التراث الموسيقي العربي الإسلامي الجغرافيا والخاصيات
العدد 64 - موسيقى وأداء حركي
الوحدة والتنوّع في التراث الموسيقي العربي الإسلامي:
إنّ الاهتمام بدراسة التراث العربي الإسلامي يُحتّم الأَخذ في الاعتبار البُعد الكوْني لحضارةٍ لَا عرْقيّة ولا طَائفيّة، كشفها وجلاَها الإسلام حين بزغَ فجره، انخرطت فيها أُمم كَثيرةٌ ذات تاريخ عريق أَصبح لها اللّسان العربيّ أَداة فكر وبيان. لذا، لا يمكن تحديد ملامح هذه الموسيقى وإبراز تفرّعاتها، دون الانطلاق من نظرة شموليّة تتناغم تماما مع هذا البعد الكونيّ. فنحن أمام نظام لـ «تقليد موسيقي كبير» استمدَ مكوّناته على مرّ العصور، من إفرازات عدّة تتجاوز مرجعيّاته [العرب والفرس والأَتراك] كما تختزل عادة، روافد محليّة أَرحب من ذلك، تحاكي نسيجا اجتماعيّا فسيفسائيّا رائع التّداخل والتّكامل، ساهمت في إرساء هذا النّظام وإثرائه لتبرزه في تَشكيلة مقاميّة ثريّة، هي متجانسة ومتباينة في نفس الآن. من نتاجها، لوحة زاهية يمكن إبراز ملامحها دون عناء، بل وبكلّ وضوح في أرصدتها الكلاسيكيّة والشعبيّة، العقَائديّة والدّنيويّة، تتجلّى خصالها في خاصيتيْن أَساسيتيْن1:
- تكشف الأولى عن وحدة شاملة تتخطى الحدود القومية، تبلورت عناصرها وتطورت داخل إطار الرصيد الكلاسيكي، مستمدة طابعها المميّز من الرّوح الإسلامية واللغة العربية.
- تفصح الثانية عن خاصيات محلية، واكبت هذا التطور التاريخي، والانتشار الجغرافي، مساهمة باستمرار في تطعيم وإثراء هذا الطابع العربي الإسلامي. مبرزة ملامحه في الرصيد الشعبي بحللٍ زاهية، تتنوع خصوصياتها بتنوع الخصوصيات الاجتماعية، والعرقية، والجغرافية، والتاريخية، التي يتشكل منها العالم العربي الإسلامي.
- من أهمّ مميّزات هذا التراث اتّساع رقعته الجغرافيّة؛ وهو ما أوجد عددا وافرا من القوالب والأساليب المحليّة، تتنوّع حسب ثقافة الأصل، ومدى تفاعلها مع العناصر المكوّنة للحضارة العربية ـ الإسلامية. وداخل هذه المساحة المترامية الأطراف2، تتواجد مدارس موسيقيّة متنوّعة. فعلاوة على المدرسة العربية، نذكر:
- المدرسة التركية المغولية: تركيا والمناطق الشرقية باليونان، جزء من قبرص، وألبانيا، وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا، بما في ذلك البوسنة وجمهوريات آسيا الوسطى، أوزبكستان ـ طاجيكستان، منطقة سين كيانغ الصينية...
- المدرسة الإيرانية: إيران، بلدان القوقاز الممتدة إلى أذربيجان، أفغانستان، والمناطق الواقعة على الحدود الباكستانية ـ الإيرانية.
- المدرسة الهندية ـ الصينية: الهند الشمالي، باكستان، بنغلاديش، اندونيسيا، جزر المالديف، بورنيو، ماليزيا وغيرها من مناطق آسيا وأوقيانيا.
- المدرسة الأفريقية: وتتفرع إلى المنطقة العربية الإسلامية (السودان وموريتانيا مع الصومال وجيبوتي). والمنطقة الإسلامية سنغال، النيجر، تشاد، مالي، غينيا، جامبيا، جزر القمر... بالإضافة إلى جزء من ساحل العاج، ونيجيريا، وأنغولا وأثيوبيا وغيرها من مناطق القارة الأفريقية).
غير أنّه جغرافيا، نلاحظ أنّ حدود هذا التأثير ترتبط أصلا بمدى انتشار التأثير اللغوي... ذلك أن الأمر يتعلق بالتراث الموسيقي المتداول عزفا وغناء وسماعا وتذوقا لدى الإنسان العربي داخل الوطن وخارجه، وذلك بصرف النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو مكان إقامته. من وجهة نظر جغراموسيقية، يتفرع التراث العربي إلى أربع مناطق كبرى، وهي:
1. المغاربية: المغرب الأقصى، الجزائر، تونس وليبيا.
2. المصرية ـ الشامية: مصر، فلسطين، الأردن، لبنان، سوريا.
3. العراقية.
4. الخليجية: جنوب العراق، العربية السعودية، البحرين، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، قطر، عُمان واليمن.
5. بالإضافة إلى منطقة خامسة يمكن نعتها بـ العربية – الأفريقية: السودان، موريتانيا مع الصومال وجيبوتي.
