تدوين الشعر الجاهلي وتدوين الشعر النبطي مقارنات واستنتاجات
العدد 6 - أدب شعبي
تشابه الشعر النبطي مع الشعر العربي القديم لا يتوقف عند حد الاتفاق اللافت للنظر بينهما في المضامين والأشكال الفنية، ولا في تشابه الظروف الاجتماعية والسياسية والخلفية الثقافية لكل منهما، ولا في سياقات الإبداع والنظم الرواية والأداء، بل يتعدى ذلك إلى الاتفاق في التطورات السياسية والاجتماعية والظروف الانتقالية التي أدت إلى نشاط حركة التدوين لكليهما؛ وهذا يفتح نافذة أخرى للدراسات المقارنة بين هذين الموروثين والاستفادة من النتائج العلمية التي نتوصل لها من دراسة أحدهما وتوظيفها لفهم الآخر، خصوصاً فيما يتعلق بنظرية الصياغة الشفهية وقضايا الشك والانتحال. الآثار السياسية والاجتماعية المترتبة على قيام الدولة السعودية الحديثة تتشابه في كثير من جوانبها مع تلك التي أعقبت ظهور الدعوة المحمدية وقيام الدولة الإسلامية. يكفيك أن البدو كانوا يسمون العصر الذي سبق قيام الدولة السعودية الحديثة «أيام الجهل» أو «أيام الجاهلية»، تماماً مثل ما كان العصر الذي سبق قيام الدعوة المحمدية يسمى العصر الجاهلي. ظهور سلطة مركزية تدعمها عقيدة دينية عمل في كلتا الحالتين على ترسيخ الاستقرار السياسي في الجزيرة العربية وتعزيز وحدة المجتمع بكل طوائفه وقبائله وصهره في بوتقة الدولة الواحدة التي تتجاوز مستوى التنظيم القبلي وتنبذ العصبية القبلية وتعمل على تكريس الأخوة والألفة بين مختلف فئات المجتمع. كما أدى ذلك بالتدريج إلى انتشار التعليم وتفشي الكتابة والتعويل عليها في التوثيق والتدوين بدلاً من الرواية الشفهية. وفي كلتا الحالتين نجد أنه لما ترسخت سلطة الدولة واستتب الأمن طفقت كافة القبائل والمناطق تراجع أنسابها وتستذكر تاريخها وتجمع أشعارها وتدونها. وحظي الشعر بعناية خاصة لأنه يكاد يكون الوثيقة الوحيدة والمصدر الأشمل الذي يمكن التعويل عليه لمراجعة التاريخ القبلي والأنساب. وهذا هو شأن الأمم فإنها خلال انتقالها من مراحل الثقافة الشفهية إلى مراحل الثقافة الكتابية تحرص على تدوين كل ما يمكنها تدوينه من موروثات العصور الشفهية. وغالباً ما تبدأ حركة التدوين والتوثيق بداية متواضعة تقتصر على تدوين النصوص العارية ثم تنمو وتترعرع مع تقدم الزمن، وكلما ارتخت الروابط بين ثقافة الماضي وثقافة الحاضر زادت الحاجة لإضافة التعليقات والشروحات والمعلومات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والثقافية واللغوية التي تفسر النصوص وتقربها إلى ذهنية المتلقي.
