الموسيقى شأن كوني «الفنّ الموسيقي في سياقاته الانسانية والاجتماعية والحضارية»
العدد 60 - آفاق
مدخل: الموسيقى شأنٌ كونيّ.
الصوت هو أساس الكون، فكلّ ما يحيط بنا مرن - مصوّت، بل أنّ الكون هو أضخم وأثرى «صندوق مُصوّت لا مجال فيه للصمت» . وقد بين علم الصوتيات الحيوي كيف أنّ الموسيقى شأن كونيّ، وهو يتحدث عن فكرة مفادها: أنّ الموسيقى يمكن أن تعمل بصورة فطرية، كحاسة طبيعيّة ويرى المختصون في علم موسيقى الحيوان (zoomusicologie) وكذلك علم الأحياء الموسيقي (biomusicologie) أنّ للأمواج الصوتيّة /الموسيقى تأثير لا على الإنسان فحسب، بل وكذلك على بقيّة الكائناتِ الحيّةِ (كالحيوان والنبات) 1.
والمتعارف عليه أنّ الحدود التقديرية للصّوت المسموع تنحصر في تواتر يتراوح بين الحدّين الأدنى والأقصى [16-20.000 ذبذبة في الثانية]، ندخل بعدها في عالم الأصوات تحت وفوق السمعيّة (والتي لا يزال يستغلّها العلم الحديث في عديد المجالات). ومن بين الكمّ الهائل من هذه الاهتزازات الصوتيّة لا تستسيغ الأذن البشرية موسيقيا إلاّ ما هو محصور بين [40-4000 ذبذبة في الثانية، أي ما يعادل سبعة دواوين: دو2 – دو5].
لذا، فالموسيقى ظاهرة طبيعية، صوتية-إيقاعيّة في الحيّز (ارتفاع) والزّمن (مدّة). وهي كاللغة مرتبطة بكياننا البيولوجي2.
يؤكّد علماء الطبّ أنّ الطفل بعد الولادة تتكامل فيه حاسة السّمع قبل غيرها من الحواس، ويزعم الفلاسفة الأقدمون أنّ الأذن هي أهمّ أعضاء الجسم الإنساني، إذ بها ترتبط صفة النّطق، تلك الصفة التي تميّز الإنسان عن الحيوان، فالطّفل الأصمّ لا بدّ وأن ينشأ أبكم، ولم يعرف الطبّ حاسّة ترتبط مع غيرها من الحواسّ غير هاتين الحاستين.
إنّ أهمّ عناصر الحياة وأبرز مظاهرها شيئان، هما: الصّوت والسّمع، فلولا السّمع ما أفاد الصّوت، ولولا الصّوت لم يفد السّمع، والموسيقى عبارة عن فعل هاتين الحاستين منذ ولادة الطفل حتّى كهولته.
ويزعم أهل الطبّ «أنّ الصوت الحسن يسري في الجّسم ويجري في العروق فيصفو له الدمّ، ويرتاح له القلب وتهشّ له النّفس، وتهتزّ له الجوارح، وتخفّ له الحركات. من ذلك كرهوا للطّفل أن ينوّم على إثر البكاء حتّى يرقّص ويطرب». سئل مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273) عن كيفية دخول الروح الجسد وكيف انصهرت فيه ؟ فأجاب: «في البداية قاومت، غير أن الله جلّ جلاله أسمعها نغما، فانتشت لسماعه وانجذبت حتّى دخلت فيه. وعندها انقطع النّغم. ومنذ ذلك الحين وأرواحنا تبحث عن النّغم المفقود».
والموسيقى أيضا كاللغة مؤسّسة اجتماعيّة ونظام دلائليّ خاص... بل أنّها في تشكيلتها المعقّدة من المعطيات الجوهرية، جذورها هي في نفس الآن كونيّة ـ جينيّة ـ بيولوجيّة ـ أنثربولوجيّة... تجمع بين «موسيقى كونيّة» و«موسيقى إنسانيّة» منها «موسيقات خاصّة» متعدّدة الأوجه، هي نتاج تاريخ، ومجتمع، وثقافة، تخضع تعريفاتها إلى نظام معرفيّ متكامل ليس له حدود. وبالتالي، إذا كانت الموسيقى في المطلق، لغة إنسانية عالمية ليس لها وطن ولا حدود جغرافية، فهي تتفرّع عمليّا إلى لهجات إقليمية وأساليب محليّة تتنوّع حسب تنوّع الشعوب وتميّز المجتمعات.
وهذا ما أشار إليه وأكّده الفلاسفة القدماء، مثال ذلك ما ورد في رسائل الكندي وإخوان الصفا، حيث جاء أنّ: «لكلّ أمّة من النّاس ألحان في الغناء وأصوات لا تشبه بعضها بعضا، ولا يحصي عددها كثرة إلاّ الله تعالى الذي خلقهم وصوّرهم وطبعهم على اختلافِهم وألسنتهم وألوانهم... وإنّك إذا ما تأمّلت وجدت لكلّ أمّة من النّاس ألحانا ونغمات يستلذّونها ويفرحون بها، لا يستلذّها غيرهم ولا يفرح بها سواهم»؛ وهي «من عمل الألْسنة كاللّغات لا نهاية لها، متفرقة في ذرّيّة آدم إلى يوم القيامة». ذلك من آيات الله تعالى في خلقه، كقوله تعالى: «واختلافِ ألسنتهم وألوانهم»3. وهو ما أكّدته بحوث علم الموسيقى الحديث...
فكما هو الحال بالنسبة للغة التخاطب، فإن الموسيقى تنقسم إلى عدّة عائلات [مقاميّة، لحنيّة، بوليفونيّة، توناليّة، الخ.]؛ وبالتالي، فهي - على عكس الاعتقاد الشائع - ليست لغة عالميّة موحّدة، إنّما هيّ مجموعة لغات ولهجات مختلفة، وإذا كانت من حيث أساسها واحدة في كلّ مكان باعتبارها «فنّ تنسيق الأصوات بكيفيّة محبّبة للأذن»، وإذا كانت من حيث أصولها مرتبطة بمعتقدات البشر وطباعهم، وهي لغة الروح والخواطر، بل هي نبض الحياة؛ فإنّها بالنظر إلى شكلها، تنقسم إلى عدّة أنظمة متباينة من حيث نوعية أصواتها وإيقاعاتها وتقنياتها الفنيّة، ومن حيث أدواتها وقواعدها الفقه لغوية (الفيلولوجية) ووسائلها التطبيقيّة والتعبيريّة وأبعادها ومفاهيمها الجماليّة ووظائفها الاجتماعيّة... وذلك بما يتماشى مع عبقريّة وخصوصيّة الشعوب والمجتمعات وما يتناسب مع حاجياتها الحقيقيّة...
