فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
61

سيمون جارجي من العمل الميداني الى البحث النظري الموسيقى الإثنية بين المصطلح والبحث الميداني «الجزء الثاني»

العدد 61 - موسيقى وأداء حركي
سيمون جارجي  من العمل الميداني الى البحث النظري الموسيقى الإثنية بين المصطلح والبحث الميداني «الجزء الثاني»
كاتب من البحرين

 

الأنطلوجيا الموسيقية لشبه الجزيرة العربية:

أغاني البحر :

في شكله البالغ الإبهار، يبرز الموروث الشعري – الموسيقي الخليجي في موسيقى صيادي اللؤلؤ (النهمه) ويُعرف أيضا بفن البحر أو أغاني الغوص. هنا أيضا حدد الوسط المحيط ثقافة وفن البشر: غالباً ما ننسى بأن جزيرة العرب (شبه الجزيرة العربية) فيما يتجاوز صحاريها الشاسعة والمرعبة، تحيطها البحار من جهاتها الثلاث: الشرقية والجنوبية والغربية. ولم يخطىء الجغرافيون والمؤرخون العرب أبداً في تسميتها وباستمرار الجزيرة. وإذا ما كان العمق الأساسي للشعر الكلاسيكي (العربي الفصيح ) واقعياً مرتبطا بالصحراء وبحياة البدو، فالبحر بعوالمه ورموزه قد وسم بدوره هذه الثقافة العربية، خاصة في أشكالها الشعبية. وكان على البدوي الذي أصبح  صياداً بحرياً أو بحاراً أن يقيم علاقة بين ماورثه عن أسلافه وما هو مقبل على الاندماج فيه. 

هكذا وُلِد قبل المسيحية والإسلام بزمن طويل تقليد بحري خليجي عربي، والذي تتلاقى طقوسه وأغانيه وإيقاعاته في الموروث الشعري – الموسيقي الأكثر تمثيلاً، وهو تراث الغوص.

ويبدو أن هذا الموروث ينتمي إلى حقبة موغلة زمنياً، فقد تحدثت كتابة آشورية منذ 2500 عاماً قبل الميلاد عن «عيون السمك القادمة من دلمون» وما هي سوى لؤلؤ الخليج. إضافة إلى أننا على علم -بفضل الحفريات الأثرية التي قامت بها ومنذ الخمسينات البعثة الدنماركية من جامعة آرهوس– بأن دلمون تقع وبدون شك في أرخبيل البحرين، وتُشَكِلُ في الوقت ذاته عاصمة وإقليماَ، حيث تطورت حضارة تتوسط حضارات الهند وحضارات بلاد الرافدين. حضارة في جوهرها حضرية وبحرية، ولكن حيث وَجَدَ فيها العرب من أصل بدوي مكانهم إلى جانب الشعوب الأخرى من الفضاء الجغرافي المحيط.  

في فجر عصرنا أشار المؤرخ وعالم الطبيعة پليني الأكبربدوره إلى لؤلؤ الخليج، وكأي نشاط اقتصادي آخر أدى صيد االلؤلؤ الى تدفق، ومن ثم توطين مجاميع من أعراق مختلفة في الإقليم، تأثرت تدريجيا بالعملية المزدوجة للتعريب والأسلمة. هذا التدرج البشري شهد به وبوضوح رحالة  عربي شهير، إبن بطوطة في سرده المفصل عام 1332 ميلادية. والأهم لدينا هو التنوع العرقي للعاملين في مجال الغوص.

«تقع منطقة صيد اللؤلؤ بين سيراف والبحرين في خليج هادىء كنهر ساكن. فعندما تطل أشهر أبريل ومايو تتوافد على هذه المنطقة العديد من السفن الشراعية، وعلى ظهرها صيادو اللؤلؤ وتجاره من فارس والبحرين والقطيف». إنه إذا نشاط اقتصادي يشكل بنية دائمة ومشتركة، حيث يلتقي صيادو وتجار الأقاليم الثلاثة الكبرى: فارس والبحرين وبلدان الخليج، أقاليم شرق وجنوب الجزيرة العربية.

وبلا شك فإن الحديث في نص الرحالة المغربي أو من أعقبه لم يكن عن الطقوس ولا عن الموسيقى والأغاني المصاحبة لأنشطة الغوص هذه. ولكننا نستطيع الافتراض انطلاقاً مما وصلنا حتى اليوم من تقاليد موسيقية شفاهية، والتي مايزال بعض شهودها على قيد الحياة، بأن هذا الغوص على اللؤلؤ وبلا شك قد تضمن دائما مجموعة من الأغاني والرقصات، التي ما تزال وحتى الآن تشكل طقساً حقيقياً.

ما هوهدفها؟ إنه على ما يبدو ضبط لإيقاعات حركات العمل وتعويض عن العمل الشاق جداً لهؤلاء الغواصين بؤساء البحر. المجموعة المعقدة ولكن ذات البنية، لهذه الموسيقى، تكونت تدريجياً في حلقات غنائية ولحنية، نجدها اليوم تؤدى من قبل المجموعات الفولكلورية لمختلف بلدان الخليج، ويشار إليها بالإسم العام «نهمه»، وهذه الموسيقى مستمرة كتعبير ثقافي، رغم اختفاء وظيفتها في البحر منذ نهاية صيد الؤلؤ الذي استُبدِلَ بالبترول بعد الحرب العالمية الثانية. 

النهام أو الشاعر، يستمر بدوره في إحياء هذه الفرق. فحتى وقت قريب شارك بعض النهامين شخصياً في عمليات صيد اللؤلؤ في البحر، وتسجيلاتهم المقدمة هنا سمحت بترسيخ هذا الموروث الموسيقي انطلاقاً من مصادره الحقيقية  مما يضفي ضمانة إضافية لأصالته، وبالملاحظة الأكثر دقة لهذا الموروث يمكننا الوصول – نسبياَ جداَ في الواقع - الى أصوله.

فموسيقى النهمة، تؤدى حتى يومنا هذا وفي الغالب من قبل مجموعات، يعود أصل غالبيتها وبشكل جلي إلى الأصول الأفريقية أو الهندية-الإيرانية. وهذا التنوع العرقي يتقاطع مع معطياتنا حول مصادر تنوع  ممارسي هذه الأنشطة: فالأعمال الفعلية الشديدة القسوة، كانت حينها توكل الى العبيد السود مُحَرَرين أو غير مُحَرَرين، واللذين اندمجوا في مجتمعات سواحل الجزيرة العربية بأعداد كبيرة نسبياً وذلك منذ زمن سحيق، وحتى عصر ما قبل الإسلام: أما الأسياد، فهم غالباً من العرب، فيحتكرون القيادة والتجارة، وبعض الأحيان وظيفة قبطان السفينة (النوخذه).

هذه الظاهرة توضح تميز موسيقى البحر، التي تختلف بشكل جلي، ببنيتها النغمية، والإيقاعية، وكذلك بآلاتها الموسيقية، بما نعرفه من الموسيقى العربية بشكل عام، وتلائم ذات الملاحظات جميع أنواع الموسيقى الخليجية. ولذلك علينا البحث عن جذور هذه الأشكال والبُنى في تقاليد أخرى غير العربية.

قد يكون من باب الادعاء النظر إلى هذ الموروث على أنه خارجي، غريب كلياً على عبقرية وثقافة السكان الأصليين. إضافة إلى حقيقة أن كل المواضيع التي تُكَوِن نفس وروح النهمه تستوحي الإسلام. يجب بخاصة ملاحظة، بأنه داخل مجمل الحلقات الموسيقية،فإن  التعبيرالذي يرتبط به النهام عائد إلى موروث شعري- موسيقي قديم، أي الموال أو الزهيري، وهو فن يؤدى بأوجه متنوعة في فضاءات ثقافية أخرى، هي أيضاً عربية.

ومصطلح النهمه مرتبط تقليدياً بمجمل أغاني البحر، ذات الصلة ً بأعمال الغوص. وأصل كلمة نهمه من النهام، وهي التسمية التي تطلق على المغني الرئيسي المنفرد من مجموعة المغنين وقارعي الطبول، وهو بمثابة حارسهم، وذلك عن طريق كلمة نَهَمَ والتي مايزال معناها الحرفي غامضاً: زمجر، تأوه...

هذا التراث يتجلى كحلقة كاملة، ومطابقة لممارسات أساسية. بقياة النهام، يتناوب الغناء المنفرد والجماعي. إيقاعات الطبول والتصفيق، وتشكل مجتمعة وحدة نغمية تسمى «لفجِريَ»، وهو فن أصلي تتفرع منه عدة فنون ثانوية تُسمى: (العَدَساني)، (الحَدادي)، (الحَساوي)، (المَخموس) وغيرها، وتتضمن النهمة أغان حرة متوالية وذات إيقاعات موقعة. وتعود تسميات هذه الفنون المختلفة في الحقيقة، أحياناً إلى تنوعها الإيقاعي، وحيناً الى المدة الطويلة نسبياً التي يسغرقها السرد – الدعاء (التنزيله) التي تسبق هذه الفنون. أما صياغتها فتبقى أكثر فأكثر غير محددة، وقد تختلف من منطقة خليجية إلى أخرى. وتًسمى مجموعة هذه الحلقات الموسيقية عموماَ «فن بحري».  

النهمة غناء جماعي بمعنى أن الأداء الجماعي يتم على نمط نشيد كورالي يمثل عنصراً دائماً في الحلقة الموسيقية، ويوجد في مختلف فنون النهمة. في الماضي كانت هذه الجماعية في حقيقتها مرتبطة بمختلف المهام الضرورية لعمليات صيد اللؤلؤ، لأن أفراد طاقم السفينة كانوا بأنفسهم مُغنين، ينقسمون إلى مجموعتين تتناوبان المهام، فبينما ترتاح إحداهما على ظهر السفينة بالغناء، تعمل الأخرى في انتظار السهرة حيث يلتئم شملهم جميعاَ. 

الاستثناء الوحيد هو النهام، ويكون غالباً راوية مشهورأً بإلقاء الشعر، حيث يوظفه النوخذه (بمثابة قبطان السفينه)  للقيام بمهمة تحفيز البحارة مقابل أجر معلوم. والنهامون متمرسون في فن النهمه، حيث يتم إلحاقهم منذ الطفولة وهم في عمر السابعة أو الثامنة بسفن الغوص في وظيفة «تباب»، ويُكلَفون بمهام صغيرة مثل تجهيز النارجيله، تقديم الشاي وغيرها.

وفيما عدا النهام الذي يقوم بدور محدد بدقة، فإن توزيع المهام على الموسيقيين ليس حصرياً. هناك بالتأكيد مؤدو الغناء الجماعي اللذين يضبطون الإيقاعات بالتصفيق، بقواعد معقدة ومتنوعة، تشكل العنصر الأكثر أهمية وديمومة في الإيقاعات الموسيقية الخليجية. يليهم عازفوالآلات الموسيقية، وهم مغنون أيضاً، وأخيراً الراقصون الذين في لحظات الاستراحة يرقصون وسط دائرة مكونة من المغنين العازفين، وذلك بحركة دائرية متصاعدة السرعة، تبلغ ذروتها مع اشتداد الحماس في قفزة عمودية تصاحبها صيحات إثارة من الحضور. حتى اليوم تصاحب الحركات التصويرية أداء بعض الأغاني المكونة أساساً من محاكاة صوتية أو حتى صرخات حقيقية، حيث نعثر مجدداً على بقايا المهام التي كان يؤديها طاقم السفينة في الماضي.

في هذه الموسيقى الجماعية وأيضاً التجاوبية، يبقى دور النهام متميزاَ، فهو المشهور بمعرفته العميقة بالدورة الموسيقية، ولديه أستاذية حية تخوله تكوين تلاميذ يواصلون أداء فنه. وكل بلد خليجي له نهامه المفضل، والذي بفضل وسائل الإعلام الحديث عنه، تجاوزت شهرته الحدود وحازت نوعاً من الجمهور «العالمي». 

فالنهام يوجه ويقود المجموعة في اختيار الدورة الموسيقية وتتابع تفرعاتها وإيقاعاتها، وعليه أيضاً التعبير من خلال الأشعار الموروثه من خزانة التراث المشترك، عن أسرار العالم الداخلي، النفسي والعاطفي لكل فرد من المجموعة. في أثناء هذه التحليقات الشاعرية للزهيري، تصغي مجموعة الكورس مُقصِرَة دورها على الاستماع والمصاحبة الحذرة: مكبح نغمي أو قرار، وذلك على شكل همهمة حادة، قريبة من الإيزون البيزنطي  حيث تقطعها زمجرة أصوات عظيمة للزفير. أحياناً تتوقف الهمهمة لبرهة، لكنها دائمة الحضور وبجلاء، وهي تشكل المرساة التي يتمسك بها النهام طوال أدائه للدورة الموسيقية. 

