الدلالية للأمثال إنما هو رصد لخصائص الشعب الذي ذاع فيه المثل وانتشر، وعموماً فالأمثال كما يقول توريانو (1666م) تمثل فلسفة الجماهير.
والبحث في الأمثال إنما هو بحث في حياة فئات العامة من الناس على اختلاف نشاطهم وسلوكهم في تعاملهم وأخلاقهم وعاداتهم، وكيف تولدت هذه العلاقات ومداها، ودورها في تكوين أخلاقيات الناس، ومن خلال الجزئيات الصغيرة التي تعرضها الأمثال، نجدها تناقش هذه الموضوعات وتفسرها وتعطي صورة حية لطبيعتها (1).
وما كان للأمثال أن تتوقف مع تجدد التجارب وتعدد الأحداث وهو أدب شعبي لا شك فيه، إذ هو سجل لحياة الناس كلهم، وتكشف الخبايا النفسية لكل شعب وسوف نتناولها فيما يلي:

الوراثة والبيئة في الأمثال
إن الأمثال العربية جمعت فأوعت الصفات البشرية بعامة، إيجابية كانت أو سلبية، حتى نكاد نقول بأنه ما من صفة إنسانية يمكن أن ينعت بها الإنسان إلا وأشارت إليها الأمثال العربية؛ لنؤكد على القول بأن المثل هو الصورة الصادقة لحياة الشعوب والأمم، فيه خلاصة الخبرات العميقة التي تمرست بها عبر السنوات الطويلة من حضارتها، وهو الخلاصة المركزة لمعاناتها وشقائها وسعادتها وغضبها ورضاها، نجد في طياتها مختلف الأمثال التي تمثل حياة مجتمعها وتصورات أفرادها بأساليب متنوعة، وقيل: “ضرب المثل لم يأت إلا رد فعل عميق لما في النفس من مشاعر وأحاسيس، نتيجة للمؤثرات الشعورية التي اختفت في العقل الباطن، فجاء سلوكه تعبيرا عن عمق المؤثرات التي دعت إلى ضرب المثل.
والإنسان موضوع غريب في حد ذاته. فلا يكفي أن ندرس سلوكه كي نستدل عليه ولا يكفي أن نفهم بيئته كي ندركه. بل يجب علينا أن نفض بعض أسراره النفسية أولاً حتى نقترب من فهمه، ومن هنا كانت البداية بالوراثة Heredity فعامل الوراثة يلعب دوراً مهماً في سلوك الإنسان. والعامل الثاني هو البيئة Environment في صيغتها العامة. فالبيئة عنصر لا ينفصل عن الوراثة، فمنذ أن تبدأ حياة جديدة في رحم الأم تكون تلك الحياة في بيئة تؤثر تأثيرات مختلفة، تؤثر على وراثية الإنسان الجديد (2).
والوراثة هي كل الخواص التي توجد في الفرد عندما يبدأ الحياة، ولا نقصد بذلك تلك العوامل التي تكون موجودة لحظة ولادته، بل تلك التي توجد فيه منذ لحظة الإخصاب الأولى، أي قبل ولادته بتسعة أشهر(3).
فالوراثة تزود الفرد بالإمكانات والاستعدادات، واستمع إلى المثل الذي يقول: “إبن الوز عوام”، فهو كأبويه في السباحة، ومثله: “فرخ البط سابح”، وأيضاً “بنت الفارة حفارة”، “من شابه أباه فما ظلم”، وغالباً ما تورث الطباع أيضاً، فالذئب لا يُربى ولا يُقتنى؛ لأن طبعه سيغلبه ويؤذي من رباه وأحسن إليه، والمثل يقول: “إبن الديب ما يتربَّاش”، فلابد للعرق أن يمتد يوما ويظهر ما كان مستورا، يقول المثل: “الأصل الرَّدن يردي على صاحبه”، وتكتسب الأنثى الكثير من صفات الأم، حتى يقول المثل: “بنتِ الحرَّاتة تِطلع درَّاسة”، ويقول آخر: “إكفي القلة على فومَّها البنت تطلع لامَّها”، وإذا كان المثل يقول: “العرق يمد لسابع جد” أي أن الإنسان لابد أن يشابه أحد جدوده ولو بعدوا، كما يقولون: “ولد لخاله” أو “بنت لعمتها”، وعادة تنسب الأمور الوراثية إلى الأصل البعيد، فتقول الأم أن الولد سريع الغضب لأن أباه عصبي، والأب يقول أن ابنه عاق لأن أخوال الولد كذلك. وقد قالوا: “قبل ما شافوه قالوا حلو زي ابوه”، ومثله: “قبل ما وِلدوه قالوا عريض القفا زي ابوه”. ويلخص الإمام علي بن أبي طالب t فيقول: “ الناسُ بِزَمانِهِمْ أَشْبَهُ مِنْهُمْ بِآبائِهِمْ».
وقد تتنحى السمات الوراثية فنجد أن «النار بتخلف رماد»، وأن «أم بربور تجيب الشاب الغندور». وقد يسخر المثل من الوراثة والتشابه فيقول «أبوك البصل وامك التوم، منين لك الريحة الطيبة يا شوم».
والشخصية تنمو كأي ضرب آخر من النمو، ونموها هو حصيلة تفاعل الميراث الفطري البيولوجي للفرد مع بيئته، خاصة البيئة الاجتماعية، حتى أن المثل يقول: «بلاص المش ينضح مش وبلاص العسل ينضح عسل».
والأسرة: هي أصغر وحدة اجتماعية، إذ تبدأ بالزواج واختيار شريك الحياة، والرغبة في الزواج يعبر عنها المثل القائل: «اقرصيني في ركبتي تحصليني في جمعتي»، وعندما تتمنع يكثر خطابها، حتى أن المثل يقول: «من كُتر خُطابها بارت مسى عليها الليل واحتارت»، ويقول آخر: «خطبوها اتعززت فاتوها اتندمت»، أما التي لم تتزوج فهي تعيش على أمل الزواج «اقعدي في عشك لما يجي اللي ينشك». ولابد من اختيار الشريك المناسب حتى يكون بينهما توافق «إسأل قبل ما تناسب يبان لك الردي والمناسب».
ومن الرجال من يجمع بين الزوجتين، وفي ذلك يقول المثل: «اللي يتجوز اتنين يا قادر يا فاجر»، والمقصود إما أن يكون قادراً على التوفيق بينهما، وإما أن يكون فاجراً أي ليس في استطاعته القيام بذلك. ولابد من الاحترام المتبادل بين الزوجين، فمن أهان زوجته وعيرها بعيوبها أهانها الناس واستخفوا بها «اللي يقول لمراته يا عورة يلعبوا بيها الكورة»، وهو بخلاف من يكرم زوجته فيكرمها الناس «اللي يقول لمراته يا هانم يقابلوها على السلالم».
أما الجمال فإن المجتمع الشعبي يحفل بالجمال الحسي، فيقول المثل: «إن كُنت عايز تمُص قصب مُص من الوسط، وإن كُنت عايز تخطب خد رفيعة الوسط»، وبالعكس «اللي بعرقوبها تدبح الطير اهرب منها ما فيها خير»، ومن صور التناقض في الأمثال بعد أن مدح الجمال الحسي، فقد سخر منه في مواضع أخرى فيقول: «بيع الجمال واشتري خفة، الجمال كتير بس الخفيف صدفة»، والمثل الألماني يقول: «المرأة الجميلة تحتوي الشيطان في جسدها».
أما عن مركز الأم فحدث ولا حرج، فحنان الأم لا يدانيه شيء «اللي عند امه ما ينحملش همه»، «اللي من غير أم حاله يغم»، وإذا فُقد أحد الوالدين أو كليهما «إلعز بعد الوالدين هوان»، وحب الأم للأبناء ليس له مثيل «أسيادي واسياد أجدادي اللي يعولوا همي وهم ولادي»، والإبن أو الإبنة في عين والديه ليس له مثيل «خُنفسة شافت بنتها عالحيط قالت دي لُوليَّة في خيط»، ويقول آخر: «الخُنفسة عند امها عروسة»، «القرد في عين امه غزال»، لأن شفقة الوالدين ليس لها مثيل: «قلبي على ولدي انفطر وقلب ولدي عليَّ حجر»، وهي تعلم أبنائها وتعاقبهم أحياناً «اللي ما يفهم بالتلميح يفهم بالتجريح»، «حب ولدك بقلبك وربيه بإيدك» ولكنها لا تتحمل أن يؤذيهم غيرها فتقول: «أدعي على ابني واكره اللي يقول أمين»، «أضرب ولدي واكره اللي ما يحوشني». فالأم أقرب ما يكون للإنسان، وهي أدرى بحاله «أم الاخرس تعرف بِلُغى ابنها»، «أم الاعمى أخبر برقاده»، وعموماً «اللي ربى خير من اللي اشترى» وبالطبع لابد من احترام الوالدين، والمثل يقول: «إللي ما يعرف ابوه ابن حرام».
