فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
23

قرية شننّي بالجنوب التّونسي تـــاريــخ و تــراث

العدد 23 - ثقافة مادية
قرية شننّي بالجنوب التّونسي تـــاريــخ و تــراث

تقع قرية شننّي (اِشْنِنِّي) بالجنوب التّونسيّ على نحوتسعة عشر كيلومترا جنوب مدينة تطاوين(1)، وهي قرية تنتمي إلى مجموعة القرى الجبلة القديمة(2) الشّاهدة على قدم الوجود البشري بهذه الرّبوع، وتنفرد شننّي بخاصيّة لا توجد بغيرها من القرى المجاورة مثل « قرماسه» و«الدّويرات» بأنها قرية مازالت تنبض بالحياة، فرغم إغراءات القرية البديلة(3)(شنني الجديدة) التي توافرت فيها مرافق كثيرة فإنّ أغلب أهل هذه القرية أصرّوا على البقاء بقريتهم 

القديمة مفضّلين حياة «الغار» المنحوت بالجبل على حياة البناية العصريّة والمساكن المشيّدة بالآجرّ والإسمنت... وبقيت شننّي صامدة رغم توالي العصور شامخة شموخ أهلها المتعلّقين بعاداتهم وتقاليدهم أشدّ ما يكون التعلّق... وبقي معمار شنني شاهدا على نمط عيش أهل شننّي: قصر شامخ، معدّ للخزن، يتربّع على رأس الجبل تصطفّ به مئات الغرف ممتطية صهوات بعضها البعض في تناسق بديع تطلّ نوافذها وأبوابها الضيّقة على السّفح عيونا تراقب «العُـقْـلَة»(4) وترصد في يقظة وحزم حركة العابرين على امتداد البصر من كلّ الجهات... وتحت القصر وعلى امتداد الحِفـَـفِ(5) غِيرَانٌ نُحتت في الصّخر لتشكّل عقدا من المساكن المتجاورة تنزل سطورها إلى أسفل الجبل حيث تنبسط الأرض قليلا على حافة الوادي العميق...وتربط بين الغيران مسالك ضيّقة صاعدة حينا نازلة حينا آخر أوملتوية أومستقيمة بحسب ما تقتضيه تضاريس الجبل... توصل كلّ ساكن إلى «غار» تتقدّمه رحبة تؤدّي إلى داخل أحكم تنظيمه ووزعت أجزاؤه بين أقبية ومخادع وغرف بحسب ظروف كلّ عائلة، مما يجعل الغار فضاء يطيب فيه العيش ويحلوبه المقام: دافئ شتاؤه بارد صيفه معتدل ربيعه وقد كيّفته الطّبيعة بإحكام.

ويتجمع أغلب السّكّان تحت القصر في شبكة كخيوط العنكبوت دون وهن ولا تداخل...متقابلين حينا متجانبين أحيانا... وقد اختاروا مقابلة الشّمس عند غروبها لحكمة يعرفونها... بينما بقيت «غيران » الجهة الشّرقية للجبل متباعدة عالية منيعة تطلّ على الطّريق المؤدية إلى « الرّقود السّبعة ».

وإذا كان كهف الرقود السّبعة أوأهل الكهف المعروف بالجهة يعدّ موضوعا يغري بالبحث والتّنقيب فإنّ قرية شنني غنيّة بمادّة غزيرة من الحكايات والخرافات والعادات والتّقاليد التي تميّزها عن غيرها من القرى الجبليّة بالجهة.

الرّقود السّبعة:

حكاية شعبيّة من المخيال الشننّاوي

يقع الغار الذي يعرف بغار الرقود السّبعة أوما يعتقد أهل شننّي أنّه غار أصحاب الكهف الّتي ورد ذكرها بالقرآن الكريم في سورة الكهف(6) في الجهة الشّمالية لجبل شننّي وتتّجه فتحته إلى الشّمال وبذلك فإنّ الشّمس إذا أشرقت تميل عنه فلا تدخله وإذا غربت تقرضه ذات الشّمال فلا تصيبه... وإذا كانت حكمة المولى سبحانه وتعالى قد جعلت موقع أصحاب الكهف سرًّا لا يعلمه إلاّ الله فإنّ جهودا كثيرة قد بُذلت للكشف عن سرّ هذا اللّغز دون الوصول إلى نتيجة تشبع فضول الإنسان، وقد اختلف النّاس في شأن موقع هذا الكهف ولذلك فإنّه من الصّعب أن نثبت تطابق الموضع مع ما عرف عن أهل الكهف ولكنّ الحكاية المتداولة في الجهة تتحذّث عن واقعة قديمة في التّاريخ تشبه ما ورد من قصّة أهل الكهف إلى حدّ بعيد، ولعلّ وجود بقايا قرية رومانيّة بجهة «الفرش» تعرف باسم «دقيانوس» دفع النّاس إلى الاعتقاد بتطابق القصّة على هذا المكان.

1 -الموقع

يطلّ غار «الرّقود السّبعه» على منبسط يمتدّ فيه البصر بعيدا تقابله من النّاحية الشّرقيّة مدينة «دقيانوس» الواقعة بطرف قرية «الفرش» وهي تحمل إسم مؤسسها دقيانوس... كما تشير إلى ذلك الحكاية، ويختبئ الغار جنوب جبل صغير مرتفع كانت توجد على ظهره قرية درست معظم آثارها، كان يسكنها أصحاب الأرض الأوائل قبل أن تنقسم إلى قريتين:

- شننّي.

- الدّويرات.

ويفتخر أهل شنني بأن قريتهم هي الأصل وهي الأقدم في الجهة ويقولون بأنّ قرية الدّويرات نشأت بعد أن فارقهم أحد سكان قريتهم وابتنى لنفسه دارا في المكان المسمّى الآن بالدّويرات وأنّ أصل تسمية «الدّويرات» سببه أنّ الرّجل المفارق كان يُسأل عن داره التي أحدثها فقال لهم يوما «الدّويره ولّت دويرات» أي أنّ عدد الدّيار قد كثر من حول داره.

وكان لأهل شنني بهذا المكان احتفال سنوي يسمّى زيارة أكتوبر وهي زيارة تقع كل عام يوم 30 أكتوبر الإفرنجي الموافق ليوم 17 أكتوبر الأعجمي وفيها يذبح ثور أسود لا بياض فيه ويساق الثّور في موكب شعبي كبير تزار خلاله أضرحة الأولياء الموجودة على الطريق المؤدي إلى الرقود السّبعة ويبدأ من ضريح سيدي مسعود بن عطيّة بأعلى قمة الجبل الخلفي فيدور الزّائرون حول كل «زاوية»(7) سبع مرات يحملون «الصّناجق» (الرّايات) ويقرعون الدّفوف مردّدين:

«يالله، يا الله، أعطيناالغيث إن شاءالله»

وقد ذكرلي الشّيخ جمعة النّجّار(8) أنّ هذه الزيارة أبطلت منذ عهد قريب.كما ذكر أنّ سبب هذه الزيارة أسطورة قديمة تقول أن رجلا ذبح فتاة في موقع مازال يعرف «بجسر المذبوحة» أو«زيتونة المذبوحة» وأنه هرب من ملاحقيه واحتمى بمسجد الرّقود السّبعة ولكن أهل الفتاة قتلوه فأنكر عليهم أهل الرّأي ذلك وأشاروا عليهم بزيارة الرّقود السّبعة وذبح ثور أسود تكفيرا عن ذنبهم فصارت تلك عادة عندهم تحولّت مع مرور الزّمن إلى زيارة لطلب الغيث...