وهذا جدول إجمالي لعائلات الأنظمة الكبرى للتقاليد الموسيقية (Systèmes musicaux)
تونالية Tonale | مقامية Modale | تعدد الأصوات/ mus. stratification hétérophonique polyphonique | لحنية /mus. mélodie hétérophonique | العائلة |
أوروبا | آسيا الجنوبية - الوسطى - الغربية+ شمال أفريقيا | الجنوب الشرقي من آسيا [برية – بحرية] | الشرق الغربي من آسيا | المنطقة |
الرصيد الكلاسيكي لأوروبا الغربية والشرقية + روسيا + أمريكا الشمالية |
|
|
الصين – كوريا - اليابان - منغوليا - فيتنام | البلد |
بيانو | [وتريات من عائلة العود]
|
مجموعة صنوج/ gong منتفخة على إطار: دائري (17) - مستطيل (من 2 إلى 12)
|
سيتاره على صندوق به فرس متحرك: Zheng/kayagum/koto/ jetag/ dan tranh | الآلة النموذجبة |
سلم معدل متحصل عليه بتجزئة الديوان إلى 12 نصف بعد متساوية [كبير – صغير] Echelle tempérée (octave = 12 ½ égaux) + (maj.min.) | سلالم بها مسافات خاصة متحصل عليها بإضافة الخلايا [عقود / أجناس] إلى الخلية الأساسية :
|
سلالم متحصل عليها بالتعادل
|
عن دائرة الخامسات
|
السلم النموجي |
أداء فردي / جماعي، يعتمد الأسلوب التوافقي / الهارموني + الأوركسترالي (harmonie + orchestration…) | أداء منفرد أو جماعي يعتمد التعدد النوعي للأصوات / الإيقاعات، يبرز خلاله الإبداع الشخصي (آلي / صوتي) | أداء منفرد متميّز+مجموعة لها آلات ذات درجات ثابتة [برونز] 6-40 موسيقي
|
أداء منفرد + مجموعات آلية (من 3 إلى 15) | طرق التعبير |
*يمكن هنا، إدماج الموسيقى التقليدية لكل من أفريقيا السوداء + أمرهندية + أوقيانيا + دوائر القطب الشمالي + أمريكا اللاتينية : فهي تعتمد على النظام اللحني ببعديه الانفرادي والتعددي، انطلاقا من سلالم ما قبل الخماسي والخماسي بنوعية... وهي تختلف على مستوى طرق التعبير، الآلة النموذجية، المجموعات الآلية، وطرق التعبير...
من حيث المعنى، فالموسيقى قبل أن تكون ظاهرة صوتية-إيقاعية، هي بالأساس إدراك وتصوّر عقلي مجرّد يضاف إلى حقيقة الكون. وما مصطلح «موسيقى» إلاّ تجزئة ما لهذه الحقيقة الكونيّة وإشارة ما إلى نوع من الظواهر الصوتية دون أخرى، ذلك أنّ استعمال الكلمات والمسمّيات هو مجرّد واسطة يرمز بها إلى الأشياء، وبالتالي من يقول «موسيقى» يقول في نفس الآن «لا موسيقى» حسب كيفية تصوّره لهذا المصطلح. وفي الواقع، ثقافات العالم التي لها ما يعادل مصطلح «موسيقى» فإنّها تفرض جزءا خاصا بها يتماشى مع مفهومها للموسيقى، بينما يتعقّد الأمر لدى المجتمعات التي ليس لها ما يعادل هذا المصطلح حيث تتداخل الموسيقى مع الرّقص واللّعب وغيرها ممّا هو خارج عن الموسيقى بالمعنى الاصطلاحي المتعارف عليه اليوم، والتي لا يتسنّى تشخيصها أو التمييز بين مكوّناتها المتشابكة، إلاّ بالدخول في صلب الثقافة المعنيّة. فكلّ ثقافة تقتطع وتبوّب بطريقة معيّنة، ليس فقط المادة الصوتية والإيقاعية للشّكل الرّمزي الذي نسمّيه «موسيقى»، بل وكذلك الروابط المختلفة التي تقيمها هذه المادة مع محيطها الثقافي، والاجتماعي، والديني – العقائدي، وذلك حتّى داخل نفس المنطقة جغرافيا.
ونلاحظ في هذا السياق، أنّ كلّ الصّناعات لها أجسام طبيعية وأشكال جسمانية، إلاّ الموسيقى فهي جوهر روحانيّ، وطيف ملائكيّ، يسيطر بسحره ورقّته وعذوبته على مشاعر الإنسان فيعمل تأثيره القويّ في نفوسهم عمل السحر. كما نجد أنّ كلّ فنّ من الفنون يهتمّ به فئة من النّاس، أمّا الموسيقى فهي فنّ للجميع، للكبير والصغير، للعالم والجاهل، للغنيّ والفقير معا على السواء... وليس في الأرض لذّة تكسب... إلاّ وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح، ما خلا السّماع؛ فإنّه لا معاناة فيه ولا تعب.
الموسيقى في سياقاتها الإنسانيّة والاجتماعية والحضارية:
الموسيقى قديمة قدم الإنسان، بل في حقيقتها الكونيّة، سابقة له. وهي في مفهومها العام ليست مجرّد ترفيه أو «فنّ للفن» وإنّما هي وسيلة تعبير بواسطة النّغم والإيقاع، عن الأحاسيس والمشاعر (حتّى قيل: «أنّ الموسيقى هي ما يسبق الكلام ويتجاوزه عندما يعجز هذا الأخير عن التعبير»). لذا قال العقّاد في شأنها:
معلمةُ الإنسان ما ليس يعلم
وقائلةٌ مالا يبـــــــوح به الفم
وكامنةٌ بين النفوس بــداهةً
وما علمت في مهدها ما التّكلّم
والموسيقى كنشاط ملازم للإنسان تجمع في تعريفها الشمولي بين «اللغة والعلم والصناعة والفنّ»، وتشكّل بالتالي عنصرا أساسيا ذو مظاهر متنوّعة من عناصر ثقافة الفرد وتكوين وجدانه، وكذلك في التآلف بين أجزاء المجموعة؛ لذلك ظلّت حاضرة في مختلف مجالات الحياة، تعكس خصوصيات المجموعة، كما يشير التعامل معها وتنوّع استعمالاتها إلى المستوى الحضاري، في حين يبرز إهمالها وتهميشها تعثّرا وانخراما في مسيرة التنمية؛ وباختصار إلى حالة من «التخلف الحضاري».
