فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
11

الحكاية الشعبية في فلسطين والأردن.. هوية وتأصيل

العدد 11 - أدب شعبي
الحكاية الشعبية في فلسطين والأردن.. هوية وتأصيل
كاتب من الأردن

عبرت بأوربا، في القرن التاسع عشر، روح الحركة الرومانسية في الفكر والأدب والنقد والثقافة والعلوم الانسانية. وكان من هذه الروح إحساس غامر بالعودة إلى الجذور القومية لشعوب هذه المنطقة لتأكيدها وتثبيتها، في وجه التقدم والتطورات الجديدة من الانقلاب الصناعي ومستحقاته والإصلاح الديني وما ينتج عنه، على النطاق العام للأمة، أما على المستوى الفردي فكان من هذه الروح العودة إلى إنسان الطبقة الوسطى من الناس العاديين، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، والاهتمام باهتماماته الشعبية وذهنيته البسيطة ومحتوياتها.

وكان من هذه الروح أيضاً العمل الحثيث على إحياء اللغات القومية، وذلك على هامش إحياء القوميات، والعناية بما يمثلها من أفكار وتراث.

وكان قد سبقهم إلى ذلك، منذ مطلع عصر النهضة، في القرن الرابع عشر الميلادي، دانتي الاليجيري، في ايطاليا. فقد أصر على كتابه«جحيم الآلهة» باللغة المحلية لأهالي فلورنسا، وكانت من قبله اللغة اللاتينية لغة الكتابة والتفاهم والحياة، فلقي من الناس، فيما بعد، تقبلا لها واستحساناً. فلما كان القرن التاسع عشر عاد الأوربيون إلى آثارهم القديمة، وغدوا يستنطقونها، لتثبيت عراقتهم وأقدمية أصولهم، وذلك في أقوال القدماء وأهازيجهم وحكاياتهم وأحاديثهم وأسمارهم ومواسمهم.

ففي السويد أحسّ الناس أنهم بحاجة إلى إثبات شخصية أمتهم في وجه الزحوف الأجنبية، التي تسعى لاستعمارهم واستيطان أراضيهم، فجمعوا أطراف الملحمة الشعبية التي تتحدث عن تاريخهم القومي القديم وبطولات الأفراد المتميزين فيه، وهي ما عرف بملحمة «الكاليفالا» حتى غدت أناشيد قومية يعتزون بها، ويقاومون ما يهدد وجودهم.

وفي ألمانيا تنبه الأخوان جريم، يعقوب وولهام، للبحث عن الأساطير والمعتقدات والآثار المادية، ولوائح القوانين التي كان يتعامل بها أجدادهم، ثم تنبهوا إلى ما كان يروى في أسمار هؤلاء القدماء من حكايات وأخبار وأحاديث، وجمعوها فيما عرف «بحكايات البيوت والأطفال» (1811م).

وفي بريطانيا طالب عالم الآثار، وليم تومز، عام1846، إحدى الصحف بتخصيص إحدى صفحاتها للأخبار المتصلة بالآثار القديمة، والأقوال والأغاني والطقوس، ونحت لها إسماً جديداً، يومئذ، من كلمة Folklore في أنحاء أوربا فيما بعد.

وفي القرن العشرين مثال آخر من هذا القبيل، فحينما تنبه لدى يهود العالم، الشعور القومي أخذوا يبحثون عن معالم إثباته ففطنوا إلى ضرورة إحياء الفولكلور المتصل بتاريخهم وكيانهم وإحيائه وإبرازه بشتى السبل المشروعة وغير المشروعة، حتى لو لزم أن يسرق من أطراف التراث المجاور والمعاصر كما فعلوا في إدعاء الملابس الفلسطينية الرجالية والنسائية وغيرها(1).

فقد أصبحت دراسة الفولكلور وجمعه تحتل مركزاً بارزاً من اهتمام الدارسين الصهيونيين، كما أصبحت الدراسة مادة تخصص في الجامعة العبرية، في القدس، وفي جامعات تل أبيب وحيفا وبئر السبع، ولايترك الدارسون الاسرائيليون مؤتمراً عن الفولكلور، في أي مكان في العالم،، دون أن يسهموا فيه، محاولين أن يثبتوا لأنفسهم وجوداً من خلاله، فضلا عن أنهم يتبادلون المواد الفولكلورية والدراسات والمطبوعات مع أرشيفات الفولكلور العالمية. (المصدر السابق ص223).