يتّجه مدخل الكهف إلى الشّمال القطبيّ فتأتيه الشّمس عن يمينه وتغرب منه ناحية الشّمال وقد أقيم على مدخله مسجد نقر في الجبل وهوالجزء القديم من المسجد الحالي الذي يتكوّن جزؤه الجديد من قاعة ذات تسع قباب تحملها أعمدة عريضة بنيت بالحجارة وقد رسمت على الأعمدة والأقواس التي تحملها كتابات حديثة عليها أرقام كتبت بالأحرف الهنديّة تشير إلى تواريخ ترميم المسجد وأسماء بالعربيّة لمن رمّمه أوأسماء البنّائين الذين قاموا بالترميم مثل «الريّص(9)محمّد البرّاك الدّويري» كما تقرأ على جدران الأقواس عبارة « لا اله الاّ الله محمّد رسول الله» وغير ذلك من الكتابات التي ذهبت بعض حروفها، وعليها رسوم تتكون من نقط ودوائر وضعت في ظاهرها للزّينة ولكن صورها التي بقيت عالقة في الذّاكرة الجماعيّة تحمل جملة من المعاني والدّلالات التي لم تعد تجد لها عند أجيال اليوم تفسيرا، وقد شهد المسجد توسيعات متتالية لعلّ أهمّها ما قام به الشّيخ «عمر الخرماشي الشننّاوي» بين 1217 و1223 هجري أي منذ ما يزيد عن الثلاثمائة سنة وتبلغ مساحة القاعة من الدّاخل ما يقارب الثّمانمائة والستّين مترا مربّعا وبها على يسار الدّاخل محراب صغير لا يتجاوز ارتفاعه المترين ويقسمه إلى نصفين حائط صغير فعلى اليمين منبر ضيّق به درجتان وعلى اليسار محراب الإمام. ويقابل الدّاخل إلى المسجد باب صغير ضيّق يؤدّي إلى نـفق قصير مظلم لا يرتفع سقفه على مستوى رأس داخله إلاّ قليلا وما أن تشعل الشّموع لتتبيّن المكان حتى تقابلك آثار مدخلين سدّا بالملاط والحجارة وقد دهنت كل الجدران بماء الجير الأبيض، وبأعلى أحد المدخلين كوّة صغيرة مـسدودة هي أيضا قيل أنها آخر ما سدّ منه وأنّ أحدهم مدّ يده ليتحسّس مابداخل الكهف فأخرجها محروقة...! وعلى يسار الدّاخل إلى النّفق محراب قديم يتّجه إلى القبلة يبدوأنّه أثر للمسجد الأول المنقور في الغار وهومسجد شديد الضّيق وطيء السّقف، لا يسع لغير القليل من النّفر.

ويوجد بالجهة اليمنى لداخل المسجد باب صغير ضيّق لا يدخله المرء إلاّ منحنيا ليجد به قبرا يعرف بقبر «الفقيرة مسعودة»، وحين تخرج من قاعة المسجد تجد سقيفة على طول واجهته، سقفها من خشب النّخل وتجد على يسارك وأنت تغادر السّقيفة قبراً طويلاً جدّا هوواحد من ثلاثة وعشرين قبرا يتجاوز طول الواحد منها خمسة أمتار ويزيد عرضه عن المتر وترتفع على سطح الأرض حوالي المتر ولا يعرف إن كانت هذه قبور جماعيّة استدعتها ظروف الأوبئة أوالحروب أم هي قبور لأناس من العمالقة عاشوا في زمن بعيد عنّا أم هي قبور لأناس وقع تضخيمها لرفعة أصحابها في المجتمع أو لسبب آخر... غير أنّ اتّجاه كلّ هذه القبور يأتي على الطّريقة الإسلامية كبقية القبور الحديثة المحيطة بالمسجد. ويتجمّع أحد عشر قبرا داخل سور محاذ للمسجد من جهة الغرب ويحدّد السّور الّذي يبلغ طوله حـوالي أربعة عشرا مترا وعرضه إثني عشر مترا ما يمكن أن يكون المقبرة الأولى الّتي أحدثت قرب المسجد،أضيفت من حولها على امتداد الزّمن مقابر أخرى يختلف حجم قـبورها عن المقبرة الأولى وتوجد بالمقبرة الأمامية حوالي خمسة قبور طويلة كما توجد ستّة منها أخرى بالمقبرة الكبيرة المحيطة بالمسجد كما نجد وراء المسجد عند سفح الجبل وفي مستوى أعلى من المسجد القبر الطّويل الذي يكمل مجموعة القبور الثلاثة والعشرين الطّويلة. وبداخل السّور الكبير المحيط بالمسجد في أقصي يمين الدّاخل حجرة صغيرة أقيمت على مدخل غار مظلم بأوله قبر يعرف باسم « أمّي حليمه» وبعد القبر نفق عميق شديد الظّلام تفوح منه رائحة ماء نديّة تجود بقطرات منه بين الحين والحين عين بخيلة تكاد تحصي عدد قطراتها على مدار العام.