إنّ ارتباط الموسيقى بالظواهر الفطريّة يجعلها، تخضع حتما في شكلها ومضمونها إلى عوامل تاريخيّة وبيئيّة وجغرافيّة ولغويّة واجتماعيّة واقتصاديّة معيّنة، أوجدت لها ثوابت جعلتها تعتبر بحقّ «مرآة الحضارة لدى الشعوب» التي نشأت في أحضانها، ومقياسا لرقيّها وازدهارها وتطوّرها الفكري والحضاري وحتّى الصّناعي إذا ما اعتبرنا نوعيّة الآلات والتقنيات المستنبطة لصناعتها وطرق آدائها ووسائل ترويجها.
لذا انصبت جهود السابقين على كشف أسرار الموسيقى وتدارس أبعادها بكونها من أكثر الظواهر الثقافية قدما ورسوخا لدى الإنسان، نبّهته إليها الطبيعة فاهتدى وخاض في إبداعاتها ومدلولاتها الوجدانية والفنيّة، فواكبت نموّه على مرّ العصور في تدرّج مسترسل يتماشى مع نضج تفكيره وتطوّر إحساسه بالجمال وإدراكه إلى حسن استغلال وتطويع ما يحيط به في الكون من الخيرات.
ولقد تفطّنت الحضارات القديمة إلى ما تتمتّع به الموسيقى من قدرة فائقة على التعبير والتأثير في النّفس والارتفاع بها إلى أسمى الآفاق، فاعتبرتها أداة أساسيّة من أدوات التربية قبل أن تكون فنّا جميلا يبتغى لذاته... بوجودها تعبّر الموسيقى عن المحتوى الاجتماعي وطاقات الإبداع فيه، يتعدّى تأثيرها الجمالي ليستوعب الواقع الاجتماعي والنفسيّ بشكل شمولي، متكامل وهادف، فهي تعكس وعيا جماعيا وتقدّم سجلا حيّا يكشف عن طبيعة الأفراد وقواعد سلوكهم وأنماط حياتهم العمليّة والفكريّة والشعوريّة [صورة عن عالم الإنسان الداخلي «المقنّع» والعالم الخارجي «المبرقع»]... كما أنّها تمتزج وتتفاعل مع أحدث تطوّرات العلوم والتكنولوجيا، ممّا يجعلها في نموّ وتكامل متواصلين مع كلّ جديد في فلسفة التربية ومناهج التعليم وعلوم الجمال والنّفس والاجتماع وغيرها، مقتحمة بذلك بفاعلية، ميادين العلاج النفسي والعضوي. وقد كانت ضمن الحكمة الرباعيّة إلى جانب الهندسة والرياضيات وعلم الفلك، بل أنّها جزء من الإنسان نفسه حتّى قيل: «أن من لا يحبّ الموسيقى لا يستحقّ اسم الإنسان، ومن أحبّها كان نصف إنسان. أمّا من يمارسها فهو الإنسان الكامل».
فالموسيقى تعبير رمزي عن تمثّلات الإنسان وتصوّراته لذاته وللعالم من حوله، وهي من أكثر الظواهر الثقافية قدما ورسوخا في المجتمعات الإنسانية، اقترنت - في شكلها ومضمونها وتطورها - بمختلف الرؤى الثقافية والروحية والسياقات الاجتماعية والتاريخية التى أفرزتها، فاندست في أشكال المعيشي اليومي للمجتمعات التي شهدت ولادتها ونموّها. لذا فإنّ ارتباطها وثيق بالهوية والأصالة...
وعليه فإنّ التصدّي لأيّ شكل من أشكال الموسيقى يحتّم الأخذ في الاعتبار هذا البعد «الموسيقي – الإنساني» المتجذّر، حيث تتداخل وتتكامل في صلب الممارسة الموسيقيّة عديد الاختصاصات ضمن مختلف الفنون والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وكذلك العلوم الصّرفة والتكنولوجيا...
علم الموسيقى بين تعدّد الاختصاص وتضافره:
إنّ المتتبّع للموسيقى في تاريخها الطويل، يقف على حقيقة مؤدّاها أنّ دراستها يجب أن تتمّ في إطار تعدّد الاختصاص وتضافره. هذا التضافر يتيح تصوّرا ابستمولوجيا عاما يتعلّق بظاهرة الموسيقى باعتبارها: ثقافية - اجتماعية، فنية جماليّة، وفيزيائية وصناعية في الآن نفسه. وبالتالي فإنّ بحثا علميّا موسيقيا بالمعنى الواسع (أي في مجالات علم موسيقيّ شامل)، يمكّن من تناول الظاهرة الموسيقية من خلال مقاربات عدّة: موزيكولوجية بحتة، أو في علاقتها بالعلوم المساندة: الإنسانية منها والصرفة، وكذلك التطبيقية والتقنيات الحديثة؛ وذلك حسب المواضيع المتطرّق إليها والأهداف المنشودة منها.
1) علم الموسيقى والعلوم المساندة:
تبعا لما تمّ ذكره، جاء علم الموسيقى متعدّد الاختصاصات... وكان الاهتمام بهذا الصنف من البحوث والدراسات ضارب في القدم، ليعود ويتأكّد مجدّدا مع الحقبة المعاصرة (بداية القرن التاسع عشر)؛ حيث برز مصطلح «علم الموسيقى/ موزيكولوجيا» بمفاهيم متتالية اقترنت تباعا بالتاريخ، فالآداب وفقه اللغة المقارن، قبل أن يحتلّ مكانته كعلم شامل يخضع في أساليبه وتقنياته إلى مجالات عدّة، العلمية منها والفنية والتطبيقية والتقنية...
انفتاح متنوّع المشارب من نتائجه النّجاحات التي حقّقها علم الموسيقى بفضل ما أفرزه من تلاقح مثمر برزت من خلاله مجموعة اختصاصات دقيقة من بينها- إلى جانب علم الموسيقى/ Musicologie :
- علــم الموسيـــقى المقــارن أو علــم موسيـــقى الشــعوب (الاثنوموزيكولوجيا- الاثنو موسيقى)/ comparée Musicologie –Ethnomusicologie
- علم الاجتماع الموسيقـي (سوسيولوجيا الموسيقى) / Sociologie de la musique
- علم السلالة والاجتماع الموسيقي (الاثنوسوسيولوجيا الموسيقى) / Ethnosociomusicologie
- علم الإناسة الموسيقي (انثروبولوجيا الموسيقى) / Anthropomusicologie
- علم الآلات (الأورغانولوجيا) / Organologie
- علم النفس الموسيقي /Psychomusicologie
- فقه اللّغة الموسيقي / Philologie musicale
- علم الصوت الطبيعي والبشري/ Acoustique
- العلاج بالموسيقى (musicothérapie)
وغير ذلك من الاختصاصات الأخرى وما يتبعها من تفرّعات...