وعموماً تلعب الأمثال دوراً اجتماعياً ونفسياً هاماً في ممارسات الوالدين خلال ديناميات عملية التنشئة الاجتماعية، وأنماط التربية لأبنائهم خلال مراحل نموهم المختلفة «اللي يتعلمه الطفل من أمه يحفظه ويصمه»، وتستمر التوجيهات الوالدية للأبناء في مراحل العمر المختلفة حتى أن المثل يقول: «اعدل العوجة ولو في يوم فرحها»،وذلك لأن «من أدب أولاده قهر حساده» هنا يقول الأبناء: «الله يرحم المعلمة والكتاب اللي علمتنا نقرا الكتاب».
والنظام الطبقي في المجتمع تحدثت عنه الأمثال كثيراً، فيقول المثل: «العين ما تعلاش على الحاجب»، ويقول آخر: «رايح فين يا صعلوك بين الملوك»، «ربنا ما سوانا إلا بالموت»، «الناس مقامات»، وقد تولد في النفوس كثيراً من اليأس والإحباط والقنوط، فقالوا: «إللي يبُص لفوق يتعب»، «المية ما تجريش في العالي» وكيف يتساوى من ينتمي للطبقات الدنيا مع الخاصة من الناس، وقد عبروا عن ذلك بالمثل القائل: «إيش عرَّف الحمير بأكل الجنزبيل»، إنه أسلوب من أساليب الصراع الطبقي، حيث تتسم هذه الطبقة بالاستعلاء، وترفض أن يتشبه بهم أحد من الطبقات الدنيا «إن طلع من الخشب ماشة يطلع من الفلاح باشا»، «لو كان الإسم بيشترى كان الفلاح سمى ابنه خرا»، وإذا حاول أحدهم النهوض «بعد نومك مع الجديان بقى لك مطل على الجيران» فهو محدث نعمة، ويكون المثل من نصيبه «كنا فين وبقينا فين»، فيرد بلسان حاله «حطوا عليا كلكم يا للي الزمان خلاني لكم».
وعلى الرغم من ذلك فهناك أمثال تطالب بالمساواة وتحث عليها «كلنا ولاد تسعة»، «كلنا ولاد حوا وآدم»، «محدش على راسه ريشة»، «محدش احسن من حد»، «أحمد زي الحاج احمد»، «الحسن خي الحسين»(4).
إن سلوك الإنسان يرتبط إلى حد كبير ببيئته، وهو ما أكدت عليه المدرسة السلوكية، فالإنسان الذي نشأ في بيئة صالحة انعكس ذلك على سلوكه، والعكس صحيح، ولذلك قالوا: «الأصيل يحلف ويُصدق والخسيس يحلف ويتكدب»، وإذا كنت لا تستطيع أن تتعرف على أصله فاحكم عليه من أفعاله «إذا غاب عليك أصله فتش على فعله».
وإذا كان السلوك الإنساني في جملته مُكتسبا من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، فمن الممكن التغيير والتعديل، حيث إن السلوك الإنساني مرن وقابل للتعديل، وانطفاء السلوك غير المرغوب يكون بالتدريج؛ لأن السلوك الإنساني قابل للتعديل والتغيير، وفي ذلك يقول النبي-صلى الله عليه وسلم- : «حسنوا أخلاقكم». فالإنسان كائن اجتماعي يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه، فتمرض نفسه أو تصح تبعاً لصلاح المجتمع أو مرضه.
وتعترف الأمثال بإمكانية هذا التغيير، وأن المجتمع يهتم بالسلوك الاجتماعي الحسن سواء كان نتيجة للتربية الحسنة (أصله)، أو من البيئة المحيطة به، فيقول المثل: «فخر المرء بفضله أولى من فخره بأصله». فمن حسنت أخلاقه ولانت فبها ونعمة «الخشب اللين ما ينكسرش».
ومع ذلك فالبعض سيء الطباع ومجبول على الأذى حتى أن النُسك لا يغيره «إللي فينا فينا ولو حجينا وجينا»، ومثل هذا يصعب التعامل معه «إيش يعمل الحزِق في المِزِق»، فبعضهم قد تخصص في مضايقة الغير وإحراجهم حتى قالوا فيه «يخش من العتبة ينَشِّف الرقبة»، منذ لحظة دخوله يبدأ في مضايقة غيره حتى يصل إلى حد نشفان الريق، وحتى إذا على بعضهم فلا تفارقه وضاعته وسوء خُلقه، ويذكره المثل بذلك «بعد نومك مع الجديان بقى لك مِطَلّ على الجيران»، فـ «الدناوة طبع»، وذلك لأن «ديل الكلب عمره ما ينعدل».
وتأتي العلاقات بين الجماعات وهو ما يجعلنا نتحدث عن سيكولوجية الجماعة: إن جماعة الرفاق أو الأقران التي ينضم إليها الطفل منذ دخوله مرحلة الطفولة المتأخرة ومع التحاقه بالمدرسة الابتدائية، يكونون عادة من أطفال الجيرة أو من زملائه في المدرسة. وجماعة الرفاق جماعة يدين لها الطفل والمراهق فيما بعد بكثير من الولاء ويعتز بالانتماء إليها وبالتالي يلتزم بمعاييرها وبما تراه من أساليب مستحسنة أو مستهجنة من وجهة نظرها(5)
والصداقة علاقة اجتماعية وثيقة، تقوم على تماثل الاتجاهات، وتحمل دلالات بالغة الأهمية تمس توافق الفرد واستقرار الجماعة «صاحبك من بختك»، «طول مانت طيب تكتر اصحابك»، ويقول الإمام علي بن أبي طالب: “ مَنْ عَذُبَ لِسَانُهُ كَثُرَ إخْوَانُهُ ” حيث يشترك الأصدقاء في ضروب متنوعة من النشاطات والاهتمامات بالمقارنة بالعلاقات السطحية التي تتركز في أغلب الأحوال حول موضوع أو نشاط واحد(6).
«اللي ترافقه وافقه»، «اختار الصديق قبل الطريق»، «كُل عيش حبيبك تُسُره وكل عيش عدوك تضُره»، أما من كره الصُحبة فيكون نصيبه من المثل القائل: «مِن فاتك فوته»، وفي قلة وفاء الأصحاب يقولون: «من قِلة الحنية بتنا على جفا وخدنا من بيت العدو حبيب»، «عُمر العدو ما يبقى حبيب وعمر شجرة التين
ما تطرح زبيب»، «إعرف صاحبك وعلم عليه»، وإذا لزم الأمر «صباح الخير يا جاري انت في دارك وانا في داري». وإذا كان الإنسان بطبيعته اجتماعياً، فإن نجاحه في تكوين أصدقاء واستمرار علاقته معهم يُعد شرطاً من شروط تمتعه بصحة نفسية واستمتاعه بحياة لها معنى.
والأصدقاء نماذج اجتماعية يتعلم منها الفرد العديد من الخبرات والمهارات وضروبا من السلوك الإيجابي والسلبي، «إللي له عين وراس يعمل زي ما بيعملوا الناس»، ويوضح «احمد عكاشة» أن دور الجماعة من العوامل الهامة في نشأة العنف، فالفرد الهادئ يتحول إلى فرد عنيف تحت تأثير سيكولوجية الجماعة، وأقرب الأمثلة على ذلك ما يحدث في مباريات كرة القدم من عنف غريب عن طبيعة الشخص نظراً لتواجده في هذه المجموعة المتحمسة، فتحت تأثير الجماعة يقل التفكير المنطقي، وتبتعد القوى الاجتماعية التي تتحكم في العدوان ومن ثم تظهر جميع الاندفاعات العدوانية المكبوتة باتجاهاتها المختلفة ناحية التحمس والعنف، فأي عمل فردي عنيف ينتشر بين الجماعة، والعنف يولد العنف، «وكأنهم يطبقون المثل القائل: إللي يجي حينا يعمل زيِّنا» وكذلك فمشاهدة العنف تسخدم كمؤثر في انتشار ظاهرة العنف(7). ولذلك يقولون: «الوحدة عبادة»، «الوحدة ولا الرفيق المتاعب»، «يا بخت من ياكل قُرصُه ويآنس الناس بحِسه».