ونحن نعمل بطريقة تجريبية انطلاقاً من الممارسة الفعلية لهذه المجموعات الموسيقية، والتي تشمل بعضاً من غواصي اللؤلؤ القدماء النادرين. كما نود التوضيح أيضاَ بأنه ومنذ انقراض صيد اللؤلؤ، في ثلاثينيات القرن العشرين، شهد عدد من أغاني العمل المرتبطة بالعمليات الواقعية على ظهر السفينة تخليا بطئا، بينما بقيت أغان أخرى كفولكلور ترفيهي بمجرد حركات مُقَلِدة.

سمة أخرى لهذا الفولكلور الشعري – الموسيقي البحري هي مواضيعه: وتستدعي بعض الملاحظات. وإذا ما أردنا التبسيط يمكننا القول بأن النهمة تتمركز حول ثلاثة مواضيع أساسية: الابتهالات والدعوات ذات الطابع الديني (التنزيلة)، والقصائد الوصفية الاستبطانية المعبرة عن الحالات النفسية للبحارة، واللعنات الموجهة للبحر وأهواله.   

تشكل التنزيلة الجزء الأهم في دورة النهمة. فهي تفتتح وتختم كل عملية من أعمال صيد اللؤلؤ، كما في الخطفة (رفع الأشرعة على سفن الغوص الكبيرة) أو «لمة الجيب» وهي إنزال الشراع الصغير المساعد «الجيب» ووضعه داخل الكيس، والتنزيلة تميز بعض الأنواع المتفرعة عن لفجري، مثل العدساني والحدادي. وتظهر هذه الأغاني على تنويعتين: الابتهالات المتضرعة الصرفة ولها هنا طابع إسلامي، حيث تطلب شفاعة النبي محمد، وعلي، وحتى البتول (العذراء)، في إشارة تارة إلى فاطمة، وأحياناً إلى مريم العذراء أم عيسى المسيح، كما ترد في القرآن، أما التنويع الثاني فهو الندب «ويلاه ويلاه « ومعناها يا لمصيبتي. وهناك بعضاً من الغموض يحيط بهذه المقاطع من التنزيلة والتي تعمل كلازمة ترددها المجموعة على امتداد دورة النهمة: وفي الواقع لا تترك هذه اللازمة على هوى كل مغنٍ، لكنها تتجسد في أصوات متميزة والأساسي منها نجده في إسم الله، الإله: وهذا الإسم يتجلى بداية بهذا الشكل: يا لله، يا الله، يا الله، وبهذا الصوت يقدم النهام دورة لفجري. ولكن المجموعة تستخدم دائماً المقاطع الأخرى بطريقة مفارقة وملتبسة: هكذا يكون لدينا المقاطع المشهورة في الموسيقى الكلاسيكية العربية: يا ليل ويا لا لا، وكذلك هيلا،هولو، ياه و. ونجد أيضاً مقاطع يا مال، التي تشكل المدخل وعنوان إحدى أغاني الدورة، وخاصة ال «يه» المصحوبة بزفير قوي الذي سبق وتحدثنا عنها. 

لقد أُعطيّت عدة تفسيرات لهذه المقاطع، مشبهة إياها بالمحاكاة الصوتية المستوحاة من عمليات مهنة البحارة على ظهر سفينة الغوص – بينما نجدها أيضاً في الأغاني ليست ذات الصلة بالعمل أو كما في «هاه»، في تمارين التنفس، إلا إذا نسبناها وبدقة إلى الصيغ السحرية المقدسة، المذكورة في العصر الميثولوجي لجلجامش. وكان الرحالة الإنجليزي وليم جيفورد بالجريف في القرن التاسع عشريتحدث عن مقطع «يا هيي» كتضرع منتشر بكثرة في عمان وعلى امتداد سواحل الخليج، التي يرتادها البحارة العمانيون: وقد بدا له في ذلك رؤية بقايا أثرية لآلهة سبأية نجمية. 

 بعيداً عن هذه الفرضيات، التي لكل منها أساسه، يبدو أنه من الصعب أن لا نجد علاقة بين هذه المقاطع الصوتية أو المحكاة الصوتية وبين المقاطع الرمزية للديانات السامية، التي قدست دائماً الحروف المختلفة التي تشكل الإسم الإلهي للكائن العظيم: ألف، لام، ها، هو، يوه: وهي ذات الحروف والمقاطع التي تكون التضرعات الأولى السحرية المقدسة للأناشيد المسماة «التهليل»، في شعائر طواف الكعبة قبل الإسلام. وهنا بالتحديد نجد التقارب مع «هال، ليه، لو، ياه، الركائز الأولى للموسيقى الدينية في المسيحية الفطرية، وحتى اليوم ما تزال تحتل مكانة مهمة في أناشيد الكنائس الآرامية. هذه العلاقة مع الجذور البعيدة للموسيقى المسيحية يوحي بها تسميات بعض الأنواع الفرعية مثل: بريخه، سدره، وهي ذات أصل آرامي. فهل ترك دخول المسيحية النسطورية مثل هذا الأثر؟ 

لهذا التفسيرما يكفي من المبررات في الخصائص العامة لأغاني النهمة، والتي تظهر في بنيتها النغمية وطرق ادائها الكورالي، مثل الموسيقى الدينية وبدون شك ذات أصل شعائري أو طقسي تعبدي. 

التسجيلات:

النماذج المُقَدَمة هنا سُجِلت ميدانياً عامي 1970 و1975، وهي تكتسي فائدة مزدوجة: جغرافية وتاريخية. فالجغرافيا جعلت من جزيرة البحرين المركز المُمَيز للفولكلور الموسيقي للغوص على اللؤلؤ. وإذا ما كانت موسيقى النهمه تشكل تراثاً مشتركاً لكل منطقة الخليج العربي، من الكويت وحتى بحر عمان، ففي الواقع اشتهر أرخبيل البحرين دائماً بالاستمرارية الطويلة المدى لتراثه البحري، وتَمَيُز مغنيه وموسيقييه في فنونهم البحريه. والجزيرة ذات البحريَن المالح والعذب.

هذا القَدَر الطبيعي مَكَن للبحرين، وسط محيط صحراوي لا يطرقه سوى البدو الرحل، من تطوير مجتمع حضري، حيث وفدت إليها عناصر من أقوام عربية، أفريقية، هندية- إيرانية إندمجت في شعبها ذي الأصول البحرينية. 

والبحرين أيضاً حافظت ولوقت متأخر أكثر من البلدان الخليجية الأخرى على ممارسة صيد اللؤلؤ، وحتى الزمن المعاصر، فالثروة النفطية لم تعرفها البحرين سوى حديثاً. وكذلك ليس مستغرباً رؤية الإستمرارية - وبطريقة حيوية- لموسيقى الغواصين (النهمه)، ومغنيها الأكثر شهرة. 

في عام 1970 نالت البحرين استقلالها وانفتحت على التحديث: التقاليد الموسيقية لم تعرف صدمة المؤثرات الخارجية الغريبة، وبقي مغنوها وموسيقيوها حتى الآن في القرن العشرين، مخلصون للتراث الشفهي الذي ورثوه عن الأسلاف، ومنهم، من الأحياء المنتمين للعصر المزدهر للغوص، وأشهرهم النهام سالم بن سعيد العلان، المغني، والمرتجل الكفيف، ومساعده أحمد بن جاسم بوطبنيه، وقد ولد الأول مع بداية القرن، والثاني أصغر سناً ببضع سنوات.

سالم بن سعيد العلان  كما مساعده أحمد بن جاسم بوطبنيه ومجموعات المغنين والراقصين من المحرق وقلالي، التي لطالما تم توظيف معظم الغواصين، وكذلك أفضل مغني النهمه «النهامين» منهما.

تصادف تاريخ هذه التسجيلات مع اكتشاف الغرب ولأول مرة لموسيقى غواصي اللؤلؤ، وذلك بفضل صدور اسطوانتين: الأولى للسينمائي ألن سان إيلير (مجموعة صندوق الموسيقى – باريس)، والثانية في مجموعة أوكورا، وهي للباحث الدنماركي في موسيقى الشعوب بوول روفسنج أولسن: كان علينا، متعاونين معاً مواصلة القيام ببحث ميداني على الأرض لعدة سنوات، حتى وفاة المأسوف عليه هذا العالم والصديق من كوبنهاجن. إنه من الواجب هنا شكرالشاعر البحريني المتميز علي عبدالله خليفة، والذي قدم لكلينا مساعدة قيمة من خلال معارفه العميقة بكل هذه التقاليد الشعرية الموسيقية البحرينية.

في عام 1975، كان عليّ القيام بمهمة جديدة من البحث الميداني، وذلك بالتعاون مع صديق آخر، علي زكريا الأنصاري، عازف عود كويتي موهوب ودبلوماسي. وهذه التسجيلات إذا، هي ثمرة عمل مشترك.

في عام 1978 صدرت ضمن المجموعة الموسيقية لليونسكوأسطوانة، مسجلة عام 1976 في البحرين، برعاية حبيب حسن توما (أعيد إصدارها في اسطوانة ممغنطة سي دي عام 1992). ومنذ توقف صيد اللؤلؤ حلت الدور مكان سفن الغوص، وفي هذه المنازل التراثية القديمة، تجتمع الآن هذه المجموعات لأداء نفس أغاني ورقصات الغوص كما كانت في الماضي، وهنا توفر لهم دار بن جناع البيئة. 

لا سيما إن دورة النهمة جذابة بتنوعها، ولكونها مركبة من عناصرإيقاعية جماعية مختلفة، ففي  هذه التركيبة يتداخل التصفيق، الآلات الإيقاعية، الغناء الكورالي، مكونة في مجملها وبالتناوب وحدة صارمة يخيم عليها الغناء الممدود للنهام. 

وبعكس الموسيقى الشعبية المدنية، فألحان النهمة أساساً ذات نسق ثنائي، ونادراً ما تكون ذات نسق ثلاثي، وقد تصل إلى حد تكوين دورات لحنية باستطاعتها جمع ما يصل إلى ثلاثين مازورة فأكثر. 

عنصر آخر يتكرر، معروف أيضاً في الموسيقى الكلاسيكية في العالم الإسلامي وهو الأعرج أو الإيقاع الأعرج الغني بالنغمات القوية التي تقطعها أخرى ضعيفة، مُحدثاً تتابعاً نغمياً في المازورات غير متساوٍ من حيث المدة. 

لفجري وفنانه الحِرَفي الكبير العلان، يقابل من حيث الزمن الساعة التي تلي صلاة الفجر، حيث يبدأ الغواصون يوم عملهم، وتصاحب الأغاني عمليات الغوص. 

إن التعبير العاطفي المتكرر(يامال) يُقَدم الجزء الشعري الموسيقي المُسمى «الزهيري» والذي يحتل مكانة بارزة بين نصوص أغاني النهمة. إنه نوع من الشعر الموزون المقفى المُغَنى، ويشتهر أكثر باسم «الموال». وللموال تاريخ طويل، حيث انطلق من بغداد العباسيين في القرن التاسع الميلادي، لينتشر في مجمل المحيط العربي بتنويعات مختلفة. وتتكون بُنياته المقطعية أساساً من أربعة أبيات (رباعية)، خمسة أبيات (خماسية)، ستة أبيات (سداسية)، أما الزهيري فهو من سبعة أبيات (سباعية)، مع خاصية قوافيه المَبنية على الجِناس. والموال شعبي في جوهره ويبرز هنا بلغة ذات لهجة بدوية ( نَبَطي).

أما مضمون الزهيري فهو ذو طابع استبطاني: يعبر عن صروف الحياة، فراق الأحبة، العائلة والأصدقاء، عذاب المعاناة من قسوة العمل. وخلاصةً فهو نوع أدبي مشهور جداً في الأدب القديم لهذه الحضارة القديمة الشرق أوسطية ونعني به الندب. أما الشكل الموسيقي فهو من نوع الغناء الإلقائي أو الغناء الطويل، المُزَين بالعديد من وصلات الغناء الممدود وبمقاطع غنائية كثيرة الزخرفة، حيث يُظهر النهام كل تقنيته الصوتية. والخلية النغمية تتجلى في المدى اللحني (من الجواب الى القرار)، وهي قريبة من الأوكتاف، وفي طبقة صوتية مرتفعة نسبياً، لا تتقيد بالنموذج الكلاسيكي للمقام، ولكنها تشتق هويتها الخاصة، القريبة من البيئة الأفريقية العربية.