لو دققنا النظر في ظروف وملابسات تدوين الشعر الجاهلي, التي بدأت في القرن الثاني الهجري وظروف تدوين الشعر النبطي, التي نشطت نشاطاً ملحوظاً في القرن الماضي لوجدنا أنه بالرغم من التشابه الكبير بين الحالتين فإن الأمر لا يخلو من بعض الاختلافات التي ينبغي التنبه لها. من المعلوم أن الكتابة العربية لم تتطور بدرجة تساعد على انتشارها وتجعل من استخدامها أمراً ميسوراً إلا بعد ظهور الإسلام الذي شجع على تعلم القراءة والكتابة لأنهما من ضرورات التفقه في أمور الدين وقراءة القرآن. ولذلك قلما تخلو بلدة من بلدان وسط الجزيرة العربية منذ ظهر الإسلام من بعض المشائخ والقضاة وأشخاص آخرين ممن لهم ولو بعض الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة. وكان من بين شعراء النبط الأوائل من سكان الحاضرة من كانت له معرفة بالكتابة أو من كان باستطاعته إن كان أميًّا أن يستعين بكاتب يكتب له شعره. أما مجتمع البادية فقد ظل في مجمله مجتمعا أميًّا يعيش الحالة الشفهية. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن صلة البادية بالحاضرة جعلت البدو على علم، وإن لم تكن معرفة تامة، بما لدى الحضر من أسباب الحضارة التي لا تتوافر في البادية مثل الكتابة. بل إن بعض مشائخ القبائل كان لديه كاتب تشمل مهامه إمامة الشيخ وجماعته في الصلاة وربما قراءة بعض كتب التراث في مجلس الشيخ، إضافة إلى قراءة ما يرد للشيخ من رسائل خطية أو وثائق وتحرير الرد عليها. وقد تشمل مهام الكاتب كتابة ما يقوله الشيخ من قصائد وما يقوله فيه الآخرون من مدائح. كان البدو على وعي بشيء اسمه الكتابة وربما لجأ البعض منهم إليها في الحالات النادرة والضرورية. لكن البدو أنفسهم لا يقرأون ولا يستخدمون الكتابة في شؤونهم اليومية. ويلجأ الحضر عموما إلى استخدام الكتابة بشكل أكثر بكثير من استخدامها في البادية، وذلك لضرورات دينية وشرعية وقضايا إرث ووصايا وصكوك تملك وما شابه ذلك. وينتشر التعليم في بعض الحواضر والقرى بنسب متفاوتة وإن كانت نسباً ضئيلة مقارنة بالوضع الراهن. ويكفي أن نعلم بأن الحاضرة يحكمّون في خلافاتهم القضاء الشرعي المستمد من القرآن والسنة المكتوبة والذي لا تنفذ قراراته عادة إلا بعد تحريرها وختمها. هذا بينما يلجأ البدو إلى العوارف الذين تستند أحكامهم إلى السوابق والأعراف القبلية المتوارثة شفاهيًّا.
هذا يعني أن الكتابة قامت إلى حدٍّ ما بدور في حفظ الشعر النبطي منذ نشأته الأولى وخلال مراحله المتتالية، وهو دور لم يتح لها أن تقوم به بالنسبة للشعر الجاهلي الذي لم يبدأ تدوينه إلا مع نهاية العصر الأموي. هذه المخطوطات القديمة هي الأساس الذي استمد منه النساخ المتأخرون مثل عبدالرحمن الربيعي ومحمد بن يحيى مادتهم واستمدت منها دواوين الشعر النبطي المطبوعة لاحقاً مادتها. إلا أن حفظ القصائد النبطية القديمة عن طريق التدوين يفرض درجة عالية من الانتقائية. في مثل هذه الأوضاع والظروف التي يندر فيها المتعلمون ولا يتوافر فيها الكتبة إلا لدى علية القوم من الأمراء والشيوخ والوجهاء والموسرين فإنه في الغالب الأعم لن يحظ بالتدوين إلا القصائد التي قالها هؤلاء أو قيلت فيهم أو التي يقولها شعراء الحاضرة المتعلمون. أما قصائد الشعراء الأميين في القرى النائية وأعماق البادية، حيث لا كتبة ولا نساخ، فإنها سرعان ما يطويها النسيان وتنمحي من الذاكرة الجماعية.
ما وصلنا مكتوباً من الشعر النبطي القديم لا يمثل إلا نسبة ضئيلة جدًّا من مجمل هذا الموروث الشعري إلا أن هذا الكم، رغم قلته وانتقائيته، يعطينا صورة لا بأس بها عن واقعه الأدبي واللغوي وما مر به من تطورات في مختلف مراحله المتتالية، وهذه خاصية يتميز بها الشعر النبطي عن الشعر الجاهلي. كما يتميز الشعر النبطي عن الشعر الجاهلي في أن نصوصاً منه وصلتنا مسجلة بأصوات الفحول من الشعراء المتأخرين والرواة الأميين من البادية والحاضرة الذين يسردون الأشعار من الذاكرة والذين يمثلون هذا الموروث الشعري على صورته الحقيقية وينتهجون نفس الطرق التقليدية المتبعة منذ القدم في استظهار النصوص الشعرية من الذاكرة وفي رواية الشعر وإلقائه وتلقيه، والتي نرى أنها استمرار لما كانت عليه منذ العصر الجاهلي. كما أن هذه التسجيلات الصوتية سمحت لنا أن نستمع إلى الشاعر أو الراوي يسرد بصوته المناسبة الباعثة على نظم القصيدة والأحداث التي تخلدها، إضافة إلى الشروح والتعليقات التي تضيء عباراتها الغامضة ومفرداتها الغريبة وما تتضمنه من أسماء لمواقع غير معروفة وأشخاص مجهولين. ثم إن تسجيل الشاعر أو الراوي لنفس النص الشعري في ظروف مختلفة ومناسبات متباعدة يمكننا من معرفة ما إذا طرأت أي تغيرات على النص من رواية لأخرى.