في هذه الأجواء الرحبة حيث تتداخل المعطيات العقائدية والدنيوية، تلعب الموسيقى دورا اجتماعيا هاما، وتمثّل عنصرا أساسيّا في كلّ المناسبات الخاصّة والعامّة. وإذا ما دققنا النظر في هذا التداخل العميق، والتنوّع الثري، يمكننا، تجزئة هذا التراث الضّخم إلى قسمين أساسيين:
1. قسم دنيوي، وهو موسيقيا صنفان:
الرصيد الشعبي: نابع من أعماق الشعب، معبّر عن مشاغله وطموحاته المختلفة، مواكب له في كلّ مراحل حياته واحتفالاته الخاصّة والعامّة. فهو بقسميه – الحضري والقروي – ثريّ الأساليب، متنوّع الأغاني والرّقصات.
الرصيد التقليدي/الكلاسيكي: ثريّ المعاني، دقيق التراكيب، فهو ثمرة حضارة عريقة ووليد مجتمع متمدّن، نشأ في رحابه ونما وتطوّر بخطى ثابتة ومتواصلة.
2. قسم عقائدي: ثريّ ومتنوّع، منه الديني البحت، ومنه المستوحى من الحياة والمعتقدات الخاصة داخل الزوايا والطرق الصوفية المنتشرة في كامل الوطن العربي الإسلامي. وهو موسيقيا كثيرا ما يستمدّ مكوّناته من الرصيدين الشعبي والكلاسيكي.
الخاصيات الفنيّة والجماليّة:
من مكتسبات البحث العلمي والميداني في مجالي علم الموسيقى وعلم موسيقى الشعوب، إبراز الثروة الهائلة للتقاليد الموسيقية التي يزخر بها العالم عامة والوطن العربي الإسلامي بخاصة حيث تتناغم على امتداد مساحته الشاسعة، ألوان عدّة من الموسيقى الكلاسيكيّة والشعبيّة ببعديهما العقائديّ والدنيويّ. ممّا مكّن من رسم خارطة موسيقيّة تتنوّع وتتكامل في رحابها أنظمة موسيقية لكلّ منها مكوّناته المميّزة، ومدى ارتباط ذلك بالمحيط الاجتماعي والحضاري المنبثقة عنه، وكيف أنّ المعيار الجمالي لها، لا بدّ وأن يتمّ حسب المنظور الاجتماعي – الحضاري الخاص بها...
والمستمع اليوم إلى موسيقى أو بالأحرى موسيقات الحضارة العربية الإسلاميّة، يمكن له أن يلاحظ دون عناء - حتّى داخل العالم العربيّ - عناصر التّقارب والتّناظر بينها على أَكثر من مستوى، غير أَنّه موسيقيّا، سرعان ما يكتشف أنّ ذلك لا يعني تماثلها، بل هي متباينة وذات خصوصيّات واضحة وطابع مميّز يحدّد دون أيّ التباس هويّتها، فنيّا، جماليّا وذوقيّا. وبالتّالي، فإنّه على الرّغم من عمق تداخل ملامحها العامّة، يبقى لكلٍّ منها وحتّى داخل المنطقة الواحدة، خاصيات محليّة تتنوّع بتنوّع الواقع البيئي والجغرافي والتّاريخي والاجتماعي والثّقافي وَاللّغوي. ولنا في موسيقات العالم العربيّ من المحيط إلى الخليج أفصح دليل على ذلك، إذ يمكن لنا رسم ملامحها بطرق شتّى، من ذلك تصنيفها الجغرافي السالف الذكر، وهو تصنيفٌ نجد ترجمة له في خاصيّات مكوّنات أَرصدتها الكلاسيكيّة والشّعبيّة، العقائديّة منها والدنيويّة، والعناصر التّابعة لها: الأنماط الآليّة والغنائيّة؛ المقامات الطّبوع والإيقاعات؛ أساليب الأداء الآلي والصّوتي، بل وحتّى الطَّابع الخاصّ لبعض الآلات الموسيقيّة المستعملة، دون أن ننسى اللّهجات المحليّة في علاقتها باللّغة العربيّة الفصحى، كأَحد أهمّ عناصر الوحدة والتنوّع3.
مع ذلك، يمكننا موسيقيا، حوصلة مجموعة هامة من عناصر التلاقي في صلب العائلة الكبرى للتقاليد الموسيقية العربية والإسلامية عموما؛ مع خصوصيات أخرى محلية المنبع، تتنوّع حسب ثقافة الأصل ومدى تفاعلها. ممّا جعل هذا التراث الموسيقي يتميّز في نفس الآن بطابع كوني موحّد في أصوله متنوّع في روافده.
وفي هذا الصدد، يمكننا حوصلة العناصر المكوّنة للنّظام الذي يرتكز عليه التراث الموسيقي العربي الإسلامي في الآتي4:
- الاعتماد أساسا، على التلقين الشفوي وهو عنصر حيوي، يكون فيه للإبداع والارتجال، والذاكرة، وسعة الخيال، دور رئيسي يتطلّب التعامل معه الكثير من الوقت والمثابرة والصبر إذ أنّ الغناء والعزف والنظريات والتحليل وبالتالي الإبداع والتلحين، كلّها عناصر تتماشى مع بعض ويستمدّ بعضها من بعض. ولا غرابة في أنّ عظماء من تدارسوا الموسيقى من الأقدمين عندنا، أمثال الكندي والفارابي وإخوان الصفا وابن سينا وصفي الدين، وغيرهم، وبحثوا في أدقّ جزئياتها، قد تجنّبوا عمدا وضع ترقيم جاف يكون بمثابة تحنيط لفنّ روحي وحيوي كالموسيقى.