وفيما يلي جدول إجمالي حول علم الموسيقى في علاقته ببعض العلوم المساندة، وهو ثلاثة تفرّعات كبرى: علم الموسيقى التطبيقي – علم الموسيقى المنهجي وعلم الموسيقى التاريخي...
جدول إجمالي حول «علم الموسيقى بين تعدد الاختصاص وتضافره»
2) من خاصيات البحث الموسيقي:
في رحاب هذه المجالات المتنوّعة، تبلور كمّ هائل من البحوث والدراسات كان من ثمارها، إرساء منهجيّة جديدة تعتمد أساسا على توفير وتوثيق مادة أصيلة واستنباط تدوين موسيقي دقيق يتمّ إثراؤه بملاحظات علمية وتحاليل مقارنة قصد إبراز أوجه التشابه والتّباين بين مختلف التقاليد الموسيقية في العالم، وبالتالي تحديد ما يوجد بينها من كليات (Universeaux) وخاصيات [أي من المشترك إلى الخاص]. لقد تفتّقت قرائح الباحثين وتعمّقت تأمّلاتهم – كلّ حسب توجّهاته وأهدافه – حول الموسيقى في مفهومها الواسع خاصة مع اختراع الفونوغراف (1877) واستعمال تقنيات التسجيل المتتالية، وتعمّق العمل الميداني وتوسّعه، ممّا أدخل إضافة نوعية مكّنت من تحقيق نتائج على غاية من الأهمّية. فتوالت المهمّات والبعثات العلميّة وتعدّدت البحوث والدراسات لتشمل مختلف بقاع العالم حتّى النائية منها؛ وتقنّنت تبعا لذلك، عمليات الجمع والتصنيف والتدوين وأساليب التحليل والمقارنة.
لقد شهد البحث الموسيقي في فترة ما بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية وتحديدا منذ الستينات، ازدهارا كبيرا كمّا وكيفا، شمل العديد من البلدان وبمختلف اللغات، فبعثت الجمعيات والهيئات المختصّة ومراكز التوثيق والدّراسات، كما نظّمت المؤتمرات والمهرجانات والندوات الدولية، فأتيحت بذلك، إمكانيات الاتّصال بين أهل الاختصاص وسبل التّعاون والتبادل بين مؤسّسات البحث والتكوينِ، ممّا أعطى دفعا كبيرا للمسوحات الميدانية والبحوث العلميّة. وتكثّفت - تبعا لذلك – المنتخبات الموسيقية المكتوبة منها والمسموعة والمرئيّة وتعمّقت المعرفة بخاصيات الأنظمة الموسيقيّة المتنوّعة وتأكّد الاعتراف بأهمّيتها... بعيدا عنِ النّظرة الضيّقة التي طالما أثقلت كاهل «علم الموسيقى التقليدي» وحالت دون تطوّره في المسار السليم. فهذا العلم الذي كان يعتبر الموسيقى منهاجا ارتقائيّا للعقل والذّوق، ومعيارا للتطوّر الحضاري لدى الجنس البشري، بقي لسنوات عدّة، حِكْرا على الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، متّخذا إيّاها المرجع الوحيد الذي يُعلّل به توجّهاته، والنّموذج الأمثل الذي يفسّر ويقيّم من خلاله بقيّة موسيقات العالم التي كانت في نظره مجرّد تعبيرات بدائيّة لا ترقى إلى مستوى الفنّ !؟... غير أنّه بفضل تقدّم البحوث وتوسّعها، وما أسفرت عنه من اكتشافات ومستجدات ونتائج، تغيّرت الكثير من المفاهيم السائدة مؤكّدة بما لا مدعاة فيه للشكّ، على أهميّة التنوّع الموسيقي وعلى مدى ارتباطه بالمحيط الاجتماعيّ والحضاريّ المنبثق عنه، وكيف أنّ المعيار الجمالي له، لا بدّ وأن يتمّ حسب المنظور الاجتماعيّ – الحضاريّ الخاصّ به... وهنا تبرز العلاقة العضوية بين التوثيق المكتوب أو المسجّل، والجمع الميدانيّ المباشر الذي أنجز في هذا الصّدد.
اكتشافات ومناهج تقنيّة وعلميّة عدّة، غيّرت الأهداف والطّرق تغييرا جذريا. فالأفضلية للتكامل بين «الشّفاهيّة والكتابيّة»، والتأكيد على الجمعِ الميداني المباشر بإتباع الطريقة العلميّة: بدءا من المرحلة التمهيدية، فالميدان وصولا إلى مرحلة ما بعد الميدان. والباحث، علاوة على كونه موسيقيّا ومدركا لقواعد البحث، يجب أن تتوفّر لديه ثقافة واسعة وخبْرات عمليّة وتقنيّة خاصة، أي التزوّد بأكبر قدر من المعرفة بواقع الحياة عامّة، وبصفة خاصّة فيما يتعلّق بمنطقة بحثه، وما يرتبط بها [موسيقيّا، تاريخيّا وحضاريّا]، وكذلك ما مرّ بها من مؤثرات وعملياتِ تداخلٍ حضاريّ، الخ.
وهنا توجد ضرورة لأفضلية العمل التكاملي بين فريق من الباحثين ذوي اختصاصات مختلفة تكمّل بعضها بعضا.
3) تنوّع التقاليد الموسيقيّة في العالم وخصوصية أنظمتها:
من بين المكتسبات التي حقّقها توسّع البحث العلمي والمسح الميداني تحديدا، إبراز الثروة الهائلة للتقاليد الموسيقيّة التي يزخر بها العالم، ممّا مكّن – كما سبق وأشرنا - من رسم خارطة موسيقيّة تتنوّع وتتكامل في رحابها أنظمة موسيقيّة لكلّ منها مكوّناته المميّزة.
على هذا الأساس، برز على المستوى الدّولي في منتصف التسعينات من القرن الماضي، مفهوم التنوّع الثقافيّ كردّ فعل ضروريّ لمجابهة هيمنة عولمة النّموذج الأوحد المروّج له على حساب ثقافة الأصل. هكذا، فرض التنوّع الثقافيّ والموسيقيّ تحديدا، نفسه موضوعا للحوار لدى الكثير من المجتمعات؛ في عالم صارت تسوده عولمة ما هي سوى مواصلة خبيثة مبيّتَة لمسلسل الغزو والاستنزاف الحضاريّ الشّامل للشعوب قصد اقتلاعها من جذورها وإدماجها في منظومة الأمم المشرفة، بل والمتحكّمة في هذا النّظام العالميّ الجديد أحاديّ القطبيّة.