الخـواف في الأمثال
تمثل حياة الإنسان في كل ما يمُر به من مباهج ومسرات، إلى جانب ما يعتريه من مخاوف ومخاطر، ويتأرجح شعور الإنسان بين الرغبة وإشباعها، والآلام ومحاولة القضاء عليها أو تجنبها وتحاشيها.
والخوف رد فعل في جسم الإنسان، في مواجهة شيء يهدد سلامته. إنه رد فعل يحدث داخل الإنسان، ورد الفعل هذا يكون حالة انفعالية يشعر بها الإنسان بمستويات مختلفة وبدرجات متعددة حسب المؤثر.
ويضع علماء النفس «الخوف» على رأس قائمة الانفعالات الأصلية التي يواجهها الإنسان منذ نعومة أظفاره، وإذا كان الإنسان هو الموجود البشري الذي لا يكاد يكف عن البحث عن الأمن، فما ذلك إلا لأنه مهدد في كل لحظة بعديد من الأخطار، فهو يتأرجح بين مخاوف تأتيه من البيئة المحيطة، وكذلك المخاوف التي تأتيه من داخله. ويظهر الخوف من خلال تلك الهواجس التي تعتري الإنسان، فنراه في بعض الأحيان يخاف المرض والفشل والتعرض للكوارث...الخ. وبطبيعة الحال فإن الإنسان في مواجهته لهذه الأمور يحتاج دائماً إلى أن يحقق هذا الحنين الدائم والمستمر، وهو حاجته إلى الأمن والطمأنينة (8).
فالأمن يعني التحرر من الخوف أياً كان مصدره. يشعر الإنسان بالأمن متى كان مطمئناً على صحته وعمله ومستقبله وأولاده وحقوقه ومركزه الاجتماعي. فإن حدث ما يهدد هذه الأشياء، أو توقع الفرد التهديد فقد شعوره بالأمن (9). ولذلك يقول المثل: «مطرح ما تآمن خاف».
إن الخوف استعداد فطري داخل الإنسان، يساعد الإنسان على أن يحمي نفسه، ويدافع عن نفسه ليعيش في أمان. إنه استعداد أوجده الله في الإنسان والحيوان، رغم أن طريقة الاستعداد تختلف من حالة إلى أخرى، ومن موقف إلى موقف، إلا أنه يمس كل إنسان، فلا يوجد إنسان لا يخاف. ولو أننا قلنا إنه يوجد شخص لا يخاف، فإن انعدام الخوف يكون ناشئاً إما عن قلة الإدراك أو عن نقص في الطاقة العقلية. فالطفل الذي يضع يده في النار لا يدرك أن النار ستحرقه، والبالغ يتصرف في المخاطر وهو لا يخاف منها لنقص إدراكه العقلي(10).
والفرق بين الخوف العادي والخوف المرضي أن الخوف العادي غريزي، وهو حالة يشعر بها كل إنسان في حياته العادية حين يخاف مما يخيف فعلاً مثل: حين يشعر الفرد باقتراب حيوان مفترس ينفعل ويقلق ويسلك سلوكاً ضرورياً للمحافظة على الحياة وهو الهرب.
وفي ذلك يقول المثل: «من خاف سلم»، كما أن «الخوف يربي الجوف»، أي أن الخوف يربي المرء ويمنعه من ارتكاب ما يعاقب عليه، «مين يقدر يقول يا غولة عينك حمره»، هذا هو الخوف العادي الفطري، وهي انعكاسات سليمة تصاحب الإنسان في مواقف واقعية تستدعي الخوف، «إللي انت خايف منه هَلبَتُّ عنُّه»، أي لابد منه، ومن الأمثال الدالة على الخوف العادي الطبيعي: «نام لما ادبحك قال ده شيء يطير النوم من العين».
أما الخوف المرضي فهو خوف شاذ لا يعرف المريض له سبباً، وقد يكون وهميا أو غير حسي، كالخوف من الموت أو الخوف من العفاريت...الخ. وقد يُعبر المثل عن ذلك بقوله: «قولة هش تربي الغش»، وهو يُضرب في أن الفزع يضر بالشخص. والخوف المرضي يطلق عليه: الفوبيا: Phobia وهو خوف مرضي من موضوع أو شيء أو موقف لا يستثير عادة الخوف لدى عامة الناس وأسويائهم. ومن هذا اكتسب طابعه المرضي. كالخوف من الأماكن المفتوحة، والذي يبدو من خوف المريض من البقاء في الأماكن المفتوحة، فإذا دخل غرفة أو منزلاً لا يستريح إلا إذا أغلق الباب، ويظل قلقاً حتى تغلق جميع النوافذ وهكذا.. فكأن الفوبيا خوف شديد من أشياء ومواقف نوعية لا حصر لها. وقد تعبر الأمثال التالية عن ذلك: “زي القرود يخاف من خياله”، حيث يضرب المثل للشخص شديد الفزع، حيث يرون أن القرد إذا رأى خياله في المرآة فزع فزعاً شديداً. “زي ولاد الكُتَّاب ينسرعوا من أول كف”، أي يضطربون من الخوف، ويعلو صياحهم من أول صفعة يصفعونها، وهو يُضرب لمن يفزع من أول هول يصادفه. ولذلك قال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”.
والمخاوف المرضية لا تستند إلى مسوغات عقلية؛ لأنها تعتمد على هواجس غريبة وأفكار واهمة لا تستند إلى واقع، ولذلك ينصح المثل فيقول: “إللى تحط رجلك مطرح رجله ماتخافش منه”، “إللي تخاف منه ما يجيش احسن منه”، “ما عفريت إلا بني آدم”، “إللي يخاف من العفريت يطلع له”.
ويُرجع أصحاب المدرسة السلوكية الخوف المرضي إلى التعلم الشرطي، كما يحدث في حالة خبرة مخيفة وقعت في الطفولة، حيث تنتقل استجابة الخوف من المثير الأصلي الذي سبب الخوف إلى مثير اقترن به شرطياً. “مالك مرعوبة قالت من ديك النوبة”، أي قيل لها مالك مرعوبة إلى هذا الحد؟ قالت مما حدث في المرة السابقة. أي أن المثير الشرطي الذي لم يحدث الخوف أصلاً قد اكتسب صفات غير المثير الأصلي فأصبح يثير الخوف دون وضوح، وهو ما يُعبر عنه المثل القائل: “إللي قرصه التعبان يخاف من الحبل”، “إللي يخاف من القرد يركبه”. وبذلك يكون من أهم أعراض الخواف: الامتناع عن مظاهر السلوك العادي، مثل الامتناع عن الأكل في المطاعم، وهكذا. وقد يعبر عن ذلك المثل القائل: “إللي يخاف من العِرسة ما يربيش كتاكيت”.