- الانتماء إلى الأسرة المقاميّة أي الاعتماد على مبدأ المقام أو الطبع الذي يعبّر في نفس الوقت عن سلّم موسيقي معيّن، وعلى ما يتضمّنه من خاصيات وما يثيره من تفاعلات سيكولوجيّة وفيزيولوجيّة. فكلّ مقام أو طبع يشكّل ظاهرة مقاميّة تسبح في عالم « نغمي - إيقاعي» خاص، تخضع فيه بنياته الداخليّة، الفضائيّة منها والزمنيّة، إلى مجموعة قوانين تفرضها التقاليد ويكيّفها الذوق، وكلّ ما تفرزه اللّهجات والأصوات المقترنة بعبقريّة الفئات الاجتماعيّة.
- السلّم المعتمد في النظام المقامي، مستمدّ من مبدأ تآلفي، يعود إلى أصل سامي قديم - رغم نسبته إلى فيثاغورس - وهو فيزيائيا، سلّم « طبيعي» مستخرج من تسلسل تآلف الخامسات، ويعتمد على النظام السباعي أو الخماسي أو بمزج الاثنين معا:
1. فهو عمليا، يتبلور في شكل خلايا متتالية (اثنتان فأكثر، تكون واحدة منها الأساس): أجناس أو عقود ثلاثيّة، رباعيّة، أو خماسيّة، من النّوع المقامي (الدياتوني)، أو المتقارب (اللّوني)، أو الشرقي بثلاثيته أو ثنائيته الخاصّة (4/3 أو ¼1 تقريبا).
وتكون إمّا متّصلة وإمّا منفصلة ببعد طنيني أو متداخلة. وهذا السلّم الطبيعي الذي يعتبره المختصّون «أفضل سلّم لحني على الإطلاق»، ليس له أيّ علاقة بالسلّم الغربي المعتمد على المعادلة الرياضيّة وتجزئة الديوان إلى اثني عشرة نصفا من البعد متساوية، أو إلى أربعة وعشرين ربعا متساوية كما يطالب بذلك بعض النظريّين المعاصرين من العرب وغيرهم من الشرقيّين. فكلاهما يعود إلى قياسات حسابيّة مصطنعة، الهدف من ورائها تثبيت الكتابة التوافقيّة/ الهارمونيّة وإقحام الآلات ذات المنازل الثابتة.
2. بينما تكون الدّرجات ثابتة في السلّم المعدّل للنّظام التونالي، وهي تتسلسل من درجة الأساس إلى جوابها، مكتسية في هذا الحيّز، أهميّة متباينة حسب دورها داخل المركّبات المتآلفة وقواعد الكتابة التوافقيّة، من ذلك: الرابعة (تحت المسيطرة) والخامسة (المسيطرةالثابتة)، والسابعة (الحساس)، والثامنة (الديوان). فإنّها في سلّم النّظام المقامي، تأتي مختلفة بين ثابتة ومتحرّكة بحكم الجاذبيّة الطبيعيّة حسب الأهميّة، مع إمكانيّة تغيّر بعضها عند النزول مقارنة بما هي عليه في الصّعود. ويمكن تحديد الفروق الكائنة بين الدّرجات، في النقاط التالية:
- درجة القرار: المحور الأساسي الذي يحوم حوله ويبنى على أساسه سير اللّحن. وهي تبرز خاصة في القفلات النهائيّة أو شبه النهائيّة، وتعطي أحيانا اسمها للمقام المرتكز عليها.
- المراكز أو الغمّازات: تتغيّر حسب نوعيّة الخلايا المكوّنة للمقام.
- المبدأ أو المدخل: بالرّغم من تنوّعها، فهي ذات أهميّة بالنّسبة لانطلاق الحركة اللّحنية.
- درجات يفصح تجنّبها أو تأكيدها عن شخصيّة المقام أو الطبع، وهي باختلاف وظائفها تفرز بين مقامات وطبوع تتماثل من حيث السلّم.
3. روح المقام: ينفرد كلّ مقام بملامح معيّنة تبرز من خلال تراكيبه اللّحنية (وأحيانا اللّحنيّة – الإيقاعيّة)، تعرف بـ « روح المقام»، يستمدّ منها قدراته التعبيريّة والتأثيريّة. ولهذا الإحساس المقامي المميّز، ثلاثة أبعاد:
- فنّي: ثابت يتمّ من خلاله، التعرّف على المقام.
- تأثيري: يختلف وقعه حسب الإدراك الحسّي والمزاج النّفسي للمؤدّي وكذلك للمتلقّي.
ما ورائي: تقليديّا كان يُنسب لكلّ مقام أو طبع قدرة تأثيريّة (إيتوسEthos) خاصّة، بنيت على أساسها نظريّة ما كان يعرف بـ شجرة المقامات أو الطبوع الأصليّة والفرعيّة... غير أنّ هذا العنصر رغم أهميته، لم يعد متداولا اليوم.