و أخيراً الآلات الموسيقية التي تصدر الإيقاعات مرفقة بالتصفيق وهي:

    -    الجحلة «إيحله باللهجة البحرينية» وهي جرة كبيرة من الفخار يصل ارتفاعها بين خمسين ومائة سنتيمتراَ، تُضرَبُ براحة اليد، تارة على أطراف فوهتها وتارة أخرى على جنباتها، وهذان النوعان من الضرب هما لجعل الأصوات الصادرة عنها مبحوحة (دُم على أطراف الفوهة ) وواضحة (تاك على وسط جنبيها الخارجيين).

    -    الطبل، مشدود عليه من جانبيه جلد، يُضرب بعنف بواسطة عصا تُمسَك باليد اليُمنى، بينما تصدرأصابع اليد اليسرى الإيقاع بضربات أكثر خفة على الجانب الآخر للطبل.

    -    المرواس، طبل صغير اسطواني مشدود على جانبيه جلد مربوط ببعض.

    -    الطار، نوع من الطبول الكبيرة المؤطرة (الدف) وهي بدون الصنجات الصغيرة.

    -    الطوس أو الطاسات، كؤوس صغيرة من المعدن تستعمل أيضاً للشرب، ويتم ضرب إحداها بالأخرى من جهة الفوهات، وهي تحل مكان الصنوج المعدنية المعروفة في الأنواع الأخرى من الموسيقى الخليجية.

    النهمة الأولى:

سُجِلت في دار جناع، المحرق – البحرين عام 1970.

النهام الأول: سالم بن سعيد العلان، النهام الثاني: أحمد بن جاسم بوطبنيّه.

1.     تنزيله:

بدعم من همهمة خفيضة تغنيها المجموعة، يبدأ النهام بالدعاء الديني:

آه يا الله، آه يا الله:

صلوا وقولوا... وقولوا: لانصلي إلا على نبيه...

لانمدح إلا محمد، وعلي زوج البتول...

2.     زهيري:

النهام الثاني يُتبع التنزيلة بموال زهيري وباستمرار دعم الهمهمة الخفيضة. يتناوب النهامان بغناء ممدود شديد الزخرفة في مقطع «ها يا يا» الذي يقدم جزءاً مُلَحناً بإيقاعات على الطبل تتطابق والجزء الأخير من النهمه السابقة لها، إنه الإيقاع الأعرج.

3.     يامال وزهيري:

عودة «الهمهمة»، يتبعها يا مال، يبدأ الزفير بصوت «ييه»، ضبطاً لإيقاع غناء النهام الأول والذي يعبر مطلع قصيدته عن العسر: 

«صَرف الدَهَر لو بشِبه العُود يرميني» 

وعلى موضوع نوائب الدهر يعيد النهام الثاني الرد بالزهيري:

زاير مدينة حلب يا عويد ريحاني

يا فص ياقوت ارى والكف ريحاني 

لا سير بغداد واقراحرف ريحاني 

قمت اتعلم الدرسعي لابجد علي صعيب

القمر لي تاه في غميج البحور صعيب

سايلت عن منزله قالوا عليك صعيب

في غرفة عاليه والطيب ريحاني.

4.     يا هاملي وفجري:

غناء يسم حركة «لمة الجيب»: تتناوب مجموعتان من المغنيين، تختمان بصلاة نهائية «الصلاة والسلام على رسول الله، الله الكريم، الله الرحيم، نرحل بفضل الله» هنا تدخل الإيقاعات على الطبول بهذا التضرع: «يا الله يا الله يا الله»، وفي هذا الغناء الموزون، يتناوب النهامان بأداء  منفرد، مع صوت «الهمهمة» في الخلفية، وذلك بتكراررهما ذات المقاطع السابقة حيث تتداخل مصطلحات وصيغ مثل له-له، شاه-له-له.... والتي على مايبدو تنتمي الى لهجات من شرق أفريقيا.

5.     تنزيلة وفجري:

في عزلة نفسية وجيزة من التضرع  للنبي محمد: «الصلاة عليك يا محمد.. عليك صلاة ربي يا سيدي..»

ثم على هذه المقاطع يبدأ النهام الأول بصوت منفرد تنويعة على ذات الحركة الإيقاعية، بدعم من الطبول، الهمهمة وصرخات الإثارة من المجموعة.

    النهمة الثانية: 

    -    سُجلت في دار جناع، المحرق، البحرين عام 1970، 

    -    النهام الأول: سالم بن سعيد العلان، 

    -    النهام الثاني: أحمد بن جاسم بوطبنيّه.

6.     تنزيله:

تبدأ الدورة بغناء إلقائي على شكل تضرعات طويلة ومزخرفة، على اسم الله، والمقاطع الرمزية « ياه، يه، ها، له»  واللازمة المتكررة يا الله، يا الله...وهذه التضرعات يتناوب على غنائها النهامان على خلفية صوت همهمة الجوقة.

7.     يا مال:

يقدم النهام الأول حركة «يا مال» بصوت منفرد حر، ممهداً لدخول الجوقة، التي سترافق الصوت المنفرد بهمهمة خفيضة الدرجة «ونه»، منتظمة، تفصلها مسافات ثابتة، بواسطة زفير صاخب (همهمة).

8.     الزهيري الأول:

يفضي «اليا مال» إلى الزهيري الأول (أو الموال) بصوت العلان: 

حيد السعد جد عني بالمسير ومضى

سيف الدهر عاد وقطع بالضمير ومضى

يا عين ابكي على وقت غدى لك مضى

ابكي دمع دم وسوي لك غدر وانهار

يا عين ليلك غدا لك كالضحى بنهار

حرش الضمير انتحل بعد الضوه ينهار

قومي تقاضي وعزيني على ما مضى 

9.     الزهيري الثاني:

يستأنف النهام الثاني بالزهيري، مع استمرار أصوات الهمهمة والزفير:

سلامي يا زين ويا فتان  ويا حربي

حبيبي   أصلك من الحور

ولو هو بالنسل حربي

عنك ولا جوز ولو ياني ألف حربي

10.     خطفه:

ما يميز حركة الخطفه هو دخول الإيقاعات: تتناوب مجموعتان المقاطع هيه-لا وياه بموجب الشكل التجاوبي للحن. أما النهام فيأخذ المجموعة نحو الهمهمه للتحضير لدخول إيقاعات الطبول.

11.     لفجري:

يبدأ لفجري فعلياً بضربات إيقاعية للطبول. تتميز هذه الإيقاعات بالتصفيق، وهو عنصر أساسي، مع ثلاث آلات رئيسية: الجحله «ليحَلْه»، الطبل والطوس أو الطاسات، والتي قد يضاف إليها المرواس  والطار.

مجموعتان تتقاسمان التصفيق: مجتمعتان أو متخالفتان بموجب الأوزان التي تعتمدها كل حركة إيقاعية، وبشكل مركب مع ايقاعات الطبل يتناوب النهامان بغناء ممدود على خلفية محاكاة صوتية، مقاطع أو صيغ ذات أصول أفريقية. ويضبط المسافات بينها جميعاً الصرخات أو تهليلات الحماس أو الإثارة.

    النهمة الثالثة: 

    -    سُجلت في دار جناع – المحرق – البحرين،

 مارس 1975 .

    -    النهام الأول: سالم بن سعد العلان 

    -    النهام الثاني: هلال بوخالد

12.     تنزيله:

لا يغني النهام هنا الزهيري كاملا، ولكنه يزفر بانتحاب المُحب، ويبادله الكورال ذات النحيب، مع صوت النهام مردداً هيلا  يا ويلاه ها ها ها...

لج بشتكي ما  بقلبي لو سالن بكن بكن 

من مقلة غثاها جرح الشنيعه بكن

13.     لفجري:

كما في الدورة الثانية، تُدخل هذه الحركة الإيقاعات المترنمة للفجري. وهنا أيضاً يرافق صوت الكورال التصفيق وإيقاعات الطبول.

14.     يا ليل:

يبدأ النهام على صوت الكورال وإيقاعاته المتواصلة «ياليل ياليل » (وهي مقاطع محببة لدى المغنين العرب تعني الليل، ولكنها في الواقع رمز ديني) ويتناوب النهامان موتيفات المقاطع.

15.     خطفة الشراع:

في هذه الحركة البطيئة، يغني الكورال غناء ذا طابع ديني جلي، يرفده إيقاع ذو نسق ثلاثي يتسم بعدد من الكسور اللحنية، لاسيما ضربات «ليحله».

16.     زهيري (موال):

يطغى صوت النهام الأول إيقاع الطبول 

« أهل الوفا منهم»

أهـل الـوفـا منـهـم جــرح الـوداد يطـيب 

والناس مالـي عليهم في الـديـار وطـيب

يـا مـن أنا أدعوه في بحـر السـرور يطـيب

أهـل الـرده كـالسـراب بـقفـرة ودوى 

عنهـم تجـنب لا يصيبك حكـي ودوى

السـيف جـرحــه يطيب بمـرهـم ودوا

لا شك هيهات مجروح اللسان يطيب 

الأنطلوجيا الموسيقية لشبه الجزيرة العربية: 

الصوت: موسيقى المُدن الحَضَرية والموسيقى

من نتائج استمرار تحول إنسان الصحراء الى الحياة الحضرية عبر القرون، ولادة أنواع موسيقية ملائمة لحياته الجديدة، وأكثر تعقيداً من حيث تطورها: الموسيقى المدنية (نسبة إلى المُدُن). هذه الظاهرة لم تولَد بغتةً، وكأنها انبثقت بفعل سحريً: إنها ثمرة الهجرات، والإلتقاء بثقافات أخرى مجاورة، مما أحدَثَ (تهجيناً) اختلاطاً موسيقياً، حسب المصطلح العزيز على الأنثروبولوجيين. هذا الانفتاح نحو الخارج حدث بشكل خاص عن طريق البحر: اندفاع هجرات البدو من نجد أو من الأقاليم الجنوبية لشبه الجزيرة العربية، نحو السواحل الشرقية للخليج، أدى إلى خلق قرى صغيرة تجارية،  تتمحور أنشطتها حول الصيد والتجارة البحرية. 

تحول البدوي الجَمّال المترحل الى صياد وبحار. تغيرت أبعاد الكون الذي كان يعيش فيه ويتحرك ضمن حدوده، وهو صحراء الجزيرة العربية ومواقع مصادر المياه فيها، وتوسعت نحو آفاق أخرى، إذاً نحو ثقافات أخرى، خاصة ثقافات المحيط الهندي والحضارات الغنية الواقعة على ضفافه. هذه التقاليد البحرية التي لن يبطىء البدو في استيعابها، سيسعى بدو الجزيرة إلى تعلمها من الشعوب الأصلية الأخرى المقيمة حول البحرمنذ أزمنة شبه خالدة، كالبحرينيين (حرفياً شعب البحر)، الذين جاؤوا من أرخبيل البحرين وانتشروا بسرعة في قرى صغيرة على الخليج، في الكويت، قطر وغيرها.