في هذا المناخ المفعم بالرّوحانيات الذي يشهد عليه وجود عدد كبير من «الأولياء» و«الزّوايا» والمزارات تكوّنت مدوّنة أدبيّة شعبيّة تحوي الكثير من المدائح التي تذكر مناقب هؤلاء الأولياء وكراماتهم وهي مدائح كانت تردّد في «حضرة الزّيارة» أوما اصطلح على تسميتها بـ «الـــدّوله»...

يَـــا أَهـْـــــــل القَدِيمَهْ وبُرْكَهْ شُوشَانْ

اللّيلَــه مِنْكُــمْ السِّــرّ يْبَــــانْ

أهْــــل القديمة طَـــلُّوا مِــــنْ فُــــــوقْ

وطَلَّعُونِي مِنْ وَسْطْ السُّوق

راكِبْ حمََــــاري يَـــــا بِنْ مَعْتُـــــوق

ومْعًاكُـمْ فَارسْ جِدّ الشِّهبان

أهــــل القــــــــــــــديمَهْ وارَّّاحْ ارَّاحْ

يَـــا اسيادِي شَاهِي المِرْوَاحْ

هَــــا يَــا أَسْــــيَادِي هَـــاتُوا المِـــفْتَاحْ

مِفْتَــاحْ مَـاضِي يْحِلْ البِيبَانْ

وكذلك:

أُمِّي حَــليمة سِكْنِتْ لَجْبَالْ

***

تَحْضَرْ عِنْدِي ليَا ضَاقْ الحَالْ

كما عرفت شننّي أجيالا من الشّعراء والمغنّين والمدّاحين الذّين يؤلفون القصائد لمناسبات الزّيارات ولغيرها من المناسبات كما عرف منهم شعراء مجيدون كانوا يقيمون حفلات الأعراس(10) ...

حكاية الرّقود السّبعة

2 - تأسيس المدينة

تقول الحكاية إنه كان بهذه الجهة في الزّمن البعيد رجل عالم يحمل كتابا يقرؤه وكان يتصفّح الوجوه كمن يبحث عن شخص بعينه حتّى وقعت عينه على رجل اسمه دقيانوس فأخذ ينظر إليه ويعيد النّظر ويعود إلى كتابه يتصفّح ورقاته ثم يعود للرّجل ينظر إليه... ثم بادره بالكلام وخصّه بالحديث دون سواه وطلب منه أن يعطيه الأمان إن هوأطلعه على سرّ عظيم يخصّه... فأمّنه دقيانوس على نفسه فقال الرّجل بأنه وجد في كتابه علما عن رجل سيكون له في هذه الدنيا شأن وملك ومال وأنّ الصفات التي وجدها بكتابه تنطبق عليه تماما، ثم طلب منه إن هومكّنه من المال والملك أن يجعله وزيرا له ويصطفيه من خاصّته فوعده بذلك... فانتقل به الرّجل العالم إلى موضع محدّد وأخذ يتلوتعاويذه ويقرأ من كتابه ويعطّر المكان ببخور كان معه إلى أن انفتحت لهما الأرض عن مدينة عظيمة دخلها الرّجل العالم وقد أخذ بيد دقيانوس يطوف به أرجاء المدينة الفسيحة ويتنقّل به بين حجراتها وقاعاتها ودهاليزها... وأطلعه على ما فيها من كنوز ذهبية وأموال وجواهر وسلّمه مفاتيحها كلّها وأطلعه على أسرارها التي وجدها مفصّلة في كتابه فسرّ دقيانوس بهذه الهديّة العظيمة وشكر الرّجل العالم على معروفه ولكنّ دقيانوس كان يفكّر في شأن هذا المال وما سينجرّ له منه من سلطان وجاه بين الناس ثم أطرق هنيهة وقد دارت بخاطره فكرة خبيثة، فاستلّ سيفه وأهوى به على رقبة ذلك العالم متخلّصا من هذا الرّجل الذي كان سيبقى له أسيرا طول حياته... ثم أخذ دقيانوس يرتّب شأنه ويعدّ عدّته فأخرج المال من تلك المدينة السريّة وكلّف طائفة من أصدقائه بالقيام بشؤون المدينة الجديدة وانتدب البنائين والنجّارين والحدّادين وكل الحرفيين وشرع في تشييد المدينة وكلّف أحدهم بشراء الخيل وتكوين الجيش وما هي إلاّ أيام حتّى أعلن نفسه ملكا على المدينة فدانت له رقاب الفقراء المستضعفين حتّى طغى في البلاد وأعلن ربوبيته وأمر النّاس بأن يعبدوه وبطش بمن يخالفه أويعبد غيره...