تلك هي الميزات التي يختص بها الشعر النبطي دون الجاهلي، لكن الشعر الجاهلي هو أيضاً يختص بميزات لا تقل عن تلك في خطورة الآثار المترتبة عليها أهمها الدوافع الباعثة إلى جمعه ودراسته والاحتفاء به. الاهتمام بالشعر الجاهلي نابع أساساً من الاهتمام باللغة العربية الفصحى التي تحتضن العلوم الشرعية ومسائل العقيدة وشعائر الدين وتعاليمه التي يحتاج كل مسلم إلى التفقه فيها. ومعلوم أن الدراسات الأدبية واللغوية عند العرب كان مبعثها حفظ الألسن وصونها من الزلل حين تلاوة الذكر الحكيم بالإضافة إلى ضرورة الوعي اللغوي ومعرفة أسرار العربية الفصحى من أجل تدبر الآيات القرآنية وتفسير معانيها وتلمس أوجه الإعجاز فيها. هذا أعطى للشعر الجاهلي، بحكم أنه المنبع الذي يستقي منه علماء العربية قواعد الفصحى وأسس البلاغة ومفردات اللغة والمعاجم، مكانة خاصة في أفئدة كل العرب والمسلمين وأصبح منذ بداية عصر التدوين حتى الآن يشكل مادة أساسية في أي منهج مدرسي وفي كافة المستويات التربوية، وجندت لجمعه ودراسته وشرحه خيرة العقول ونال من التمحيص والتحقيق والعناية ما لم ينل الشعر النبطي منه ولو نسبة ضئيلة. وبحكم ارتباط العربية الفصحى بالدين أصبحت لغة العلم والتعليم والأدب والفكر وكافة التعاملات والتخاطبات الرسمية، وتحولت بذلك إلى رمز يوحد مختلف شعوب الأمة العربية والإسلامية. وبينما يحظى الشعر الجاهلي باحترام يصل إلى حد التقديس يُنظر إلى الشعر النبطي وكافة الأشعار العامية التي تنظم باللهجات المحلية بازدراء واستهجان ويُعامل الدارسون لها بقدر غير قليل من الريبة والتوجس تصل إلى حد التشكك في نواياهم وأهدافهم والطعن في انتمائهم وولائهم. يرى الكثيرون أن الشعر النبطي يمثل وجهاً من أوجه التخلف الثقافي وعنصراً من عناصر الفرقة الاجتماعية والتشرذم السياسي وعاملاً من عوامل إيقاظ الضغائن وإحياء العصبيات وأن الاهتمام به ودراسته عبث لا طائل من ورائه، بل إنه يعمل على إثارة القلاقل والفتن والاضطرابات القبلية والإقليمية، لذا فمن الأفضل دفنه ونسيانه وعدم الاكتراث به. هذا مع العلم بأن علماء العرب الأوائل، وهم قدوتنا، لم يجدوا غضاضة في جمع الشعر الجاهلي وحفظه على ما فيه من مشاحنات قبلية، بل وأحياناً مخالفة لتعاليم الدين الحنيف، لأنهم رأوا فيه خدمة لعلوم اللغة ولفائدته أيضاً في تحقيق المواقع الجغرافية وفي ترصد التاريخ القبلي والأنساب وغيرها.
انصرف الأكاديميون عن جمع الشعر النبطي ودراسته وتركوا هذه المهمة لأشباه الأميين وأنصاف المتعلمين الذين تعوزهم الخبرة في مجال النشر والتأليف ويفتقرون إلى المنهجية العلمية والنظرة الموضوعية. من يتفحص ما تروجه دور النشر الآن من مجاميع الشعر النبطي، وهو كثير، يجد أن الغالبية منها لم تراع فيه أصول التحقيق والتدقيق ولم يبذل فيه عناء يذكر لجلاء غوامضه وتفسير معانيه وشرح مفرداته، والكثير منها يتسم بعدم المبالاة، ويغلب عليه سوء الإخراج وعدم تحري الدقة، ناهيك عن الأخطاء الإملائية والطباعية الفاحشة. كما أن جامعي هذه الدواوين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حياة الشاعر وتحقيق اسمه ونسبه، والمناسبات التي قال فيها قصائده، أو ما تلمح إليه القصائد من أخبار ووقائع أو تحديد الأماكن التي قد ترد في بعض القصائد. ونادراً ما يذكر الجماع المصادر التي استقوا منها مادتهم، وما إذا كانت خطية أم شفهية. ويقتصر جهد البعض منهم على مجرد النقل المباشر من مصادر سبق نشرها دون الإشارة إلى هذه المصادر. كل ذلك يحد من قيمة هذه الدواوين كمصادر موثوقة يمكن الاعتماد عليها في التعرف على الشعر النبطي ويساهم في تكريس الأفكار الخاطئة عنه وعن قيمته الفنية وأهميته العلمية.
