فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
7

صناعة السعف في الجنوب التونسي

العدد 7 - حرف وصناعات
صناعة السعف في الجنوب التونسي
كاتب من تونس

الحرف ذات أهمية بالغة في حياة الشعوب، تتنوع من منطقة لأخرى وتتميز تبعا للظروف الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية. وقد انتشرت بالبلاد التونسية، منذ العصور القديمة، عدة فنون حرفية كالخزف بنابل مثلا والنحاس بتونس والزربية بـالقيروان ... ولم تكن منطقة نفزاوة من الجنوب التونسي بمعزل عن ذلك  فقد اشتهرت بصناعة الزجاج الذي كان  « صاف وهام وفاق الحدود »1 ، ثم صناعة الأنسجة والملابس الصوفية التي كانت تصدّر إلى مدينة غدامس2 ومنها إلى طـرابلس مثل الحولي والبرنس3.

ومقابل اندثار هذه الحرف، لا تزال المنطقة تحتفظ بتقاليد عريقة في صناعة الخشب التي ورغم تقلص نشاطها واقتصاره على بعض الأواني المنزلية فإنها تشهد اليوم اهتماما متزايدا من خلال العودة لبعض المنتوجات المصنوعة من خشب النخيل، كما تحتفظ صناعة السعف بمكانة متميزة ويظهر ذلك في أكثر من مستوى لعل أهمها كثافة تداولها تقليديا إذ تستعمل منتوجاتها في المنزل والواحة والسوق لأكثر من وظيفة  كالخزن والحمل والنقل... وتغزو الأسواق المحلية والجهوية ولكنها تقتصر اليوم على المنتوج الموجه للاستعمال المنزلي فقط .ويعود ذلك أساسا لعدم إقبال الشباب على تعلمها واقتصارها على بعض النساء والرجال من المتقدمين في السن.

ونحن إذ نرمي من وراء هذه الدراسة المساهمة في الحفاظ على التراث الحرفي الجهوي بما هو جزء من التراث الوطني والعربي، نود أيضا التعريف بتقنيات الإنتاج وقاموس المصطلحـات الشعبية التي تتعلق بهذه المهنة ولاسيما بالمواد الأوليـة وأدوات العمل.

 

I- المواد الأولية وأدوات العمل :

إن أهم ما يميز الحرف الشعبية استخدامها للإمكانيات المتوفرة في البيئة استخداما نافعا وفعّالا من أجل الحصول على مواد تصلح للاستعمال في المسكن والمأكل والملبس، لذلك استعمل الحرفيون الطين والخشب والصوف والجلد والسعف... والسعف مثل الحلفاء والأسل مواد تتكون من ألياف طبيعية نباتية تصنع منها منتوجات متعددة وبتقنيات مختلفة .

تعتمد صناعة السعف في نفزاوة على عدة مواد أولية لكن يبقى السعف المادة الأساسية ويعتمد الحرفي على أدوات عمل البسيطة إذ يرتكز اامجهود أساسا على المهارة التي تكمن في اليدين .

 

 1 - المواد الأولية :

تتكون من السعف كمادة أولية أساسية، تكتسب بعض الخصائص المميزة وقليل من المواد الثانوية المتنوعة.

أ – المادة الأساسية:

وهي السعف وهو«ورق جريد النخل الذي يسف منه الزبلان والجلال والمراوح وأشبهها والواحدة سعفة»4 ويقال له في أماكن أخرى الخوص وهو» ورق النخيل والنارجيل وما شاكلها وواحدته خُوصة والخوَاص معالج الخوص وبيَاعه والخياطة عمله»5. لكن لا تعتبر كل أنواع سعف النخلة صالحة للاستعمال في الحرفة بل فقط سعف قلب النخلة. ويتميز هذا الصنف عن غيره بكونه أملس ومتين إضافة إلى كونه لين ونقي اللون فعادة ما يكون أبيض يميل إلى الاصفرار. كما يختلف في مواصفاته من نخلة إلى أخرى في مستوى الحجم والطول فسعف النخيـل من نوع«الفرملة» قصير

وعريض في حين أن سعف «القندة» طويل ورقيق، وهذا التباين في الحجم والشكل سيجعل الحرفي يوجه كل نوع منه إلى تقنية دون أخرى .