3 - نفر من المؤمنين

ولكن نفرا من المؤمنين الّذين يعبدون الله أبوا عليه ذلك دون المجاهرة وكانوا يخفون إيمانهم ويدفعون النّاس إلى عدم التّصديق بما يقوله وكان من المعارضين له رجل يدعى «تمليخا» (أويمليخا) قال لبعض أصدقائه يوما بأنه سيجرّب هذا الملك الذي يدّعي الرّبوبيّة ليعلم إن كان يخاف النّاس والملوك من حوله... ثم إنه ذهب إلى الملك وهوفي جمع من النّاس مظهرا إخلاصه متظاهرا بالفزع من خبر سمعه يقول بأن ملك المدينة المجاورة يستعدّ للهجوم على دقيانوس وتقويض مُلك مدينتهم ففزع دقيانوس عند سماع حديث الرّجل وسقط مغشيّا عليه من الخوف...فكان ذلك شاهدا على ضعفه ووجله...فكيف يخاف لوكان إلاها كما يدّعي واستغلّ يمليخا هذه الحادثة لجمع الأنصار من حوله لمقاومة الملك الظّالم... ولكنّ أمر الرّجل وصل الملك فأمر بسجنه هوومن معه من الأتباع القلائل...

4 - حيلة للخلاص

بقي الرّجل ورفاقه بسجن الملك مدّة من الزّمن كان أثناءها يمليخا يفكّر في حيلة للهروب من السّجن حتّى جاء يوم احتفال كان الملك الظالم يقيمه وكان فرصة يستمتع فيها الملك بمشاهدة مصارعة الأسود من قبل المحكوم عليهم بالإعدام وغير ذلك من الألعاب الخطيرة التي يتطوّع السّجناء للقيام بها أمام الملك تقرّبا منه واسترضاء له وبحثا عن منفذ للخلاص... وكان يمليخا قد أعدّ لعبة جماعية مع رفاقه في السّجن وأحضر لها ما يلزمها من المعدات وطلب من حراس السّجن تمكينه هوورفاقه من تقديم لعبة كرة العَقْفَة(أوكرة العصا) أمام الملك وهي لعبة جديدة من ابتكاره لم يعرفها الناس من قبل... وجاء يوم الزّينة واجتمع النّاس في موكب بهيج وخرج يمليخا وجماعته يقدمون العرض أمام الملك وقد أعجب بهذه اللعبة الجديدة ثم إنّ أحد اللاّعبين رمى الكرة خارج الميدان فانطلق اللاّعبون وراءها وابتعدوا عن الأنظار فتفطّن الملك إلى حيلتهم وأرسل حراسه في أثرهم ولكنهم اختفوا عن أنظار جميع النّاس. مرّ الجماعة في طريقهم براع له كلب عرف بشراسته وقد انتبه الرّاعي إلى أن الكلب رحّب بمجيء الجماعة ولم ينكرهم فعرف أنّ في الأمر سرًّا.فسألهم عن وجهتهم فأخبروه بحقيقة أمرهم وأنهم هاربون إلى الله، وكان مؤمنا مثلهم فطلب منهم انتظاره حتّى يردّ الغنم لأهلها ثم يرافقهم فانتظروه وقصدوا مغارة بعيدة عند سفح الجبل المقابل وانتبهوا إلى أنّ كلب الرّاعي يرافقهم فنهروه فأبى وألحّ في متابعتهم فرموه بالحجارة عسى أن يخيفوه ولكن الكلب لم ينتهر فقال لهم الرّاعي إنّ هذا الكلب يصلّي حين يراني أصلّي فهوكلب مؤمن فأنكر عليه الجماعة ذلك واستمرّوا في رمي الكلب بالحجارة وبالغوا في إيلامه وإذايته حتّى نطق لهم بفصيح اللّسان ولامهم على صنيعهم معه وعندها انتهوا وصاحبوا الكلب إلى المغارة ومكثوا هناك فغشيهم النعاس واستمروا في غفوتهم ثلاثمائة وتسع سنين...!