الكبت:
حيلة من حيل الدفاع تلجأ إليها النفس البشرية، ويقوم بها “الأنا” وتتم بشكل لا شعوري لطرد الدوافع والذكريات والأفكار المؤلمة وإكراهها على التراجع إلى اللاشعور، وتسمح النفس البشرية لهذه المواد اللاشعورية بالتعبير عن طريق التخيلات في حلم أو هفوة أو مرض نفسي حتى تبقى الشخصية على درجة من التوافق مع نفسها ومع محيطها (11)
وفي ذلك يقول المثل: “الجعان بيحلم بسوق العيش” فهو تعبير عن الجوع في الحلم وكأن الجائع في سوق خاص للخبز، وكذلك الهفوات التي عبرت عنها الحكمة القائلة: “المرء مخبوء تحت لسانه” (12). إن الدافع المكبوت يظل يعمل باستمرار على دخول مجال الشعور، وفي نفس الوقت يلقى مواجهة لصده، وفي ذلك استنزاف للطاقة النفسية مما قد يترتب عليه تعب جسمي ليس له أي سبب فسيولوجي ظاهر. وبعد عملية الكبت تبدأ كل الحيل الأخرى، فإن الانفعال الذي يصاحب الفكرة المكبوتة يبحث له عن تصريف، ويتم ذلك عن طريق الحيل.