لهذه الأسباب كان الشعر النبطي أقل حصانة من الشعر الجاهلي وأكثر عرضة لعمليات الانتحال التي تعرض لها الشعر الجاهلي وأتى على ذكرها محمد بن سلام الجمحي في مواقع مختلفة من كتابه طبقات فحول الشعراء. يلاحظ المطلع على دواوين الشعر النبطي المطبوعة ابتداء من العقد الثامن من القرن العشرين أن معظمها تخص قبائل بعينها ألفها شعراء ورواة من هذه القبائل بهدف تخليد مفاخر قبائلهم وتسجيل تواريخها وأنسابها وأشعارها، لذا جاءت معظم هذه الدواوين بعيدة عن الموضوعية وغابت عنها أصول التحقيق العلمي وغلب عليها طابع التحيز والعصبية القبلية، بكل ما تعنيه هذه العصبية من محاولة تلميع صورة القبيلة واطّراح المثالب ونفيها عنها وادّعاء ما ليس لها من أيام ووقائع ومفاخر وأشعار. وهكذا فإن تأليف مثل هذه الدواوين القبلية لم يكن الدافع وراءه خدمة اللغة والأدب والتاريخ والعلم على وجه العموم، بل كانت تشكل حلقة من حلقات المفاخرات القبلية والنقائض الشعرية والمعارضات التي استشرت بين شعراء القبائل بعد أن تأسست الدولة السعودية وترسخت سلطتها المركزية وقويت قبضتها على القبائل وقضت عليها ككيانات سياسية مستقلة. مثلما استعر الصراع بين شعراء القبائل في أيام الدولة الأموية، من جرير إلى الفرزدق إلى الأخطل إلى البعيث إلى الراعي النميري، وهلم جرّا، كذلك بعد قيام الدولة السعودية الحديثة استعر الصراع بين شعراء شمر وعنزة وشعراء الدواسر وقحطان وشعراء سبيع والدواسر وشعراء حرب وعتيبة. ولقد استثمر هؤلاء الشعراء آلة التسجيل بشكل مذهل في ترويج نقائضهم على أشرطة الكاسيت فانتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم وكانوا يستمعون إليها خصوصاً أثناء السفر بالسيارات على الخطوط الطويلة للتسلي وقطع الطريق. ولقد تسببت هذه النقائض في إثارة الكثير من الفتن والمشاكل مما اضطر السلطات أحياناً إلى إلقاء القبض على بعض هؤلاء الشعراء وإيداعهم السجون وعدم إطلاق سراحهم إلا بعد أخذ التعهدات عليهم بعدم العودة إلى التعرض للقبائل الأخرى والناس الآخرين في أشعارهم. وهذه من ضمن الدعاوى التي تعزز مواقف المناهضين للشعر النبطي والداعين إلى نبذه وعدم الاحتفاء به. ولكن بعيداً عما تحمله هذه النقائض من مشاحنات وحزازات فإنها بالنسبة للقارئ المتعقل والباحث الرصين المدقق تشكل ذخيرة إثنوغرافية قيمة ومستودعاً زاخراً بالكثير من المعلومات المفيدة عن الأعراف والعادات القبلية وعن تاريخ القبائل وأنسابها وأيامها وأسماء شيوخها وفرسانها وأجوادها، مثلها في ذلك مثل نقائض جرير والفرزدق التي كانت الأساس الذي بنى عليه أبو عبيدة مؤلفه عن أيام العرب.
