نماذج من الألعاب الشعبية والرياضية بالمغرب وأبعادها الثقافية والحضارية
العدد 64 - عادات وتقاليد
يزخر التراث المغربي بألعاب رياضية شعبية كثيرة ومختلفة، عبرت عن عمق الثقافة المغربية وغناها الحضاري، فبالإضافة إلى الفروسية التي تتنافس جميع قبائل المغرب على اكتسابها والتمهر فيها، انتشرت بين القبائل ألعاب أخرى بأسماء وصيغ مختلفة، وإذا كان الدور المباشر لهذه الألعاب يتجلى في المرح والتسلية وبناء الجسم، فبواسطتها كان يُبَثَّ في الأجيال أشياء كثيرة وخصالا حميدة كضبط النفس، والإقدام، والعزم، والشجاعة وتنمية القدرات الذهنية.
وفي الوقت الذي لم تنل فيه الألعاب الشعبية التي عُرفت في المغرب منذ التاريخ القديم نصيبا كافيا من الاهتمام من لدن المصادر التاريخية، فإن الكتابات الأجنبية كانت سباّقة إلى جمعها وتدوينها. جاء ذلك في إطار سياسة ثقافية استعمارية تهدف إلى التعرّف على ذهنية المغاربة، وعاداتهم وتقاليـدهم حتى يسهل على المستعمِر السيـطرة والتغلغل، بالمقابل استغل المغاربة هذه الألعاب خلال الفترة الاستعمارية كوسيلة لمواجهة المستعمر والرد على أطروحاته.
نحاول من خلال هذه المساهمة النبش في التراث الشعبي المغربي، لاكتشاف أحد مجالاته المتميزة بالغنى الثقافي والرياضي، وكيف استغل المستعمر هذه الألعاب في خدمة مصالحه الاستعمارية؟ وكيف شكّلت هذه الألعاب سلاحا ثقافيا فعّالا في يد المغاربة لمواجهة المخططات الاستعمارية وتفكيكها؟
التعريف بأهم الألعاب الشعبية بالمغرب في التاريخ الحديث والمعاصر:
1) مفهوم الألعاب الشعبية وخصائصها:
تعرف الألعاب الشعبية على أنها تلك الألعاب التي يمارسها الأطفال والكبار في كل البيئات بصورة عفوية وتلقائية ولا يرجع فضل تحديد قواعدها إلى مؤسسة أو أحد بعينه بل يرجع إلى تقليد اجتماعي يتناقله جيلا بعد جيل1. كما أنها نوع من الرغبة المتكررة لدى الفرد لها حدود وقواعد. وحسب Huizinga Johan فإنّ اللّعب نشاط حر، يمكن اعتباره خياليا يتموقع خارج الحياة، ولا يستهدف أي ربح أو منفعة مادية، وينجز في مجال وزمان معينين، ووفق قواعد مستوحاة من حياة المجموعات البشرية2. كما يعرفه Caillois على أنه نشاط حر يعمل على تحويل ما هو غريزي إلى فعل اجتماعي، وما هو طبيعي إلى فعل ثقافي، كما أنه يبين العلاقات القوية الموجودة بين مكونات اللعبة والنظم والقوانين الاجتماعية3. في حين يعتبره «Piaget»، عملية تحويل المعلومات الواردة لتلائم حاجات الفرد، فاللعب والتقليد والمحاكاة هي جزء لا يتجزأ من عملية النماء العقلي والذكاء4.
من خلال التعاريف السابقة التي مزجت بين النظرة النفسية والاجتماعية والتربوية للّعب، نخلص إذن إلى أن اللّعب هو نشاط ترفيهي حر، مؤسّس على قواعد تنظم المنافسة، يعتمد فيه على استغلال الطاقة الحركية والذهنية في آنٍ واحد عبر نشاطٍ ما، وقد يكون موجّهاً أو غير موجّه، يقوم به الأفراد عادةً لتحقيق المتعة والتسلية والتعلُّم بطرق غير مباشرة، ويستغلونه في تنمية سلوكهم وشخصياتهم، بأبعادها العقلية والجسمانية والوجدانية. وبذلك فإن اللّعب غريزة إنسانية تنشأ مع الإنسان منذ لحظات ولادته الأولى، وهو يكتسب من خلاله أنماطاً سلوكية، تنعكس على المواقف التي تواجه الأطفال في مراحل مقبلة من العمر. كما أن اللعب قد يكون على شكل حركة أو عمل يمارس فردياً أو جماعياً، ويستغل طاقة الجسم الحركية والذهنية، ويمتاز بالسرعة والخفّة، ولا يُتعِب صاحبَه، ولا يهدف إلا للاستمتاع والترويح عن النفس5.
أما اللعب التقليدي، فيمكننا تعريفه على أنه تقليد اجتماعي تتناقله الأجيال داخل المجتمع، كما أنه أداء يمارسه الأطفال والشباب والكبار، باعتباره استعدادا فطريا وطبيعيا منذ الطفولة، وأنه ضرورة من ضروريات الحياة كالأكل والشرب والنوم، ويتميز بكونه منظما ويخضع لشروط وقواعد، يلتزم بها المشاركون في اللعب، عن طريق عقدة أخلاقية غير مكتوبة، بل يكون الاتفاق عليها ضمنيا، كما أنه ينتقل من فرد إلى فرد عن طريق المشاهدة والمشاركة في اللعب6. وهو عبارة عن طقوس تتدهور مع الزمن، وقد تفقد معانيها من جهة، كما يمكن اعتبارها ذاكرة للقيم الجماعية من جهة أخرى. وكما يعبر Huizinga عن ذلك «بأن اللعب بهذا المعنى هو صانع للثقافة انطلاقا من مبدإ المنافسة ونكران الذات الفردية، وتعويضها بما هو جماعي، حيث يعتبر أن للعادات والطقوس والحروب وغيرها أصولها في اللعب»7.
ويتسم اللعب الشعبي بعدة خصائص منها8:
- تنوع أشكاله وأنماطه في مختلف الأعمار ويمارس بصورة جماعية في الغالب، وله أبعاده المختلفة بخلاف المتعة والتسلية.
- يتميز اللّعب الشعبي بالحرية أثناء الممارسة، وتوجد له قوانين وحدود في كل لعبة، ويتأثر بالبيئة التي يمارس فيها.
- يتميز بقدرته على تنمية الابتكار لدى الأطفال، فيقوم الطفل بصنع الأدوات اللازمة للعبة من مواد البيئة المتاحة.
- تتميز الألعاب الشعبية بأنها قابلة للانتشار في المناطق التي تتشابه في القيم والعادات.
- تماثل اللاعبين في المرحلة العمرية، كما أن هناك ألعابا خاصة بالفتيان وأخرى خاصة بالفتيات، وتوجد ألعاب مشتركة بينهم، وهناك ألعاب خاصة بالكبار.
2) نماذج من الألعاب الشعبية بالمغرب:
تتميز الألعاب الشعبية بالمغرب بكونها غنية ومتعددة، ويمكن إحصاؤها في عشرات الألعاب، وبحكم موضوع هذه الورقة وضيق حدودها، سنحاول في هذه الفقرة جرد ووصف البعض من هذه الألعاب الشعبية التي عرفها المجال المغربي، على أساس التمييز فيها بين ألعاب المناطق الجبلية، وألعاب المناطق السهلية، وألعاب المناطق الصحراوية.
ألعاب المناطق الجبلية:
1. الشارات: «ثيبناين»9:
لعبة يعمل من خلالها بدو المنطقة على تنمية مهاراتهم في الرماية باليد، أحيانا تكون لعبة تحدي بين لاعبين فقط، وأحيانا أخرى ينقسم فيها اللاعبون إلى فريقين يختاران «شارات» متشابهة الحجم والشكل (غالبا حجارة أو مواد بلاستيكية أو زجاجية) ينصب كل فريق «شاراته» على مسافة متفق عليها ويرسم خطا لكل فريق لا يجب أن يتجاوزه أثناء الرمي، ويتم تحديد شروطه مسبقا (عدد الرميات لكل لاعب، الفريق البادئ، عقوبات المخالفة، تحفيزات الفريق الفائز، أو العقوبة التي يمكن أن يفرضها على الفريق المنهزم ...) وتفسر هذه اللعبة قدرة شباب البوادي على دقة الرمي رغم بعد المسافة سواء باليد أو باستعمال راميات تنسج بالدوم أو بالبلاستيك وأحيانا تصبح الرَزَّة سلاحا عند الكبار في حالات الصراعات القبلية بين الفينة والأخرى.
