فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
29

الثقافة الشعبية المادية في عالم متغيّر

العدد 29 - التصدير
الثقافة الشعبية المادية  في عالم متغيّر
السودان

قبل الحديث عن الثقافة المادية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أرى أولاً ضرورة تأسيس مفهوم يقوم على أن أي مشاريع للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تقوم على فهم الواقع الثقافي للشعوب. أي محاولة للتنمية دون استنطاق السجل الثقافي تنتهي بالفشل التام. ولنا في ذلك أمثلة متعددة. إذ أن التنمية تعني التغيير إلى الأفضل ولكن واقعنا ينبئنا بغير ذلك. فالمقصود بالتنمية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي هو الإنسان فإذا لم تفهم النتاج الثقافي لهذا الإنسان في أي مكان كان لايستطيع التأسيس لتنمية مستدامة، لذا فخطط التنمية يجب ألاّ تكون متعجلة لأن عملية التنمية ضرورةً تكون بطيئة ومتدرجة حتى لا نقع في هوة الفشل.

في أواخر عام 1951م دعت اليونسكو مجموعة من العلماء والخبراء للبحث في أوضاع ثقافات مختلف الأمم. وكان الغرض الأكثر أهمية هو البحث عن مناهج تؤدي إلى الملاءمة بين أصالة الثقافات التقليدية وظروف الحياة الحديثة وتأثيراتها وعندما نشرت اليونسكو تقريرها– يكتب رشدي صالح في مقال له بعنوان الفولكلور والتنمية –حرصت على التنويه بأنهم لم يبتغوا البحث العلمي البحت، بل قصدوا إلى أن يكون بحثهم موجهاً بصورة مباشرة وواضحة لعدد كبير من مشروعات اليونسكو ... سواء أكان الأمر متعلقاً بنشر التعليم، أو برفع مستوى التربية، أو بتحسين ظروف الحياة أو بالمساعدات الفنية من أجل التنمية الاقتصادية للشعوب النامية... إذ أن كل عمل دولي يوشك أن يكون عقيماً إذا لم يحسب حساب اختلاف الثقافات وأصالتها، كما أن جهل أو تجاهل القيم العقلية والأخلاقية والروحية الخاصة بكل ثقافة لن يفسد المرامي التنموية فقط بل يعرّض أنبل المشروعات للفشل وكوارث لا يمكن تجنبها.

أرى أن ميادين الموروث الثقافي للشعوب حسبما ورد في تصنيفات بعض الباحثين في هذا المجال أن جميع الميادين وهي الثقافة المادية، الأدب الشفاهي، فنون الأداء، العادات والمعتقدات والممارسات والمعارف الشعبية ما هي إلا حلقات يأخذ بعضها برقاب بعض. هل هناك فرق أساسي بينها؟ وهل تلعب هذه الميادين وظائف مختلفة في المجتمع؟ الإجابة بالقطع ..لا.  كتبت في مقال سابق لي: أن الإنتاج اليدوي وتوثيقه مهم ولكن ألا تهمنا الفكرة من ورائه ومعرفة طريقة إنتاجه ومكانه في الحياة البشرية. في حقيقة الأمر فإن المعرفة والمفهوم والوظيفة مثلها مثل الميادين الأخرى هي التي تتنقل من جيل إلى جيل وتنتشر في الثقافات الأخرى متأثرة ومؤثرة. هذا من ناحية، من ناحية أخرى فإن ميادين الثقافة الشعبية الأخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج اليدوي والعادات والممارسات وفنون الأداء والمعارف الشعبية كلها لها جوانبها المادية، فحياة الشعوب وثقافاتها لا نفصلها كما نشاء إلى ميادين متعددة لأنها هي حياة متكاملة لا ينفصل بعضها عن بعض. فمثلاً القصص الشعبي يحتوي على مخزون كبير من أدوات الثقافة المادية وكذلك الأمثال والألغاز، أرى أن التصنيف غير حقيقي وغير واقعي بين المادي وغير المادي، فمثلاً إذا أردنا دراسة بعض الحرف اليدوية فالتركيز لا يكون على شكل المنتوج وهذا بالطبع مهم ولكن بالإضافة إلى ذلك تهمنا معرفة تقنية الصناعة أو الحرفة واستخدامها ووظيفتها في الحياة اليومية بالإضافة إلى معرفة العادات والمعتقدات والروايات الشفاهية التي تتعلق بها.