4. أسلوب الأداء: يعتمد الإضافة الشخصيّة (الزخارف والتلوينات والارتجالات اللّحنية والإيقاعية) كظاهرة حيويّة وإبداعيّة هدفها تجاوز قيود الهوموفونيّة وإبراز الخطّ اللّحني في صوره الجماليّة الزاهية والمتنوّعة، أي بطريقة التعدّد النّوعي (هيتروفونية)، تزداد حيويّة وتكاملا مع رهافة إحساس الموسيقيين وتمكّنهم من تقنيات الأداء وقدرتهم على التصرّف والتفنّن... هذا ما يتعارض تماما، مع الأسلوب العمودي التوافقي القائم على احترام السّير اللّحني في أدقّ تفاصيله، والذي يزداد انضباطا مع اتّباع المدوّنة الموسيقيّة والتضخيم العشوائي لعدد العازفين والمنشدين واعتماد قائد للفرقة. الحصيلة: طغيان التقيّد بدقّة الأداء وتوحيده، على حساب تلقائية المبادرة الشخصيّة وحيويّة التجدّد والتواصل والتكامل. وهذا يعني التخلّي عن عناصر فنيّة وجماليّة جوهريّة، واستبدالها بأخرى مختلفة بل متضاربة تماما مع ما هو مطلوب.
5. أمّا العنصر الإيقاعي فهو لا يقلّ أهميّة، إذ أنّه يبرز في الموسيقى المقاميّة بطرق وإمكانيات فائقة التنوّع والثراء. كلّ ذلك في تسلسل دوري، قوامه النّبرات المميّزة، داخل إطار زمني يحدّده عدد معيّن من الوحدات، منها الساكنة، ومنها المتحرّكة بمختلف مستويات القوّة والضّعف حسب ما تمليه التركيبة الإيقاعيّة. هذا ما تفصح عنه مختلف المصطلحات المستعملة، منها:
- أصول: أي أصل، أساس.
- إيقاع (ج. إيقاعات): أي أنّ النّبرات الإيقاعيّة تلعب دورا أساسيّا في تركيبه وتنويعه (يعبّر عنها موسيقيا بـ: دم – دم مّه – تكْ – تكَّ – تكّه – تاكاه...)، مع اعتبار ما يُعرف بالزمان الأوّل أو المعيار.
- وزنميزان (ج. أوزانميازين): أي أنّه أداة تنظيم وقياس لأزمنة النّغمات، فهو يقسمها إلى مجموعات متساوية تتكرّر حسب نظام خاص، فيأتي اللّحن موزونا جميل الوقع.
- ضربدور- دائرةطقم (ج. ضروبدوائرطقوم): جملة نقرات متحرّكة وساكنة، متنوّعة النّبر من حيث القوّة والضّعف، تضبط أزمنتها وتتوالى، حسب نظام مخصوص لكلّ إيقاع.
أيّ تسلسل منتظم طوال القطعة الموسيقيّة لعدد من الإيقاعات لها نفس المدّة الزمنيّة ونفس النّبرات ونفس النّقرات القويّة والضعيفة والسّاكنة، تعود بانتظام.
- تعميرحشوْ أو طرْز: فنّ التلوين والتزويق في النّقرات والنّبرات الإيقاعيّة، بمعنى التنوّع والإثراء وفيه حسب مقدرة النّاقر، طرق شتّى وفنّيات عدّة، تصل مع تعدّد النّاقرين إلى طريقة التعدّد النّوعي في الإيقاع (الهيتروريتميّة).
فلكلّ من كلمة إيقاع ووزن مفهوم خاصّ ولو أنّها كثيرا ما تستعمل الواحدة مكان الأخرى. فالوزن يعني: تنظيم الحركة وتقسيم الأزمنة في الألحان تقسيما منظّما، وإن اختلف هذا التقسيم في أجزاء الأزمنة. وقد يكون لقطعتين موسيقيتين وزن واحد ولكنّهما من إيقاع مختلف، وقد تكون عدّة مقاييس في قطعة موسيقيّة متساوية الميزان طبعا، ولكنّ إيقاع كلّ مقياس يختلف عن الآخر بسبب اختلاف تقسيم زمن النّقرة إلى عدد من النّغمات مغاير لما في الآخر... وقد يتغيّر الإيقاع كذلك بتغيير سرعة أداء القطعة الموسيقيّة بكاملها.
الغناء بطريقة النوبة:
ملامح المشترك والخصوصي تتّضح أيضا، من خلال أساليب الأداء كالتي نلاحظها مثلا، في النماذج المتنوّعة لإلقاء الآذان وترتيل القرآن الكريم وتجويده؛ وكذلك في هيكلة قوالب موسيقيّة، من أبرزها ما يعرف بـ «النوبة الغنائية»5. أثر فنّي لـ «تقليد موسيقي كبير» أفرزته مختلف الروافد المكوّنة للحضارة العربيّة الإسلاميّة خلال عصرها الذّهبي، تشكّل نموذجا موسيقيّا متكاملا عمّ استعماله مختَلف مراكز هذه الحضارة شرقا وغربا. مع تطوّره، أفرز قالبا من أهمّ القوالب وأكملها، وهو يتضمّن عددا من القطع الآليّة والغنائيّة تؤدّى حسب نسق معيّن ونظام وقواعد متّفقٌ عليها. كما شهد عبر التاريخ إضافات متتالية، وكان له التأثير العميق في تنوّع وإثراء الفنّيْن الشعري والموسيقي. وإذا ما اقتصرنا على الرصيد الكلاسيكي التقليدي الدنيوي، يمكننا القول بأنّه في إطار هذه القوالب الكبرى المتطوّرة عن النوبة التقليديّة، توجد أهمّ الأنماط الغنائيّة والآليّة ومن خلالها مختلف العناصر المكوّنة للّغة الموسيقيّة المحليّة وطرق الأداء الآلي والصوتي والآلات التقليديّة.