2. هوب هيه10:
لعبة شعبية تمارس في بوادي المنطقة حيث ترسم دائرة وتوضع حفرة صغيرة في مركزها. يلتزم أحد اللاعبين بوضع إحدى رجليه في الحفرة وسط الدائرة إما بالقرعة أو بتطبيق قاعدة أخرى لمن التحق، ويحاول برجله الثانية أن يحمي نفسه من ضربات زملائه، الذين يدورون حوله ويضربونه بين الفينة والأخرى11، بينما يتصيد هو الفرصة للمس أحدهم كي يعوضه12، وهكذا حتى تنتهي اللعبة. تعد الدائرة فيها أهم عناصر اللعبة إذ يحرم على لاعب الوسط الخروج منها، وعلى الآخرين عدم الدخول إليها. تستمد اللعبة اسمها من كلمتي «هوب هيه» اللتين يرددهما اللاعبون وهم يدورون حول زميلهم بهدف إرباكه وتسهيل ضربه دون أن يلمسهم، وقد ربط أحد الباحثين المحليين هذه اللعبة بأحيدوس سواء من حيث الشكل الدائري، والدوران، واللاعب الأوسط الذي يقابل المايسترو، حتى أن الكلمتين ترددان أحيانا في أحيدوس13.
3. تَسْلِيلُوتْ14:
مشتقة غالبا من «تيسليت» أي العروس، وهي لعبة ليلية تمارس خلال الليالي المقمرة، يتوزع فيها الفتيان والفتيات إلى فريقين، ويتم اختيار عصا، وتحديد نقطة موقع بارز أو ناتئ يرمز إلى ينبوع ماء. تنطلق أشواط اللعبة برمي العصا بعيدا عن المتناول ويبدأ الفريقان في البحث عنها مرددين:
أوا ثوشكا ثسليلوت (ضاعت العروس)
اوا حلّْبخ أمان (لن أٌجْرِعَها الماء)15
والفريق الذي عثر على العصا المفقودة يناور الخصم من أجل أن يصل إلى نقطة الماء المفترضة ليروي عطشها، وبذلك يكون قد سجل هدفا أو نقطة على الخصم16.
4. المبارزة: «تاموغزيل»17:
من ألعاب الطفولة التي تربي في الأطفال نخوة الرجال واختبار القدرة الجسمانية يمارسها الصغار بتشجيع من الكبار؛ يمسك اللاعبان أحدهما الآخر ويضمه إليه بحيث يضع كل منهما إحدى يديه تحت إبط الآخر والأخرى فوق المنكب محاولا إسقاطه على الأرض بطريقة متفق عليها سلفا، يسيرها حكم يرضاه الطرفان ويكون الأصدقاء جمهورا، وقد تكون من شوط واحد أو عدد فردي من الأشواط لضمان وجود فائز وخاسر18.
ألعاب المناطق السهلية:
1. «التبوريدة»: «تفراوت اسان» 19
لعبة الفروسية نجدها في مناطق عدة من المغرب بأسماء مختلفة منها، «الفروسية» و «التبوريدة» و«الـخـــيــالـة» و«الــســربـــا»، و«تـفــراوت اســــان» بالأمازيغية، وهي لعبة جماعية تراثية تتميز بها الثقافة الأمازيغية والمغربية، وتجسد «التبوريدة» احتفالا جماعيا بالأعياد والمناسبات، وتظهر كذلك العلاقة الحميمية بين الحيوان والإنسان، أي بين الفارس والفرس، وتخصص لها مهرجانات سنوية في العديد من المناطق المغربية. ترتبط أصولها باستعدادات فرسان القبيلة قبل خوض المعارك في استعراضات عسكرية، وحسب عدد من الدراسات فإن «التبوريدة» تراث شعبي حي، يقدم صفحات من تاريخ الجهاد بالمغرب ضد الغزاة، حيث كان المجاهدون يركبون ظهور الخيل، والبنادق في أيديهم وينظمون صفوفهم لمواجهة الأجنبي.
تقام الفروسية على أراضي شاسعة ومنبسطة وصالحة للسباق، وذلك في فصل الصيف والمهرجانات والمناسبات الدينية والوطنية. وتستلزم لباسا تقليديا يتزين به الفارس كالجلابة و«السلهام» و«الرزة»، وحقيبة تسمى «الشاكوش» بها المصحف الشريف، وبندقية تسمى «بوحبة»، مصنوعة من نحاس ممزوج ومنقوش، وخشب مرصع بخيوط من الفضة، ويتم تزيين الفرس بسرج وركاب ولجام وغير ذلك20.
يتكون المشاركون من عدة فرق تمثل قبائل مختلفة، تضم فرسانا ممن يمتلكون خيولا ولهم دراية بالسباق وقوانينه، ويعتبر الذين يملكون الخيول المدربة على «التبوريدة» من خيرة رجالات القبيلة، وأصحاب خبرة ونخوة وقيمة في البلاد. وتتشكل لجنة التحكيم من مجموعة بها أكثر من ثلاثة أشخاص، يمكن أن تنتمي إلى قبائل غير مشاركة في السباق، أو تتكون من عنصر تابع لكل فرقة.
وفي يوم السباق يجتمع الفرسان وهم على وضوء، مجهزين بأحصنتهم وبنادقهم «بوبحة». ويبدأ السباق بخروج الفارس ممتطيا الفرس، وركبته بارزة إلى الأمام، وساقه مائلة، وكعبه إلى الوراء، وأصابع رجله إلى الأسفل. وعند تحركه بركض فرسه ينتصب واقفا على «الرْكَابْ» جاعلا رجله إلى الأمام وركبته إلى الخلف، مما يمكنه من استعادة توازنه مستندا إلى أعلى.
ويؤدي فن «التبوريدة» فرسان، قد يصل عددهم إلى خمسين فارسا، ينتظمون في خط مستقيم، ويبدؤون في التقدم إلى الأمام، ويزداد ركض الجياد التي تنهب بسنابكها أرض المضمار. وعندما يصيح المقدم بعبارة «الحفيظ الله»، عبارات تذكر بحركة الجهاد، يطلقون نيران بنادقهم في اتجاه السماء أو في اتجاه الأرض، تابعين في ذلك إشارة رئيس الفرقة، وكلما كانت الطلقة منسجمة وموحدة وقوية، كان اللغط والتصفيق والزغاريد، وكلما كانت الطلقات متناثرة ومشتتة، غضب «الرايس» والجمهور. وفي نهاية السباق تقرر لجنة التحكيم الفائز الذي احترم القواعد وتمكن من تقديم أحسن عرض، ومدى تجاوب الفرس مع الفارس أثناء السباق وأثناء التوقف، وتقدم له الهدية المتفق عليها من قبل، سواء مادية أو معنوية يستلمها قائد الفرقة.
2. لعبة بزُّولْة العَوْدَة21:
بزولة العودة: أي ضرع أنثى الفرس، هذا المعنى لغة، لكنها في اللعبة وصف مجازي لشيء آخر، تنتشر ببعض سهول المغرب كبني موسى وبني عمير، وتلعب في فصل الصيف بعد موسم الحصاد في مكان فسيح ومنبسط يتسع للجري والحركة، يتكون فريق اللعبة من مجموعة من النساء ورجل واحد. ينقسمان إلى قسمين: فريق يتكون من الإناث وفريق ثان يتكون من رجل واحد.
تقوم مجموعة من الفتيات بمسك أيديهن مشكّلات بذلك سلسلة طويلة، ويأتي الرجل أمامهن، فيقول لهن: «هارا العودة وبنتها» أي «أعطوني الفرس وبنتها»، فترد عليه الفتيات جماعة: «جيب الشعير وفُكها»، أي: أحضر كمية من الشعير وفكها من السلسلة. ويكرر الرجل طلبه بإلحاح، وتكرر الفتيات الشرط، فتقوم إحدى المشاركات - التي تلعب دور «العودة» - بالصهيل، وعندما يرفض الرجل مدهن بالشعير، ترد النساء «جري عليها إلى شديتها ديها» أي: أركض وراءها وإذا أمسكت بها فهي لك؛ فتقوم الفتيات بالهرب منه مُمسكات ببعضهن البعض بإحكام بينما يقوم هو بالدوران والجري في محاولة لفك الفتاة التي اختارها من السلسلة والوصول إليها، في وسط من الجمهور المختلط، فيكثر اللغط والصفير والضحك والزغاريد. وإذا أمسك بإحداهن تصبح في حوزته؛ فيرتفع مرة أخرى الصفير والزغاريد والقهقهات...لإعادة المحاولة مرات عديدة.
3. كْرَاعْتي:
« كْراعْتِي» مصطلح محلي مشتق من كلمة «كْراعْ» وتعني الرجل باللغة العربية، وبالتالي ف «كْراعْتي» هي «رجلي». وهي لعبة انتشرت ببعض المناطق السهلية بوسط المغرب، كبني عمير وبني موسى وبني معدان، وهي مرتبطة بعيد الأضحى، وقد انقرضت ولم تعد تمارس لعدة أسباب أهمها: تغير نمط العيش ودخول ألعاب جديدة. وتلعب هذه اللعبة في فضاء الدوار عشية عيد الأضحى، وتستلزم فقط قطعة ثوب كبيرة أو شبكة متينة أو محمل، ويشترط في اللاعبين القوة والتحمل والقدرة على الإقناع والمثابرة.