وهناك وجه آخر من أوجه المفارقة بين الظروف والملابسات المحيطة بتدوين الشعر الجاهلي وتلك المحيطة بتدوين الشعر النبطي. تم تدوين الشعر الجاهلي في عصور لم تكن فيها الطباعة معروفة ولا وسائل النشر ولا الإعلام ولا الرقابة الإعلامية. كانت دواوين الشعر الجاهلي تدون بخط اليد في نسخ محدودة العدد يتم تداولها ضمن دائرة ضيقة من خاصة العلماء والأمراء والسلاطين وعلية القوم الذين لديهم من رحابة الصدر وسعة الأفق ما يجعلهم أكثر تفهما وتسامحاً مع الأشعار التي قد تثير الحساسية الدينية أو القبلية أو الاجتماعية لدى الجماهير من العامة والدهماء. إن ما تحتويه مخطوطات الشعر الجاهلي وأشعار العصور الإسلامية التالية من الهجاء الجارح والسب المقذع والبذاءات اللفظية والجنسية والغزل الصريح والغزل بالمذكر والمجون والخمريات وغير ذلك من المضامين التي لا يسمح بمثلها في زمننا هذا لَأَمْرٌ يثير الدهشة والإعجاب في آن واحد. ولكن علينا في الوقت نفسه أن نتذكر بأن وسائل الطباعة الحديثة أتاحت الإمكانية لطبع آلاف النسخ من الديوان الواحد وبيعها بأسعار زهيدة تجعلها في متناول الخاصة والعامة يقرأها العالم والجاهل والعاقل وغير العاقل والكبير والصغير. ومن هنا تولدت الحاجة لاستحداث أجهزة رقابية مهمتها تقنين ما تلفظ به المطابع ودور النشر، أسوة ببقية الأمور والسلوكيات التي تخضع للتشريع والتقنين في المجتمعات الحديثة، وذلك حفاظاً على الاستقرار السياسي والأمن الداخلي والسلام الاجتماعي والتقيد بما يتمشى مع متطلبات الآداب العامة. ومع ذلك تظل مصادر الأدب الكلاسيكي محتفظة بمضامينها التي قلنا أنه لا يسمح بمثلها في زمننا هذا حتى بعد طبعها ونشرها لأن لغتها الكلاسيكية التي تستغلق عباراتها ويتعذر فهمها على الغالبية من جماهير القراء يجعل قراءتها وتداولها حكراً على فئة قليلة من المختصين والباحثين ممن لديهم الوعي الكافي للتعامل مع هذه المادة بالقدر اللازم من الحيطة والاحتراز، علماً بأن هناك أصواتاً بدأت تعلو مؤخراً مطالبة بتنقيح وتهذيب بعض الأعمال الكلاسيكية من أمثال ألف ليلة وليلة وغيرها. والكثيرون من شعراء الفصحى وأدبائها في عصرنا هذا يترفعون عن مجاراة الشعراء الكلاسيكيين في بذائاتهم اللفظية وفي إسفافهم ومجونهم لسببين؛ أولهما تغير القيم والمفاهيم بتغير الظروف والأزمنة وتطور أساليب الحياة وأخلاق المجتمع، وثانيهما أن الشعراء الكلاسيكيين، وإن نظموا بالفصحى، كانوا في واقع الأمر شعراء شعبيين أميين وكانت الفصحى هي لغتهم اليومية آنذاك، مثلما أن العامية هي لغة شعراء النبط والشعراء الشعبيين اليومية في وقتنا هذا، وكانوا لا يختلفون عن شعراء العامية الشعبيين من حيث السلوك وطريقة التفكير رغم توافق لغتهم إلى حد ما مع لغة شعراء الفصحى المعاصرين. ومعلوم أن الفصحى اليوم لا يجيد النظم بها إلا من نال حظًّا وافراً من العلم والثقافة، ولا يخفى أثر العلم والثقافة في الرقي بمستوى الفكر وتقويم الخُلُق وتهذيب السلوك وصقل العبارات والألفاظ. أما الشعراء الشعبيون فإنهم كانوا وما زالوا لا يتورعون عن استخدام الألفاظ النابية والعبارات الفاحشة، خصوصاً في قصائد الهجاء وفي شعر القلطه أو الرد، إلا أن مثل هذه الألفاظ والعبارات لا تجد طريقها إلى الطباعة والنشر بالنسبة للشعراء المتأخرين ممن ينظمون بالعامية، ولو وجد البعض منها طريقه إلى النشر فإن الناشر إما أن يستبدل الكلمات النابية أو غير اللائقة دينيًّا أو خلقيًّا أو سياسيًّا أو التي تثير حزازات قبلية أو إقليمية أو أن يترك فراغات أو نقطاً مكانها.