وإذا ما اختصرنا على الرصيد الكلاسيكي التقليدي الدنيوي، يمكننا القول إنّه عمليا، مكوّنات هذه الطريقة لا تزال متواصلة إلى اليوم من خلال مجموعة قوالب كبرى مركّبة. وفيما يلي عيّنات من مراحل الغناء بطريقة النوبة6:
I- أصول النوبة الغنائية في الحضارة العربيّة الإسلاميّة
1. مراحل تطوّر النّوبة الكاملة بالشرق والغرب الإسلامي [IIIهـIX م - IX هـ XV/م]
الأندلس - المغرب |
المشرق |
|||||
زرياب (IX) - ابن باجة (XII) - التيفاشي(XIII) |
إضافة ابن غيبي (781هـ/ 1379م) |
التأثير الفارسي التركي/ المغولي المدرسة الطنبوريّة- المنهجيّة (XVI-XIII) (XIII-X) |
النظام العربي القديم (المدرسة العوديّة) (-- IX--) |
|||
•نشيد/ استهلال • عمل • محرّك • موشحة/زجل أشعار خفيفة |
استهلال لنشيد •عمل عمل/ استهلال • محرّكات مرقصات • أشعار خفيفة موشحات-أزجال ـ رقص |
• نشيد • بسيط • محركات • أهزاج |
• قول • غزل • ترانة • فروداشت • مستزاد |
• قول •غزل • ترانة •فروداشت |
• قول • غزل • ترانة |
• نشيد/ نشيد العرب • بسيط = (نوبة) |
طريقة بيشرو • صوت صوت الوسط/ مائة خانة |
2. مقاييس قالب النوبة الكاملة بالشرق والغرب الإسلامي
الأداء |
الشّعر |
الإيقاع الشّعري |
الإيقاع الموسيقي |
اللّحن |
القطع |
يتّسم بكثرة الارتجالات والترديدات والتصرّفات اللّحنيّة والإيقاعيّة |
عربي قديم-أعجمي (بالمشرق) عربي قديم مع *موشحات وأزجال أشعار المولّدين (بالغرب الإسلامي) |
تعدّد البحور والأوزان الشعريّة مع تنوّع القافية |
تنوّع الإيقاع والحركة من الحرّ المنساب ثم الثقيل الموسّع إلى الخفيف المتوسّط السرعة فالسّريع المرقص |
وحدة المقام مع إمكانيّة الانتقال بين مقامات/ طبوع متقاربة والرجوع إلى الأصل |
عدد من القطع الآليّة والغنائيّة تؤدّى حسب تسلسل معيّن |
تحـوّلات عرفتْـها النـوبة.
مع أواخر ق XI - بداية XII هـ/ XVII-XVIIIم، عاد قالب النوبة ليبرز من جديد كوحدة فنّية متكاملة داخل الأرصدة الموسيقيّة المحلّية المكوِّنة للتراث الموسيقي العربي الإسلامي. لكنّ رغم حفاظه على إطاره العام (التسمية أيضا بالنسبة للرصيد المغاربي)، قد شهد سلسلة من التحوّلات غيّرته على ما كان عليه من قبل في التراث الموسيقي العربي الإسلامي. وهو ما يمكن حوصلته في الجداول التالية:
II- التحوّلات المتعاقبة لقالب النوبة في العالم العربي الإسلامي
العربية |
العربية-الإفريقية |
التركية - المغولية |
الإيرانية |
الهندية |
•«المقام» (العراق) • «الصوت» (الجزيرة العربية) •«القومة» (اليمن) • «الوصلة» الشامية –المصرية •«النوبة» المغاربية |
•«الأضوان» بني حسان (موريتانيا) |
»•الفاصل» التركي •«الاونيكي مُقام» الايغوري (تركستان/كازاخستان/ منطقة سين كيان الصينية) |
•«الداستقاه» إيران – أفغنستان •«المُقام» أذربيجان - كشمير •«الشاش مَقوم» أوزبكستان وطاجكستان |
•«الراقا» (الهند الشمالي – باكستان) |
- في إطار هذه القوالب الكبرى المنحدرة من النوبة التقليديّة تمّ الحفاظ على أهمّ الأنماط الغنائيّة والآليّة للرّصيد الكلاسيكي ومن خلالها مختلف العناصر المكوّنة للمقاميّة المحليّة. |
III - جداول توضيحيّة مقارنة لمضامين هذه القوالب المركّبة المنبثقة عن النّوبة التقليديّة
(منذ أواخر ق-XI بداية XIIهـ/ XVII-XVIIIم)
1. الشرق الإسلامي
(1)
المنطقة المدرسة |
الرصيد (المصطلح/العدد) |
مقدّمة / افتتاحيّةمدخل |
الأدوار الأساسيّة (صأ) |
قطع إضافيّة |
تركيا |
فاصل |
- بشرف (آ) + تقاسيم |
|
|
إيران |
رديف [ 12 داستڤاه [بين 200-450 قوشيه حسب الروايات)] |
پيشدرمات/ درمات (مقدّمة) (أ) تشهارمضراب: قطعة آليّة مع آلة واحدة وإيقاع (أ) |