التبرير: Rationalization
حيلة لا شعورية –غالباً– من حيل التوافق تلجأ إليها النفس البشرية لتبرر سلوك الشخصية أو دوافعها التي لا تلقى قبولاً من المجتمع أو من ضمير الشخصية نفسها، بحيث تقدم النفس البشرية في هذه الحالة تبريراً تعلل به السلوك أو الدافع المُدان حتى يقتنع الشخص ذاته بينه وبين نفسه على المستوى الشعوري بهذه التبريرات، ويحاول إقناع غيره بها حتى لا يقع اللوم عليه (13).
وفي ذلك يقول المثل: “حجة البليد مسح التختة (السبورة)”. فهذا التلميذ فاشل دراسياً فيبرر لنفسه أن الأستاذ أسرع في مسح السبورة قبل أن يتمكن من نقل ما عليها من معلومات، وهذا التلميذ رسب في مادة دراسية فيبرر لنفسه ذلك بأن المدرس قد تعمد رسوبه لخلاف شخصي بينهما، وفي مثل هذه الحالة يكون التلميذ ذاته مقتنعاً بهذا التبرير لأنه أتاه من مصدر لا شعوري غالباً.
فالتبرير يعمل لتغطية الشعور بالنقص، وهذا ما يعبر عنه المثل القائل: “اللي ما تعرفش ترقص تقول الأرض عوجة”. كما أن هناك من يحاول أن يستر عيوبه بأعذار باطلة، فيقولون في المثل: “يكُبُّوا القهوة من عماهم ويقولوا خير من الله جاهم”. وعملية التبرير ترفع من قيمة الشخص في نظر الآخرين، أو على الأقل تحافظ عليها، أو توهمه بذلك. وفي المثل الشعبي القائل: “حبيبك يمضغ لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط” ما يلخص جوهر عملية التبرير، ويؤكد كثرة لجوء النفس البشرية إليها. فالحبيب هنا يبرر كافة سلوك المحبوب بحيث يصبح مقبولاً حتى لو كان مرفوضاً، وفي هذا تبرير لوجود عاطفة الحب نفسها. أما العدو فيفسر كل شيء من جانب عدوه على أنه خطأ وضار مهما كان غير ذلك، حتى يبرر الشخص لنفسه وللآخرين عداوته لعدوه.
ويقول المثل: “إذا بعد عليك العنقود قل حامض يا عنب”. فحيلة العنب المُر Sour-Grapes Mechanism صورة من صور السلوك التبريري، والذي يحاول الفرد من خلاله أن يجنب نفسه مشاعر الندم والأسى الناتج عن الشعور بالإحباط والفشل، أو العجز عن تحقيق الهدف، وذلك بمحاولة إقناع نفسه بأن الهدف لم يكن يستحق أصلاً، أو أنه كان أقل من أن يعاني الفرد من أجله مشاعر الحزن والأسى (14).
والعامة تصف هذا السلوك الذي يظهر عند بعض الأفراد على أنه «قُصر ذيل»؛ لأنه يُعبر عن عدم قدرة في الوقت الذي ينسب فيه ادعاء القدرة، ويقول المثل: «قُصر ديل يازعر»، تماماً كما تتهم المرأة العانس كل الرجال بالخلق السيئ، وأن هؤلاء الرجال خونة، لذلك فهي ترفض الزواج(15)  
ولذلك تقول في المثل: «العزوبية ولا الجوازة العار»، وتقول في مثل آخر: «قعاد الخزانة ولا الجوازة الندامة».
وفي التبرير قد يستبدل الفرد دافعاً يقبله المجتمع بدافع آخر لا يرضى عنه، مثل الإنسان الذي ينفق أموال بسخاء في أوجه الخير قد يظن أنه يفعل ذلك بدافع الطيبة، على حين أنه قد يكون مدفوعاً إلى ذلك بحب التظاهر أو بشعوره بالإثم، فالتاجر الغشاش يكثر من الصدقة، و»نوبل» مكتشف الديناميت رصد جائزة مالية كبيرة من أجل السلام، وكأنه «يقدم رشوة للأنا الأعلى(16)»(الضمير)، وإن صح التعبير فالمثل يقول: «إرشوا تشفوا»، والمراد الإخبار بالواقع لا الحث على الرشوة، وكذلك المثل القائل: «إلبرطيل شيخ كبير»، فالبرطيل هو الرشوة، والمقصود بالبرطيل الشيخ الولي، وليس المقصود مدح الرشوة، بل المقصود بيان تأثيرها في نفوس بعض الناس(17).
وكأنه يضع المثل بين عينيه «افتح جيبك ينقفل عيبك» وكذلك الإنسان الذي يسرق تجده يبرر ذلك بأن أغلبية الناس تسرق، ولسان حاله يردد المثل: «الدِّست قال للمغرفة يا سودة يا معجرفة قالت كلنا ولاد مطبخ». وبذلك يتمكن من إشباع نزواته وحماية ذاته في نفس الوقت.
وحينما يقوم الإنسان بعملية التبرير فإنه لا يكون واعياً بها، بل أنه يعتقد أن ما يقوم به من أعمال سيئة إنما هي أعمال حسنة، أو أنه يقصد منها الخير والصلاح.