لا شكّ وأنّ الدفاع المتنامي عن أهميّة التنوّع الثقافي، فتح آفاقا جديدة من الوعي الثقافي والنقدي ممّا ساعد على المشاركة في حوار خلاّق موسّع من أجل مستقبل أفضل. ولقد أصدرت اليونسكو عديد التقارير والتوصيات في هذا الصدد4...
ومهما كانت محدوديّة النتائج المتوصّل إليها حتّى الآن، فإنّ سؤال التنوّع الثقافي أصبح مطروحا بقوّة على الأجندة السياسيّة مع بدايات القرن الواحد والعشرين... غير أنّه – وكالعادة – يوجد انفصال بين التفكير والفعل وبين الرّغبة والممارسة العمليّة. ذلك أنّ مهمّة الدّفاع عن التنوّع الثقافي أصعب من مهمّة الدّفاع عن التنوّع البيولوجيّ والبيئيّ. فمن السّهل أن يكتشف النّاس مساوي تلوّث الهواء وفساد الغذاء وقطع الأشجار وتغيّر المناخ... ولكن كيف يمكن إقناعهم بأنّ التنوّع الثقافيّ لا يسخر من أذواقهم ولا يفسد عليهم متعتهم، وأنّ تعدّدية مصادر الإبداع وأساليب الإنتاج والتوزيع هي في صالحهم، بل ضرورية لتأكيد ذاتهم وصيانة هويّتهم؟
ونكتفي بالتذكير هنا: أنّه منذ أواخر القرن التاسع عشر تاريخ انطلاق ما يُعرف بـ «النهضة العربية الحديثة»، شهد الفنّ الموسيقي من التحديث والتغيير ما عرفه الأدب والمسرح والفنون التشكيلية، وانفعل بنفس الموضوعات والتطلعات، فتنوّعت المحاولات والاتجاهات وتعدّدت المواقف. فبالإضافة إلى القطيعة المؤسفة التي باعدت منذ قرون، بين العلم والعمل، جاء التصادم المفاجئ بالنموذج الغربي وتأثير التكنولوجيا الصناعية... تغيّرات جذريّة حصلت بكيفية سريعة ومتتالية على المشهد الموسيقي العربي، كان من نتائجها التخلّي تدريجيا عن الثوابت والتشبّث بالمتغيّرات الوافدة. وقد كان للتعليم الموسيقي حسب النموذج الغربي، الدور المركزي في تكريس هذا التوجّه القائم على الخلط غير المدروس، بين مكوّنات نظامين موسيقيين مختلفين تمام الاختلاف:
- نظام «تونالي» خاص بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، يعتمد على سلّم معدّل ثابت الدرجات، وعلى أساس مقاميْ الكبير والصغير (ماجور- مينور) والإيقاع المنتظم النبرات، مع اعتماد التدوين والكتابة التوافقية العمودية والتوزيع الأوركسترالي، الخ.
نظام «مقامي»5 وذو «تقاليد شفوية» الخاص بالموسيقى العربيّة والإسلامية عموما، ركائزه مغايرة تماما...
وبإيجاز شديد، يمكن القول بأنّ مميّزات كلّ منهما تبرز واضحة جليّة من خلال الموسيقى ذاتها، وهيكلتها، وتراكيبها اللحنية والإيقاعية، والآلات الموسيقية والتقنيات الصوتية والوظيفة الاجتماعية6.
الاستثمار في الانسان والموسيقى :
[الموروث الموسيقي العربي كأحد مظاهر الهويّة ورافد هام للتنمية الشاملة]
رغم أهمية هذه المسألة، فلا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ لها وضعيّة خاصة في وطننا العربي (كما هو الحال بالنسبة للعديد من شعوب العالم)، وإضافة إلى ما تمّت الإشارة إلية حول الخصوصية الموسيقية البحتة ووجوب الحفاظ عليها لارتباطها الوثيق بالهوية وإثبات الذات، توجد مسائل أخرى يستوجب الانتباه لها، من بينها:
1) الهوية بين التراث والتجديد:
إنّ ما يسمّيه البعض: « أزمة الثقافة العربيّة المعاصرة» (ومن ضمنها الموسيقى)، هو في واقع الأمر «أزمة مجتمع بالأساس»، يحاول جاهدا مواصلة الطريق تحت أعباء عولمة لا تعرف إلاّ منطق القوّة والتعسّف على الخصوصيات. ورفع هذا التحدّي يستوجب تأمّلا عميقا وعزيمة صادقة والقدرة على إرساء حوار توفيقي بات مطلبا، بل شرطا أساسيّا، بين محور«علمية التنمية الاجتماعية الشاملة»، ومحور «التنمية العلمية التكنولوجية»، أي التوصّل إلى اعتماد التراث نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية، واعتبار التجديد إعادة تفسير التراث طبقا لحاجيات العصر... فالتراث والتجديد يؤسّسان معا علما جديدا هو وصف للحاضر وكأنّه ماض يتحرّك، ووصف للماضي على أنّه حاضر معاش...
فالمطلوب في نظرنا: الاقتناع بكون المعركة الحقيقيّة الآن، هي معركة فكريّة وحضاريّة بالأساس، وهي لا تقلّ أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلّحة - إن لم تكن أساسها - وإنّ الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنّها هزيمة عسكرية. فالخطر الداهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض، بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد. وسواء تعلّق الأمر بصيانة التراث (كنز الأمّة الذي لا يُقدّر بثمن) أو بعمليات التجديد الحديثة (وهي تقوم شاهدا على حيويّة الشعوب وقدرتها على مواصلة الإبداع والابتكار). وفيما يتعلّق بالموسيقى، يجدر بنا أن نبادر من الآن وقبل فوات الأوان، إلى مراجعة أساليبنا ودرس مختلف أشكال لغتنا الموسيقية ومكوّناتها انطلاقا من الداخل أي من الأصل والفحوى.
2) العالميّة انتصار للهوية المحليّة:
هذه المسؤولية، وإن كانت تتحمّلها جهات عدّة كالبثّ الموسيقي بمختلف قنواته والممارسات الموسيقية وما يطغى على أغلبيتها – حسب الواقع الملموس - من أبعاد استهلاكية وتجارية... فإنّ المسألة التعليمية والتربوية والثقافيّة عموما، تبقى هي السّبب المركزي في تكريس مثل هذا الوضع وتفاقم سلبياته، ولا شكّ أنّ الأخصائيين عندما يتمّ تكوينهم طبقا لروح فنّهم وعندما يكونون مدركين لمبادئه وخاصياته وواعين بأهميّة تقاليدهم وثرائها وملمّين بمعطيات واقعهم الاجتماعي وحقيقة طابعهم القومي، سيُسهمون دون شكّـ، في بناء مستقبل مطّرد لموسيقانا أي لذاتيتنا ونمط عيشنا باعتبارنا كيانا ثقافيّا ووطنيّا يتبوّأ مكانة حقيقيّة إلى جانب ثقافات العالم الأخرى.