وبعد تحولهم إلى الإسلام بواسطة البدو الأوائل الذين استقروا هناك، علموا البدو أسرار الملاحة البحرية والصيد، آخذين بيدهم إلى مغامراتهم البحرية. ومما لاشك فيه، بأنه من هذا العصر السحيق يمكننا تأريخ تكون الأرضية الثقافية الشعرية-الموسيقية، التي ستتطور لدى الحضر، ثم لدى سكان المدن الساحلية الخليجية، الذين أبقوا حياَ التراث البدوي القديم، خاصة ما كان نشطاً في مضارب الخيام لقبائل البدو الرحل المحيطة أو المتداخلة مع القرى الصغيرة الحضرية، والتي سيستلهمون منه (التراث البدوي القديم) أشكاله الشعرية والموسيقية لبناء ذخيرتهم الخاصة التي نجدها اليوم. وبفضل العلاقات البحرية للصيد وخاصة للتجارة، فإن هذه التقاليد الموسيقية المدنية، ومع ارتباطها بجذورها العربية، وعلى ما يبدو،  قد تعرضت لمؤثرات من الشعوب أو الأعراق القادمة من البلدان المجاورة، والتي أقامت في المدن الخليجية، وتحولت بسرعة إلى العربية. كما حدث للثقافات الأخرى الأكثر قدماً. لأنه مهما تعمقنا في أغوار الماضي سنكتشف بأن الأقاليم الجنوبية والشرقية الساحلية لشبه الجزيرة العربية قد مارست أساساَ الرحلات البحرية، فالسفر كما يُسمى اليوم، كان في اتجاهين رئيسيين: الصيد والتجارة البحرية مع المدن الواقعة على بحر عمان والمحيط الهندي. حيث ستكون لهذه الأنشطة نتيجة مزدوجة: فمن جهة ستمنح العرب حيزاً شاسعاً من العمل، من السواحل الشرقية لأفريقيا، وفي اتجاه المدن الهندية، حتى بومبي وكالكتا، ومن جهة أخرى ستخلق وظائف، حيث سيختلط التجار والبحارة والعمال المنتمون إلى أعراق متنوعة، وبالنتيجة من ثقافات متعددة. ففي الروايات الموغلة في القدم للرحالة، وحتى الأكثر حداثة بينها، هناك إشارات إلى أطقم سفن التجارة، حيث يتلاقى العرب من أصول بدوية، مع عبيد سابقين من أفريقيا أوأبنائهم المُحَررَين، وبلوش من فارس، وهنود من ملابار. وهذه الحاجة إلى الأيدي العاملة (في الكويت فقط، ولتشغيل مئات السفن، صغيرها وكبيرها، كان يلزم  حتى ما قبل عشرينات القرن العشرين، من العاملين، ما مجموعه تقريباَ بين العشرة والخمسة عشر ألف رجل)، ستخلق تراكمات اجتماعية ثقاقية، سريعاً ما تنتج عنها توليفات  مبهرة في أصالتها وثرائها، لاسيما على صعيد الموسيقى. إنه وبلا شك، من هذا الامتزاج تشكل النوع الموسيقي المدني (نسبة إلى المُدن) الأكثر تطورا في إمارات الخليج: الصوت، غناء مُلَحَن بصحبة آلات موسيقية، وحركات راقصة، هي بذاتها على قدر من التعقيد.

الصوت :

لا بد في البداية من هذا التوضيح: لن يكون من المناسب تصنيف الصوت ضمن الأنواع المنتمية إلى التقاليد الشعرية-الموسيقية الشعبية الصرفة. فإضافة الى حقيقة أن الصوت غالباً ما يعتمد على نصوص شعرية باللغة العربية الفصحى، وتصاحبه آلة العود، وهي آلة وبامتياز من الموسيقى العربية، كما أن ممارسة فن الصوت وبنياته النغمية-الإيقاعية الفائقة الدقة، تجعل منه نوعاً موسيقياً مقتصراً على مؤدين أكفاء وجمهورِ محدود، كما هي الحال في الديوانيات (حلقات موسيقية أدبية تنعقد مساءً في منازل الأعيان)، مع أن الصوت ومنذ عدة عقود ذو مكانة مهمة في التراث الشعري- الموسيقي لبلدان الخليج، كما أنه ينتمي منذ زمن إلى الموروث التقليدي،الذي تنهل منه الموسيقى الخاصة بهذا الإقليم. 

إن مسألة أصول الصوت التاريخية تشكل بعض الغموض: هل هو تراث كلاسيكي عربي قديم، أم إبداع حديث أجنبي ـ عربي خاص بمنطقة الخليج؟ إن الفرضية الأكثر جاذبية في الأوساط الموسيقية الخليجية تريد ربط هذا النوع الفني بالموسيقى العربية الكلاسيكية القديمة للصوت، المذكور في «كتاب الأغاني لأبي فرج الإصفهاني».

المؤرخون الأكثر نقداً، ينطلقون من الخصائص النغمية والإيقاعية، وكذلك من الظهور الحديث نسبياَ لهذا النوع الفني، مرجحين فرضية الأصل من الخارجي. ومع كون الحجج المؤيدة لهذا الموقف أكثر احتمالاً إلا أنه من الواجب ايضاح تبايناتها.

إنه لمن المفيد ملاحظة بأن مسمى الصوت، المستخدم بشكله في اللهجات المحلية الخليجية يشير في الخليج إلى نوع من الموشح النغمي ـ الإيقاعي، وكذلك الرقصة المصاحبة، يجعل من هذا التراث المُحَدَث ظاهرة فريدة في إطار الموسيقى العربية عموماً.أما في المناطق الأخرى فقد أصبح هذا المصطلح في طي النسيان، ولم يعد يشير إلا لكلمة الصوت البشري بمختلف نبراته، ولذلك فهذه العودة إلى الجذور حدث فريد.

ويمكننا أيضاً أن نضع ضمن نجاحات إحياء الماضي، كون الصوت الحالي كما الصوت القديم شعر مُغَنى، مُلَحَن يرافقه العود. حداثة الصوت النسبية تبدو جليةً بسبب عناصر ظهوره في الخليج: إن من أطلقه هو شاعر- موسيقي معروف: عبدالله محمد الفَرَج (1836 – 1903)، أصله من الكويت، يعتبره مؤرخو الموسيقى الخليجية الأب، او على الأقل المعلم الأول للصوت لتأليفه لعدد من القصائد المُغَناة التي انتشرت بسرعة في هذه المناطق، وكانت بمثابة النماذج المُحتذاة لهذا النوع الجديد من الموسيقى: في ذات الوقت أدخل الفرج في منطقة الخليج، مُصاحبة العود الكلاسيكي المصري – السوري، وكذلك المرواس. إن تبني العود كَمَثريّ الشَكل بذراع قصيرة، منذ القرن التاسع عشر الميلادي يشير جلياً إلى أن هذه الآلة الموسيقية، الدائمة الحضور في كل المحيط العربي منذ بدايات العصر الوسيط قد اختفت فعلياً من منطقة الخليج ذاتها. 

إذا كان مُجدياَ ذكر الدخول الحديث للعود العربي، فإن ماهو أكثر حسماً هنا، التشديد على البيئة التي نهل منها عبدالله الفرج استلهامه، والتي وبلاشك قد تأثر وبعمق بها، المقصود في الواقع  بومبي، هذه المدينة الكبيرة والميناء لشبه قارة، نعرف أهميتها كمركز للعلاقات البحرية في المحيط الهندي، وبخاصة صوب جنوب وشرق الجزيرة العربية. ولكن عبدالله الفرج وريث عائلة غنية من التجار،هاجرت الى بومبي، تلقى تعليمه في المدارس الهندية، وفيها تعلم الموسيقى والشعر. وفي ذات الوقت حافظ على اتصالاته بوطنه الأم الكويت، حيث درس اللغة العربية والأدب، وأقام فيها حتى وفاته، ليصبح من أوائل الشعراء - المؤلفين الموسيقيين الخليجيين الحديثين. وقد كانت قصائده التي لحن موسيقاها بنفسه أو لحنها غيره فيما بعد، التي ستشكل قاعدة لأشهر أغاني فن الصوت.

الخصائص والبُنى الموسيقية :

إذا كان الطابع العربي للتأليف الشعري مؤكداً، فإن البُنى النغمية والإيقاعية تُظهِرُ جوانب أكثر تعقيداً. وهنا أيضاً يُطرح سؤال الأصول، مثيراً فرضيات متعارضة انطلاقاً من الوسط المحيط أو المُعاش حيث عاش عبدالله الفرج، وسطا ليس بهندي فقط، ولكن بالأخص يمني أيضاً. كانت بومبي ملاذاً في الواقع لجالية كبيرة من المهاجرين اليمنيين، والتي تشكلت في أوساطها مجموعات من الموسيقيين، من مؤلفين ومغنين لتخليد موسيقى وطنهم الأصلي اليمن. وكان الحرص على أن تكون هذه الموسيقى مطابقة للتقاليد الموسيقية اليمنية، التي تمتد جذورها إلى العصر العباسي. من هنا يمكن إيجاد العلاقة بين فن الصوت والموسيقى التقليدية اليمنية لما قبل العصر الحديث، وبخاصة ما كان يُمارسه الموسيقيون المُقيمون في بومبي، وهي على ما يبدو كانت أفضل من حيث المحافظة على أصولها من تلك المؤداة في اليمن المعاصر.

إضافة إلى هذا المصدر للإلهام الموسيقي لعبدالله الفرج، ربما من الواجب التشديد على الأهمية الأبلغ لمصادره، وهي التقاليد الشعبية البحرينية.  فهذا الأرخبيل يمتلك فن الصوت، الذي يشهد التراث العربي على عمقه التاريخي. لقد قام موسيقيان تقليديان كبيران، معاصران لعبدالله الفرج هما محمد بن فارس وضاحي بن وليد، بتطوير تقاليد فن الصوت ليصبح على شكله الحالي، وقد استلهم عبد الله الفرج ذلك لإغناء أعماله الفنية. أما محمد زويد، فسيصبح من أواخر من تتلمذ على يد الفنانين الثلاثة السابقين.

وإنه لمن المجدي أكثر بدلاً من المُجادلة حول لمن تعود أبوة الصوت، الإعتراف بطابعه التراثي الموسيقي الخاص بمنطقة الخليج، وُلِد بلاشك من روح التوليف الملازمة للموهبة الشعرية ـ الموسيقية لرواد الصوت، هذا التوليف سيبرز من خلال تحليلنا الموجز للعناصر المكونة للصوت: إن دورة الصوت هي فعلياً متواليات من الحركة الغنائية ـ الإيقاعية، التي تتكون بناها التقليدية كالآتي:

    -    استهلال موسيقي على آلة العود: تقسيم.

    -    التحريرة: غناء مُرسَلٌ طويل، من النوع الإلقائي. 

    -    غناء الصوت ذاته: وهو غناء مُلَحَن تصحبه ضربات الطبول ومضمونه شعرٌ موزون ومُقفى.

    -    التوشيحة: وهي تنويعات تكون مدخلاً لمقاطع شعرية على موتيف نغمي جديد.

    -    البَسْته: أغنية بلحن سريع تصاحبها إيقاعات على الطريقة اليمنية، وهي اختيارية.

تبدوهذه البُنية التقليدية للصوت نظرية في الغالب، حيث يتصرف فنانو الصوت بحرية في تغيير أو ابتكار   هذا الجزء أو ذاك داخل دورة الصوت. أما النصوص الشعرية فهي بالعربية الفصحى، شبه الفصحى أو باللهجة المحلية. البُنيّة العروضية للوزن والقافية فيها تتبع غالباً نظام الموشح، هذا الشعر الموزون المُغَنى، المشهور في الموسيقى العربية، ولكن بتعديلات ملائمة: والمقصود هنا إستعارة من أوزان خارجية خاصة بالشعر الهندي، لأن عبدالله الفرج يجيد بإتقان اللغة الهندية، ويجب التأكيد على أن قصائد دورة الصوت تقتصر على مقاطع قصيرة من أربعة، خمسة، ستة أو سبعة أبيات شعرية كحد أقصى، وذلك بعكس القصيدة التقليدية العربية الطويلة جداً. ويلعب الشعر المُغنى هنا دوراً رئيسياً، ولكن عزف العود أيضاً ذو أهمية، سواء على شكل تقسيم،أو لمصاحبته الغناء الحر والإيقاعات والفواصل الموسيقية، أما قصائد الصوت فمكتوبة بلغة كلاسيكية جديدة، وأيضاً بلهجة محلية: وأحياناً يقوم المغنون بأنفسهم وهم أميون بحفظ القصائد عن ظهر قلب، متجاهلين قواعد النحو، مما يسمح بتصنيف الصوت إلى جانب الأنواع الفنية شبه الشعبية.

عاملٌ آخر من عوامل التوليف وهو النسق الغنائي والذي عامة ما يكون مودال، ولكنه لا يتطابق دائماً  وتقاليد المَقام، بينما تبقى الألحان المرافقة والإيقاعات وفية له.

أما الأول وهو ما يُرافق الغناء من إيقاع  فمزيجٌ ناجح من العزف على العود وإيقاعات المرواس وتصفيق المجموعتين، اللتين تتجاوبان حيناً أو تتناوبان غالباً بنوتة معاكسة، ويشكل التصفيق في موسيقى الصوت فناً حقيقياً، لم يُترك للصدفة وعلى هوى الفنانين، بل نُسِق باتباعه لقوانين محددة، وأصبح جزءاً لا يتجرأ من مكونات البُنية الإيقاعية بمجملها. والتصفيق يُجسد في ذات الوقت المشاركة الوثيقة بين المغنين والآلات الموسيقية وجمهور المستمعين. 

أما الإيقاعات الموسيقية بحد ذاتها فتشكل قاعدة فن الصوت، فهي التي توَلِد الفَرق بين صوت وآخر، أكثر من النغم الغنائي، النص الشعري أو العزف على الآلات الموسيقية. والإيقاعات الموسيقية موزونة عموماً وتستند على نوعين رئيسيين:

    -    الصوت العربي: وهو على نبضتين بنسق ثلاثي (8/6) مع حضور طاغٍ للنوتة المعاكسة لإيقاعات الطبول والتصفيق.  