- أواز : قسم غنائي طويل • شعر : قصيد غنائي (إيقاعه حر) • تصنيف : غناء موقّع • تحرير : ترديدات صوتيّة وارتجالات آليّة وصوتيّة • رنق : ختام ذو ايقاع حي وسريع لمصاحبة الرّقص |
• مثنوي : غناء صوفي |
أذربايدجان |
المُـڤـام |
|
|
(2)
المنطقة المدرسة |
الرصيد (المصطلحالعدد) |
مقدمة / افتتاحيةمدخل |
الأدوار الأساسية (صأ) |
أوزبكستان طاجكستان |
شاش مقوم [أكثر من250 بين آلي وغنائي + قطع أخرى] |
1. مُشكِلات (أ): • تصنيف • ترجيع • كردون • مخمّس • سيقال/ثقيل/بشرف |
2. نصر (ص) أمجموعة أولى من شعب: • [صربحار، طرانات، نصر، طرنات، أوفر] بمجموعة أولى من شعب: • [صوت مع: تلقينتشا، قشقر نشا، ساقينانا، أوفر] • [مغولتشائي مع: تلقينتشا، قشقرتشا ساقيناما، أوفر] |
سينكيانج الصينية [تركستان الشرقية الأيغور] |
أون إككي موقام [أكثر من 360 لحنا مختلفا] |
- باش مُقام/مُقام باشي: افتتاحية (إيقاع حر) |
شونْـڤ نغمه: مجموعة غنائية أولى، مع أقسام آلية في أدوار إيقاعية متنوّعة الحركة. دستاندستان نغمه: مجموعة غنائية ثانية مماثلة للأولى • مشراپ: أغاني خفيفة إيقاعها سريع، دورها الإيقاعي قصير (7.8، 2.4) مجعولة للرقص |
الهند الشمالي (الرصيد الهندستاني) [الراڤا: عدد كبير من بينها: 6 ذكور (راڤا) و6 إناث (راجني) وعدد من الفروع (پوترا)] |
1. راڤا آلي : ------ 2. راڤا غنائي: |
- آلاپ (تقديم/ارتجال آلي – إيقاع حر) - جور (ارتجال موقّع) - جهاله (حركة سريعة) - ڤات (قطعة آلية يتمّ إثراؤها لحنيا وإيقاعيا، تتنوّع حركتها من البطيء فالمتوسط والسريع). ----------------- آلاپ (تقديم/ارتجال آلي – إيقاع حر) - دروپاد [غناء بأسلوب متقن آلي وغنائي، تتفرّع عنه أساليب أخرى: ■ ذمار/ أكثر حركية ■ ترانا/إيقاعه خفيف الحركة ■ تپّا/الأكثر تعقيدا وزخرفة] - ثمري (غناء في أسلوب ليّن وخفيف) - خيال (غناء يتسم اسلوبه اللحني والإيقاعي بالثراء والتنوّع، وهو الأكثر أناقة في أداء الراڤا). |
الاعتماد أساسا على الارتجالات والإضافات اللحنيّة والإيقاعيّة (آليّة وصوتيّة) |
2 . العالم العربي:
المشرق العربي
المنطقة المدرسة |
الرصيد (المصطلح العدد) |
مقدمة / افتتاحيةمدخل |
الأدوار الأساسية |
فواصل / لوازم داخلية |
القفلة |
قطع إضافية |
المصرية / الشامية |
الوصلة (حوالي 22) |
- بشرف (آ) - موشحات : من 3 إلى 6 (ص) - دولاب (آ) |
دور (ص) قصيدة (ص) + ارتجال |
- سماعي (آ) - تقاسيم (آ) - ليالي (ص/ آ) - موال (صآ) |
- لونغة (آ) |
طقطوقة (ص/ آ) - قد (صآ) - تحميلة (آ) |
العراقية |
المقام (5 فصول/ مجموعة مقامات) |
- بدوة (ص) - تحرير (ص) |
إنشاد/ عرض المقام (ص) (جلسة- ميانة – قرار- قطع وأوصال) + ارتجال |
- لازمة/ محاسبة |
- تسليم / تسلوم (آ) |
- ارتجالات (صآ) |
الجزيرة العربية |
الصوت (؟) |
- استماع (آص) - تحريرة (آص) |
صوت عربي (ص) صوت شامي (ص) |
-لازمةمحاسبة |
- خانة / توشيحة (ص) |
ارتجالات (صآ) |
اليمن |
القومة (؟) |
- فرتاشفرتشة (آ) - بيتين (آص) |
دور 1 (ص) : دسعة (مطول) دور 2 (ص) : وسطى دور 3 (ص) سريع |
نقلة (بين مختلف الأدوار) |
- توسل (ص) (مضمون صوفي) |
ارتجالات (صآ) - رقص |
المغرب العربي
البلد |
الرصيدالنوبات |
افتتاحيات |
المراحل الأساسية |
لوازم داخلية |
قطع إضافية |
المغرب |
ـ آلةطرب 11ـ نوبة (4 ك ـ7م) ـ 26 طبع ------ (1066) + (200) |
ـ ميشالية كبرى (آ) ـ ميشالية صغرى (آ) ـ انشاد طبع النغمة (ص) ـ بغية (آ) ـ توشية النوبة (آص) |
ـ بسيط = (. موسع . قنطرة . انصراف) ـ قائم ونصف = .... ـ بطايحي = ...... ـ درج ـ قدام = ....... |