بعد الانتهاء من مساعدة الآباء في ذبح الأضحية وسلخها وتقطيع اللحم وأشغال أخرى، يجتمع شبان الحي في مجموعة غالبا تتكون من خمسة أفراد، حيث يمسك الأربعة منهم الأكثر قوة وتحملا أطراف الشبكة أو قطعة القماش وأحيانا المحمل الخشبي، بينما يشترط في اللاعب الراكب خفة الوزن والدهاء وموهبة التمثيل.
يحمل اللاعب الخامس ويطوف به الشبان الباقون على منازل الدوار واحدا واحدا لجمع أجزاء من الأضحية (أرجل، رأس، أحشاء...).
عند الوصول إلى بيت أحدهم يصيح الشخص المحمول متألما: «كْراعتي كْراعتي...» ولا يتوقف عن النواح والصراخ حتى تخرج له صاحبة البيت إحدى أرجل أضحيتها، ليبدأ بالصراخ ثانية «كرشي كرشي..» فتعطيه مرة أخرى جزءا من أحشاء أضحيتها، وهكذا يطوفون على الدوار وفي كل مرة يغير اللاعب المحمول طلبه، فمرة يشتكي من ألم الرجل ومرة أخرى من ألم البطن ومرة أخرى من ألم الرأس...، في المساء يقيمون وليمة بشواء ما جمعوه كما يعطون جزءا كبيرا مما جمعوه للفقراء.
4. لعبة «البِيْ» أو «البيناك»22:
لعبة دخلت المغرب مع المستعمر الفرنسي ولا زالت تلعب عند أطفال المغرب، وهي لعبة تحتاج إلى الذكاء واليقظة والخفة والتركيز في التسديد. تنتشر بكل المجال المغربي حيث تسمى بالجنوب مثلا «البيناك». وتلعب في أرض مستوية خالية من الأحجار، وذلك خلال النهار في أوقات الفراغ. يتكون الجمهور فيها من أطفال يتابعون ويتعلمون كيفية اللعب. وتتكون مستلزمات اللعبة من كريات زجاجية ملونة تسمى «أَلبِيْ»، أو «البيناك».
لعبة جماعية يلعبها الذكور ما بين 8 و14سنة بحيث لا يتجاوز عددهم 5 أفراد، وتعتمد على الذهن والحركة، وتمارس بشكل جماعي من فردين إلى خمسة أفراد، ولا توجد شروط للعب، فقط تتطلب أن يتوفر اللاعب على عدد من «البِيَّاتْ» يسمح له بالمشاركة في اللعبة، ويمكن أن يقترض من أصدقائه بعضها لكي يسمح له بالمشاركة. وتتميز اللعبة بعدة مظاهر فكل مظهر يأخذ اسم لعبة خاصة لها شروطها وقواعدها:
5. كريسطا:
يتم فيها وضع «البيات» على شكل أفقي، حسب عدد اللاعبين، حيث أن كل لاعب يضع العدد المتفق عليه في الخط المخصص له، وبين الخط والخط الآخر حوالي شبرين. ثم يتم وضع «اللاري» وهو خط يسطر في الأمام، يتم تحديد من خلاله من سيبدأ أولا بالتصويب نحو لمس «البيات»، التي وضعت في الخطوط. وحين يلمس إحداها يأخذها وتصبح في ملكه فيقول «إِوخْتْ» «قرضتها»، وإذا لمس اثنتين في ضربة واحدة توجب عليه قول «حلال» ليأخذهما معا، وإذا سبقه خصمه ونطق «حرام» يأخذ واحدة ويترك الأخرى.
6. كاريمور:
تحدد بنفس شروط «كاريسطا»، لكن فيها يتم رسم دائرة على الأرض، توضع فيها «البيات» حسب العدد المتفق عليه ثم يتم التصويب نحوها فإن أخرج واحدة من الدائرة أصبحت له «قرضها»، كما أن له الحق بالتصويب على أحد أفراد اللعبة، إذا لمسه يقول «مور» أي «مات»، ثم يذهب إلى الدائرة ليأخذ ما وضعه من «بيات» في أول اللعب، كما يقصى اللاعب كذلك من اللعبة إذا صوب نحو الدائرة وعلقت فيها «بية» التصويب.
7. كالا:
هذه اللعبة لا تتميز بوجود «اللاري» لتحديد من سيبدأ أولا، حيث يلعبها فقط اثنان إلى ثلاثة أفراد. كل لاعب يضع «بِيَّتَهُ» على الأرض، على مسافة حوالي متر فيقول «ها هو هنا»، تم يبدأ بالتحريك يمينا ويسارا وإلى الأمام، وإلى الخلف، حتى يظهر لأحد اللاعبين أنه يمكن أن يصوب نحوه فيقول «ها هو عليك»، فيضع اللاعب رجله وراء «بيته» بحوالي شبر، ثم يصوب نحوه اللاعب الآخر، الذي له الحق في إصابتين، فإن لم يلمس «البية» فيهما، يأخذ اللاعب الآخر زمام الأمور، ويصوب على «بيات» اللاعب الذي صوب أولا، والتي علقت بالقرب من رجله أثناء وضعه «الكالا» فان لمس أحدها أصبحت ملكه.
8. تيبوع:
يلعبها اثنان فقط، يرمي اللاعب أولا، ثم يتبعه الآخر بالتصويب، فإن لمسه أخذ «بيته»، وإلا قام الآخر بالتصويب، وهكذا دواليك حتى يلمس أحدهما الآخر.
9. أحفور:
يتم خلاله حفر حفرة قطرها حوالي سنتمترين، فيتم وضع «البيات» التي يتنافس فيها في اليد لرميها في الحفرة على بعد حوالي متر. فمثلا إذا تم تحديد «بيتين» لكل لاعب فسيتم رمي أربع «بيات» إلى الحفرة، إن كان هناك لاعبان، وإن كانوا ثلاثة سيرمي 6 «بيات»، وهكذا دواليك. وشرط الفوز للذي يرمي نحو الحفرة أن يدخل عددا زوجيا من «البيات»، وإذا دخل عدد فردي فيأخذ اللاعب الآخر الكل ويفوز.
تلعب في مكان مستو وسط القرية وتنتهي بعدم توفر اللاعب على «البيات»، حيث يذهب ليشتري واحدة جديدة، أو يتم اقتراضها من أحد اللاعبين، الذين لهم عدد كثير منها، فيقول له «صرف ليا»، فيبيعه كل واحدة بحوالي نصف ريال مغربي أي أربع «بيات» ب 10 سنتيم.
ألعاب المناطق الصحراوية:
1. لعبة جرادة مالحة23:
هذه اللعبة تعرف في المناطق الصحراوية من المغرب، وتلعب عادة في موسم حصاد الشعير وقد تستمر طيلة فصل الصيف، حيث تكون درجات الحرارة في الارتفاع، ويكون الجو مناسبا للسمر الليلي في الهواء الطلق. وتبدأ طقوس اللعبة بأن يجلس الأطفال في دائرة أمام قائد اللعبة الذي يكون في العادة أحد الكبار، ويبسطون أيديهم على الأرض وراحة اليد باتجاه الأسفل، يقوم قائد اللعبة بتمرير أصبعه فوق أياديهم بالتتابع، وهو يقول متغنيا:
2. أَ جرادة مالحة - فين بتي سارحة - في جنان الصالحة - واش كليتي - واش شربتي - التفاح والنفاح - خرج الديك بعصاتو - والمنديل فوق راسو - اش من دار فين يبات - هاد الدار مولاتو.
واليد التي انتهى عندها الكلام، يسأل صاحبها: دقة ولا قرصة؟ بمعنى: هل تفضل ضربة صغيرة، أم كمشة خفيفة؟ فإن قال الطفل: دقة، يضربه ضربة خفيفة على ظهر يده، وإن قال: قرصة، يكمشه برأس ظفريه كمشة خفيفة، ثم يضع الطفل يده تحت إبطه، ويستمر اللعب مع بقية الأطفال حتى يضع كل طفل إحدى يديه تحت إبطه، حينها يوجه لهم سلسلة من الأسئلة المرتبطة بمراحل إنتاج الزرع إلى أن يصير خبزا، وتكون هذه الأسئلة بصيغة لا تخلو من المرح والضحك: فيبدأ محاورتهم بمناداتهم بأوصاف فيها شيء من القدح الخفيف:
لالة جارة جارة.
فيجيبونه: نعم نعم نعم.
فيقول: يا خشبة بلا نجارة.
فيجيبون: نعم نعم نعم.
فيقول: يا كَفة خدام الساقية.
فيجيبون: نعم نعم نعم.
فيقول: يا ميزاب الدار الخالية.
فيجيبون: نعم نعم نعم.
فيسألهم: طابت ديك الخبزة ولا لا؟
فيجيبون: ها حنا كانحرتو الأرض
ثم يكرر السؤال: طابت ديك الخبزة ولا لا؟
فيجيبون: كانحصدو الشعير.