ب- المواد الثانوية:

وتتكون من «الغبرة» و«القنط»والعصي والحبال.أما «الغبرة» فهي مادة اصطناعية في شكل مسحوق، وتحتوي على أربعة ألوان وهي: الأحمر والأزرق والأخضـر والبرتقالي. فالحرفي يستعمل الألوان ليضفي عليها مسحة من الجمال وكي لا تبقى منتوجاته أحادية اللون. و«القنط» وهو مصطلح يطلق على المفرد والجمع وهو عصي رقيقة مستخرجة من عذوق العراجين الجافة وتسمى «سباط»، وتعتبر عذوق عراجين نخيل من نوع «الدقلة» و«الحرة» الأجود نظرا لأنّها طويلة  وصلبة، كما  تستخدم العصي الصغيرة من الجريد الجاف كمقابض للمروحة وحبال من الليف لتكون أذن أوعروة للمصنوعات التي تتطلب ذلك .

 

2- أدوات العمل:

 يعتمد الحرفي أساسا على البراعة اليدوية وحذقه لفنون الحرفة وتجاوب سريع مع الفكر الذي لا يغفل لحظة لما تطلبه الحرفة من دقة وتركيز. فجوهر الحرف عامة هو إعادة تشكيل ما وجد في الطبيعة ليستجيب لحاجة ثقافية. وحرفي صناعة السعف يعتمد على أدوات بسيطة وقليلة بل تكاد بعض المنتوجات تخلو صناعتها من استعمال أية أداة .

وتبقى  الاشفي أهم ما يستخدم من أدوات، وهي أداة حادة ذات مقبض خشبي وتستعمل للثقب، كما تستعمل سكين صغيرة في بعض المهام كتنظيف العصي. أما «المخيط» وهو إبرة كبيرة الحجم فوظيفته الخياطة . ولشحذ هذه الأدوات يوفر الحرفي مبردا خاصا هو عبارة عن حجارة ملساء تلتقط من سفوح جبال الطباقة المطلة على المنطقة ويطلق عليه محليا اسم «مسن». هذا دون نسيان النحاسة، وهي قدر مصنوع من النحاس، للقيام بعملية الصباغة ووعاء من الفخار يستخدم لتليين السعف. وحرفي صناعة السعف ليس حرفيا بالمعنى التام مثل حرفي الأوساط الحضرية الذي يملك ورشة في إحدى الأسواق ويستغرق نشـاطه كامل يومه، إنما هو يوزع وقته بين الأنشطة الزراعية في الواحة والأنشطة الحرفية المنزلية مما يجعلنا نستنتج وجود ذلك التكامل بين نمط العيش وطرق الإنتاج الاقتصادي بقرى  واحات نفزاوة . 

ان حرفي صناعة السعف يأخذ مادته في الحالة العضوية ويمنحها هيئة جديدة بالاعتماد على يديه وبعض الأدوات القليلة فيبدع قطعا متنوعة توظف في مجالات مختلفة ،كما يضفي عليه مسحة من الجمال عندما يضيف إليها أشكال متعددة بألوان زاهية وجذابة.

 

II- مراحل العمل وتقنياته:

توجد تقنيتان في صناعة السعف بـنفزاوة هما: السّف والخياطة. ولئن تتميز كل تقنية بمراحل خاصة في العمل فإنهما تشتركان في المرحلة التحضيرية. ومما يلاحظ وجود شبه تقسيم جنسي للعمل إذ عادة ما يختص الرجل في تقنية السف بينما تتميز المرأة بحذقها للخياطة.

 

1 – المرحلة التحضيرية المشتركة:

تنقسم بدورها إلى أربع مراحل يؤدي التغافل عن إحداها أو الإسراع في تنفيذها إلى فقدان المنتوج لجودته .

أ- التجفيف:

تبدأ المرحلة مع وصول السعف من الواحة للمسكن . يشطر «القلب» طوليا إلى نصفين ثم يقوس كل نصف بحيث تربط طرفاه ببعضهما البعض في شكل دائري. يعرّض السعف لأشعة الشمس بنشره في فناء المسكن أو تعليقه بالجدران المطلة عليه. تستغرق العملية يومين في الصيف وبين خمسة وثمانية أيام في الشتاء أي تبعا لقوة أشعة الشمس.

ب- الخزن:

   بعد جفافه ينزع السعف من «القلب» في الصباح الباكر عندما يكون لينا ثم يربط في حزم صغيرة في حجم قبضة اليد. يوضع إثر ذلك في صندوق خشبي أو في ركن من أركان إحدى الغرف في ظروف ملائمة بعيدا عن الرطوبة ليبقى صالحا لمدة طويلة قد تفوق السنة.