5 - البعث الأصغر:

استمرّ «أصحاب الكهف» في غفوتهم إلى أن حان موعد بعثهم من جديد فاستيقظوا وقد أخذ منهم الجوع مأخذا كبيرا فنظروا في أمر أنفسهم وتحسّسوا ما حولهم فوجدوا قربة الماء لم يتغيّر طعمها فشربوا ووجدوا أنفسهم على الهيأة التي ناموا عليها، فكلفوا أحدهم بأن يذهب للمدينة ليجلب لهم طعاما وأوصوه بالحذر من الملك الظّالم دقيانوس وعيونه... فأخذ ما كان معه من نقود قليلة وقصد المدينة لجلب الطّعام ولكنه تفطّن لما طرأ على المدينة من تغيير وزادت دهشته حين قدّم المال للتّاجر فأخذ يتفحّصه ويقول له إن هذه العملة قديمة جدّا وسأله إن كان قد عثر على كنز...واستمرّ الحديث بين التّاجر والرّجل وهويقول له إن هذه نقوده حتّى بلغ الأمر حرس المدينة فأخذوا الرّجل لحضرة الملك، فسأله عن مصدر هذا المال فقال له إنه ماله وإنه من ساكني هذه المدينة وله منزل فيها وأخبره بإسمه فبعث الملك حرسه مع الرّجل ليريهم منزله فرافقوه فأشار بمكان منزله فخرج لهم رجل أنكر على الغريب ادّعاءه ملكية المنزل فاصرّ الرّجل الغريب على موقفه وطلب منهم أن يسمحوا له بالدّخول ليجلب لهم من الدّاخل ما يصدّق قوله، فدلف إلى الدّاخل وأخرج لهم عصيّة صغيرة كان قد نقش عليها إسمه وكان يخفيها بناحية من البيت، فتعجّبوا لذلك الأمر وأعادوه للملك فطلب منه أن يروي له قصّته فأعادها عليه...

6 - الفرج بعد الشدّة:

فقام الملك يقبّله ويقول له بأن دقيانوس الظّالم قد مات منذ مئات السّنين وأن النّاس اليوم وملكهم يعبدون الله الذي تعبده فهدأ روع الرّجل ورجع إلى أصحابه في الكهف والملك وجنوده يتبعونه إلى أن وصل مدخل الكهف فطلب من مرافقيه أن ينتظروه حتى يطمئن رفاقه ويحدّثهم بما رأى وسمع...وكان الرّقود السّبعة قد كلّفوا أحدهم بمراقبة من بعثوه للمدينة فصعد ذلك الرّقيب إلى قمّة الجبل وحين رأى رفيقه عائدا في موكب كبير من النّاس فزع لهول ما رأى وتوجّس من الأمر خيفة فقفز من قمّة الجبل وقطع كامل المسافة الشاهقة التي تفصله عن الغار في ثلاث خطوات...!وقد وضعت علامات في الجبل مازالت باقية إلى اليوم تسمّى الأولى الموجودة على القمّة «النّاظور « وتسمّى الأمارة الوسطى « أولاد النّاظور» أما الخطوة الثالثة فكانت قرب الغار... تقول الحكاية إنّ الملك مكث مع جنوده أمام الكهف ينتظرون خروج الرّجل إليهم... حتّى طال بهم الإنتظار فأذن الملك لجنوده بدخول الغار، وحين ولجوه لم يجدوا للجماعة أثرا... (أووجدوهم نياما...) فقرّر الملك أن يبني عليهم معبدا يعبد فيه الله وحده... ثم تحوّل المعبد إلى مسجد بعد مجيء الإسلام إلى الجهة وهوالمسجد المعروف اليوم بجامع الرقود السّبعة بشنني القديمة...