الإسقاط: Projection
    هو التعامي عن عيوب الذات ونقائصها ونسبها إلى الغير. وهو حيلة تلجأ إليها النفس البشرية في حلها للصراع الدائر في الشخصية حول دافع نفسي معين بأن تتخلص من هذا الدافع فتسقطه على شخص آخر، وبذلك ترى الشخصية في ذلك الشخص دوافعها هي واتجاهاتها هي وخصائصها هي دون أن تفطن إلى أنها دوافعها الخاصة. ومثال ذلك أن يسقط البخيل دافع البخل على الآخرين فيصفهم ظلماً بالبخل الشديد دون أن يفطن إلى أن البخل جزء من نفسه هو وليس من الآخرين، تماماً كما يعتقد مريض الجنون أنه عاقل وأن الآخرين هم المجانين وليس هو(18).  
يقول المثل: “رمتني بدائها وانسلت”، ويقول آخر: “عيوبي لا أراها وعيوب الناس اجري وراها”. ويمكن أن ترى ذلك بوضوح في كثير من سلوك المصريين الذي يتمثل في النقد والسخرية من سلوكيات يقوم بها هذا الشخص ويسقطها على الآخرين، فتجده ينتقد الإهمال والتسيب، وهو يمارس نفس السلوك.
إن عملية الإسقاط هي عبارة عن إجراء نظمته الذات دفاعاً عن نفسها، وحماية لها من الاستخفاف، ولذلك يسقط الإنسان عن ذاته إلى غيره من الناس النزعات التي يستقبح غاياتها، وهكذا يرى في الغير ما به من عيوب فيدينهم إدانته لنفسه. فالزوج التي تنطوي نفسه على رغبة في خيانة زوجته يرميها هي بالعزم على الخيانة، وفي ذلك يقول المثل: “زاني ما يآمن لمراته”، ويقول مثل آخر: “كلم الفاجرة تدهيك واللي فيها تجيبوه فيك”.
وبطبيعة الحال فإن هذه الحيلة تجعل صاحبها يشوه مفهومه عن الواقع، ويقطع صلته الحقيقية بالعالم الخارجي، خاصة وأنه لا يرى هذا العالم بنظرة موضوعية صادقة، وإنما يجعل من نفسه محقاً في كل الأمور. والإسقاط يتم على مستوى لا شعوري دون أن يفطن الفرد لذلك، وهو لا يشمل فقط الدوافع المرفوضة اجتماعياً، بل وغير المرفوضة أيضاً، فالشخص الذي يستشعر السعادة غالباً ما يدرك أن الآخرين سعداء، ولعل المثل العربي المعروف: “كل إناء ينضح بما فيه” تعبير عن هذه الحقيقة.