لقد بات واضحا في المجال الموسيقي (وفي غيره من المجالات الحسّاسة الأخرى)، أنّه يستحيل تحقيق الهوية وإثبات الذات إذا كانت المواد والأساليب الدراسيّة مستوردة ومركّبة تركيبا بطريقة مفتعلة وعشوائية على المكوّنات الأساسية للموسيقى المحلّية... كما أنّه لا يمكن للموسيقى أن تصل إلى العالميّة إذا لم تكن محلّية خالصة... وما مسألة الانتشار خارج الحدود في الواقع إلاّ مسألة ثانويّة تخضع لعوامل معظمها غير فنّية تعود إلى توفّر الظروف ووسائل الإشهار والإعلام والإمكانيات المادية والتقنية والإمكانات الاقتصادية والتجارية وغيرها من الضغوط الخارجية التي أصبحت اليوم تتحكّم بالإنتاج الفنّي وتقيّد روحه وتضيّق أنفاسه.
صحيح أنّ تجارب التجديد التي ظهرت خلال العقود الماضية، كانت وليدة حاجات اجتماعيّة واقتصادية وسياسيّة في المقام الأوّل، جاءت لتساير التغيّرات العميقة التي شهدها المجتمع العربي في نمط عيشه وتطوّر وسائله الاقتصاديّة وطرائق اتّصاله المستوردة أساسا من الغرب. فقد وجد الموسيقي العربي نفسه أمام صعوبات وتحدّيات جمّة كان عليه مواجهتها، بل وإيجاد كيفيّة تعامل ناجعة إزاء ما تطرحه من معطيات جديدة (كالترقيم / التدوين والتوزيع الموسيقي، أساليب التلحين، تقنيات الأداء الصوتي والآلي، تركيبة التخت والآلات الحديثة، طرق التعليم، تقنيات التسجيل؛ توفير الأدوات والآلات الموسيقيّة، تشريع يضبط الإطار الاجتماعي والقانوني للعمل الموسيقي ولوضعية الموسيقيين...
اعتبارات هامة لا يمكن التصرّف معها باختيار الحلول السهلة والوقتية، القائمة على عقليّة الاستهلاك والاقتباس، بحجّة مواكبة العصر.ا
بإمكان الموسيقى العربية الحفاظ على هويتها مع الاستفادة من الموسيقات الأخرى وبما تمّ تحقيقه في المجال الموسيقي عموما، ذلك إذا ما توفّرت لها الشروط الكفيلة بتجاوز الصعوبات التي ما فتئت تعرقل مسيرتها. وقد قام عدد من الموسيقيين، تفاوتت وتباينت وجهات نظرهم في خطّة التطوير وطرق التنفيذ، بمحاولات حقّقت نسبة من النجاح أحيانا ونسبة من الإخفاق أحيانا أخرى... ومهما يكن من الأمر، فالموسيقى العربية ليست بصدد إطلاق زفرات الموت الأخيرة، إنّما قد تكون مريضة، ولكنّ المريض لا يجب أن يُترك فريسة للموت بل ينبغي علاجه، وكلّ السرّ يكمن في تشخيص المرض وكيفية العلاج.
الأمر الذي يتطلّب منّا إعادة النظر في بعض المفاهيم المتداولة كمسلّمات والتعامل معها على أساس نقدي بنّاء، فإضافة إلى الجانب الموسيقي، نذكر على المستوى الفكري والاجتماعي:
العناية أكثر بنوعية التكوين الموسيقي التخصّصي والثقافة الموسيقية عامة، مع ضرورة إقحام الأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية وحقول المعرفة المختلفة وتوضيح الصّلة الكائنة بينها وبين الظاهرة الموسيقية؛ ذلك من شأنه أن يساعد على التحرّر من متاهات الازدواجية والانفصام في الشخصية وحالة التأرجح بين خطاب يسعى إلى تكريس سياسة المحافظة «الموسيقاغرافية »، وآخر يحثّ على العولمة في المطلق ويعمل على اعتماد الحلول السهلة (كالتقليد) وإتباع سلوك التفتّح بدعوى إن الموسيقى (بمفهوم النموذج الغربي طبعا) « لغة عالمية» موحّدة، وهو – كما سبق وبينّا - ادّعاء باطل. وإنّ ما يجب التأكيد عليه هنا هو أن الاستمرار في هذا الاعتقاد أو الإفلات منه، يبقى رهن وعي الشعوب ومدى قدرتها وعزمها على ولوج باب التغيّر والتحرّر والتميّز.
واليوم، بحكم ما جدّ من مستجدّات وما ظهر من مكتشفات وما طرح ويطرح، من رهانات وتحدّيات بفعل ظاهرة العولمة التي تنحُو بشكل أو آخر، نحو التنميط والنمذجة للقيم الثقافية، البحث بات محتّما في مدى تلبية الموسيقى العربية للحاجات الفنّية والوظائفية والجمالية والروحية للإنسان العربي، وقد تقلصت وانحسرت أدوارها عن الحياة اليومية التي أفرزتها، وانسلخت عن الجذور التي أوجدتها. فهي في حاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى مراجعة علاقتها بمرجعياتها الثقافية والحضارية، وكذلك علاقتها بثقافة الآخر، عسى أن تتمكّن من الانخراط في العصر والأخذ بأسباب التقدّم مع الحفاظ على مقوماتها الشخصية ومرتكزاتها الذاتية بعيدا عن آفات التهجين والتبعيّة.