    -    الصوت الشامي: يتبع إيقاع نسق ثنائي الجملة الموسيقية بثمان نبضات، وهنا أيضاً حضور طاغٍ للنوتة المعاكسة لإيقاعات الطبول والتصفيق، وغالباً ما يتضمن تنويعات نغمية ومنظومات موسيقية تكون بمثابة ختام الدورة.

ويضيف الباحثون في الموسيقى الخليجية إلى هذين النوعين المهمين الصوت البحريني، اليماني والخيالي،  بينما يسمي اليمنيون غناءهم النغمي – الإيقاعي بالصوت الصنعاني.

وفي الواقع فإن ذلك على الأصح تمييز نظري: الصوت البحريني خاصة، يتسم بأن سرعة الأداء الزمني (التامبو) فيه وإيقاعاته أكثر حيوية، بينما الصوت اليماني، والذي يُقصد به خاصة إلإيقاع بنسق ثلاثي، والمقصود بذلك غالباً الإشارة إلى الأصول اليمنية لفن الصوت، وأخيراً يبدو أن الصوت الخيالي قد وقع تماماً في عالم النسيان.

إن إيقاعات الصوت لا تَتَبِع أي شكلٍ صارم، إن لا نمطية من نوع «الأعرج» (أقصاق تركي) أو حتى الإيقاعات المتناوبة باستطاعتها التدخل وفق رغبة المغني – المؤدي أو المؤلف – الشاعر، مشيرة دوماَ إلى هذا التوجه في التقليد الشفهي وهو أن لا يتحجر في شكل نهائي وأن يتجدد.

 هكذا تَتَبعُ تقاليد الصوت مَسلكيَّن مزدوجين، حيث يستمر القديم عبر من تتلمذوا على يد أوائل الأساتذة مثل أولئك الفنانين الكويتيين أو البحرينيين، أو توَلِدُ شكلاً أكثر حداثةَ، دون أن تحدث ثورة في القواعد الأساسية للفن القديم، مُعتَمدةً على نصوص شعرية جديدة، متبنية تقنية صوتية أكثر تأثراً بالأغاني السورية-المصرية، كما تُدخَل أحياناً في الآلات الموسيقية المصاحبة،آلات غير العود، مثل الكمان، وهكذا يتجاور ويتكامل مغنو النوعين الفنيين القديم والحديث.

في التسجيلات المُقَدَمة هنا يلتقي مؤدوا هذا التقليد المزدوج: المرحوم محمد زويد الذي ذاعت شهرته في مجمل بلدان الخليج العربي،المغني الرئيسي لفن الصوت القديم، ويوسف فوني الذي رغم مطابقة ما يقدمه للتقليد القديم لفن الصوت، إلا أنه منفتح على أشكال فنية أكثر حداثةً، بينما نجد مغنيا وعازفا عود شاب، وهو آدم عبدالوهاب، ومع أدائه فن الصوت القديم والحديث، إلا أنه يثريه ويؤديه بأسلوب متفرد،  خاصة بتقنية صوتية وعزف على العود مميزين، وربما يكون الأصل الأفريقي لهذا الموسيقي المتميز ليس بغريب على الأسلوب والتقنية الجلية بخاصة في الأشكال الإيقاعية. 

وختاماً لربط الصوت بأصوله، التي بلا شك يمنية، فإن النماذج الأخيرة في التسجيلات تسمح بملاحظة التقارب والاختلاف بين الموسيقى اليمنية قديمها وحديثها وبين الصوت الخليجي، والأغاني اليمنية من أداء الشيخ علي أبوبكر باشراحيل من عدن، ويوصف بالممثل لهذا التقليد القديم، ولأحد المغنين الأكثر شهرة في صنعاء وهو محمد حمود الحارثي، ويؤدي الفن الغنائي المعاصر.

التسجيلات:

تمت التسجيلات الأولى خلال الأعوام 1971 – 1976 وتُقابل ثلاثة مراحل من تاريخ الصوت التقليدي: القديم، المُحَدَث والمعاصر. وثلاثة مغنون خليجيون ينتمون إلى ثلاثة أجيال يمثلون هنا هذه المراحل: محمد زويد، يوسف فوني وآدم عبد الوهاب.

الصوت المُحَدثْ سيكون مصدر إلهامٍ لتطورنوع جديد، حيث أبعدت المؤثرات الخارجية هذا النوع من الغناء عن خصائصه الحقيقية، ولم يكن من المناسب هنا أخذه في الإعتبار.

1.     صوت شامي:

    -    تم التسجيل في أبوظبي، في شهر مارس 1975.

    -    الغناء وعزف العود: محمد زويد،

    -    المرواس: راشد بن سند.

« قالوا تزين صدرها بصليب»

محمد زويد، في حوالي السبعين من العمر عام 1975، وقد توفى بعدها بعدة سنوات، كان على الأرجح آخر ممثلي المغنين الكبار للصوت التقليدي القديم. وتم التسجيل خلال مروره السريع بأبوظبي، وبرفقة صديقي علي زكريا الأنصاري استطعنا تسجيله في مارس 1975، أثناء حفلة نظمها سفير دولة الكويت في الإمارات العربية المتحدة سليمان ماجد الشاهين. 

هذا الصوت التقليدي صاحبت حركاته الإيقاعية رقصة رجالية. يبدأ هذا التسجيل بتقسيم على العود لمحمد زويد، على الطريقة الكلاسيكية من مقام بياتي  على درجة ري ونستطيع هنا ملاحظة أسلوب زويد من حيث تقيده مع مي بيمول وسي بيمول، بالمقام مع تحويلات طفيفة جداً، وكذلك عزفه المُذهل للعود، مع ضربات تَسِمُ بجلاء تقسيمات الصيغة الغنائية، وهي ميزة بيّنة لعازفي العود الخليجيين.

يتكون الإيقاع من ثمانية وحدات زمنية، تتسم الأولى بجلاء بالتصفيق، بينما تتعاقب النوتات المعاكسة المتفاوتة في بقية المازورة، خاصة بالمرواس وأحياناً بالعود، يتصاعد صوت الغناء بحُريّة ليلتقي بإيقاعات الطبول في نهاية كل فترة إيقاعية. 

ونلاحظ بأنه في مطلع الإيقاعات يتم التخلي عن نسق مقام بياتي الأَولي، ويتم استبداله بنمط من الأسلوب الغنائي المودال الخالص، والذي لم يعد يَستخدِم المخططات الكلاسيكية على السلم الموسيقي. حتى أنه في هذه الحالة يكون عزف العود على نمط مقام الحجاز، بينما لا يُراعي المُطرب الجنس الرباعي الكلاسيكي. وتبقى الفواصل الموسيقية متحركة، مما يجعل من المُحال تدوين نوتاته الموسيقية.

تعتمد الأغنية على قصيدة مشهورة بلغة كلاسيكية  جديدة، ذات بيتين وقافية الباء المكسورة (بِ)، كل مقطع يتكون من بيتين يتبعهما ثالث يتكرر كاللازمة بجملة غنائية مُعَدلة للنغمات، إنها التوشيحة، ومعناها  «زخرفة أو تنويعات لحنية». 

عند مدخل الإيقاعات يتزامن تغير وزن الأبيات مع تغير سلم المودال، تقترب اللغة من اللهجة الدارجة، أما المقاطع فتنتهي بلازمة مُعَدلة للنغمات (do) وتقفل دورة الصوت هنا بمقطع من مقام رست على درجة دو:

قالوا: تزين صـدرها بصليب

 قـلت: المسـيح نبيهـا وحـبيـبي

انا ما كرهتك يا صليب ديانةً 

بـل غـيرةً في صـدرهـا الملهوب

يا زورقاً يرسـو بمـرفـأ مـرْمـرٍ

والمــوج يــزأر في ظـلام دروبـي

هـلاَّ التفت اليَّ تحمل لـوعـتي

لفـؤادهــا وصـبابــتي ونحيــبي

والحب قلت: خرافة حتى اذا

لاحت عيونكِ كاد أن يودي بي.

من الجليّ بأن هذه القصيدة مهداة إلى مسيحية يفرق دينها المُختلف بينها وبين حبيبها.

2.     صوت بحريني (النوع سامري):

    -    تم التسجيل في المنامة – البحرين عام 1975

    -    الغناء وعزف العود: يوسف فوني 

«خط الرجا مقطوع من دون خِلي»

يتخلى المغني هنا عن الاستهلال التقليدي للغناء الطويل من الغناء الإلقائي، ليبدأ مباشرة طور الإيقاع بمصاحبة «الدربكه» والتصفيق، أما العود فبعد جملة قصيرة من التقسيم، يقدم العازف يوسف فوني عليه الإيقاع على النسق الثلاثي للصوت، بمقاطع شعرية تشكل وحدة الرباعية:

خط الرجا مقطوع من دون خٍلي

عِزي لحالي حال من دونه الياس

3.     صوت شامي :

    -    تم تسجيله في المنامة – البحرين عام 1975

    -    الغناء وعزف العود: يوسف فوني 

«الواحدي قال قمري البان»

يتميز هذا الصوت الشامي باختلافه عن الصيغة التقليدية بغياب الاستهلال، فبعد بعض التقاسيم، يبدأ بوصلة عزف على العود المنفرد، قبل دخول إيقاعات المرواس. 

«الواحدي قال قمري             البان صوته شجاني 

صوت المحبة عجيب

أصوات تشفي قلوب        أهل الطرب والمعاني...»

إن المعالجة الشعرية – الموسيقية هنا تتلاعب على المعنى المزدوج لكلمة «صوت»: فهو حيناً صوت الموسيقى وحيناً آخر الصوت البشري، مسلطة الضوء على الفضائل العلاجية الشافية للإثنين.

4.     بسته عَدَنية (الأسلوب العدني):

    -    تم التسجيل في المنامه – البحرين عام 1975  

    -    الغناء وعزف العود: يوسف فوني 

« خليتني يا حبيبي» 

أغنية حُب من نوع الغَزَل، على إيقاعٍ موزون يسمى «بَستِه» (ومعناها بالفارسية المضاف أو الملحق)، وهي لون شائع من العراق إلى اليمن، ويتميز بكونه يُلحق بأغنية طويلة، ويبدو أن أصله من عدن في جنوب اليمن، تلعب الآلات المصاحبة دوراً رئيسياً في المازور، حيث تقود حركات الغناء والإيقاع، أما المازور فهو على ثلاث وحدات زمنية، بحيث تكون الثالثة مختصرة قليلاً، فتخلق عدم تجانس (أعرج). ونلاحظ بأن الإيقاع العدني يحظى بتقدير في الموسيقى الخليجية.

5.     صوت عربي:

    -    تم التسجيل في جنيف - سويسرا،

 في 24 يونيه 1971 

    -    الغناء وعزف العود: آدم عبدالوهاب،

    -    المرواس: جابر جاسم ومحمد عواد

    -    مجموعة الكورال والمصفقون من أبوظبي 

في 24 يونيو 1971، وفي صالة باتينو في جنيف، قَدَمَت وللمرة الأولى في أوروبا مجموعة من الموسيقيين من أبوظبي، موسيقى من جنوب شرق الجزيرة العربية البعيد، هذه الموسيقى لم تكن معروفة حينها، كان ضمن المجموعة مغن وعازف عود شاب في السادسة والعشرين من العمر، هو آدم عبدالوهاب البحريني الأصل، إن عزف العود المتفرد جداً، وكذلك صوته الدافىء المطبوع بالحنين، يستحق الحفاظ عليه، وبخاصة لكون هذا الفنان ليس محترفاً بالمعنى الدقيق للكلمة.

إن آدم عبدالوهاب لا يؤدي التقسيم على العود بالطريقة الكلاسيكية، مع مراعاته وبجدارة خطوط المقامات الكلاسيكية،إلا أن أصالته تكمن بخاصة في توجهه نحو فتح إمكانيات إيقاعية جديدة لآلة العود، ولكن هذه الإيقاعات تستلهم بثبات المخزون التقليدي الفولكلوري للخليج العربي. 

«وا بروحي من الغيد هيفا كالهلال» هذا الصوت القديم، سبق وغناه للمرة الأولى الفنان الشهير ضاحي بن وليد. ولكنه هنا يؤدى مع تقسيم بياتي بأسلوب حر أعيد توزيعه على «مي» مع «فا ب» و«دو ب». في البداية، ثم على نسق ثنائي الإيقاع مع  رفع النبرة الصوتية للنوتات المعاكسة، ومكبح نغَمي متقطع يؤدي دور ايقاع الطبل.