ثم يكرر السؤال: طابت ديك الخبزة ولا لا؟
فيجيبون: كانطحنو الشعير.
ويستمر هو في ترديد نفس السؤال «طابت ديك الخبزة ولا لا؟»، وهم يجيبونه بذكر مراحل إنتاج خبز الشعير «نغربل الشعير - نعجن الشعير - نضعه في الفرن» حتى يصبح الخبز ناضحا للأكل، فيجيبون: طابت، بمعنى نضجت؛ حينها يأمرهم بإخراج أياديهم التي كانوا وضعوها تحت إبطهم، واحدا تلو الأخر، ويضع يد كل طفل على وجهه، فإن كانت يد الطفل دافئة قبلها، وإن كانت باردة ضربها ضربة خفيفة، وتبدأ اللعبة من جديد. والأطفال يضحكون ويمرحون.
والهدف من هذه اللعبة إضافة إلى المرح والتسلية هو تعليم الأطفال المبادئ الأولى لزراعة وإنتاج الحبوب. كما تخلق بينهم روح الانسجام والتعاون، كما تعمّق فيهم القيم الحضارية الأصيلة، وتنمي عندهم النفسيّة الإيجابية.
3. لعبة هذا صغير وعاقل24:
هذه اللعبة يلعبها الأطفال مع من هم أصغر منهم، وقد تلعبها الأمهات مع أطفالهن الصغار بغرض إضحاكهم وتسليتهم حتى يناموا، فيمسك الكبير يد الطفل الصغير، فيبدأ بجمع أصابعها واحدا تلو الآخر وهو يقول عند الضغط على كل أصبع:
هذا صغير وعاقل (الخنصر)
هذا لباس الخواتم (البنصر)
هذا كبير وبهلول (الوسطى)
هذا لحاس القدور (السبابة)
هذا قتال خوخو (الإبهام)
وبعدها يسال الطفل: مادازو عليك شويهات؟
فيجيب الطفل: دازوا.
ثم يسأله الكبير: منين دازو؟
فيجيب الطفل مشيرا إلى إبطه: من هنا.
فيبدأ الكبير تمرير أصابعه على ذراع الطفل، وهو يقلد بفمه وحركات أصابعه جري الفرس (طربق طربق طربق....) والطفل يضحك ويتسلى، حتى يصل إلى إبطه فيهاجمه بإدخال أصابعه في إبط الطفل وهو يقول:
ها هم ها هم، أي وجدتهم.
فيضحك الطفل، وتنتهي اللعبة، لتبدأ من جديد مع طفل آخر إن كانوا أكثر من واحد.
4. لعبة باري زمزم:
تلعب هذه اللعبة عادة في فصل الشتاء، مع انخفاض درجة الحرارة والحاجة الشديدة إلى التدفئة، حيث يلتف الأطفال متوسطو العمر حول شعلة من النار - يكونوا قد هيأوا لها حطبها منذ العشية - فتبدأ اللعبة بترديد قائد اللعبة أسماء الحيوانات والباقي يردد لازمة «أَمْ أَمْ»، ويكون الاتفاق على اسم حيوان يتوقفون عند ذكره عن ترديد اللازمة، ويستمر قائد اللعبة بذكر أسماء الحيوانات بطريقة لا تخلو من المراوغة والمناورة إلى أن يصل إلى اسم الحيوان المتفق عليه، حيث يجب على الجميع أن يصمت، ومن نسي واستمر في ترديد اللازمة عند ذلك يقصى من اللعبة.
تفتتح اللعبة بقول قائدها: باري زم زم.
فيجيبونه: « أَمْ أَمْ ».
فيقول مثلا: دم عجولو، أي: دم عجوله.
فيجيبونه: «أَمْ أَمْ».
فيقول: دم نعاجو. أي: دم نعاجه.
فيجيبونه: «أَمْ أَمْ».
فيقول: دم جمالو. أي: دم جماله.
فيجيبونه: «أَمْ أَمْ».
وهكذا يردد بطريقة فيها نوع من البسط والمرح، وهو يقلب نظراته بين المشاركين، رافعا صوته مرة وبصوت خافت مرة أخرى بهدف جعل المشاركين يفقدون تركيزهم، ثم يقول: اسم الحيوان المتفق عليه مثلا «دم مشوشو «بمعنى دم قططه، فعلى الجميع أن يصمت، ومن ردد لازمة «أَمْ أَمْ» سهوا أو نسيانا يقصى من الطور الموالي للعبة، وتستمر أطوار اللعبة حتى يبقى واحد يعتبر هو الفائز. وقد تستمر اللعبة لساعات طويلة من الليل دون ملل.
5. لعبة نوض نوض يا ...... وما دير حس:
تنتشر هذه اللعبة بالمناطق الصحراوية، وتنتشر أيضا في بعض مناطق الأطلس المتوسط كبني مكيلد25 باسم «ايمناين» أو راكبي الخيل. وهي لعبة جماعية، يمارسها الأطفال الذكور على وجه الخصوص، وتقتضي القدرة العضلية والتكتيك بين أعضاء الفريق. ولا تستلزم إلا وجود فضاء منبسط كاف لأداء اللعبة فقط كالبيدر (النادر)، وتلعب في الفترات المسائية في أوقات الفراغ، وكذلك أثناء المناسبات والأعراس.
تقتضي هذه اللعبة وجود فريقين متساويين في العدد، وعن طريق القرعة ينتظم الفريق الأول في شكل دائرة، ويَجلس أعضاؤه على ركبهم وأيديهم مقلدين الأحصنة المعدة للركوب، بينما يشكل الفريق الثاني الفرسان الذين يركبون على ظهورهم، وقبل الركوب، يعطي قائد كل فريق إسما مستعارا لكل فرد من أفراد فرقته، كأسماء الأشجار أو النباتات أو الحيوانات أو الأواني أو غيرها، وكذا بعض التعليمات التكتيكية للتمويه مثلا، يقوم كل فرد من فريق الفرسان بامتطاء ظهر أحد أفراد فريق الأحصنة، ويغمض عينيه بوضع يديه عليها، وينطلق اللعب بمناداة قائد الفريق، «وا نوض نوض أ فلان.... وما دير حس» حيث ينادي على الفارس المعني بالاسم المستعار الذي سمي به في البداية قائلا له: «انهض انهض يا..... ولا تصدر صوت»، آنذاك ينزل صاحب هذا الاسم المستعار، ويبقى حامله «الحصان» شاهدا على ما يقوم به، فيعمل الفارس بضرب أحد أفراد فريق الأحصنة المغمضة أعينهم، ويعود إلى حصانه ليركب من جديد، آنذاك يعطي المقدم الإشارة للشخص (الحصان) المضروب، بأن يتكهن من ضربه، فإذا أصاب تبادلت الفرق الأدوار، وإذا أخطأ، تكرر اللعبة، وعاود الفريق الثاني نفس التجربة بضرب الفريق الأول26.
6. لعبة الدوامة (الزهار، القابو، الطريمبويا)27:
هي لعبة يلعبها الأطفال في أغلب مناطق المغرب، ويتم صنع الدوامة بدفن غصن شجرة داخل روث البهائم لمدة كافية لجعله متماسكا ومطاوعا للنحت في نفس الوقت، ثم يعطى ذلك الغصن للنجار أو أحد المحترفين في صنع الدوامات، فيقوم هذا الأخير بنحت عدد من الدوامات من ذلك الغصن، ثم يثبت في رأس كل دوامة مسمارا قصيرا، ويكون عدد اللاعبين غير محدد من 02 إلى 08، وتقوم طريقة الأداء على أن يلف اللاعب الخيط على الدوامة بطريقة جيدة، ثم يرميها على الأرض، فتبدأ كل الدوامات بالدوران في آن واحد، والدوامة التي تتوقف هي الأولى عن الدوران يكون صاحبها هو الخاسر. فيقصى من تلك الدورة، وهكذا تستمر اللعبة حتى، يبقى واحد فيعتبر هو الفائز28.