إنّ فتح مجال التأثّر بالموسيقى أو الموسيقات الأخرى يختلف وقعه باختلاف الواقع الحضاري، فهو لدى المجتمعات المهيمنة تكنولوجيا واقتصاديا، ليس ذا خطورة ملحوظة، بل نراه يفيد ويقوّي العمل الإبداعي إذ يتم هضمه وانصهاره دون مساس بالجوهر. لكن ذلك لا ينطبق على المجتمعات النامية التي ليست في حاجة في وضعها الرّاهن، إلى الاستعارة والاستفادة من الموسيقات الأخرى بقدر ما هي في حاجة أكثر إلى استرجاع وإحياء وتأكيد الهويّة الثقافية المسلوبة والتي طالما هدّدتها وتعسّفت عليها عناصر خارجية، محدثة تأثيرا بالغ الخطورة في عقلية السكّان الذين صاروا بعد سنوات من الإذلال والاستنزاف يعيشون- بالرغم من عراقة تقاليدهم - على التقليد والتبعية والاستهلاك لكلّ ما هو مستورد، وكأنّهم قادمون من عدم! فإثبات الذّات هنا يصبح شرطا أساسيا لأيّ تفتّح نريده فاعلا ومفيدا على درب النموّ والتطوّر في مفهومه الشمولي.
علما وأنّ الخوض في قضايا الهويّة والإبداع يكتسي في المجال الموسيقي صعوبة خاصة تعود أساسا إلى طبيعة المادة الموسيقيّة ذاتها والتي تجعل من هذا الفنّ – بالرغم من خصوبة الإبداع فيه، بل واعتماده أساسا على الإبداع – أكثر الفنون تحفّظا وأقلّها قابلية لعملية التجديد التي يتطلّب تركيزها وقتا أكثر ونفسا أطول، مع اعتبار العديد من المسائل الفنّية والتقنية السالفة الذكر...
فالمسألة ترتبط أساسا في رأينا بتوضيح الاتجاه الذي نرومه لأنفسنا، أي هل أنّنا مصمّمون على أن تكون لنا ذاتية ثقافية، وهي الظاهرة الأساسية للذاتية القومية ؟ أم أنّنا نفضّل أن نُصبح، في يوم ما، نكرة من النكرات نعيش على التبعية وننشد الذّوبان في شخصيّة الآخر...؟ وبالتالي كيف يمكننا تجاوز العقبات وربط الحاضر بالماضي والتطلّع إلى المستقبل باستغلال المكتسبات المنهجية والتكنولوجية المعاصرة والعمل على تطويع ما يصلح منها لتحقيق أهدافنا الثقافيّة والفنّية انطلاقا من خصوصيات أصالتنا الحضاريّة، سعيا إلى نحت ملامح إنسان الغد الذي ننشده عقلا وسلوكا وخلقا وتذوّقا.
استنتاج عام:
اعتمادا على ما تمّ ذكره، يبدو واضحا أنّ الموروث الموسيقي هو أحد مظاهر الهويّة ورافد هام للتنمية الشاملة لدى الشعوب.
ذلك أنّ الموسيقى مثلُها مثل بقيّة الفنون والآداب عموما –هذه الأشكال المحدّدة للاتّصال الإنساني– توضّح إطارنا الذّهني ونسيجَنا الوجداني ولغتنا ومجالنا الصوتي والبصري وفهمنا للماضي والحاضر ومشاعرنا تجاه الآخرين وقدرتنا على الإحساس؛ فهي منتج مهمّ للإطار الذّهني والذّوقي الذي تستخدمه الجماعات لكي تفهم وتحدّد الأسلوب الذي يعمل به المجتمع. لذا، فالحفاظ على خصوصياتها يعدّ حفاظا على الوجود والتميّز، ويسمح بالتالي بالانخراط الفعلي في عولمة حقيقيّة قوامها التنوّع والتكامل لا بين الأفراد والجماعات فحسب، بل وبين مجتمعات وشعوب هذا العالم...
كما أنّ الثقافة ومن ضمنها الموسيقى، هي أحد أهمّ المظاهر في تحديد هويّة المجتمعات وتميّزها في مجال التنوّع الثقافي خلافا لمفهوم أحديّة الثقافة وتنميطها المروّج له غربيا (تجاريا وإعلاميا)، كما أنّ الرّبط بين الموسيقى والهويّة يعدّ من بين المكوّنات الأساسيّة لقيام نهضة فنّية ثابتة الجذور، وهذا الربط يعدّ عنصرا ضروريا في استراتيجية التقدّم والتنمية، بعيدا عن آفة التنميط والنمذجة، سواء تعلّق الأمر بالإبداع الفنّي أو بالبحث العلمي.
هكذا، فبحكم علاقتها العضويّة بالفرد والمجتمع، تمثّل الموسيقى في جوهرها ظاهرة أساسيّة لا في تحديد الهويّة فحسب، بل وكذلك في تهذيب الذوق وإبراز القدرة على الإبداع والابتكار والتميّز، وأن تساهم بالتالي، فعليّا في الثقافة العالمية. ممّا يجعلها من الروافد الأساسية في تحقيق التنمية البشرية الشاملة: فكريا، جماليّا، اجتماعيّا واقتصاديّا؛ أي الاستثمار في الانسان والموسيقى...
وختاما، علينا أن نذكّر بـ
« أنّ شعبا يفقد ثقافته، لغته وموسيقاه، شعب حكم على نفسه بالفناء باعتباره كيانا ثقافيّا ووطنيّا ويعجِزُ بالتالي عنِ الإسهامِ في ثقافةٍ عالميّةٍ».
ذلك أنّ العالمية المنشودة لا يُمكن تحقيقها إلاّ من خلال الانتصارِ الفعليّ للمحليّة، بل وأنّه من السّبل إلى العالميّة الفعليّة، رسوخ القدم في المحليّة.
الهوامش :
1. سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية نذكّر هنا بكتاب تأثير الموسيقى في الإنسان والحيوان، لـ ابن الهيثم العالم الفيزيائي الموسوعي (965 - 1040) الذي يمكن اعتباره مؤسس "علم النفس التجريبي".
2. بيولوجياً، جسد الإنسان فيه إيقاع (في دقات القلب وفيما يسمى بالساعة البيولوجية، في تحركات الخلايا وفي المشْي والتنفس)، فالجسد كله يستجيب للإيقاع وليس الأذن فقط. وقد سبق لابن سينا (980 - 1037) الذي عرف بتقديره لقوّة الموسيقى العلاجية، أن شرح ذلك في مصنّفه الشهير "القانون في الطب" حيث عمّق النّظر في العلاقة الخاصّة بين الموسيقى والطبّ (والتي تواصلت وتكرّرت شرقا وغربا إلى حدود القرن التاسع عشر).
3. إخوان الصفا: رسائل، ط. بيروت، ج 2، ص 196؛ مؤلفات الكندي الموسيقية، بغداد، 1962، ص 137.
4. أصدرت اليونسكو بالاشتراك مع الأمم المتحدة، تقريرا بعنوان: " تنوعنا الخلاق" (1995)، ثم جاء تباعا:
- مؤتمر ستوكهولم (2 أبريل 1998)، حيث تمّ تبني برنامج اليونسكو الخاص بسياسات التنمية الثقافية.