عودٌ على بدء ما ذكرت، فإن ثقافة الشعوب بتكاملها وتداخلها تلعب دوراً مهماً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. همنا وشغلنا وشاغلنا من كل هذا هو الفهم الموضوعي والدراسة التي تقودنا لاستيعاب مخزون عقلية المجموعات البشرية واستنطاقها توطئة لتنميتها فأنت لا تستطيع أن تحدث التأثير المستدام ما لم تعرف هذه الثقافة مخزون ذاكرة وحاضرة . عليه يتوجب علينا توخي الحذر في التعامل مع عمليات التنمية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، والاستبصار بما تريده المجموعات البشرية من تنميتها والابتعاد عن القرارات الفوقية دون وعي بحقيقة أن تحقيق التنمية لا يتأتى دون فهم ثقافات الشعوب. هذا الفهم هو الذي يؤسس لتنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة.

أسأل هنا ما قيمة التوثيق والجمع الميداني إذا لم يقدنا إلى هذا الفهم. الجمع الميداني وتحليل مادته المجموعة من أفواه الرواة، كما كتبت في عدة مقالات نشرت بصحيفة الأيام في العام 2001: كتبت  علينا فهم الواقع الثقافي السوداني المستند على الجمع والتوثيق الميداني المباشر ثم من بعد ذلك تحليلها التحليل الذي يقودنا إلى الفهم، الفهم الذي يقود إلى وضع سياسات تنموية في مجالي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يتماشى مع توسع دوائر التغيير.

في عالم متغير، جميعنا يعي حقيقة أن الحياة الحديثة والمعاصرة أثرت وتؤثر يوماً بعد يوم على إرث الشعوب فماذا نحن فاعلون تجاه ذلك. ترسخ عندي طوال سنوات عملي في هذا المجال لفترة تقارب الثلاثة عقود قناعة أن نعمل على تأسيس أقسام لدراسة التراث في الجامعات والمدارس معاً والاهتمام بالمتاحف، وتطوير السياحة الثقافية وتأسيس معاهد للتدريب الحرفي وجمع ما تبقى من موروث بفعل اتساع دوائر التحديث التي تحاصر الموروث وذلك بتوثيقه التوثيق العلمي الدقيق والعمل على نشر كتاب الموروث وإصدار المجلات المختصة في دراسته. في العالمين العربي والأفريقي بدأت حركة الاهتمام بتوثيق ودراسة التراث فتأسس بجامعة الخرطوم قسم الفولكلور في عام 1974م تحت مظلة معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، وكذلك في نيجيريا وتنزانيا والمملكة العربية السعودية وقطر والبحرين والعراق ومصر وتونس والجزائر وأثيوبيا.. الخ.

إن الثقافات جميعاً تأثرت تأثراً عميقاً بالتكنولوجيا والتبدلات السياسية والحروب والهجرات، فعادات ومعتقدات الشعوب التي كانت تعيش كأسلافها – تتغيّر الآن تغيُّراً سريعاً، تحت تأثير ما يقع في ظروف الحياة المادية من تعديلات وتغيُّرات نتيجة للتأثيرات القادمة إليها من خارج حدودها. إن الجهد المبذول لتعميم خبرات التصنيع والتقدم التكنولوجي على جميع الشعوب يصاحبه بالضرورة تفككات ثقافية عميقة. غير أن قضايا التنمية وما يصاحبها من آثار على الثقافات التقليدية ومناهج الحياة الموروثة ظلت تشغلنا وسنظل محور شغلنا وشاغلنا كباحثين ودارسين في مجال الموروث الإنساني. أصبح كوكب الأرض الذي نعيش فيه الآن قرية صغيرة في مواجهة التقدم في الاستخدامات التقنية الحديثة في المجالات جميعاً. في هذه الحالة علينا الاهتمام بما تبقى من موروث تقليدي، وما تبقى هو كثير، وذلك في محاولة للمواءمة بين الموروث والمعاصر ... كيف؟

بدأت في الإجابة على هذا والسؤال أعلاه في هذه الكلمة وهو :
تأسيس أقسام لدراسة الموروث الثقافي على مستوى التعليم العام والجامعي وفوق الجامعي وهذا بالطبع يحدث الآن في كثير من جامعاتنا ومراكزنا وهذا فعل محمود وهم مشترك لكل المختصين في هذا المجال.
تأسيس المتاحف التي توثق للموروث الثقافي وتكوين فرق عمل للجمع والتوثيق الميداني وعقد دورات تدريبية للعاملين في المجال وكذلك مجال التربية والإعلام.
تطوير السياحة الثقافية وتأسيس معاهد للتدريب الحرفي لاستيعاب الفاقد التربوي وجمع ما تبقى من موروث بفعل واتساع دوائر التحديث وبذا نستطيع تأسيس دارللنشر تهتم بنشر كتاب الموروث الثقافي وما تبقى منه ليس بالقليل. هذا إلى جانب تأسيس مجلة مختصة محكمة في مجال الموروث الثقافي المعاصر على غرار مجلة الثقافة الشعبية في البحرين ومثيلاتها في كل من قطر والعراق.

أعداد المجلة