علاوة على ما سلف ذكره، لا ننسى أن الشعر النبطي، رغم معارضة المثقفين له وانصراف أهل العلم عن دراسته، أصبح يشكل مادة إعلامية واستهلاكية رائجة نظراً لشعبيته والاقبال المنقطع النظير عليه من قبل عامة الجماهير الذين تتشكل غالبيتهم من الأميين ممن لا يفهمون الأدب الفصيح ولا يستسيغونه. وقلما تخلو جريدة من جرائد دول الخليج العربية من صفحة مخصصة لهذا الشعر، إضافة إلى العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية. وتخضع قنوات الإعلام ووسائله في هذه الدول لرقابة إعلامية صارمة تمنع تسرب كل ما يتعارض مع سياسات الدولة ومعتقداتها الدينية. كما أن ذوي السلطة والسلالات الحاكمة في هذه البلدان يمنعون منعا باتًّا إذاعة أو نشر أي شعر يتضمن قدحاً لهم أو لأسلافهم أو مدحاً لمناوئين لهم نازعوهم السيادة أو نافسوهم على السلطة في السابق، أو حتى ما يتضمن النزاعات الإقليمية والقبلية في العصور الفائتة. هذا يضيق مجال النشر في وسائل الإعلام والبرامج الإذاعية والتلفزيونية ليقتصر على قصائد المديح أو قصائد الحكمة والنصائح والغزل العفيف وما يتعلق منه بشيم العرب ومكارم الأخلاق. وقد يضطر مقدموا البرامج أو محررو الصفحات الشعبية إلى إدخال تعديلات تجعل من القصيدة مادة قابلة للنشر. ومن الأمثلة على التصرف الذي يقصد منه تحاشي إثارة الحزازات تغيير منديل الفهيد مثلا كلمة «حروب» إلى «ضعوف» في بيت غالب بن حطاب السراح من أهالي الجوف من قصيدة له يتحدى فيها عبيد بن رشيد ويقول فيها:
الجوف تلقى به خليفٍ وحطاب
ما هم فريق حروب عنكم يهجون
ومن تصرفات منديل الفهيد التي يقصد منها إبعاد الشبهة عن شاعرة تتغزل بمحبوبها إضافة الأبيات التي تلي البيت الأول من هذه المقطوعة:
ياحلو رَصّ الروح بالروح للروح
متوالفينٍ كلّهم لا بلينا
ما لي بتفطين المحبين مصلوح
بالذِكِر والا عن كذا ما درينا
قلتِه على نوع التماثيل ومْزوح
ما لي عشير ولا لهذا مشينا
لو كان باب العشق للناس مفتوح
نحمي شَرَفنا مع رجالٍ علينا
ومع كل ما سبق أن ذكرناه تبقى هناك قواسم مشتركة بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي فيما يتعلق بظروف التدوين وملابساته وما أفضى إليه من نتائج فيما يتعلق بالانتحال واختلاف الروايات أو التضارب في نسبة القصائد إلى شعراء مختلفين، وغير ذلك من آفات الرواية الشفهية مثل رواية القصيدة وفق لهجة الراوي بدلاً من لهجة الشاعر الأصلية، أو التصرف ببعض الألفاظ أو النسيان أو استبدال كلمة بأخرى، أو تداخل القصائد التي على نفس الوزن والقافية. مثل ذلك تداخل ثلاث قصائد على قافية الميم أحدهما لعبد ابن هذال والأخرى لبصري الوضيحي والثالثة لصايد الزعيلي. ولمخلف ابن هديرس وهو من أهالي عوشزية الحفن من الروضه من قرايا حايل قصيدة مطلعها:
الضيغمي من حايلٍ عض الانجاد
كز السبور وقام يجمع نواحيه
يمدح فيها عبدالله ابن رشيد يتهدد فيها بعض أمراء البدو ويتوعدهم بأن ابن رشيد سوف يحاسبهم على أفعالهم. وتتداخل أبيات قصيدة ابن هديرس مع قصيدة قالها عبدالله بن رشيد نفسه ومطلعها:
قل هيه ياللي لي من الناس وداد
ما ترحمون الحال ياعزوتي ليه
ومن قصيدة ابن هديرس قوله:
منتوب بامه عقّب النير من غاد
وسِمِيّ مطعوم النشاما يباريه
والله لو انه ورا جسر بغداد
انّه لكم مثل العمل عند راعيه1
والبعض ينسب البيت الأخير لعبدالله بن رشيد من ضمن قصيدته السالفة الذكر ويرويه هكذا:
والله لو اني ورا جسر بغداد
اني لكم مثل العمل عند راعيه
وهناك قصيدة ينسبها محمد الأحمد السديري لشالح بن هدلان وبعض الرواة ينسبها للفارس شليويح بن ماعز العطاوي، خصوصا هذه الأبيات:
ياطول ما نوّختها تصرخ النيب
وَزْن البيوت اللي كبارٍ رْباعَه
واضوي عليهم كنهم لي معازيب
ليا رمى زين الوسايد قناعه
اضوي عليهم واتخطّى الاطانيب
وآخذ مهاوية الجمل باندفاعه
كما يروي السديري أبياتاً لمحدى الهبداني من ضمنها بيتان ينسبهما بعض الرواة لرشيد العلي من أهل الزلفي، وهما:
نجدٍ يْعَزّي عن غثاها عذاها
لو هي مقرّ ابليس في ماضى الاذكار
نركض ومن صاد الجراده شواها
وللنار من عَقّب من المال دينار
وقد تطرق أبو عبدالرحمن بن عقيل لهذه الظاهرة في بعض مؤلفاته. كما أنني ناقشت في كتابي فهرست الشعر النبطي ما تتعرض له القصائد النبطية المحفوظة في المخطوطات من تحريف وتصحيف. وفي ذلك الكتاب قدمت ثبتاً بجميع الأشعار النبطية المنشورة في الدواوين والمصادر المطبوعة، وقد لاحظت أن هذه الدواوين والمصادر، إن لم تكن استقت القصيدة من نفس المخطوطة أو نقلت عن بعضها نقلاً مباشراً، قلما تتفق في الرواية أو في عدد الأبيات أو في ترتيبها أو في نسبة القصيدة إلى قائلها. ويظهر هذا الاختلاف بوضوح أكثر إذا كانت المصادر التي استقت منها القصيدة مصادر شفهية. وقد أحصيت في هذا الفهرس ما لا يقل عن 100 حالة اختلفت فيها المصادر في نسبة القصيدة إلى قائلها، وربما نسبت إلى أكثر من شاعرين. خذ مثلاً القصيدة التي مطلعها:
نطّيت رِجْمٍ نايفٍ منتبي بي
مرقاب عروا مشرفٍ هاك عنها
هذه القصيدة ينسبها إلى بصري الوضيحي الشمري كل من أبو عبدالرحمن بن عقيل وهي عنده 6 أبيات، ومنديل الفهيد وهي عنده 6 أبيات، ومحمد الهطلاني وهي عنده 6 أبيات، ورضا بن طارف الشمري وهي عنده 17 بيتاً. ثم يعود الهطلاني فيثبتها في مصدر آخر وينسبها للشاعر ردهان أبو عنقا ويورد منها ثلاثة أبيات، هذا بينما ينسبها للزرعي العمودي كل من الاسمر خلف الجويعان وهي عنده 15 بيتاً وعبدالله بن عبار العنزي وهي عنده 18 بيتا. وخذ أيضا القصيدة التي مطلعها:
قال الذي يقرا بليا مكاتيب
ياللي تْـقَرّون العمى من عناكم
هذه القصيدة ينسبها إلى جحيش السرحاني كل من عبدالله اللويحان وهي عنده 3 أبيات ومنديل الفهيد وهي عنده 9 أبيات وأبو عبدالرحمن بن عقيل وهي عنده 9 أبيات وإبراهيم اليوسف وهي عنده 11 بيتاً ومحمد الهطلاني وهي عنده 23 بيتا. أما محمد العزب فينسبها إلى فريج العنزي وهي عنده 16 بيتاً، بينما ينسبها عبدالله ابن عبار العنزي لسويدان الحلام العنزي وهي عنده 22 بيتاً وينسبها مارسيل كوريرسهوك رواية عن خالد بن شليويح لشليويح العطاوي ويورد منها بيتين.