ج- التنقيع:

تتمثل العملية في وضع السعف المعد للعمل في وعاء به ماء لكي يكتسب الليونة من جديد. بدون هذه العملية يتعرض السعف للتكسر. تدوم مدة التنقيع ساعة في الماء العادي وربع ساعة في الماء الدافئ.

د- الصبغ:

تتكفل المرأة بهذه العملية إذ تضع «النحاسة» على النار. عندما يغلي الماء الذي بداخلها تضيف قليلا من مادة الصباغة وتحركه قليلا ثم تضع السعف وتقلبه عدة مرات ليتشرب اللون من جميع جهاته6. بعد الانتهاء من هذه العملية التي تستغرق بعض الدقائق، يوضع السعف المصبوغ ليجف تحت أشعة الشمس.

 

2- تقنية السف:

عملية السف أو الضفيرة حسب المصطلح المحلي، هي عملية  تداخل الخوص مع بعضه في شكل جدائل إذ يقوم الحرفي بسف السعف في شكل شريط طويل يسمى سفيفة. يختلف طول السفيفة وعرضها بحسب القطعة المطلوبة وعموما يتراوح العرض بين 5 و10 صم ويبلغ الطول أحيانا 30 مترا.

فلصنع سجاد مثلا يأخذ الحرفي الشريط انطلاقا من نقطة تعتبر المركز و يخيطه حولها في شكل دائري إلى أن يصل إلى الحجم المطلوب.في هذه المرحلة يقص السعف ويربط الأطراف بالخياطة.يأتي اثر ذلك لوسط القطعة ويخيط العروة.

 

3 – تقنية الخياطة :

تنطلق المرأة بربط سعفتين مع بعضهما البعض في مجموعة من العقد الصغيرة ثم تدخل في الكرة الصغيرة التي تحصلت عليها «القنط» المستخرج من عذوق العراجين. اثر ذلك تقوم بتلبيس القنط بالسعف حين تخيطه حوله باستعمال الاشفي. تستمر العملية في شكل حلزوني تسمى فيها كل دائرة «طور». تبدأ الأطوار رقيقة ثم تتدرج في اتخاذ حجم موحد لأن في كل مرة تضيف المرأة عدد معين من «القنط». تنهي المـرأة عملها بـ«القفلة» وهي التقليل من عدد « القنط » ثم قصه نهائيا و تغطيه بالسعف.

تتعدد مراحل العمل إذن في السف أو الخياطة وتستعمل الحرفية السعف المصبوغ في أشكال مختلفة، تتناوب فيها الألوان فمقابل حضور السجل الهندسي7 تغيب في صناعة السعف الصور النباتية والحيوانية ويعود ذلك أساسا لطبيعة المادة المستعملة التي لا يمكن تطويعها لتكوين الخطوط المنحنية مثلا . يسمى هذا الزخرف محليا  فصالة  أو« رقمة» تمنح القطعة جمالا خاصا لذلك تتميز المنتوجات المستعملة في البيت أكثر من غيرها بكثافة الألوان لأنها تعتبر مقياسا لذوق المرأة في اختيار أثاث منزلها وتناسقه مع بعضه البعض، في حين تغيب الألوان في المنتوجات للأغراض الأخرى خاصة الفلاحية حيث يتم التركيز على الأداء أكثر من الجودة أي على الوظيفة المنفعية .

III- أصناف المنتوجات واستخداماتها :

لئن لم يصنع حرفيو وحرفيات نفزاوة من السعف أثاثا كالمناضد والكراسي مثلما يصنع من الخشب فإنهم أبدعوا في سف وخياطة قطع ساهمت في حمل ونقل الأثقال وخزن المؤن ...

ويمكن تصنيف هذه المنتوجات حسب تقنية صنعها ثم داخل كل صنف سنجد تقسيما آخر يتعلق بوظائف كل منها .

 

1-منتوجات الخياطة :

   اختصاص المرأة في هذه المنتوجات سيجعلها تتميز باستعمالاتها المنزلية في المطبخ والمخزن . فأهم أدوات المطبخ التقليدي بـنفزاوة هو «الطبق» الذي يشبه الغربال في شكله ويحمل بعض الأشكال الهندسية الملونة ويقدم فيه الطعام، أما الطبق الذي يخلو من الألوان فيستعمل لتصفية الحبوب من القمح والشعير . كما تصنع المرأة «المكب» وهو ذو شكل مخروطي تتعدد فيه الألوان إلى حد غياب اللون  الطبيعي في بعض الأحيان. أما أدوات الخزن فهي الرونية التي تصنع عادة من الحلفاء لكن حذقت في صناعتها نساء نفزاوة بالسعف وهي تشبه الجرّة المصنوعة من الفخــار ويصنع لها غطاء وتستعمل لخزن الحبوب والتمور الجافة .