ـ توشية الميازين (آ/ ص) (قبل الصنائع/ داخلها/ آخرها) ـ ردان الجواب (آ) |
ـ بيتين ـ موال |
الجزائر (اتلمسان/ العاصمة/ قسنطينة) |
ـ غرناطي ـ صنعة ـ مالوف ـ 12 نوبةطبع -------- (1003) |
ـ دائرة (ص) ـ مستخبر الصنعة / ميشالية (ص) ـ توشية (آ) قبل النصراف + آخر النوبة |
ـ مصدر ـ بطايحي ـ درج ـ انصرافنصراف ـ خلاصمخلص |
ـ كرسيكريسي (آ) (قبل كل مرحلة ماعدا الخلاص) ـ ردان الجواب (آ) |
ـ نوبة تقلاب (7) : . شنبر/ بشراف (أ) . استخبار (آص) . كرسيميزان (آ) . نقلاب (ًص) . قادرية (ص) |
تونس |
ـ مالوف ـ 13 نوبةطبع -------- (783) 372 |
ـ استفتاح (آ) ـ مصدر + طوق + سلسلة (آ) ـ أبيات (ص) |
ـ بطايحي ـ برول ـ درج ـ خفيف ـ ختم |
ـ دخول (آ) = (الأبيات/ البطايحية الأختام) ـ دخول (ص) = (البراول) ـ لازمةفارغة (آ) = (أبياتبطايحي / درج خفيف) ـ ردان الجواب |
ـ استخبار (آ) = دخول الأبيات + التوشية (آص) = آخر التوشية ـ مشد (تلوينات موزونة بعد التوشية) ـ سواكت + مشاغلات (ألحان شعبية بعد التوشية) (أ) ـ قصيدة (ص) ـ شغلسجل – فوندو (ص) ـ شنبر// بشرف/ بشرف سماعي (آ) |
ليبيا |
ـ مالوففنّ ـ ؟ نوبة13 طبع . (نوبة مصدر // . نوبة برول / . نوبة علاجي ------- (200) |
- استخبار (آ) - استفتاح/استفتوح (ص) - استخبارإنشاد / بيتين (ص) |
ـ مصدر ـ مركز ـ برول ـ برول ملفوف . برول سريع |
ـ ردّان الجواب |
- وصلات شرقيّة: . موشّح . دور (آص) |
موريتانيا |
أضوان (حوالي مائة مقطوعة) |
- دخول (ج. دخولات) |
- شاور (ج. أشوار) . شاورمُشوْهد (ص) - رخو (ج. أرخاو) . شاور مُشوْهد (ص) [لكحل + لبيض...] |
- ردّة (ج. ردّات) - شاور لخبيط (أ) |
- برمة (ج. برمات) - دنديندينه دان |
طابع كونيّ موحّد في أصوله - متنوّع في روافده7:
والجدير بالملاحظة، أنّه إذا ما بحثنا في جماليّة البناء اللّحني ـ الإيقاعي للتراث الموسيقي العربي الإسلامي، نجده - بفضل هيكله المقامي البحت وأنواع أساليبه«المتتالية» و«اللامتتالية» يحاكي الاتّجاه الجمالي المميّز لنماذج الفنّ الإسلامي عموما، كـ التوريق النباتي، والتظفير الهندسي، ونماذج الرّقش العربي مثلا، فهو يميل مثلها إلى استعمال وسائل تقنيّة وأسلوبيّة واضحة ومتفتّحة، تبتعد أساسا عن «الخداع والقولبة وافتعال العناصر الوهميّة»، فهو يؤكّد بدوره على وجود «وحدة جماليّة أساسيّة» تسيطر على كلّ الإبداعات، مع طابع التعدّد والتنوّع والكثرة، مقدّمة بذلك، الدليل الساطع على القدرة التأليفية الفائقة، التي يتحلّى بها الفنّ العربي الإسلامي، والتي مكّنته ـ على مرّ العصور ـ من هضم مختلف الأنماط الفنّية المكوّنة لتراث الشعوب الإسلاميّة المنتشرة على رقعة هائلة الامتداد، دون أن يسعى إلى طمس شخصيتها. بل نراه يفتح لها طريق الإبداع والعطاء، داخل «خطّ جمالي ناظم وموحّد لها جميعا».
فهذا «الطابع الكوني الموحّد في أصوله، والمتنوّع في روافده» الذي يميّز الفنون العربيّة الإسلاميّة عموما، والفنّ الموسيقي خصوصا، يجعلنا نؤكّد على وجوب إعادة النّظر في مناهج التدريس، ومناقشة المفاهيم المعتمدة، والآراء السائدة إلى حدّ الآن لدى بعض أهل الاختصاص، من عرب ومستشرقين على حدّ السواء.
لذا، بات من الضروري إعادة الاعتبار لهذه الفنون وإبراز تنوّعها، اعتمادا على نظرة علميّة ـ فنّية، تربطها أساسا بالواقع التاريخي والاجتماعي والجمالي للحضارة العربيّة الإسلاميّة في بعديْها الكوني والإنساني... كما نعتقد تبعا لذلك، بأنّه على المستوى العملي (أي الإنتاج والابداع في المجال الموسيقي)، فإنّ انفتاح هذه المدارس بعضها على بعض من شأنه أن يكون عامل إثراء تستفيد منه إيجابيّا مختلف هذه التقاليد...