وفي كتاب نشر عام 1995 ذكر على غلافه دار المعارف بمصر – الطبعة الثانية – بإسم «الأدب الشعبي والحكاية الشعبية»، ونسب تأليفه للدكتور أحمد مرسي والدكتور فاروق جويدي – دراسات موسعة عن الفولكلور اليهودي ونماذج من هذه الدراسات، وقوائم بيبليوغرافية عن الحكاية الشعبية والعاملين اليهود على جمعها منذ القرن الماضي إلى الآن، وعن الأغنية الشعبية، والموسيقى الشعبية، والرقص الشعبي لدى اليهود، وعن الأمثال والألغاز لدى اليهود.

واجبنا تجاه تراثنا الشعبي: 

لقد تبين لنا من هذه المقدمة ارتباط الوجود القومي للأمة بدلائل عراقتها ومعالم الإثبات على قدمها، والتراث الشعبي في ذلك مثل الآثار المادية التي تتركها الشعوب في معالم عمرانها سواء بسواء، بل لقد قيل إن التراث الشعبي «حفريات تأبى أن تموت».

إن علينا واجباً ضخماً تجاه الامة ومقومات وجودها أن ننشط أولاً في جمع المادة الشعبية على اختلاف أشكالها وأرشفتها وحفظها، وثانياً في دراستها واستنطاقها والعمل على إبراز أهميتها ودورها في وجود الأمة.

الحكاية الشعبية وهُوّيَة الأمة:

وحينما درست الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني والأردني، وهما مجتمع واحد، وجدت فيها أصولاً للديانات القديمة وللخيال والأحلام وأعمال السحرة. كذلك وجدت أنها قد نتجت عن عوامل محلية في المكان والزمان، كالعادات الموروثة والأصول المدونة والشفوية، وهي في الحالتين المعبّر عن الوعي الجماعي واللاشعور الجمعي، اللذين يمثلان الاهتمامات الروحية للشعب.

فمن أصول الديانات القديمة مايخاطب الناس فيه أرواح الموتى التي يرون أنها تقمصتها أرواح الطير، وهو مايسمى بالتراث بالهامة أو الصدى، كما ورد في شعر شاعر جاهلي:

ياعمرو ألا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حتى تقول الهامة اسقوني

ومنها الطوطمية التي تقدس بعض الأشجار من النباتات أو بعض الحيوانات، وشجرة أم الشرايط لاتزال ماثلة في ذهني  وذهن أبناء جيلي، فيما بين قريتنا ساريس والقرية المجاورة بيت محسير.

ومنها الفتيشية التي تؤكد أن الجزء يحمل خصائص الكل، ويؤدي وظيفته، فشعرة الحصان المسحور، إذا أحرقت، تأتي به على الفور، وصور المرء وشخصه سيان، وعظام الطوير الأخضر تعود له بعد النفوق فتبعث فيه الحياة، وللأسماء قوة أصحابها، إلى غير ذلك من التطبيقات الكثيرة، ومنها السحر والايمان به، كالمسخ إلى حجارة وإلى حيوانات، والعودة إلى الصورة الإنسانية وغيرها. ومنها خيالات نابعة من ديانات القدماء وأعمال السحرة، كالمحاكمات التي تجري بين الإنس والجن تحت الأرض.

أما العوامل المحلية فأبرزها العادات التي تضرب في القدم فتشكل مع الحكاية علاقة قوية في تأكيد الوجود القومي، باعتبارهما نابعتين من العقيدة الثابتة في الأصول الشعبية. فعادة الحذر من رش الماء، في الليل، أمام البيوت، خوفاً من الأرواح الشريرة، ذات أصول قديمة من الاعتقاد بالأشباح والبيوت المسكونة، وأمثال ذلك كثير.

ومن المؤثرات المحلية المنبثقة عن المكان والزمان مؤثرات الجغرافيا الطبيعية على أنماط الحكاية المتداولة نماذجها في أمكنة كثيرة من العالم.