3) وظائف الألعاب الشعبية ودلالاتها الثقافية بالمغرب:
تعتبر الألعاب إبداع ثقافة، وثمار تاريخ المجتمعات البشرية، وجزءا مهما من الذاكرة والوجدان الجمعي، فهي نتاج للتكوين الثقافي والحضاري، وانعكاس للبيئة الطبيعية، والنظام الاجتماعي السائد، كما تسهم إسهاما فعالا في بناء الشخصية الاجتماعية، وتربيتها من النواحي التربوية، والنفسية، والجسدية، كما تؤدي دورا هاما في تأطير الموروث الشعبي، وذلك من خلال مختلف الوظائف التي تقوم بها في المجتمع، ومن خلال تنوع الأبعاد التي تتخذها، وباستقراء العديد من الألعاب التي وقفنا عندها خلال إنجاز هذا العمل، يمكن إجمال وظائفها في ما يلي:
- الوظيفة التربوية:
يجمع علماء التربية على أن التطور الفكري والحسي للإنسان يعتمد على الحركات والإشارات المفيدة التي يمنحها اللعب له، وبذلك يصبح اللعب وسيلة تربوية أساسية في تكوين الشخصية، لكونه يجعل الفرد، وخاصة الطفل، يدرك تطوره ونموه ومدى قدراته، وعنصرا محوريا في التطور المتناغم لصورة الجسد، ما يجعل من هذا الأخير أداة للحياة الحسية والعلائقية (العلاقة بين اللعب والجسد والمجال)، وأكثر من ذلك يمكن اعتبار اللعب علامة واضحة على تطور الفكر، الذي يبدأ بالتطور في اختيار أنشطة اللعب الخاصة بالأفراد، والتعبير على ذاتية الفرد وشخصيته. وما يمكن ملامسته من الأهداف التي ترمي إليها معظم هذه الألعاب، وكذا الطقوس التي تنتهي بها، والقيم والمبادئ التي تروج لها، والتي تصب في غالبها في مجال الانضباط الأخلاقي، والمحافظة على الأطر الاجتماعية للجماعة29.
- الوظيفة الرمزية:
تحمل الألعاب التقليدية دلالات رمزية عميقة، تساعد الإنسان على تأسيس علاقة خاصة بينه وبين محيطه، فيعمل على تحويل بعض تفاصيل هذا المحيط، ليجعل منها ترجمة ذاتية لواقعه، بحيث يستطيع بناء منطق خاص به لتنظيم الأحداث، وفي نفس السياق يعتبر بياجيه أن للعب رمزية مباشرة، وضرورية للطفل لإحياء حدث، عوض الاكتفاء بالتأمل الفكري30، وهو ما يمكن ملامسته بجلاء في بعض ألعاب الأطفال (العرائس، الأضحية، الدفن،...)، حيث يعملون على تقليد بعض تفاصيل الحياة اليومية، بطرقهم الخاصة، وإضفاء طابع اللعب عليها، فيمكن اعتبار هذه الألعاب بمثابة إعادة تمثيل لواقع يومي أو مناسباتي، أو لأحداث هامة ترسخت في الذاكرة الجماعية (الحروب، المقاومة). فالحركة تمنح الشيء دلالته، وهذه الرموز الحركية يمكن أن تأخذ طابعا حسيا، يسمح بإظهار المشاعر الدفينة أحيانا، وهذا يعتبر بعدا هاما في الألعاب التقليدية، لأنه يسمح بتحقيق التوازن بين العالمين الداخلي والخارجي، ما يساهم بشكل مباشر في تكوين الشخصية الفردية والجماعية، كما يسمح بالنسبة للأطفال بتحرير الرغبات وتبديد المخاوف والقلق31.
- الوظيفة السوسيوثقافية:
تقوم الألعاب التقليدية بدور هام في التنشئة الاجتماعية للأفراد، فتنمي فيهم روح الانتماء للجماعة والاندماج الاجتماعي32، وهي تشكل بذلك وسيلة لتمتين روابط الحياة الجماعية، عن طريق الكشف عن أسس هذه الحياة، ونظام القيم السائد داخلها، وكذا الواجبات التي تسمح بالانضباط والأداء المتناغم والمستقر داخل المجتمع. فإطار الحياة الذي ينشأ بداخله الفرد، يعد مصدر إلهام يعبر عن بعض الأحداث المفصلية للجماعة، وبعض القصص التي تؤطر التنظيم الاجتماعي، وأيضا التغيرات المرجوة، من أجل تحقيق المساهمة الفعالة في حياة الجماعة، ومن أجل إكساب الكفايات التي يريد المجتمع تنميتها. إنها أحد المكونات الأساسية للمعيش اليومي للأفراد والجماعات، والمؤسس على العديد من الطقوس والاحتفالات، بحيث يمكن اعتبار أن العديد من الألعاب التقليدية تجد أصولها في طقوس قديمة، حافظت على شكلها، وفقدت إيحاءاتها ومدلولاتها، فهي إذن بعض إشارات وسمات الماضي، تم ضبطها مع متطلبات المجتمعات المعاصرة، ومرت بعمليات متواصلة من التطور الثقافي، في إطار ما أسماه الأنثروبولوجيون بالانتخاب الثقافي33، لتشكل بذلك إحدى حلقات التراث الإنساني، الذي يوحي بالتجذر الاجتماعي، من حيث السلوك وطرق التواصل مع الآخر، وكيفية التعامل مع البيئة المحيطة. وهكذا يمكن اعتبار الألعاب التقليدية صورة مصغرة عن العالم المحيط بالأفراد، نجد فيها أنشطة تعيد إحياء القيم، يظهر فيها بجلاء إدراك العدوانية والتسامح، صورة الرجل والمرأة، من حيث المكانة الاجتماعية، طرق معاملة الحيوانات، مكانة التعاون والتعارض.
ولما كان اللعب أداة للتعاون بالنظر إلى العمل الجماعي والتضامن الذي يسم كل الألعاب الجماعية، فإن الإنسان يبدي الكثير من الحذر من الهزيمة، لأنه معرّض لحكم رفاقه في اللعبة، والأكثر من ذلك يمكن أن يكون مثار سخرية، بل ونفور من قبل أفراد القبيلة، وهناك بعض الألعاب التي تمثل القبيلة، يمكن أن تتسبب في حرمان أفرادها من الزواج من داخل القبيلة، في حال تعرضهم للهزيمة34.
- الوظيفة الرياضية والصحية:
تتميز السنوات الأولى من حياة الإنسان بإنجازه لسلسلة من الحركات اليدوية، التي تمكنه من معرفة المجال بشكل جيد، ومن تطوير نضجه الفكري والجسدي بطريقة واسعة، إنه بهذه الطريقة يستكشف جسده، ويعي الأشياء والأشخاص من حوله، وفي هذا المنحى يوسع تجاربه واستكشافاته، التي من شأنها تقوية إمكاناته النفسية والحركية: المشي، الإمساك، التوازن، كما يتجه إلى تعزيز التوافق بين الرؤية والإمساك، وهذه الأنشطة الجسدية تشكل بالنسبة للطفل أولى مراحل نموه وتطوره المعرفي، وهذا التطور لا يمكن أن يتم خارج سياق الألعاب، التي يوفرها المجتمع ويتبناها، وتؤطرها ضوابطه ونظم قيمه، ما يساعده على رسم تصوره للحركة وللمجال وللزمن.
ويعتبر التكرار والمحاكاة أمرين ضروريين لتنمية البعد النفسي والحركي، لأنهما يساهمان في إتقان الحركات، وجعلها أكثر طبيعية، وأكثر فاعلية، وهو ما يمكن اعتباره خطوة هامة للطفل نحو تحقيق التناغم الحركي، وحس التوازن، وضبط السلوكات، وإدراك الجسد أثناء اللعب، بما يشكّل دورا مركزيا في تكوين الشخصية.
كما أنّ الألعاب تنمي لدى الطفل المهارة الجسدية واليدوية، وتقوّي من انتباهه وقدراته التركيبية، كما تشحذ من ملاحظته التشاركية، ما ينمّي حسّه وقدراته الإبداعية35، كما أن اللعب أداة لتنمية وتطوير الذكاء، بالنظر إلى الدور الذي يلعبه على مستوى تمرين الذاكرة، والتعامل مع الأشكال والألوان والأبعاد، والمجالات التي تحتلها الأشياء36. كما يمكن اعتبار الألعاب عنصرا بنيويا في تربية الأطفال، لأنه يسهّل الوعي بالجسد داخل المجال، ويطوّر وينمّي مميزات الشخصية: الإرادة، التحكم في النفس، وأكثر من ذلك تحقيق اختيارات شجاعة وحكيمة في المواقف الصعبة.
كما يمكن اعتبار هذه الألعاب، في مراحل عمرية متقدمة، تمرينا رياضيا لتقوية الأبدان وإبراز القدرات الجسمانية للمشارك، وإبعاده عن الخمول، ومن بين أهم الوسائل لاكتساب صحة جيدة، وتجنب الإصابة بالعديد من الأمراض، والأزمات الصحية، لاعتماد أغلبها على النشاط الجسدي37.
الألعاب الشعبية والرياضية بالمغرب: من الاستغلال الاستعماري إلى الدور النضالي في مواجهة الاستعمار الفرنسي:
1) الألعاب الشعبية المغربية في الكتابات الاستعمارية:
كغيرها من القضايا الاجتماعية والأنثروبولوجية، حظيت الألعاب الشعبية باهتمام كبير من طرف الكتابات الاستعمارية التي اهتمت بالمجال المغربي، ومن بين هذه الدراسات نجد الدراسة التي قام بها Jean Herber «سنة 1918 للدمية المغربية»38 والتي أشار فيها إلى البحث الاثنوغرافي الذي توخى منه أن يعيد للدمية حياتها، من خلال دراستها في المجتمع البدائي، واعتبر الدمية المغربية مليئة بالعجائب، فهي مكان لاجتماع السحر وقوى الآلهة، كما حاول دراسة هذه الدمى، ليس فقط من خلال شكلها، بل ومن حيث الوقوف على الذهنيات المرتبطة بها.