التعويض: Compensation
هو محاولة الفرد النجاح في ميدان لتعويض إخفاقه أو عجزه (الحقيقي أو المتخيل) في ميدان آخر مما أشعره بالنقص، أو الظهور بصفة مقبولة لتعويض وتغطية صفة غير مقبولة. مثال ذلك: طفل يعاني من اضطراب الكلام يدفعه لتعويضه بأن يصبح فيما بعد خطيباً مفوهاً، وشخص قصير القامة يشعر بنقص فيعوضه بالنجاح العلمي أو السياسي(19). يقول المثل: “فقرا يمشوا مشي الأمرا”، ويقول آخر: “بياكلوا بصار ويتقلدوا من الناس الكبار”، فالفقراء يهتمون بمظاهر كاذبة يخفون وراءها شعورهم بالدونية، ويظهرون أثرى من الواقع، في حين نرى بعض الأغنياء يبدون تواضعاً ويخفون ثرواتهم خوفاً من الحسد.
ويقول مثل آخر: “يا وحشة كوني نغشة”، ويزيد الأمر وضوحاً المثل القائل: “أقرع ودقنه طويلة قال شيء يعوض شيء”، وكذلك المثل القائل: “قرعة بمشطين وعورة بمكحلتين”.
فإذا كان لديك نقص جسمي كالقصر مثلاً فلا تقلق، فالقلق لن يطيل جسمك، واسمع لقول “فرانسيس بيكون”: إن الأعرج الذي يسير في الطريق الصحيح يسبق المتعجل الذي يحيد عنه، ويقول المثل: “قد الزبلة ويقاوح التيار”، ويقول آخر: “قد النملة وتعمل عملة”.
ومن الأمثلة الدالة على التعويض نبوغ “ديموستين” في الخطابة على الرغم مما كان يعانيه من تأتأة، و”بيتهوفن” الذي أخرج أروع القطع الموسيقية والذي كان يعاني من نقص السمع، و“أبي العلاء” في الشعر رغم عماه.

النكوص: Regression
حيلة لا شعورية يقصد بها عودة الشخصية إلى أنماط من الدوافع أو من السلوك أو من كيفيات الإشباع النفسي لرغباتها لا تعود تتفق مع مرحلة النمو التي وصلت إليها الشخصية(20).فهي تقهقر إلى مستوى غير ناضج من السلوك لتحقيق نوع من الأمن والتوافق للفرد حين يتعرض لموقف محبط. “من شب على شيء شاب عليه”، “رجعت ريما لعادتها القديمة” ومثال ذلك المرأة الراشدة التي تسلك سلوك فتاة مراهقة، أو الراشد الذي يبكي عندما تواجهه مشكلة.
وقد قالوا في الأمثال: “الشايب لما يدلع يبقى عامل زي الباب المخلع”. والشخصية تلجأ إلى عملية النكوص إذا استحالت إمكانية إشباع دوافعها بالطريقة السوية، فبكاء الشخص الراشد لاستدرار عطف الآخرين عليه حتى يشبعوا مطالبه هو نوع من عودته إلى تصرف طفلي كان يستخدمه كأسلوب ضغط على المحيطين به عندما كان طفلاً. “عادتهم ولا هايشتروها”، “طول عمرك يارضا وانت كده”.
وقد رأينا أحد الأشخاص عندما تعرض لموقف ضاغط، حيث انكشف أمره أمام أستاذه بعدما قام ببعض السرقات العلمية منه، وعند مواجهته لجأ إلى البكاء الشديد حتى وصل به الأمر أنه تمَّرغ في الأرض كما يفعل الطفل المدلل، نعم “الطبع يغلب التطبع”، كما أن “اللي فيه خصلة ما يبطلهاش”، وقد اكتشفنا أن هذه السرقات العلمية ليست الأولى من نوعها، وإنما هو كما قال المثل “من يومك يا خالة وانتِ على دي الحالة”، وإذا كان المثل يقول: “الطبع والروح في الجسد ما يطلعش إلا لما تطلع”، فنحن نرى عكس ذلك لأن سلوك الإنسان قابل للتعديل بدليل قول النبي: “حسنوا أخلاقكم”. ولكن البعض ينطبق عليه المثل القائل “نهيتك ما انتهيت والطبع فيك غالب، وعمر ديل الكلب ما ينعدل ولو علَّقوا فيه قالب”، فهل استفاد صاحبنا من الدرس؟ لا والله، وكأني أقرأ بين عينيه المثل “الدناوة طبع”، وما يفعله عندما يكتشف أمره فلا يهم؛ لأنه “خد متعود على اللطم”، و”إذا كانت المية تروب تبقى الفاجرة تتوب”، لقد وصلت درجة التبجح بمثل هذه الشخصية أنه يقوم بسرقة موضوعات علمية من الكتب وينشرها في صورة مقالات على مواقع في الإنترنت ومجلات الكترونية.
وكأني أستمع إلى المثل القائل: “إزي إبنك يا دبا؟ السنة اللي فاتت مشي والسنى دي حبا”، ويمكن أن ترى عقدة النقص بوضوح في مثل هذه الشخصية، ففي بكائه اعتراف بالضعف، وفي نفس الوقت يحاول أن يخفي على الجميع هوسه بتحقيق هدف معين، ألا وهو “التفوق”، ورغبته في أن يكون في مقدمة الصفوف مهما كان الثمن، وقد وضُح ذلك في فلتات لسانه ذات يوم عندما قال: “نفسي أفتح النت على أي صفحة أجد إسمي وأعمالي”، حتى عندما يتفاخر بما يملك ومالا يملك يبدو وكأنه يُعاني من عقدة التفوق، ولكن بفحص سلوكه عن قُرب اكتشفنا السر الذي يحاول إخفاءه ألا وهو: “الشعور بالنقص”.