 

2-منتوجات السف :

تعتبر المفروشات من أهم عناصر الأثاث المنزلي المصنوع من السعف والمستعمل في بعض المناسبـات وأهمها الحصر.فحصير السعف يفرش في الدور ويبسط للضيوف في فناء المسكن في الاحتفالات السعيدة كالختان والزواج... أما السجاد فيستعمل للصلاة لأنه خفيف الوزن وسهل الطي والحمل ويحفظ بتعليقه على الجدران.

وتبقى المنتوجات المعدة للعمل والنقل أهم منتوجات الـسعف على الإطلاق والأكثر استخداما ومنها «العديلة» وهي سلة كبيرة ذات الشكل شبه الاسطواني، تستخدم على ظهـور الحمير ثنائية حيث تتدلى كل واحـدة من جهة، تحمل فيها التمـور والأعلاف من الواحة إلى المسكن. أما «العبار» أو«القروية» فهو أصغر حجما من العديلة وتكون له عروتان، ترفع به الأتربة أثناء حفر بئر مثلا ويوزع به السماد الطبيعي بين الأحواض المعدة للزراعة. كما تصنع بعض القطع المعدة لحمل بعض الأشياء الصغيرة كالقفة التي تستخدم للمشتريات من الأسواق وفي جمع بعض الرطب في الواحة، و«الجولق» وهو في شكل المحفظة ويستخدم لحفظ بعض الأدوات الصغيرة في المسكن مثل  المبرد والمقص... وتستخدم بعض المنتوجات الأخرى في عدة وظائف متفرقة كالمروحة في الصيف لتلطيف الجو الحار في المساكن والمساجد مثلا أولتأجيج النار في الموقد أثناء تحضير كأس شاي في الشتاء .والمظلة التي تغطي الرأس وتحميه من أشعة الشمس الحارة.

ان هذا  التنوع في المنتوجات و اختلاف وظائفها يدلان دلالة واضحة على قدرة أهالي الجهة على تطويع السعف وخلق منتوجات تفي بحاجياتهم بالمسكن والواحة وفي كل أنشطتهم اليومية. وتعتبر مشاركة المرأة بدور فعال في هذه الصناعة دليلا على التكامل والتعاون داخل العائلات وهي إضافة لذلك تعمل على تعليم بناتها أصول الحرفة.

أما في مستوى تقنيات العمل فنلاحظ أنها ليست حكرا على عائلات دون أخرى أو قرية دون أخرى فهي شائعة بين جميع أفــراد المجتمع والفرق الوحيد بين حرفي وآخر وحرفية وأخرى مدى إتقان الصناعة وجودتها.

 

هوامش

1-  أبو العباس(القلقشندي)، صبح الأعشى ،القاهرة1915،ج5،ص108.ديسمبر1991 – ص 77.

2-  (P.),Le Pays de Nefzaoua, IBLA, 1947,P167.  2/Moreau

3- غدامس:هي مدينة تقع اليوم في ليبيا وكانت ذات موقع استراتيجي بالنسبة للطرقات التجارية التي ترط شمال افريقيا بجنوبها و محطة لتوزيع البضائع.

4- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت 2003، ط3، ج7، ص190.

5- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت 2003، ط3، ج7، ص176.

6- تظاف مادة الكركم إلى اللون الأخضر فقط ليزيد من قتامة لونه.

7-  أيوب) عبد الرحمان ( الرموز وأبعادها الحضارية في المنسوج التونسي ، مجلة الفنون و التقاليد الشعبية، تونس 2003، ع13، ص165.

 

مصادر ومراجع

- الناصر( البقلوطي) ، تصنيف الثقافة المادية،المأثورات الشعبية،1988،عدد12.

-ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت 2003، ط3، 13ج.

- أبو العباس(القلقشندي)، صبح الأعشى ،القاهرة1915.

- أيوب)  عبد الرحمان ( الرموز وأبعادها الحضارية في المنسوج التونسي ، مجلة الفنون و النقاليد      الشعبية  ، تونس 2003،ع13.

- Moreau (P.), Le Pays de Nefzaoua, IBLA, Tunis ,1947

 

أعداد المجلة