وكثيراً ما يخلط الرواة والمصادر في نسبة القصائد خصوصاً إذا كان الشعراء ينتمون لنفس القبيلة أو لنفس العصر، كأن يخلطوا بين أشعار ردهان بن عنقا وعلي بن سريحان وبصري الوضيحي، أو بين شعراء معاصرين يخلدون نفس الأحداث كأن يخلطوا بين أشعار مبيريك التبيناوي ورشيد بن طوعان وعقلا الجهيلي لأنهم كلهم من قبيلة شمر ويؤرخون للوقعات التي حدثت بين شمر وعنزة. ويخلط الرواة بين شعر الرجل وأخيه أو بين شعر الرجل وأبيه، مثلما يحصل من الخلط بين أشعار شليويح العطاوي وأخيه بخيت أو بين شعر حطاب بن سراح وابنه غالب بن حطاب أو بين شعر عضيب بن حشر القحطاني وابنه قاسي بن عضيب أو بين شعر مبارك بن محمد العبيكة وابنه عيادة بن مبارك أو بين قصيد مهنا بن عنقا وقريبه أحمد بن عنقا. وقد لا يتورع الراوي عن التمسك بأوهى الأسباب ليثبت القصائد الجيدة التي تخلد مواقف البطولة والشهامة والشجاعة والكرم لرجال من قبيلته، حرصاً على حفظ أمجاد القبيلة ودعم رصيدها من الأفعال الحميدة والمآثر الطيبة. وهذا موضوع يطول شرحه، وهدفنا هنا هو التمثيل وليس الاستقصاء.
وأول من نبه إلى تأثير النشر الطباعي، مقارنة بالتداول الشفهي، على مضامين الشعر النبطي مارسيل كوربرسهوك في كتاب له عن شعر الشاعر الدوسري عبدالله بن محمد بن حزيّم من الرجبان، والملقب الدندان. أمضى هذا الباحث مع الشاعر الدندان، الذي كان قد جاوز السبعين من عمره، عدة أسابيع يسجل منه قصائده ومناسباتها وشروحها ورؤية الشاعر نفسه حيال هذه الأشعار. ولما قارن كوربرسهوك ما جمعه شفهيًّا من الشاعر من قصائد مع تلك التي طبعها عبدالله بن حمير بن ساير الدوسري لنفس الشاعر في الجزء الثاني من مجموعه المعنون واحة الشعر الشعبي لاحظ الفرق الكبير بين الرواية الشفهية وبين المطبوع. نشر ابن حمير 26 قصيدة من قصائد الدندان وحجب خمس قصائد لم ينشرها بسبب مضامينها التي تتراوح من مفاخرات قبلية إلى غزل. وتشتمل القصائد المنشورة أصلاً على ما مجموعه 519 بيتاً إلا أن ابن حمير حذف منها حوالي 100 بيت لأسباب سياسية واجتماعية ودينية وأخلاقية، بينما أضاف هو 20 بيتاً من عنده، هذا علاوة على ما لا يقل عن 100 تعديل في الألفاظ والعبارات لبعض الأبيات، كل ذلك من أجل تلطيف مضامين بعض القصائد أو لتوجيه المعنى وجهة لا تتعارض مع إجراءات الرقابة الإعلامية.
وهكذا نجد أن الشعر النبطي تعرض لمثل ما تعرض له الشعر الجاهلي من تعدد الروايات واختلافها والاختلاف في نسبة بعض القصائد والنحل والسرقة، وهو كذلك يزخر بالصور والمعاني التقليدية التي يكثر تداولها بين الشعراء، إضافة إلى العبارات والصيغ اللفظية المكررة تكراراً حرفيًّا. والدوافع الباعثة على السرقة والانتحال في الشعر الجاهلي هي نفس الدوافع الباعثة على السرقة والانتحال في الشعر النبطي. ثم إن الشعر النبطي مثل الشعر الجاهلي ينظم بلغة متجانسة مشتركة بين كل القبائل والمناطق رغم الاختلاف الواضح بين لهجات هذه القبائل والمناطق. إلا أننا مع ذلك كله لا يساورنا أدنى شك بوجود الشعراء النبطيين ولا بحقيقة الشعر النبطي ولا بأن النظم عملية مستقلة عن الرواية سابقة عليها ولا في أن حفظ القصائد وتداولها يتم عن طريقة الحفظ والاستظهار. وهذا ما تؤيده التسجيلات الصوتية والأبحاث الميدانية وتحليل مضامين القصائد النبطية وإفادات الشعراء والرواة الذين يعيشون بين ظهرانينا ومعايشة هذا الشعر في حياتنا اليومية. وبحكم العلاقة الوثيقة بين الشعر الجاهلي والشعر النبطي وفق ما اتضح لنا سابقاً وما سيتضح لاحقاً فإن ما ينطبق على هذا ينطبق على ذاك.
هوامش ومراجع
1 - منتوب بامه: أي المنسوب لأمه ويقصد به الشيخ ابن بتلا. سمي مطعوم النشاما: الشيخ الحنيني. مثل العمل عند راعيه: يريد التأكيد على حصول اللقاء، لأن من عمل عملا لا بد أنه ملاقيه يوم القيامة.