كما قام Jouin Jeanne بدراسة حول «الغناء وألعاب الأمومة بمجال الرباط»39، وركز فيها على ألعاب الأمومة، أي تلك الألعاب التي تقوم بها الأم تجاه أطفالها، واستنتج من خلال هذه الألعاب، أنها تدخل في مهام المرأة، التي لا تلعب من أجل المتعة، وإنما من أجل القيام بالوظيفة، التي تمليها عليها واجباتها الأسرية والاجتماعية.
وفي سنة 1958 قام نفس الباحث بدراسة أخرى حول «ألعاب التخمين عند النساء»40، والمرتبطة بالأغاني، وقدم من خلالها مجموعة من القصائد التي تتسلى بها النساء والبنات أثناء قيامهن بأشغال البيت، أو خلال التجمعات النسائية، وبالتالي فهي تحيلنا على لعبة تلعبها النساء دون الرجال.
بالإضافة إلى دراسة كل من Francisco Moscoso، حول ألعاب الأطفال بشفشاون، وكذا دراسة L.Brunot، بعنوان 41Jeux d’enfants à Fès، ودراسة M. Claverie، بعنوان Les jeux chez les ait Mguild du Moyen Atlas، ودراسة Jean Pierre Rossie، بعنوان La culture ludique de l’enfant amazigh marocain et les questions du développement، وغيرها من الدراسات التي لا يتسع المجال لذكرها كلها.
فرضت الألعاب الشعبية المغربية بتنوعها وغناها الثقافي والحضاري، ومهاراتها على الأجانب النظر إليها بنوع من الإعجاب والانبهار، ويمكن أن نسرد عدة نصوص من الكتابات الأجنبية حول الموضوع، لاستجلاء حقائق تصور الأجانب عن هذه الألعاب.
فالبرتغالي جوزي دانييل كلاصو وصف ألعاب السوسيين بقوله: «بعد ذلك ظهرت فرقة البهلوانات أو المهرجين السوسيين، وأصلهم من منطقة سوس في أقصى جنوب الإمبراطورية، وهم يتنقلون بثعابينهم وخناجرهم في كل الأراضي الساحلية، ويحتلون في ساحة الفرجة أول مكان يوجدون فيه، طالما كان متسعا بما فيه الكفاية لكي يستطيعوا القفز، بدون حاجة إلى وضع تصميم للمكان أو إعداد للميدان»42.
وبنظرة لا تخلو من كثير من الإعجاب والانبهار استمر بالقول: «يتوفر هؤلاء الرجال على مهارة مذهلة، ويعملون بتلقائية في أراضي غير مستوية وخطيرة، وقد قدموا عروضهم في هذه المناسبة بساحة الدار القنصلية البرتغالية المبنية كلها من الحجر، كانوا خلال العرض حفاة يلبسون ثيابا خفيفة43، وبدأوا عرضهم بقفزات بسيطة، ثم أتبعوه بقفزات مضاعفة ومتنوعة، مميتة حقا. كما نفذوا أنواعا أخرى ليست أقل منها خطورة، وكل ذلك بسرعة ونظافة، وكانت صوبتها مثيرة للدهشة، وهي بالنسبة لهم عادية جدا، مع أنهم لم يدخلوا أية مدرسة للرياضة البدنية. وهم بربريون مثل الآخرين لكنهم أكثر ذكاء. أحب الملك كثيرا هذه الألعاب، وصفق طويلا للسوسيين»44.
أما بيير رايموند دو لا بريسون فقد عبر عن إعجابه بالألعاب المغربية باستعمال أسلوب المقارنة بين مهارات المغاربة والأوروبيين في القفز والرشاقة بقوله: «لكن من سلاّنا كثيراً، كان هو ستة مغاربة يقومون بقفزات خطيرة برشاقة مثيرة تجاوزت بشكل كبير كل ما سبق لنا أن شاهدناه بمعرض سان جيرمان، وهناك في أوروبا»45.
دفع اهتمام رينولد لادريد دو لا شاريير بالفروسية إلى وصف هذه اللعبة بنوع من الدقة بقولها: «ووصل فريقان من الفرسان في صف واحد، يرتدون جلابيب من صوف أبيض شفاف جميل وسروج مخيطة بخيوط مذهبة بجوانب من حرير حمراء وبرتقالية، يتقلد كل فارس بيد مستقيمة بندقية46 مزينة بالفضة، ينطلق الكل في جري موحد ويمرون مسرعين وملتفتين، نحو سروجهم، يمسكون البنادق بيمناهم ويضغطون على الزناد بيسراهم بطلقات موحدة، فيتعالى البارود فوق رؤوسهم، تعقبها زغاريد النساء وصيحات الرجال المتحمسين، ثم يعود الفرسان مثنى مثنى فاسحين المجال للفرقة الموالية، والقطع الفضية التي زينت بها سروجهم تعكس أشعة الشمس فتبدو أكثر لمعانا»47. وبنوع من الإعجاب ختمت هذا الوصف بقولها: «إنه مشهد رائع فعلا».
أما أنطونيو دي سان مارتين فقد عبّر عن اهتمامه بهذه الرياضة التي سماها بسباق البارود48 بذكر تفاصيلها، مستعملا عبارات تنم عن إعجابه الكبير بها، حيث وصف الخيول المغربية ب «خيول عربية رائعة ومتحفزة، أسرع بكثير من الأرانب»49. ووصف الفرسان المغاربة «بكونهم خير فرسان العالم»50.
لم تكن بالطبع الكتابات الأجنبية ملتزمة دائما بالنظرة الموضوعية للألعاب التقليدية المغربية، فالإيديولوجية الاستعمارية كانت تفرض عليها أحيانا محاولة تشويه صورة هذه الألعاب والتركيز على الجوانب السلبية فيها، فمثلا رغم انبهار دو لا شاريير بالفروسية إلا أنها حاولت أن تنهي وصفها لهذه الرياضة بنوع من الغمز واللمز قائلة: «لكننا شعرنا أن الازدحام قد ازداد... تتابعت طلقات البارود والخيول ترقص غير عابئة بالأزمة المؤلمة، اختفت الفرقة بعدما هيجت المشاهدين»51. «وكان قرب باب الرب أهالي يتابعون لوحات التبوريدة، كما أن الأسوار كسيت طيلة الأسبوع بحشود المشاهدين تستمتع بطلقات البارود مع أن بعض الأهالي قضوا بطلقات طائشة... ودهشت لتحول الاهتمام من ألعاب الفانتازيا إلى ملاحقتنا بتلك الأعين الفضولية وسط الجلابيب البيضاء»52.
كما حاول دي سان مارتين - مستغلا حديثه عن رياضة الفروسية - إحياء ذاكرة المعارك التي خاضها المسلمون ضد ملوك إسبانيا بالأندلس بقوله: «إن الرحالة الذي يتأمل سباقات الخيل تلك، يتذكر ولا ريب أولئك الفرسان المسلمين الغرناطيين، عندما كانوا يخرجون من مدينتهم يعدون بخيولهم الرائعة إلى أن يصلوا قبالة معسكر الملوك الكاثوليكيين ذاته»53.
أما روجي لو طورنو فرغم أنه أشار إلى تفوق المغاربة على الأوروبيين54 في لعبة الشطرنج، فقد ربط الألعاب بطقوس التسلية عند المغاربة، حيث أشار إلى لعبة الورق ولعبة الشطرنج، وحصر لعبها على الفئات الغنية: «كانت تسليات البورجوازيين أكثر تنوعا، إذ كانوا يتعاطون لعبة الورق مثل الصناع، كما يلعبون الشطرنج أيضا، وذلك منذ قرون؛ بالإضافة إلى أنهم كانوا مولعين بالعلب الموسيقية والحاكيات، منذ أن أرسلتها إليهم أوروبا»55، نفس الأمر أكّد عليه الإنجليزي جون ويندوس منذ رحلته إلى المغرب في القرن 18، حيث اعتبر أنّ المغاربة لا يتعاطون كثيرا اللعب، وأنهم «يفرجون أحيانا عن أنفسهم بلعبة الضامة أو الشطرنج، لكنهم لا يتعاطون كثيرا اللعب»56، أما ألعاب الرشاقة فقد اعتبرت عند لوطورنو من المتع، وأقل جاذبية بالنسبة للسكان الذين وصفهم بالفاترين، «أما متع الهواء الطلق، فكانت أقل اجتذابا لهؤلاء السكان الفاترين. إلا أن بعضهم، ولا سيما الشبان، كانوا يذهبون للصيد في ناحية واد فاس بعالية المدينة وسافلتها؛ وكان آخرون يمارسون المسايفة بالعصا، والمصارعة، وكان هنالك حتى موضع مخصص للاعبي الكرة. أخيرا فقد أشرنا فيما سبق إلى جمعيات الرماية التي كانت موجودة بفاس. لم يذهب كل ذلك إلى بعد كبير، لذلك لا يسعنا ذكر الافتتان بالرياضة»57.