بقصيدة حبٍ شبه أدبية وتقليدية، يأخذ الصوت الذي يغنيه آدم عبدالوهاب، حريته مع النص، مستبدلاً بعضه بشعر شعبي مرتجل، وكذلك بمحاكاة صوتية يستخدمها لملء الفراغات المقطعية. ويتميز هذا الصوت باحتوائه، بعد كل مقطع من بيتين، على قافية متكررة كلازمة (رَدِهْ)، يرددها الكورال:

«خبرني يا بوشمشما» بمقام البياتي السابق ذكره، (مي) ثلاث حركات غنائية تتالى على شكل توشيحة، على ذات الدرجة، والتي تم الإحتفاظ بها، ولكنها تتمدد على سلم (دياتونيك) لمقام كار كرد (على الأقل في البداية)، وتجعل الخطوط الغنائية منها نسقاً إيقاعياً خاصاً بالصوت.

أما الموتيف النغمي على العود فهو ليس ذاته في الأغنية، ويتدخل تحويل على اللازمة المتكررة، بحيث يخدم خطها كقاعدةً للحركة الثانية. وبذا يكون التغيير نغمياً وعروضيا ً، لكن على إيقاعِ ثابت، وتغني المجموعة مع الصوت المنفرد للمطرب، محاولةً متابعة إرتجالاته.

 تدشن الحركة الثالثة نمطاً جديداَ وأنساقاً نغمية جديدة،على تهليلة «هلا، هلا، على نغمة القرار»، بعد هذا التحول الأخير، تعاود الآلة الموسيقية، حيث ترجع آلة العود بعدد من التحولات بأنساق من المقام الكلاسيكي، تنتهي على غير المألوف، بمقام رست على درجة (لا). أما نص القصيدة بلازمته المتكررة على شكل استفهام موجه لمسافر قادم من اليمن، فيدعو إلى الاعتقاد بأن أصل هذا الصوت عائد للجالية اليمنيةالمقيمة في بومبي بالهند.

وا بروحي من الغيد هيفاء كالهلال

حسنها شل روحي وعقلي

غانيه في الغواني مالها من مثال

لا ولا في المحبين مثلي

خبرني ياكوس عن شمال

عن ساكني ارض اليمن.

حين خاطبتها الوصل قالت ما الوصال

مامرادك من الوصل قل لي ؟

قلت قبله تجودي بها

 شرفي بالتلاقي في محلي

خبرني ياكوس عن شمال

عن ساكني ارض اليمن.

6.     صوت شامي:

    -    تم التسجيل في المحرق – البحرين، مارس 1975

    -    الغناء وعزف العود: آدم عبد الوهاب 

«مر ولا سلم» يعود المُغَني هنا إلى الإستهلال على شكل إلقائي، يتضمن عدداً من جمل الغناء الممدود، والاستهلال قصير جداً، فهوفقط للتمهيد لدخول الإيقاعات على نسق عروضي قصير.

«مر ولا سلم» ثم يتبع ذلك إيقاع بنسق ثنائي ذي ثماني وحدات زمنية، وحتى هنا فإن النوتة المعاكسة لآلة العود، وإيقاعات الطبول، لها أهمية أساسية:

«البارحه كنت ساهر» في هذه الحركة الإيقاعية، يعطي المغنون الحداثيون لفن الصوت، الإيقاع  أهمية أكبر من النصوص الشعرية، كما انهم دائمو الإستخدام لبعض صيغ المحاكاة الصوتية، ومن أكثرها تردداً «دانا  دانا يا دانا» أو «دان دان»، والتي تحل في الصوت، مكان صيغة «ياليل» في الغناء الكلاسيكي. وكلمة «دانه» تعني اللؤلؤة الكبيرة، حتى أن مجموعة من الأغاني ذات الإيقاع الموزون قد سُميت باسمها، ويُرجِعُ مدونو الوقائع أبوة «يا دانا» إلى عبدالله الفرج بنفسه.  

وخلافاً لتسجيل حفلة جنيف، فإن آدم هنا يجد نفسه في وسطه الخاص، وبرفقة مجموعة أكثر عدداَ، مما يمنح  جواً من الإثارة الشعبية الفائقة، والعفوية لهذا الغناء، المتكرر برتابة بطبيعته. 

7.     صوت بحريني:

    -    تم تسجيله في المحرق – البحرين، عام 1975

    -    الغناء وعزف العود: آدم عبدالوهاب

    -    الكورال والتصفيق: غواصون من البحرين 

«هَيّ – يانوخذه السنبوك»  

إن نسقاً حراً يتيح للفنان آدم الغناء على عوده، وبمصاحبة مجموعة من غواصي اللؤلؤ، وآلاتهم الإيقاعية «ليحله» والتصفيق، وما يميز هذا الصوت، هو استلهامه لمواضيع النهمه:  وكمثال على ذلك فلاستهلال نداء شَجي للبحارة، حتى لا يتركوا أحبتهم، يلي هذه الحركة من الغناء الإلقائي ثيمة غنائية-إيقاعية ترددها المجموعة كلازمة، ويقتصر الشعر العروضي هنا على رباعية. وذلك بخلاف الصوت التقليدي، فالإيقاع يستلهم كثيراً إيقاعات أغاني الغواصين.

غناء إلقائي:

يا نوخذه السنبوك...

تُدخِلُ «ليحله» الجحله الإيقاع.

لازمة  متكررة 

8.     صوت صنعاني:

    -    التسجيل من مجموعة جميل غانم، 

سُجِلَ عام 1930،

    -    الغناء وعزف العود الصنعاني: الشيخ علي أبوبكر 

باشراحيل.

«وامغرد بوادي الدور من فوق الاغصان»

هذا الصوت المُسمى صنعاني نسبة إلى مدينة صنعاء، وهو مخصص لفترة الظهيرة، يغنيه الشيخ علي أبوبكر باشراحيل، المقيم في مدينة عدن، وهو وثيقة نادرة تعود إلى عام 1930، العصر الذي كان فيه شمال اليمن منطقة تامة الإنغلاق عن العالم الخارجي، وتكمن أهمية الصوت في العزف على العود القديم «العود الصنعاني»، والذي تم التخلي عنه منذ نصف قرن تقريباً، كما في نمط الأداء الصوتي للمؤدي.

وينتمي هذا الصوت إلى نوع «المُطَوَل» أي الممدود، يعتمد نص عروضي شبه كلاسيكي، على شكل رباعية، ولكنه مبني على نمط الموشح، وذلك لشكله العروضي، وموضوعاته المَجازية. أما بنيته الغنائية – الإيقاعية فتتضمن سلماً «دياتوني»، يتجاوز الديوان، مع «دو» كنغمة القرار، ولكنه لا يرتبط بقوانين الجنس الرباعي للمقام الكلاسيكي. أما العود فيحافظ على إيقاع  ثلاثي، أحياناً غير متماثل ونسبياً مُقَطَع حسب ضرورات العروض في النص الشعري.   

خاصية أخرى لهذا الصوت هي أن مؤدي غناء الحنين والحب هذا، شيخ أي فقيه في الدين، وقد عُرف عن هذه الفئة من الشيوخ دورهم في الحفاظ على التقاليد الموسيقية، في مجمل المحيط العربي الإسلامي.

وامغرد بوادي الدور من فوق الاغصان

وامهيج صبابتي بترجيع الالحان

ما جرى لك تهيج شجو قلبي والاشجان

لا انت عاشق ولا مثلي مفارق للاوطان

بلبل الوادي الآخضر تعال أين دمعك

اتدعي لوعة العشاق وما العشق طبعك

فاسترح واشغل البال بخفظك ورفعك

واترك الحب لأهل الحب يا بلبل البان

احبتي بعدكم والله جفاني هجوعي

وجرح مقلتي يا أحباب جاري دموعي

آه يا حسرتي منكم وآه يا ولوعي

كل ذا من جفاكم ليت ياليت لا كان

9.     صوت صنعاني:

    -    التسجيل من مجموعة جميل غانم،

 سُجِلَ عام 1930،

    -    الغناء وعزف العود الصنعاني:  الشيخ علي أبوبكر 

باشراحيل

«يا ربَّةَ الصوتِ الرخيمْ»

في هذا الصوت الثاني له، يستخدم الشيخ باشراحيل نمطاً مزخرفاً بالغناء الممدود، حيث نجد بعض الجمل العروضية تتقاطع مع مقاطع - رمزية، نلتقيها في الأنواع الأخرى من موسيقى شبه الجزيرة العربية:

« لا – ليلا  - لا  لا – لا  لو  لا - هوه  يا، هو.... الخ»

ترتكز المقدمة الإيقاعية للعود القديم «العود الصنعاني» هنا، أساساً على المدى النغمي من الجواب الى القرار على أربع درجات، مع إيقاع ثلاثي بصيغة متكررة.

10.     مُطَوَل (صوت صنعاني):

    -    سُجِلَ في صنعاء – اليمن، في شهر أبريل عام 1976 

    -    الغناء وعزف العود: محمد حمود الحارثي.

«يا غصن لابس قميص أخضر»

يغني محمد حمود الحارثي هنا «مُطَول»  أي ممدود بالمعنى الحرفي للكلمة، قصيدة حب بأربعة أبيات (رباعية)، برفقة عوده، ويستهل الأغنية بتقسيم موجز ومنفعل، على السلم الكامل «مي ب، ري ب (دو)، سي ب، لا ب (على نغمة القرار)»، مع ملحق في الختام على درجة « صول ب (فا) مي ب ري  ب»، مما لايمكن تصنيفه ضمن صيغ المودال للأجناس الرباعية للمقام العربي الكلاسيكي.

أما القصيدة فإنها ترتكز على إيقاع العود (وحدتان زمنيتان بنسق ثنائي)، وتجري أساساً، من الجواب إلى القرار وهو ذات المدى اللحني للعود، بتصاعدها إلى سي ب مع نهاية الشطر الأول من كل بيت، أما البقية فتنتهي على درجة لا ب، ثم مي ب. 

المجاميع الثلاث الأولى من الدوبيت الأربعة (كل بيتين يشكلان وحدة متكاملة) يتبعها ذات الفاصل النغمي-الإيقاعي على العود، وذلك بنمط متكرر أساساً، ومع المجموعة الرابعة، بتزايد سرعة الأداء الصوتي زمنياً، يَدخل تغيير إيقاعي، في مصاحبة العود، مما يؤدي إلى زيادة السرعة وذلك بمثابة الخاتمة.

11.     سريع:

    -    تم التسجيل في صنعاء – اليمن،

    -     في شهر أبريل عام 1976،

    -    الغناء وعزف العود: محمد حمود الحارثي 

«يا حب يا ضوء القلوب» 

على ذات السلم الموسيقي كما الأغنية السابقة لها،هذه الحركة الثانية للإيقاع المتيقظ  المتصاعد التي يولدها العود، تنتمي إلى نوع يُسَمى سريع، ويطابق «البسته « المعروفة في الخليج العربي، والتي تختتم بشكل عام دورة الصوت. أما إيقاعها فهو على وحدتين زمنيتين ثلاثيتي النسق لمرتين، يعارضها ضغط على الوحدات الزمنية الخافتة، وهي خصوصية يمنية، ولكنها ذات شعبية كبيرة أيضاً في موسيقى مناطق جنوب شرق الجزيرة العربية، ولغياب إيقاعات الطبول، يكون صوت الوتر الخفيض للعود هو من يسجل النبر.

الأنطولوجيا الموسيقية لشبه الجزيرة العربية:

غناء النساء :

إذا كانت الموسيقى عامة، لا تعرف حدوداً مبنية على الجنس، وهي للجميع وبدون تفرقة، ففي فضاءات التقاليد الشفهية، كان على الموسيقى أن تؤدي وظيفة اجتماعية ثقافية، إضافة إلى أدوارها الجمالية أوالعاطفية. 

وهكذا الحال لاسيما في البلدان الإسلامية، حيث الفصل بين الجنسين، منذ سن مبكرة جداً، يؤدي إلى نوع من تقسيم الأنواع الموسيقية بين الرجال والنساء. وكذا في الغناء كما في مجالات أخرى تحدد المهام اليومية طبيعة الممارسة، وهناك بالتأكيد مجال مشترك، تؤدى ذات الأنواع الموسيقية، وبدون تمييز بين  الجنسين، خاصة في فرق المُدن، كما في أغاني الزواج أو في مواسم الأعياد الدينية. ولكن دورة أغاني الغوص، والأغاني الحربية، وفن الصوت جميعها أنواع خاصة بالرجال، بينما أغاني التهويدة، وبعض أغاني الأطفال، أناشيد النائحات، جزء من أغاني الزواج والعمل والرقص، يقتصر أداؤها على النساء فقط، ويمكننا ملاحظة نفس التقسيم في استخدام الآلات الموسيقية: الربابة، العود آلات النفخ-الصرناي، الهبان... هي إمتياز ذكوري. تبقى الآلات الوحيدة المسموح بها للمرأة آلات الإيقاع: الطبل، المرواس، وخاصة الطار.