ففي الحكاية عناصر ديناميكية ثابتة وعناصر أخرى متغيرة، فالثابتة هي الملامح الثابتة للأسطورة وصورة بطل الحكاية الخرافية، وهي مرادفة لوحدة التحليل عند العالم الروسي بروب، التي سماها الموتيفة وهي ترتبط بالشكل والإطار العام للحكاية، أما المتغيرة فهي ترتبط بالمحتوى، وهكذا تتدخل المؤثرات الجغرافية والديمغرافية والاجتماعية لإملائها.

ومن هذه العناصر الأصول المدونة ككتب الأغاني وبعض كتب الجاحظ وبلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للآلوسي والمستطرف للإبشيهي وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والملاحم الشعبية كسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن وأمثالهما.

إن هذه الأصول القديمة للحكاية الشعبية، التي تنبض بها هذه الحكاية في أيامنا هذه، دليل كافٍ على العراقة والقدم، وهي تجري على ألسنة الناس، الذين يروونها، على أنها معتقدات شعبية، يؤمن بها الناس في تفسير نشأة الكون، أو تعليل بعض الظواهر الطبيعية.

ذاك لأن دراسة التراث الشعبي ومنه الحكاية يوقفنا على تطور المفاهيم الإنسانية في هذه البقعة من العالم، من حيث المعتقدات القديمة والحديثة.

ونعني بالمعتقدات الحديثة الديانات السماوية، فلا تزال المعالم الإسلامية تظهر في رواية الحكاية الشعبية وفي مضمونها، وكذلك احترام السيد المسيح وسائر الأنبياء.

في وظيفة الحكاية الشعبية:

والبحث عن بعض الظواهر الشعبية كالسحر مثلاً وسائر المعتقدات، لدى بعض الشعوب في حياتها الزراعية والبدائية، عرف في دراسة التراث الشعبي عموماً، والحكاية الشعبية خصوصاً، بالمنهج الوظيفي. وهو منهج متأثر بأبحاث أنثروبولوجية عنيت بدراسة الثقافة البدائية للإنسان، وبتوارث الشعوب المتحضرة للرواسب الدينية والثقافية لها.

(محمد محمود الجوهري، علم الفولكلور، الجزء الأول، ص216).

وقد رأينا في النظر في أصول الحكايات الشعبية، في مجتمعاتنا، لوناً من الوظيفة التي تؤديها هذه الحكايات، وهي تنقل آثار المعتقدات البدائية وبقاياها.

«وقد توسع أصحاب هذه المدرسة بدراسة الظواهر الثقافية والاجتماعية، من حيث الوظيفة التي تؤديها بشكل عام، أما فيما يتصل بالمأثورات الشعبية (الفولكلور) فعنوا بدراسة التراث الشعبي طبقاً للمنهج الوظيفي والاجتماعي.

 (المرجع السابق ص255).

وقد لاحظ الدارسون أن الحكاية الشعبية قد تؤدي، فضلاً عما سبق، وظيفة التسلية والمتعة. ويردون هذه المتعة إلى أعماق أبعد تخدمها الحكاية لدى المتلقين، ألا وهي الأبعاد النفسية، التي تتيح الحكاية، من خلالها، لشخوصها الانفلات من جدران المكان والزمان والمواصفات الاجتماعية. فقد يطير علي بابا على بساط سحري فيصل إلى مايريد، وقد ينظر إخوة، في حكاية، إلى ابنة عمهم في مرآة مع أحدهم، وهي بعيدة عنهم، فيهبون لإنقاذها على بساط سحري، مع آخر، ويكون مع الثالث حبة رمان فيقدمها لها فتلاقي الشفاء التام. هذه أحلام وأمانٍ تتيحها الحكاية للراوي والسامع، فتترك فيه أثر السرور والانشراح.

كما لاحظ الباحثون أن الحكاية تؤدي، وهي تروى بين الناس، كافة العادات والممارسات والطقوس الشعبية الاجتماعية، كما أشار كثير من الأبحاث، ومنها بحثنا عن الحكاية الشعبية في المجتمع الفلسطيني، عن المرأة ص146 وعن الزواج والأسرة ص159 وعن العمل وكسب الرزق ص185 وعن نقد المجتمع ص197 وعن الأرض ص231.