2) الألعاب المغربية في سياسة النظام الاستعماري:
مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب بدأت تتأثر الألعاب الشعبية التقليدية التي كان يعرفها المجتمع المغربي من قبل، وبدأ بعضها يختفي في المنطقة نتيجة التدخل الاستعمار ي، موازاة مع بروز وانتشار الرياضات العالمية. فبمجرد دخول الاستعمار، وتركيز قواته وأعيانه في المناطق الاستراتيجية الهامة والمتميزة بخصوبة أراضيها ومياهها وهوائها، كانت الرياضة جزءا أساسيا من مخططاته للترويج لسياسته وجذب اهتمام الجمهور، وفي هذه الفترة المبكرة58 عمد المستعمر الفرنسي إلى منع الرياضات المتجذرة في المجتمع المغربي، مثل المصارعة والمسايفة والرماية واعتبرها رياضات حربية، وجعل الفروسية شكلا من أشكال الفانتازيا لإطلاق البارود وقيام الفارس بحركات بهلوانية على ظهر الخيل لتسلية ضباط الاستعمار وعملائهم أثناء حفلات الرقص والغناء التي كانت بعض النساء ترغمن على المشاركة فيها59.
كانت فرنسا تسعى من سياستها المطبقة في المجال الرياضي إلى ترسيخ وجودها في المغرب من خلال ضمان أرضية رياضية للمستوطنين الفرنسيين على الخصوص، وتطبيق مختلف السياسات المطبقة بفرنسا، فتم ربط العصب الرياضية بالمغرب بالجامعات الرياضية الفرنسية، كما تم نسخ اغلب القوانين المطبقة بفرنسا (الميثاق الرياضي، الرياضة المدرسية...) بالمغرب60،
لم يأت اختيار الرياضة بالمغرب بشكلها العصري، بفعل إرادي، وإنما كان ذلك نتيجة السياسة الاستعمارية التي فرضتها معاهدة الحماية الفرنسية ليوم 30 مارس 1912، فمقابل الرياضات الشعبية بدأ المغاربة يتعرفون على أنواع جديدة من الرياضة61.
وفي مجال الفروسية استغل المستعمر وجود قاعدة متينة من الخيول ومرافقها من أجل تنميتها واستغلالها في خدمة مشروعه الاستعماري، فأسس منذ سنة 1912 الحرس الجهوي للخيول بمكناس على مساحة 77 هكتار، وضم إليه حوالي 400 حصان من الأصناف الجيدة في مقدمتها الفرس العربي62. وقد حرص المستعمر الفرنسي على نزع الرمزية الجهادية والحربية للفروسية بعدما جعلها شكلا من أشكال الفانتازيا، إضافة إلى خلق سباقات للخيول للترفيه من ناحية، وللمراهنة عليها من ناحية أخرى، بدليل أن الفترة المتراوحة بين 1913 و1953 شهدت صدور أزيد من 30 ظهيرا شريفا وقرارا وزيريا تهم في مجملها تنظيم سباقات الخيل وميادين السباق وإحداث لجنة استشارية للخيل وتنظيم الرهان خلال السباقات63.
ظهرت رياضة الجمباز في شكلها الحديث بالمغرب سنة 1912، حيث كان المستعمر الفرنسي مضطرا إلى تكوين جنود أقوياء البنية ويتميزون بالمهارة واللياقة البدنية، بهدف جعل حد للمقاومة الشعبية والسيطرة على المجتمع، وبذلك أسس الفرنسيون أول ناد للجمباز (الطليعة) بالرباط واستعملوا في التدريب الحركات الرياضية والرماية والمصارعة، ومنذ سنة 1920 تم إشراك بعض المغاربة في مباريات استعراضية بفرنسا وتأسست بعد ذلك فرق متنوعة في الرباط والقنيطرة والدار البيضاء واليوسفية64.
أما تأسيس الفرق الرياضية في المناطق الخاضعة للاحتلال الفرنسي فقد كان يفرض الحصول على ترخيص من الحاكم الفرنسي، الذي كان يتعامل بعنصرية في منح التراخيص، حيث استأثر الفرنسيون وحدهم بحق تكوين الفرق الرياضية دون المغاربة. ولما تكونت الجامعة الفرنسية لكرة القدم سنة 1919، أخضعت لرقابتها جميع الأندية الفرنسية الموجودة بالمغرب في إشارة إلى تبعية الرياضة المغربية للمؤسسات الفرنسية65.
رغم كل هذه الجهود فشلت مساعي إدارة الاستعمار لخلق قاعدة رياضية تخدم مصالحها بالمغرب، نتيجة افتقارها إلى العنصر البشري، الذي شكل خطرا يهدد مستقبل الرياضة الاستعمارية. فحولت الوجهة نحو الرياضيين المغاربة لتفتح لهم المجال لتأسيس الأندية والفرق، فتم تشكيل أول تنظيم رياضي صرف في منطقة الاستعمار الفرنسي سنة 1932، ويتعلق الأمر بالاتحاد الرياضي للرباط وسلا، الذي تمكن من الحصول على إذن بتشكيل فريق لكرة القدم يتألف من المغاربة، وفي سنة 1937 برز إلى الوجود نادي الوداد الرياضي بالدار البيضاء، حيث بدأ نشاطه بالسباحة، قبل أن يكون فريقا لكرة القدم سنة 1940، وينتصر فيما بعد على جميع الفرق الفرنسية، ويفوز مرات عديدة ببطولة المغرب وببطولة شمال إفريقيا. وخلال فترة زمنية وجيزة أصبح الوداد الرياضي أول نادي مغربي يضم الرياضات المتعددة الأنواع66.
لا شك أن الإدارة الاستعمارية ستكتشف فيما بعد خطورة بروز الفرق المغربية على مشروعها الرياضي، لتبدأ بعد ذلك بتطبيق سياسة المنع وسحب التراخيص، حيث تم إغلاق بعض الأندية الرياضية التي أسسها المغاربة، كنادي الجمباز التابع للاتحاد الرياضي، وتم فرض شروط تعجيزية على بعض الأندية المغربية الأخرى، حيث اتخذت عصبة كرة القدم التابعة لإدارة الاستعمار قرارا يفرض على الفرق المغربية ضم عدد لا يقل عن خمسة لاعبين أوروبيين في صفوفها، رغم صعوبة توفر هذا العدد من اللاعبين الأوروبيين، وكان الهدف من ذلك واضحا، وهو عدم ترك الصبغة المغربية الصرفة للفرق المغربية من جهة67، وإضعاف الفريقين المغربيين الصاعدين الوداد والاتحاد الرياضي للرباط وسلا، ومن خلالها إحباط العناصر المغربية، والقضاء على تطلعاتها68.
وذهبت سلطات الاحتلال إلى أبعد من ذلك عندما استهدفت الرياضيين المغاربة بالقمع والاعتقال، وتمت تصفية بعض الأسماء المشهورة في الأوساط الرياضية كالهاشمي القسطالي المعروف باسم «سوس»، كما سخرت سلطات الاستعمار الفرنسيين العنصريين للاعتداء على اللاعبين المغاربة داخل الملاعب أو خارجها69.
3) استغلال المغاربة للألعاب الشعبية في مواجهة الاستعمار الفرنسي:
لم تكن الرياضة يوما معزولة عن قضايا الشعوب ونضالاتها من أجل التحرر وتحقيق الازدهار، فالشعب الفلسطيني مثلا كان يتأثر دائما بمظاهر الاحتلال الصهيوني، وحاول تكييف ألعابه الشعبية لتتناسب مع معطيات الانتفاضة مثل الخارطة وطيارات الورق وجيش وعرب وعسكر وحرامية وغيرها، كما أثرت الظروف القاسية للاحتلال وعمليات الحصار والتجويع والمداهمة والاعتقال على ممارسة الطفل للألعاب الشعبية70.
وفي خضم الصراع ضد السيطرة الاستعمارية اختار المغاربة مجاراة الفرنسيين في التنافس في الرياضات العصرية، فنقل الوطنيون نشاطهم إلى الميدان الرياضي كواجهة كفاحية بهدف رفع مستوى الجماهير السياسي والتنظيمي، وأصبحت الرياضة في جوهرها تمثل أداة من أدوات المعركة ضد الاحتلال الأجنبي العنصري71. فقد كان كافيا أن تفوز فرقة مغربية على أخرى فرنسية ليتحول الانتصار الرياضي في أذهان الجماهير إلى انتصار سياسي يرى المواطن من خلاله معنوياته ترتفع واعتزازه بشخصيته يتقوى، وإيمانه بالتحرر الشامل يتوطد ويزداد رسوخا، وكان المغربي يرى في أبطاله الرياضيين ممثلين له، يعبرون عن آماله، ويتلقى انتصاراتهم بانفجار عاطفي ووطني عاصف، رغم الآلاف من جنود الاستعمار التي كانت كل يوم أحد تطوق الملاعب التي تجري فيها المنافسات.