وهكذا توجب على الموسيقى، ولعدة عقود، بل لقرون، شغل هذه الوظيفة الاجتماعية الثقافية المُحددة بالجنس، ولكن هذا بدوره سيكون عرضة للأثر الحاسم للتحديث الجامح، التي ولَدَته حقبة البترول. فعدد من الأنشطة الإقتصادية، وحتى الاجتماعية قد اختفت، ففقدت الأساليب الشعرية الموسيقية المرتبطة بها  أسباب وجودها، والمجالات الحصرية جنسياً بدأت في التقلص، كغناء السامري، وحتى العرضة – أصلها غناء حربي – التي بالإمكان أداؤها من قبل النساء أيضاً... وخاصة إنشاء معاهد الموسيقى التي أتاحت للفتيات تعلم نفس الآلات الموسيقية كشركائهم الذكور. 

بقي تقسيم يخصص للنساء فسحة محددة جداً، ولكن النساء كما الرجال أعطوا التقاليد الموسيقية دوراً أساسياَ أكبر: الحفاظ على الهوية الثقافية المُهَدَدة من قبل غزو التكنولوجيا. وكما شركاؤهم كونوا دوراً – بيوت تقليدية ذات فناء -، حيث يجتمعن للغناء والرقص ويشاركن في الأعياد العامة لأداء «المالد، العياله (نوع من العرضه)، أغاني الزواج.. وغيرها».

إن التحولات الاجتماعية-الاقتصادية أنتجت تطوراً ثنائياً، والذي على النقيض، ساهم في الحفاظ على التقاليد الشعرية – الموسيقية النسائية حية: تكوين الفرق من الشاعرات-المغنيات، الراقصات والطبالات، وكلهن متخصصات في أداء  الموسيقى التقليدية والحفاظ عليها. حتى أن المجموعات النسائية تُعد بالعشرات في بلدان الخليج العربي، أما المحصلة الأخرى للتحديث: الدور الذي لعبته وسائل الإعلام لدعم انتشار أوسع للفلكلور الموسيقي النسائي، لاسيما عن طريق التلفزيون، حيث تُقَدم أفضل الفرق النسائية وباستمرار عروضها. 

إن هذا البث على الموجات الإذاعية أو التسجيلات يحجب جزءا من الغناء الشعبي: الحركة والتراتبية، وهذه الأخيرة مهمة خاصة في الغناء النسائي، حيث يبرز الطابع الجماعي والتراتبي: فلكل فرقة رئيستها (عداده)، شاعرة أو حافظة للشعر، تشتهر بمعرفتها العميقة لمجموعات من الأعمال الشعرية- الموسيقية الشفهية، والتي ورثتها عن من هم أقدم منها.وهكذا فالمهام في الفرقة موزعة، بين عازفات منفردات، الجوقة الرئيسية، الجوقة المساعدة، الضاربات على الطار وعلى الطبل، وأخيراً الراقصات اللواتي تم اختيارهن من الفرقة، أو قادمات من خارجها. والفرقة بتشكيلها هذا تتخذ وضعين أثناء الغناء: الجلوس أو الوقوف، وذلك حسب الأنواع المُغناة، أو المناسبات. الجوقتان تتقابلان وجهاً لوجه، ولكنهما متباعدتان بحيث تتركان مساحة للراقصات، أو لقارع الطبل إذا كان رجلاً ( تطوير يلقى قبولاً في الفرق النسائية الأكثر حداثةً ). أما الغناء فهو أساساً تجاوبي، يتوزع كما يلي: تبدأ رئيسة الجوقة الغناء، تتبعها الجوقة الأولى، تردد الجوقة الثانية حالاً البيت الأول على غرار اللازمة: إنهن المرددات. وعلى امتداد الأداء، تكتفي الجوقة الثانية بترديد الموتيف الأول، الشعري – النغمي (رده)، أو تغير (الرده) حسب إرادة الرئيسة، أو النوع المُختار، لإتمام الغناء بالبيت الثاني لرئيسة الجوقة، كما في (البداوي).

وترتبط الأنواع الموسيقية التي تؤديها المجموعات النسائية بمناسبات محددة بدقة: استقبال غواصي اللؤلؤ (القفال). الزواج والأغاني المختلفة، على إيقاع الطبول، وتنتمي إلى الدورة الشاملة ذات الأصول البدوية: السامري.

وهناك ضمن السامري أنواع مختلفة تُسمى «عاشوري، خماري، بداوي، لعبوني أو دق الحب» تشكل ذخيرة تراثية، تغنى أحياناً من قبل الفرق الرجالية، ولكن بشكل منفصل. هذه التسميات المختلفة، الحديثة نسبياً، تُنسب إلى مغني السامري محمد بن لعبون (1790 – 1830). وهو شاعر ومؤلف موسيقي من نجد (المملكة العربية السعودية)، لقد أتقن بن لعبون فن السامري، الذي يُغنى منذ أزمان غابرة، في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ليخلق تنويعات ستأسر الشعراء والمغنين والمغنيات، خاصة في منطقة الخليج العربي. هذه الأنواع المنحدرة من السامري، تتميز بشكل خاص بالبنى العروضية، النغمية والإيقاعية المنوعة، مع سيادة النمط التجاوبي الجماعي، حتى أنها تحمل اسم المؤلف: اللعبونيات (جمع لعبوني).

وبعيداً عن هذا التطور، لطالما ارتبط الغناء التقليدي للنساء ومنذ زمن بعيد، بأنواع مُحَددة تتعلق بالوظائف الاجتماعية في الحياة اليومية. وهذه حال الأنواع الثلاثة الرئيسية الخاصة حصرياً بالغناء الجماعي النسائي: «المراداه» غناء الفتيات اليافعات، «الدزه» غناء الزواج، «القفال» غناء جماعي بحري لعودة غواصي اللؤلؤ.

وللعنصر النسائي حضور حتى في الأغاني الحربية مثل «العياله» التي تبرز خاصة في الإمارات العربية المتحدة: يكون موضع الفتيات الراقصات بملابسهن البهيجة بين الجوقتين، تنشرن شعورهن الطويلة، وتتراقصن على إيقاع الطبول: ويُسمونهن «النعاشات»، ويمكننا أن نجد في هذا الرقص بقايا عادات لعرب شبه الجزيرة العربية في حقبة ما قبل الإسلام، عندما كانت النساء ترافقن المحاربين بالغناء والرقص، لتشجيعهم على مواجهة العدو.

التسجيلات:

    أغاني البحر:

1.     توب توب يابحر:

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1975  

    -    غناء القفال، أداء عائشة إدريس وفرقتها 

« توب توب يا بحر 

ييبهم ييبهم...» 

غناء «القفال» تجاوبي وبإيقاع ثنائي، وهو يتضمن أحياناً كما في هذه الأغنية، إضافة إلى التصفيق مصاحبة الطبل بتأخير النبر، إنه المثال الأكثر نموذجية للعنات المصوبة  ضد ضراوة البحر، أوجشع وقساوة «النوخذه» مالك السفينه، يتناوب الوصف المدهش للآلام التي يعانيها كادحو البحر هؤلاء، ولمصيرهم المأساوي، مع غناء بهيج، احتفالاً بعودتهم كرجوع ربيع جديد.

البنية العروضية هنا تحتفظ بالشكل التقليدي للشعر، وتتكون غالباً من ثلاثة أبيات بقافية مماثله، والأبيات هنا قابلة للتبادل فيما بينها، لأن كل واحد منها يشكل وحدة مستقلة، مما يُتيح المجال لبضعة تنويعات، حسب المؤدي المنفرد - رئيسة الجوقة -، ومن الأولى هنا، أن نقدم ترجمة للصيغة الشائعة: 

توب توب يا بحر  

توب توب يا بحر 

توب توب يا بحر

يبهم يبهم خاطفين بجيبهم

ما تخاف من الله نوخذه

عمى في عينك نوخذه

لا تصلب عليهم * يا نوخذاهم * لا تصلب عليهم

غصب عليهم *  ترى البحر بارد * غصب عليهم

قطع ايديهم * ترى احبال الغوص * قطع ايديهم

يا ليتني دهينه وادهن ايديهم

وياليتني خيمه واخيم عليهم

ماتخاف من الله يابحر

ماتخاف من الله يا بحر  

توب توب يا بحر

يالله بريح زلزلات   تلوثهم على الحالات

حطينا الحنا وبار     نشكيك عند الجبار 

2.     ورق ورق:

    -    تم تسجيلها في البحرين، عامي 1969 – 1970

غناء «القفال»

    -    أداء مجموعة طالبات في الهواء الطلق، أثناء أحد الأعياد

ورق ورق 

واللوز غطاه الورق

عند وصول النساء، وخاصة الفتيات، في أجمل حللهن إلى الشاطىء، يطلقن العنان لفرحتهن، احتفالاً بالربيع وبشجاعة المحاربين من العائلة الكبيرة للغواصين.

هنا أيضاً نقدم ترجمة للصيغة التقليدية:

سيوفنا ترطخ  دم

وشعورنا  تنضح عرق

الإيقاع هنا على ثمانية وحدات زمنية، مع تصفيق وبمصاحبة ضربات الطبل المؤخرة النبر، وتعزز الزغاريد العالية  للفتيات الطابع الشعبي للاحتفالية.

    أغاني الزواج :

إن دورة غناء الزواج تماثل غناء «القفال» من حيث أهميتها، وذلك لتعدد أنواع أغنياتها وإيقاعاتها ورقصاتها. وتقع جميعها تحت مسمى «أفراح» أي أغاني الفرح أو الزواج. ولغزارة إنتاج هذا المجال، فقد كان من غير الممكن، سوى إعطاء بعض من أمثلة النماذج الاحتفالية من هذه الدورة. 

«المراداة» هي غناء ورقص، تؤديه الفتيات الشابات، المرشحات للزواج، ويتكون جمهور مشاهديه من النساء، قريبات أزواج المستقبل المحتملين، إنه إذا ما أردنا المقارنة، النسخة العربية الإسلامية من «الحفل الراقص للمبتدئات»، ثم الأغاني المندرجة تحت المسمى العام « فن»، التي تحيي سهرات ليالي الزواج، وأدناها ثلاثة أيام، أسبوع حالياَ، أما في الماضي فكانت تصل إلى شهر، وأغاني الزواج تنحدر من النوع الشعري- الموسيقي «السامري»: عاشوري، خماري، عربي، دان دان، واتريمبو، دزه، وتختلف إحداها عن الأخرى أساساً بإيقاعاتها، وبالرقص الذي قد يصاحبها.

3.     المراداه الأولى:

    -    تم التسجيل في البحرين عام 1975 

    -    المؤديات: عائشة ادريس وفرقتها 

 « أول بدينا بالنبي خير الأبرار »

تؤدى عامة في العيدين، عيد الفطر بعد نهاية شهر رمضان، وعيد الأضحى، «المراداه» غناء جماعي على شكل تجاوبي.أما الإيقاع فهو بنسق ثنائي، وفي بعض الأحيان يتم وسمه بضرب الأرجل بالأرض، إنه غناء ترددي في جوهره.

4.     المراداه الثانية:

    -    تم التسجيل في البحرين عام 1978

    -    أداء صالحة سالم وفرقتها

على خلاف «المراداه» الأولى، تتضمن الثانية إيقاعاً بنسق ثلاثي،  يتسم بالتصفيق، ونلاحظ بأن هذا الغناء الخاص بالفتيات اليافعات، يؤدى هنا برفقة صوت منفرد لامرأة كبيرة سناً.

5.     غناء استقبال (1):

تم التسجيل في البحرين، عام 1978

أداء صالحة سالم وفرقتها 

هذا الغناء هو من تقاليد استقبال المدعوين للعرس، ويمجد أفراح الزواج، والصفات السامية للعروسة. أما الإيقاع فهو ذو ستة وحدات زمنية،يسمها تصفيق متزامن، وتردد الجوقة كل بيت شعري بعد الصوت المنفرد للمغنية.