وجميع هذه الوظائف التي تؤديها لنا الحكاية الشعبية شديدة الارتباط بروح الشعب وقضايا الأمة، وهي متأثرة بالقديم، كما بينا من قبل، تأثر النتيجة بالسبب. إن هذه الأبعاد في تلقي الحكاية الشعبية، بين الرواي والمستمعين، سجل لرغباتهم المكبوتة وقيد لأحلامهم وأمنياتهم، منذ القديم، إنه ذوب شعورهم الجمعي، إنها تدوين أمين للشعور الجمعي الذي يجد الناس جميعاً أنفسهم فيه.

انتقال الحكاية الشعبية في

بعض بلدان العالم العربي:

ولقد أتيح لي في بحثي عن الحكاية الشعبية أن أتتبع حكاية شعبية رويت في بعض أنحاء الصعيد المصري، وفي اللاذقية، وفي لبنان، وفي بعض أرياف منطقة القدس، وفي العراق.

وبعد أن أثبت نصوص هذه الحكاية، من هذه المناطق، حلّلتها، كلاًً منها إلى عناصرها الأولية، وهي تتلخص في يتيم، قيل للملك أنه سيستولي على المملكة، وقد فعل في النهاية، على الرغم من أن هذا الملك قد فعل كل ما يستطيع ليحول دون ذلك.

وحينما حللت نصوص هذه الحكايات إلى عناصرها الأولية وجدتها سبعة: الملك، الولادة، النبوءة، الإبعاد، النجاة، الإبعاد الثاني، صدق النبوءة.

بعد ذلك بحثت عن الشكل الأول لهذه الحكاية، وتتبعت مسارها التاريخي الجغرافي، طبقاً للمنهاج الفنلدي الذي عرف بهذا الاسم، حيث رأيت، في مدى جهد الباحث المتواضع، أن هذا النص المتواضع يحتمل أن يكون قد انطلق من العراق، ورّثته أساطير البابليين وحضارات ما بين النهريين، ثم حملته القوافل التجارية القديمة بين بابل وفلسطين وسوريا، وربما انتقل النص بحكم الجوار إلى الأراضي المصرية مع القوافل الذاهبة والآتية بينها وبين بلاد الشام، أما النص اللبناني فلا يحمل أي طوابع قديمة، لذا فربما كان منقولاً من جيران لبنان القديم.

هذا مثال بسيط من أمثلة النصوص الشعبية المتداولة بين بلدان العالم العربي، وهي من الحكايات الشعبية ذات الطابع المحلي، المتأثر بالواقع الذي تعيشه الشعوب المتقاربة في أصولها التاريخية والروحية واهتماماتها ومستقبلها.

 ويذكر الباحثون باحثاً مصرياً، عكف على إصدار عدة كتب، عن وحدة التراث الشعبي في بلاد الشام وفي مصر وفي العراق وفي منطقة الخليج العربي، هو عبد الحميد البقلي، وقد توصل، فيما يذكر الباحث، إلى عادات واحدة وطقوس واحدة وأناشيد وأغان واحدة، تقريباً، بين عرب هذه البلدان. كما يذكر الباحث أن ندوة قد عقدت لوحدة التراث الشعبي في البلدان العربية قد عقدت في بغداد عام 1980، ودارت فيها أبحاث غنية مماثلة.

ولسنا بحاجة إلى القول إن إرث الحكاية الخرافية الذي نتداوله هو إرث هذا اللون من الحكاية في العالم كله، وغني عن البيان أن جميع الحكايات الخرافية في أنحاء العالم تخضع لنموذج تركيبي واحد، كما يقول العالم الروسي بروب، في كتابه عن «انثروبولوجيا الحكاية الخرافية» ص26، ومن هنا قد يجد الناس أن حكايات شعبية محلية قد تلتقي كثيراً بحكايات أخرى، في بلدان كثيرة في قارات أخرى، في موتيفاتها وعناصرها الأساسية.

 

الهوامش

(1) راجع تلخيصاً لكتاب «الفلوكلور والاسرائيليات « الذي وضعه أحمد مرسي وزميله، في مجلة صامد الاقتصادي، العددان 67،68 لعام 1987

 

أعداد المجلة