أحلام اليقظة: Day dreams
حيلة لا شعورية يلجأ إليها أغلبية الناس لإشباع الدوافع والرغبات التي عجزوا عن تحقيقها في عالم الواقع. “وفي أحلام اليقظة يستسلم الفرد لتخيلات يرى فيها نفسه وهو يحقق آماله ويشبع دوافعه ويتخطى العقبات التي تحول دون ذلك”(21) كما يقول المثل: “حلم القطط كله فيران”، فالعديد من الناس نجدهم يسبحون بعقولهم في منازعات أو مناقشات حادة مع خصومهم أو منافسيهم، بعدما تعذر عليهم التعبير عن غضبهم تعبيراً مباشراً، وهذه الأفعال ليس لها من أثر إيجابي في تكيف صاحبها في التغلب على الصعوبة القائمة في حياته، وإنما هو يقنع نسبياً بشبع وهمي لهذه الأوضاع.
فترى الضعيف يحلم بالقوة، والفقير يحلم بفوزه بجائزة مالية ضخمة، ويتخيل نفسه وقد تسلمها، بل وقام بشراء ما يطمع فيه ويريده من حاجات. والمثل الشعبي القائل: “الجعان يحلم بسوق العيش” خير تعبير عن ذلك.
وأحلام اليقظة ظاهرة طبيعية عادية لا ضرر منها، بل تعتبر من الاستجابات النافعة للإنسان في التنفيس عن انفعالاته، غير أن الإسراف فيها يؤدي إلى ابتعاد الفرد عن الواقع، والاحتماء بها كلما واجهته صعوبة أو مشكلة. وقد يُعبر المثل القائل: “الأيام الزفت فايدتها النوم” عن الهروب من ضغوط الحياة إلى النوم
وما يلجأ إليه الفرد قبل النوم من أحلام يقظة للتنفيس عما بداخله من توترات. ومع ذلك ينصح المثل فيقول: “إنسى الهم ينساك”
وفي الختام نؤكد على أن الثقافة الشعبية لا تقتصر على ما وصفته الشعوب من الأجيال الغابرة بل يمكن لكل جيل أن يضيف إلى ثقافته الشعبية من الخبرات والمعارف ما يضاف إلى كتلة ثقافته الموروثة ليقدمها للجيل التالي وقد اكتسبت بمسحة من سماته، وغيرت عن ميوله واتجاهاته، ويقوم هو بدوره بإضافة جديدة، وهكذا تمضي الأجيال وفق ناموس الحياة الطبيعي بين أخذ وعطاء يتأثر بما يأخذ ويؤثر فيما يعطي.(22) ومن أبرز عناصر الثقافة الشعبية كانت “الأمثال”؛ لأنها حجر الزاوية في معرفة الشعوب، ولا شك أن الدراسة الحقيقية للمجتمع تبدأ من دراسة الفلسفة اليومية في العلاقات السائرة الاجتماعية والإنسانية، أو تلك الأفكار الجارية في التعامل اليومي، وهذه الأمثال هي دليل صادق على طبيعة الشخصية بسلبياتها وإيجابياتها (23) .

 

الهوامش

1 - إبراهيم شعلان (2008). الشعب المصري في أمثاله العامية، ص 13.

2 - أحمد فائق (2003). مدخل عام لعلم النفس. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية ، ص48 .

3 -  نفسه، ص51.

4 - عزة عزت (2003). الشخصية المصرية في الأمثال الشعبية. (ط2). القاهرة: مركز الحضارة العربية ، ص138

5 -  علاء كفافي (1998). الثقافة والمرض النفسي. مجلة علم النفس. عدد 46، ص7.

6 -  أسامة ابو سريع (1993). الصداقة من منظور علم النفس، ص37 بتصرف.

7 -  أحمد عكاشة (1993). علم النفس الفسيولوجي. (ط8). القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية ، ص192.

8 - سيد صبحي (2003). الإنسان وصحته النفسية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص100.

9 - أحمد عزت راجح : أصول علم النفس. (ط11). القاهرة: دار المعارف، ص113.

10 -  صموئيل حبيب (1989). الخوف. القاهرة: دار الثقافة. ص9

11 -  فرج طه وآخرون (2009). موسوعة علم النفس والتحليل النفسي. ص1035

12 -  أنظر: الكلمات المائة للإمام علي t، تحقيق محمد غالب وأنور زناتي، ص30

13 -  فرج طه، مرجع سابق، ص271

14 -  شاكر قنديل، (في) فرج طه وآخرون، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، ص500

15 -  سيد صبحي. الإنسان وصحته النفسية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص91 بتصرف.

16 -  هذه العبارة للأستاذ الدكتور «حسين عبد القادر» في حديث شخصي مع الباحث.

17 -  أنظر: الأمثال العامية لتيمور، ص129.

18 -  فرج طه، مرجع سابق، ص153 بتصرف.

19 - حامد زهران (1997). الصحة النفسية والعلاج النفسي، ص39.

20 -  فرج طه، مرجع سابق، ص1294.

21 -  فرج طه وآخرون، مرجع سابق، ص493.

22 -  فاطمة المصري (1985). أبحاث ومقالات في الدراسات الاجتماعية والنفسية. ص133

23 -  إبراهيم شعلان (1985). موسوعة الأمثال الشعبية المصرية، ص7.

 

أعداد المجلة