6.     غناء استقبال (2):

    -    تم التسجيل في البحرين عام 1978 

«يعوي عوا الذيب ها النوخذه»

إيقاع ذو خاصية فريدة، يتكون من ستة وحدات زمنية، تتبعها تسعة، تمتد الأخيرة إلى نقطة إطالة، حيث يمكن أن تُضاف إليها انطلاقة جديدة.

7.    عاشوري (1):

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1972 

    -    المؤديات: سلطانه وفرقتها.

«هب الهوى يانه»

تستهل الأغنية بإيقاعات الطبول، والمقاطع الاحتفالية « ياليل ياليل  يا ليلاه «، مع جواب الجوقة «ليل ياليلاه»، وتستمر الأغنية على إيقاع الطبول شبه المؤخر للنبر، وتصفيق على الوحدة الزمنية القوية وتقطع الغناء زغردات متفرقة.

8.     عاشوري (2):

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1975 

    -    أداء: سلطانه وفرقتها

يرافق هذ «العاشوري» الطبل والطار، بأسلوب أكثر زخرفةً، كما تزيد كثيراً سرعة أدائه «التمبو» على «العاشوري» السابق، وهذه المرة، مع إيقاع ثنائي النسق،  أما التصفيق فأكثر تعقيداً، ويتعاكس بين الجوقتين.

9.     خماري:

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1975

    -    أداء: عائشة إدريس وفرقتها 

تتناوب الجوقة الغناء مع الصوت المنفرد للمغنية بترديد اللازمة، تقطعها زغاريد قليلة جداً، أما الإيقاع فهو على وحدتين زمنيتين بنسق ثلاثي (8/6)، تسمه إيقاعات الطبل والطارات.

10.     عربي:

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1975 

أداء: عائشة إدريس وفرقتها 

الإيقاع على ثماني وحدات زمنية، مع ذات النقرات على الطبول كما في «الخماري» السابق، كما نجد هنا أيضاً الزغاريد المتفرقة.

11.     دان - دان (1):

تم التسجيل في صحار «الباطنة» – عُمان، عام 1990

فرقة خليفة بن حارب المعمري  

    -    المغنية بالصوت المنفرد: فاطمة بنت محمد سعيد الكحالي.

    -    الطبالون: راشد بن عبيد البريكي، جمعة سعيد بن علي القرطبي، عبدالله بن فاضل، قرطبي بن زايد البريدي.

دان وا دان دانا 

دان وا دان داني 

لا تلومو الموله

قولوا الله يعينه  

بغناء الحُب هذا، الذي يؤدى خاصة في الأعراس، نستكشف في عُمان هذا النوع الشعري – الموسيقي وهو يستعيد صيغة من المحاكاة الصوتية، ذات الشهرة الشعبية في موسيقى جنوب شبه الجزيرة العربية، خاصة في صحار (الباطنة)، وفي إقليم مسقط: دان وا دان أو دانا  دانا: الدانه هو اسم أكبر وأجمل لؤلؤة، ومجازاً هي المرأة الجميلة، كما يعني دان دان أيضاً الطبل الطويل الشكل. 

يتميز الأسلوب الكورالي هنا، كما في الأمثلة السابقة بتناوب الصوت المنفرد مع صوت الجوقة، التي تردد اللازمة. ويتألف النص الشعري من دوبيت (رباعية) بقافية، حيث تتخلله وعلى امتداده اللوازم التي يرددها بدون كلل الصوت المنفرد والجوقة. اما الإيقاع فهو ذو نسق ثلاثي سريع جداَ، يوقَع على ضربات الطبول الإسطوانية الشكل «الرحماني» الطبل الطويل، والطبل «القصير»، والدَف، و«الصحن» الصاجات.

12.     دان دان (2):

    -    تم التسجيل في صحار «الباطنة»، عُمان، عام 1990

    -    فرقة خليفة بن حارب المعمري.

    -    المغنية بالصوت المنفرد: زوينه بنت علي بن سعيد الكحالي.

    -    الطبالون: راشد بن عبيد البريكي، جمعة سعيد بن علي القرطبي، عبدالله بن فاضل، قرطبي بن زايد البريدي.

يودان دان الدان  أو دان يودانه 

على السالمين ياالله

نفس نوع أغاني الحُب ولكنها مقارنةً بالأمثلة الأخرى، من أغاني الخليج العربي، تذهل  كما سابقتها، بخفتها. حيث نلاحظ تنويعات المقاطع وا، يا، يو.. التي تصاحب الكلمات السحرية دان، دانا، داني، أما النص الشعري فمُصاغ على نفس بنية المثل السابق. وقرع الصاجات يلتصق نوتة معاكسة على إيقاع ثلاثي النسق، الذي توَقِعه نفس الطبول.

13.     وا تريمبو:

    -    تم التسجيل في المحرق – البحرين، عام 1975

وا تريمبو وا تريمبو  وا ريومي  

ولاني طير لاصفق بلجناحي

«وا تريمبو وا تريمبو» (تعبير أفريقي) يأتي كلازمة بعد كل شطر من البيت الشعري، تُغنى البداية بأصوات المغنين فقط، على إيقاع ثلاثي النسق بطيء، ثم تتبعه حركة ثنائية النسق أكثر سرعة، يصاحبها التصفيق. ثم تختفي لازمة «وا تريمبو» لتحل مكانها مقاطع احتفالية « قولي، يا ليله»، والتي تُستخدم بدورها كلازمة، ثم تبدأ الحركة الثالثة بدخول صوت الطار، ووصول إيقاع متعدد، ثلاثة مقابل اثنين (إيقاع طبول ثلاثي النسق، وغناء ثنائي النسق) إن هذا يتعلق في الواقع بدورة من الحركات الإيقاعية والعروضية المتتالية. 

14.     دزه:

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1975 

    -    أداء: سلطانه وفرقتها 

الدزه (التقديم)، وتسمى أيضاً الزفه، وهي الغناء الذي ينهي المرحلة الأخيرة من مراسم الزواج، وتهدف إلى مرافقة العروسة، لإدخالها إلى بيت زوجها. تُقدم إيقاعات (الطار والطبل) الغناء الذي يُستَهَل بابتهالات دينية، وتعبير يردد منادياً بعودة أفراح العرس:

يا ناس صلوا على 

على من درز عوده

محمد المصطفى 

ويا صاحب الجودي

ثم يأتي مديح مؤثر للعروس، والدعاء لها بالسعادة. أما إيقاع الطبول فهو ثلاثي النسق عند البداية، يتسارع بينما تحافظ جوقة المغنيات على «تمبو» البداية، وهذا يُرجِعُ جو الثلاثة مقابل اثنين، والذي سبق الإحساس به في أغنية «واتريمبو». بعد هذا التأرجح بين انقسام الأنساق  إلى ثلاثي وثنائي للوحدات الزمنية، تنتهي المقطوعة بطريقة حاسمة ثنائية النسق. ثم يدخل موضوع جديد مع تغير الإيقاع الأصلي، ممجداً عظمة البحرين، وبخاصة البحرية. 

15.     هَدهِده (أغنية تنويم الطفل):

    -    تم التسجيل في الكويت، عام 1968 

في هذا المثال القديم لهَدْهَدَةِ الطفل، يتخذ الأسلوب الصوتي شكل الأنشودة الرتيبة، بإيقاع حر، خالٍ من أية مرافقة لآلات موسيقية، ونجد هذا النوع من الهدهدة في كل المحيط العربي. وتقدم الهدهدة مَدَةٌ في النغم، تُحدِثُ رجفة في اللسان، وهذا الغناء يُناوب بين المحاكاة الصوتية مثل: «لو لو لا» والنص الشعري: «نام  نام، يا عيني/ نومة الهنية».

16.     ترتيل:

    -    تم التسجيل في صنعاء، اليمن، عام 1973

    -    مجموعة فتيات صغيرات في المدرسة القرآنية 

يُحَفِظ مدير المدرسة، وبطريقة جماعية، بأسلوب التكرار، الفتيات سوراً قرآنية، ومنها هنا «سورة الإخلاص»، التي تنادي بأبهةٍ بمبدأ وحدانية الله.

17.     محاوره:

    -    تم التسجيل في القلعة، إقليم المحويت، اليمن،

عام 1973 

    -    ثنائي فتيات صغار، بمصاحبة طبل وصاجات «صحن».

في منتصف الطريق بين صنعاء وتهامة اليمن، يضم إقليم المحويت في قراه الزراعية، شعباً مختلط الأعراق، لذلك نجد في هذه الموسيقى عدداً من خصائص شرق أفريقيا، وبتحديد أكثر من الموسيقى الأثيوبية، وأما التقنية الصوتية فخاصة بهذا الإقليم، القريب جداً من البحر الأحمر، فهي متباينة أيضاً، من حيث نمطها الغريب الناقص، عن الموسيقى العربية، ويجب ملاحظة شكل الحوار، حيث تتناوب مقاطع للمغنيات مع تجاوب إيقاعي «للصحن» الصاجات، ومرافقة خفية مستمرة للطبل.

18.     طحن الحَبْ:

    -    تم التسجيل في الحويه، تهامة، اليمن، عام 1973 

فتاة صغيرة تطحن الحَب 

بحق الله، خاف الله 

بيني وبينك هادي الله

تحضير الخبز يسبقه طحن الحَب، والطحن مهمة مضنية أُسندت هنا لفتاة صغيرة السن، حركات دوران الرحى يضبطها إيقاع الأغنية، كما يساعد الفتاة الصغيرة في التغلب على التعب الذي يكشفه لهاثها. ويعبر انشادها الرتيب لآيات ذات استيحاء ديني، بلهجة إقليمية معربة، عن التسليم بقدرها. وبعد وقفة قصيرة، تنشد الفتاة الصغيرة مقاطع متتابعة مرتبطة بحركات الطحن، وهي مقاطع على ما يبدو تتكون من صيغ أفريقية من التعويذ.

19.     دق الحَبْ:

    -    تم التسجيل في البحرين، عام 1978

    -    أداء: شمه محمود وفرقتها

كان في الماضي غناء عمل، يكتسب «دق الحب» أهمية خاصة لكونه يذكر بتقليد قديم مشترك، بين الرجال والنساء: طحن الحب، ويبرز هذا الغناء كطقس حقيقي، حيث أنه بعد الحصاد، تلتئم مجاميع العاملين والعاملات، على شكل مجموعات منفصلة عن بعضها في ساحات واسعة، لدرس الحب بضربات مدقات ثقيلة، على إيقاع الطبول. وقد تم الحفاظ على هذا التراث الموسيقي، وهو قطعاً قد فُصل عن العمل،  الذي أصبح منسياً، ما عدا في الأرياف النائية. ويوجد هذا التراث الشعري – الموسيقي أيضاً، مع استخدام الرحى الحجرية، في جنوب العراق. تُقَدَم الأغنية بإيقاعات على الطبول، على نسق ثلاثي (8/6)، تبدأ بمقاطع طقسية: «يمه يا ليل يا ليلاه...»

 

 

مراجع  الكتب:

    -     معجم الموسيقى – مجمع اللغة العربية – الطبعة الأولى 2000م 

    -     تحليل الموسيقى – سيدرك ثورب ديفي – ترجمة سمحه الخولي – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الطبعة الثانية 2000 م

    -     تاريخ الموسيقى العربية حتى القرن الثالث عشر الميلادي – هنري جورج فارمر – ترجمة جرجيس فتح الله المحامي – دار مكتبة الحياة – بيروت – بدون تاريخ نشر.

    

مراجع المواقع الإلكترونية:  

    -     النغم والفن الأصيل:

    -     https://sites.google.com/site/georgefahem/zmn

    -     منتدى سماعي لإحياء التراث الموسيقي والحفاظ على موروث الطرب العربي الأصيل: 

    -    (https://www.sama3y.net/forum/forumdisplay.php?f=190&order=desc&page=6)

    -     عالم المقامات:

    -    (http://www.maqamworld.com/ar/index.php) 

    

المراجع الفرنسية:

    -     Grand Dictionaire Encyclopédique Larousse - Editions Larousse – Paris – France 1985

    -     Dictionnaire pratique et historique de la musique par Marie BOBILLIER, - en littérature             Michel BRENET, - édité en 1926.  (https://dictionnaire.metronimo.com/index.php?a=index&d=1)

    -    Cahiers d’ethnomusicologie. Anciennement Cahiers de musiques traditionnelles 11 | 1998

    -     Miriam Rovsing Olsen: Jean Lambert: La médecine de l’âme. (https://journals.openedition.org/ethnomusicologie/1686)

    

الصور:

1.    https://www.amar-foundation.org/simon-jargy/

2.    https://www.exodustravels.com/insights/camping-bedouin-family

3.    باقي الصور أرشيف الثقافة الشعبية.

 

أعداد المجلة