بين التثاقف والمثاقفة:
مع انطلاق ما يُعرف بـ «النهضة العربيّة الحديثة»، والاحتكاك المتزايد بالنموذج الغربي وتأثير التكنولوجيا الصناعية (أواخر القرن التاسع عشر)، طرأت تغيّرات جذريّة بكيفيّة سريعة ومتتالية على المشهد الموسيقي العربي، كان من نتائجها التخلّي تدريجيّا عن الثوابت والتشبّث بالتأثيرات الوافدة8. وقد كان لوسائل البثّ وللتعليم الموسيقي حسب النموذج الغربي، الدّور المركزي في تكريس توجّه قائم على خلط غير مدروس، بين نظامين مختلفين. من ذلك النظام المقامي العربي السالف الذكر، والنظام التونالي الخاص بالموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، والذي يعتمد على سلّم معدّل ثابت الدرجات، وعلى أساس مقاميْ الكبير والصغير (ماجور- مينور) وعلى الإيقاع المنتظم النّبرات، مع اعتماد التدوين والكتابة التوافقيّة العموديّة والتوزيع الأوركسترالي، الخ. فمميّزات كلا النظامين ومواطن الاختلاف بينهما تبرز واضحة جليّة، من خلال الموسيقى ذاتها، وهيكلتها، وتراكيبها اللحنيّة والإيقاعيّة، والآلات الموسيقيّة والتقنيات الصوتيّة والوظيفة الاجتماعيّة. هذه الفوارق وغيرها، تبرز بإلحاح في عديد الممارسات، من بينها أساليب الأداء وطرق التعليم. فهي بالنّسبة إلى«النّظام التونالي» الأوروبي تقوم على التقاليد المكتوبة التي تتطلّب «التطبيق الحرفي لما كتب حسب التقريب» اعتمادا على « ذاكرة ذات اتّجاه واحد غير مدمجة ضمن نظام ثابت ودقيق». في حين أنّنا نجدها في «النّظام المقامي» العربي والشرقي عموما، تعتمد على تقاليد شفويّة تقوم على « ذاكرة متعدّدة الاتّجاهات ومدمجة تبعا لعادات متأصّلة ضمن نظام حيّ وذات صيغ متعدّدة ومبادئ وفنّيات جرّبت طويلا»، فهي مزيج من المقدُرة المكتسبة والإبداع ومن الارتجال والتأليف. وهي بالتالي، نتيجة مباشرة من المعلّم إلى المتعلّم، ويبذل هذا الأخير مجهودا يتضاعف تدريجيّا لفهم وهضم العمل الفنّي في أكمل أشكاله. ويأنس بذلك لقواعد اللغة الموسيقيّة ويكتسب في الآن نفسه ذوقا وإحساسا وقدرة على الإبداع. ولا يمكن أن يتحقّق ذلك، إلاّ بالاستماع إلى فنّان حقيقي والسّير على منواله، وليس بتلقّي دروس جافة من معلّم مدرسة (كما لا يمكن أن يصبح المرء شاعرا بمجرد درسه لعلم العروض ومعرفته لبحور الشعر).
وهنا تأتي التفرقة بين التعليم الذي يهدف إلى تكوين فنّانين مبدعين داخل المعاهد المختصّة، والتربية التي تسعى إلى التثقيف والتوْعية الموسيقيّة ضمن التكوين العام. كما يكتسي التوجّه المتّبع في مجال التعليم والتربية والثقافة الموسيقيّة عموما، أهميّة بالغة، إذ صار متأكّدا بحكم التجربة، بأنّ الطّرق الخاصّة بالنظام التونالي، التي لم تعدّ ملائمة حتّى للموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة ذاتها، تلحق فادح الضّرر بالتقاليد الموسيقيّة الأخرى خاصة تلك الخاضعة إلى النظام المقامي. هذا ممّا دفع عددا من أهل الاختصاص في التربيّة الموسيقيّة بأوروبا من أمثال: سلطان كوداي، وكارل أورف، وموريس مارتنو، وسوزوكي وغيرهم... إلى البحث عن أساليب جديدة عرفت بالتعليم «النشيط»، والتي ما هي في واقع الأمر، سوى محاولات محتشمة إذا ما قارناها بالأساليب العائدة إلى الطريقة التقليدية الشفوية المباشرة، المتّبعة في الموسيقى المقاميّة. ولقد برهنت هذه الأساليب الحسّيّة المستحدثة على نجاحات باهرة في مجالات تعليم الآلات الموسيقيّة ومجالات التربية الموسيقيّة بصفة عامة من الناحيتين النظريّة والعمليّة.
فهي تركّز على تنمية الذّكاء الموسيقي والذّاكرة والمهارة لدى الطفل منذ نعومة أظفاره؛ وقد استفادت في مجملها من مكتسبات الطريقة الشفويّة التقليديّة التي تنطلق أساسا من التطبيق الملموس، والتي برزت إيجابيات استغلالها وتجلّت بوضوح – كما أسلفنا - من خلال تجارب علم النفس التربوي الحديث. والغريب في الأمر، أنّ بعضنا ينادي باعتمادها كما هي وكأنّها حدث جديد عن مجال التعليم في الموسيقى العربية، بينما هي في الواقع، تشكّل أحد أهمّ مميّزاتها.
فلا غرابة في ظل هذه التناقضات أن يعاني تراثنا الموسيقي كسادا متزايدا يصل إلى حدّ النفور، من قبل الشباب، بل والمتلقّي العربي عموما9. لذا، فالوضع يستوجب منّا صحوة مثاقفة حقيقيّة مع موروثنا الموسيقي تعلّما، أداء وتذوّقا، قبل أن نفقد هويّتنا ونصبح مجرّد نسخة باهتة للآخر...