ولكن، ما سرّ تسمية هذا المكان بجامع الرّقود السّبعة؟ فهل هم أهل الكهف المذكورون بالقرآن الكريم؟ أم أنّ تلك القبور الطّويلة كانت في الأصل سبعة ثم زاد عددها على مرّ السّنين؟ أم أنّ هناك سرّا آخر يأبى إلاّ أن يبقى مختفيا!وكيف يمكن أن نصدّق حكاية أهل شننّي والحال أنّ أصحاب الكهف لم يدفنوا.

وبعد، فإنّك لتحسّ وأنت تطوف بين أرجاء شننّي ومزاراتها المتنوّعة ومساجدها الكثيرة وتمتّع نفسك بالتّنقّل بين قممها وهضابها وأوديتها وشعابها، أنّك تعيش التّاريخ في أعمق صوره وأصدق مظاهره فتملأ عينيك بمشاهد التّاريخ الجليلة وتستنشق عطره العبق الصّافي وتصيخ بسمعك إلى صمته العميق فيملأ نفسك خشوع رهيب تعيشه كلّ جوارحك فيشدّك ذلك إلى أعماق نفسك شدًّا عميقا تستعذبه النّفس وتودّ ألاّ تفارقه.

الهوامش

1 - تطاوين عاصمة أكبر ولاية بالجمهوريّة التّونسيّة تغطّي مساحتها خمس مساحة البلاد الجمليّة، تحدّها ليبيا شرقا والجزائر غربا.

2 - من بين ثلاث قرى بربريّة أوأمازيغيّة (شنني والدّويرات وقرماسة) يعرف سكّانها محلّيّا بالجّباليّة نسبة لساكني الجبل وقد حافظوا على لغتهم البربريّة (أوالأمازيغيّة) التي يتخاطبون بها فيما بينهم إلى اليوم.

3 - أنشأت حكومة الاستقلال في عهد بورقيبة لساكني هذه القرى الجبليّة قرى بديلة في السّهل القريب بغرض توفير المرافق للمتساكنين فنزل أهل الدّويرات وأهل قرماسة جميعا وبقي أغلب أهل شننّي محافظين على مساكنهم في «الغيران» المحفورة في الجبال.

4 - العقلة موضع بأسفل الوادي غير بعيد من القرية به بئر قريبة الماء وأصل التسمية عربيّ من معنى موضع عقل الإبل وربّما لقرب مائها من وجه الأرض حتّى يستخرج بعقال الإبل..

5 - في الفصيح الحَفّة ج حَفاف ما كان من الأرض على شفا هوّة.

6 - أورد الطّبري قصتهم فقال:«وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم...والرّقيم هوالكتاب الذي كان القوم الذين منهم الفتية كتبوه في لوح يذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه...» ثم يورد الطّبري حديثا عن عددهم الذي اختلف في شأنه ويذكر فيما يذكر أنهم كانوا تسعة « فالأول الذي كان أكبرهم وهوالذي كلّم الملك عن سائرهم: مكسملينا،والآخر محسملينا،والثالث يمليخا،والرّابع مرطوس،والخامس كسوطونس،والسّادس بيرونس،والسّابع رسمونس،والثّامن بطونس،والتّاسع قالوس.وكانوا أحداثا»... «وكان لهم في ذلك الزّمان ملك يقال له:دقينوس، يعبد الأصنام...فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه بدينهم، حتّى صاروا إلى جبل يقال له...نيحلوس». تاريخ الطّبري ط. دار الكتب العلميّة المجلذد الأوّل ص 372 وما لعدها.

7 - الزاوية كلمة عاميّة تجمع على زوايا ويقصد بها أضرحة «الأولياء».

8 - أحد رواة التاريخ المحلّي وأشهر حفظة التّراث بالجهة مولود سنة 1926 يحفظ المئات من القصائد الشّعبيّة.

9 - الريّص: أو«الرّايص» وهورئيس البنّائين.

10 - اشتهر منهم الشاعر أحمد بن معتوق أحد شعراء المُوقفْ (حفلة شعريّة بمناسبة الاحتفال بالأعراس).

صور المقال من الكاتب

أعداد المجلة