- في 2 نوفمبر 2001 تبنّت اليونسكو إعلانا عالميا جديدا للتنوّع الثقافي لكي يكون دليل عمل لها إلى جانب الإعلان السابق.
- في أكتوبر 2003 طلبت الجمعية العامة لليونسكو من مديرها العام إعداد مسودة لاتفاقية عن التنوع الثقافي لمناقشتها في اجتماع الجمعية العمومية في خريف 2005. وفي ربيع 2005 اقترحت لجنة من الخبراء تغيير المسمى ليكون "اتفاقية حماية وتنمية تنوع المحتويات الثقافية والتعبيرات الفنية".
- وبالرغم من أهمية هذا النوع من الاتفاقيات التي يمكن أن تكون أداة مهمة بلا شك، إلا أنها خطوة لا بد أن تكون مصحوبة بتحركات اجتماعية تدفع الحكومات لتهيئة الظروف الكفيلة بازدهار التنوع، بعيدا عن سيطرة التكتلات الثقافية العملاقة وتحكمها.
راجع في هذا الصدد، اليونسكو – الأمم المتحدة: تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، الطبعة العربية بعنوان: "التنوع البشري الخلاق" (ترجمة جابر عصفور)، المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة (كتاب رقم 27)، القاهرة 1997؛ "اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي"، لعام 1972؛ اتفاقيّة بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي (باريس 17 أكتوبر / تشرين الأول، 2003).
5. هذا الغالب، لكنّنا نجد في التراث الموسيقي العربي، والشعبي بصورة خاصة، أنظمة أخرى كالخماسي وغيره. راجع، "قضايا السلم والمقام في الموسيقى العربية"، البحث الموسيقي، المجمع العربي للموسيقى / جامعة الدول العربية، بغداد – عمان، 2002 - 2003.
6. للتفاصيل، راجع الملحق: محمود قطاط، "من مميّزات التراث الموسيقي العربي الإسلامي".
المراجع:
- للتوسّع في المحاور المتطرّق إليها، نحيل القارئ إلى العناوين التالية:
- محمود قطاط: " التجديد في الإنتاج الموسيقي العربي الحديث " الإنتاج الموسيقي العربي قديما وحديثا (ملتقى خميس الترنان)، الدار التونسية للنشر، تونس 1984، ص 86 ـ106.
- -------: "التربية الموسيقية في الوطن العربي بين الأصالة والتبعية"، مجلة الموسيقى العـربية، عـــدد 3 بغداد، 983، ص 10-18.
- -------: "كـيف نجمع ونصنف الموسيـقى الشعبية / خاصـيات البحث الميدانـي في الموسيقى الشعــبــيـة"، فنـون، عدد 1، تونس 1984؛ وعدد 2، تونس 1984، ص 58 ـ 66.
- -------: دراسات في الموسيقــى العربيــة، دار الحـــوارـ اللاذقية / سوريـا، 1987، 116 ص.
- --------: "من قوالب التراث الموسيقى العربي الإسلامي/ النوبـة"، الحيــاة الثقافــية، عــدد 63، تونــس، 1992 ص 17-41.
- -------: " الموسيقـى مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية": موسوعــة الفــن العربــي الإسلامــي، تونــس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون، 1994، الجزء الأوّل / ص 197-215.
- ------: "راهـن الموسيقـى العربيـة وتحدّيـات العصر"، الحياة الموسيقية، العدد 33، دمشق، 2004، ص 10-37؛ المجلة العربية للثقافة: التراث والموسيقى، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، العدد 48، ديسمبر 2005، 09 – 31.
- ------: مجلة البحث الموسيقي – المجمع العربي للموسيقى / جامعة الدول العربية، بغداد – عمان (إعداد وإشراف):
- المجلد الثاني، 2002 –2003:" قضايا السلم والمقام في الموسيقى العربية "، 128 ص.
- المجلد الثالث، 2004: " الصوتيات والإعلامية في الموسيقى العربية "، 120 ص
- المجلد الرابع، 2005: " البحث العلمي في الموسيقى العربية"، 192 ص.
- المجلد الخامس، 2006: " البحث الموسيقي بين تعدد الاختصاص وتضافره"، 124ص.
- المجلد السادس، 2007: "التربية والتعليم في الموسيقى العربية"، 150 ص.
- المجلد الحادي عشر، 2012: "التنوّع في الموسيقى العربية "، 204ص.
- المجلد الخامس عشر، 2016: "من السبل إلى العالمية رسوخ القدم في المحليّة"، 166ص
- -------: "الحفاظ على الهوية العربية من خلال الموسيقى [الموسيقى أحد أهم مظاهر الهوية العربية]"، أعمال المؤتمر الدولي حول: "التوجهات والرؤى المستقبلية في الموسيقى العربية" (مسقط – سلطنة عُمان: 11-14 ديسمبر 2004)، منشورات مركز عُمان للموسيقى التقليدية / وزارة الإعلام، مسقط 2006 (مراجعة وتصدير)
- ------: "الاعتناء بالمأثورات الشعبية ضمانا للهوية والتعددية الثقافية"، أنماط المأثور الموسيقي العُماني / دراسة توثيقية وصفية، مركز عُمان للموسيقى التقليدية – وزارة الإعلام، مسقط 2008. (مراجعة وتصدير)
- ------: "التربية والتعليم في مجال الموسيقى كأحد مظاهر الهوية وتأكيد الذات"، بحوث مهداة إلى الأب لويس الحاج – جامعة الروح القدس – الكسليك (كلية الموسيقى)، لبنان 2008، ص 277 – 298.
- -------: "الاستلاب الموسيقي في ظل النظام العالمي الجديد"، مجلة البحث الموسيقي/المجمع العربي للموسيقى، المجلد الخامس عشر، 2016، ص 9 – 28.
- ------: "المقاميّة العربيّة أصول وروافد"، المقاميّة من منظور الحداثة، تونس – النجمة الزهراء، 2019، ص 11 - 63.
- ------: "دور فلاسفة حضارة العربية الإسلاميّة في إرساء العلوم الموسيقيّة وتطويرها"، أنشطة مركز عُمان للموسيقى التقليديّة لعام 2019 – مسقط، 58 ص.
الصور :
1. https://www.pinterest.com/pin/525865693992676280/
2. https://i.pinimg.com/originals/88/09/a4/ 8809a485ef700b9965eda2 44233cfb71.jpg
3. https://pbs.twimg.com/media/DzL0fHSW0AApEPu.jpg
4. https://i.pinimg.com/originals/d7/79/dd/d779dd31586e3e35f8538a018b4ddc61.jpg