واندمج الرياضيون بشكل مباشر في الكفاح الوطني المعادي للوجود الاستعماري، فمثلا كان لاعبو فريق الوداد الرياضي يحملون معهم المراسلات والتقارير السياسية إلى زعماء البلدين الشقيقين، أمثال مصالي الحاج وفرحات عباس وجمعية العلماء المسلمين بالجزائر، وإلى قادة الكفاح الوطني بتونس. وكان بعض مسيري فريق المولودية الوجدية بحكم علاقتهم بعمال محطة القطار، يسهلون عملية المرور حتى لا ينكشف الأمر لرقابة الحدود الاستعمارية72.
وكان الرياضيون يتجاوزون أحيانا مرحلة النوايا الوطنية الخفية إلى مرحلة امتحان الضمير في الكفاح والعمل الوطني المباشر، حيث حملوا السلاح في وجه الاحتلال واستشهد بعضهم73.
وقبل أن نعرض لمسار تطور بعض الرياضات خلال الفترة الاستعمارية لا بد أن نقف عند بعض الأسس التي ارتكزت عليها الرياضة المغربية المعاصرة في تحقيق التقدم والتفوق خلال هذه الفترة:
تطور الرياضة المغربية في إطار خط النضال الذي خاضه الشعب المغربي ضد الاستعمار وعملائه، فالنشاط الرياضي كان لا بد أن يرتبط بالكفاح الوطني، وقد وجد هذا الارتباط تعبيره في احتضان الجماهير للرياضيين الذين التفوا حول قضيتهم وساهموا في ميدانهم بشن معركة مزدوجة: سياسية ضد الرياضة الاستعمارية العنصرية، ونضالية ضد قوات الاحتلال الأجنبي، وعلى هذا الأساس قام التلاحم والتفاعل والتجاوب بين الرياضيين الواعين وبين الشعب بدور بارز في الانتصارات الجزئية والهامة التي أحرزتها الرياضة المغربية رغم الاستبداد الاستعماري74.
لم يكن من الممكن أيام الكفاح الوطني فصل النضال ضد السياسة الرياضية الاستعمارية عن مجمل الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية، وبذلك انصهرت جميع قطاعات الشعب التواقة إلى الحرية في مواجهة سياسية مباشرة ضد العدو الأجنبي.
تحققت المنجزات الرياضية على مستوى المهارات الفردية والجماعية، بفضل الإخلاص الوطني، وقوة الإرادة والاستقامة والنظافة التي كانت تطبع عقلية وسلوك معظم المسيرين واللاعبين75.
جمعت الألعاب الرياضية بين الفرق الوطنية والفرق التي أسسها المستعمر في لقاءات ومباريات تميزت بالندية والقتالية، حيث كان الهدف منها عند الوطنيين لا يقف عند تسجيل الانتصارات وكسب نقط المباريات، بل تعدى ذلك إلى استهداف أطروحات المستعمر وإرباك مخططاته. بينما كان الاستعمار يسعى دائما بكل جهوده لاستقطاب الطاقات الرياضية المغربية ليغذي بها الفرق والأندية التي تخدم مصالحه، في محاولاته لتطبيق مخططاته الرامية للدمج والتحكم.
ففي كرة القدم يمكن الحديث عن اللقاءات المثيرة التي جمعت بين الفرق المغربية والفرق المحسوبة على الاستعمار، ونضرب الأمثلة لذلك بالمقابلات التي كانت تجمع بين الاتحاد الرياضي المكناسي الذي أسسه المستعمر، وضم إليه العديد من الطاقات المغربية، وبين الفرق الوطنية التي كانت تضم شباب مغاربة مفعمين بالحيوية والروح الوطنية، كفريق الوداد البيضاوي وفريق طنجة فاس76، حيث جمعت الفريق الأول مع الفرق الوطنية مواجهات متعددة، تميزت بالتقنيات الفنية العالية التي تخلق المتعة عند الجمهور، وبالندية والقتالية التي تلهب حماس المغاربة وتغذي الروح الوطنية عندهم، كما أن اللاعبين المغاربة الذين لعبوا ضمن الفرق المحسوبة على الاستعمار كانوا يجدون انفسهم في هذه المقابلات في موقف محرج بل بين نارين، بين الرغبة الصادقة في التعبير عن مشاعر الحب لوطنهم وهم يقابلون فرقا وطنية مناضلة، وبين التزامهم بقوانين اللعبة وروحها والتزامات حمل القميص، فإذا انهزمت فرقهم أمام الفرق الوطنية يشكك الاستعمار في التزاماتهم ويلصق بهم التهم ويقلب الحقائق77، وإذا انتصرت فرقهم يغضب المغاربة منهم ويشككون في وطنيتهم.
وفي إطار استغلال الرياضة في العمل الوطني بذل الوطنيون جهودا كبيرة لتأسيس فرق الأحياء من أجل فتح فضاءات أوسع للشباب المغاربة لإظهار مهاراتهم والتعبير عن مواهبهم وخدمة قضيتهم من جهة، وتضييق الخناق على المستعمر في استقطاب الشباب المغاربة من جهة أخرى78. فتم إنشاء فرق شعبية تضاهي الفرق الوطنية كفريق النجم وفريق الشرف وفريق المجد، واتخذت هذه الفرق طابعا وطنيا صرفا، واستغلت كل لقاءاتها في التعريف بالقضية الوطنية والتحريض ضد المستعمر.
ومع التحول الكبير الذي عرفته القضية الوطنية بعد إعلان وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، استغلت الرياضة بشكل كبير في الدفاع عن استقلال الوطن والدعوة إلى طرد المستعمر، حيث بدأت الفرق الوطنية تتنقل بين المدن وهي تحمل في أمتعتها خطابات ومناشير لتمرير الخطاب السياسي المحرض ضد الاستعمار والداعي للبحث عن سبل تحرير الوطن79.
أما في رياضة الملاكمة فقد خاض الأبطال المغاربة لقاءات شكلت في وقتها حدثا رياضيا مشهودا، وعرفت حضورا جماهيريا غفيرا امتزجت عواطفه بعواطف هؤلاء الأبطال الذين كانوا يصرون ويلحون على الانتصار؛ فالانتصار في الحلبة هو انتصار للقضية الوطنية قبل كل شيء في ظل القمع والتسلط وتشديد الخناق على الوطنيين، وفرض الحصار على المواهب80.
وبالنسبة لرياضة الجمباز فقد تأسس أول نادي مغربي سنة 1936 برئاسة إدريس المحمدي، ووجد الشباب المغربي فيه فرصة للتدرب على رياضة جديدة، وفي نفس الوقت مناسبة للالتقاء والتحدث بحرية في مشاكل البلاد وهموم الشعب ونشر الوعي الرياضي والسياسي وسط الشباب.
وأثناء حوادث سنة 1944 التي تجسدت فيها إرادة الشعب المغربي في المطالبة بالاستقلال، لم يتردد عدد كبير من الرياضيين في النزول إلى الشارع والمشاركة في المظاهرات التي نظمها الوطنيون في العديد من المدن المغربية، وألقي القبض على بعضهم، وأصدرت سلطات الاحتلال قرار ا بإغلاق نادي الاتحاد الرياضي للرباط وسلا81.
خاتمة:
لقد قامت الألعاب الرياضية والشعبية في المغرب على أساس التعبير عن الهوية الثقافية والروح الوطنية للأمة، والكفاح ضد الاستعمار والعنصرية والتخلف، ولذلك ينبغي أن تسير على الدوام بمعزل عن كل عصبية وطنية أو إقليمية، وتستثمر في خدمة الأهداف والغايات النبيلة المتجسدة في تحرير العقول، وتقويم الأبدان، واكتساب الفضائل الأخلاقية. وهي شروط ضرورية وأساسية لا بد لكل رياضي أن يتحلى بها، حتى لا تفقده نشوة الانتصار أو صدمة الهزيمة توازنه وإنسانيته. كما يجب الحرص على تطوير اللعب التقليدي والشعبي باعتباره وسيطا تربويا غنيا ومؤثرا، يشكل عنصرا فعالا في تكـوين شخصيات الأطفـال، وتحقيق توازنهم الفكري والاجتماعي والخلقي والنفسي والجسمي، وذلك بإحياء هذا النوع من اللعب والمحافظة عليه وتحسين مكوناته، مع تطوير أدواته وأساليب ممارسته، وإعادة تصميمه وتنظيمه، والاعتراف بقيمتـه التربوية، وإدخاله كمكون أساسي ضمن المناهج التربوية الرسمية في المؤسسات التعليمية، ودمجه ضمن المشاريع الثقافية في المحافظة على التراث الثقافي، الذي يعبّر عن حضارة المجتمع المغربي خاصة وحضارة المجتمع العربي والإسلامي عامة.