فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

العجائبية وانفتاح النص الأدبي الشعبي «ألف ليلة وليلة» نموذجًا

العدد 59 - آفاق
العجائبية وانفتاح النص الأدبي الشعبي «ألف ليلة وليلة» نموذجًا
كاتب من مصر

 

مفتتح:

لا خلاف بين الباحثين في أن «ألف ليلة وليلة» نص عجائبي؛ فحكاياته ــ كما هو معروف ــ تحفل بفضاءات خرافية وسحرية تهيمن، بشكل لافت، على بنيتها السردية.

تخترق العجائبية النسيج السردي بتشكلاته المتنوعة في حكايات «ألف ليلة وليلة». هذا ما لاحظته، ولاحظه كذلك معظم الباحثين الذين عكفوا على دراسة هذا النص الفريد من نصوص الأدب الشعبي. وما لم يلاحظه كثير من هؤلاء الباحثين، أن هذه العجائبية تسهم بدور رئيس ومهم في انفتاح الدلالة الأدبية لحكايات «ألف ليلة وليلة»، وأن الشيء المهم الذي تضيفه العجائبية إلى هذا النص ليس تحقيق الإمتاع أو التسلية للقارئ فحسب؛ فالشيء الأكثر أهمية لها هو قدرتها الواضحة على فتح هذا النص على آفاق متنوعة من التأويل، تحتاج إلى قارئ على قدر كبير من الخبرة بالأدب وصنوفه المتنوعة، والنقد واتجاهاته، بل والخبرة كذلك بمعارف أخرى غير الأدب والنقد؛ كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وغير ذلك من المعارف. 

هذه فكرة تلك الدراسة إجمالاً، وفيما يلي التفصيل.

«العجائبية» بوصفها عنصرًا مهيمنًا على حكايات «ألف ليلة وليلة»:

العجائبية ( fantastic) مصطلح نقدي يشير إلى الأحداث فوق الطبيعية؛ التي تدخل في دائرة المستحيل الذي لا يمكن وقوعه وفقًا لقوانين العقل البشري. والأدب العجائبي، على هذا النحو، هو أدب الخيال المستحيل؛ فهو أدب يخترق كل ما هو واقعي أو معقول، وينفتح على كل ما هو بعيد عن قيود الواقع أو العقل. فالعجائبية ــ أو الفنتازيا ــ مصطلح يشير إلى «عملية تشكيل تخيلات لا تملك وجودًا فعليًّا، ويستحيل تحقيقها»1.

غير أن القارئ المتمرس بالأدب له القدرة على تأويل مستويات العجائبية في النص الأدبي وإعادة قراءتها على نحو يقترب، إلى حد كبير، من العقل والمنطق. فإذا كانت العجائبية خرقًا لقوانين الطبيعة والمنطق؛ فإنها، من ناحية أخرى، تبني لها منطقًا خاصًّا يعكس كثيرًا من منطق قوانين الحياة المألوفة لدينا.

 والعنصر المهيمن (The dominant) فكرة أثيرة لدى أنصار الشكلية الروسية Russian) Formalism). وقد توقف رومان ياكبسون، كما يقول رامان سلدن، عند مفهوم العنصر المهيمن، وعرَّفه بأنه العنصر الذي يحتل البؤرة من العمل الفني؛ فهو الذي يحكم غيره من العناصر أو المكونات ويحددها ويحوِّرها2. والعنصر المهيمن، على هذا النحو، هو العنصر الغالب على مكونات النص الأدبي جميعها؛ لذا تدور كل هذه المكونات حوله؛ فهو ــ بعبارة أخرى أدق ــ العنصر الذي يحدد مسار كل مكون من مكونات النص الأدبي.

ويؤكد الشكليون الروس، من خلال حديثهم عن العنصر المهيمن، فكرتهم حول مسألة الإدراك الجمالي للأدب؛ وهي فكرة يميزون من خلالها بين الإدراك الجمالي والإدراك الآلي للأدب؛ وذلك من خلال ما يسمونه الإغراب ( Defamiliarization)؛ الذي يعني عندهم كسر الألفة الناتجة عن اعتياد أشياء بعينها؛ ومنها الأدب؛ فقد يعتاد المرء شيئًا معينًا حتى يتبلد إحساسه به، ويصبح إدراكه له إدراكًا آليًّا أو اعتياديًّا؛ هنا يبرز عنصر الإغراب وتبدو وظيفته في إضفاء الغرابة على عناصر النص الأدبي؛ حتى يتجدد إحساس المرء به، ويصبح إدراكه له إدراكًا جماليًّا. 

ويوضح رامان سلدن ذلك عند الشكليين الروس؛ إذ يؤكد أن العناصر الداخلية في العمل الأدبي عندهم يمكن أن تصبح من قبيل الروتين الآلي، أو أن تغدو ذات وظيفة جمالية إيجابية3. والنص الأدبي الجيد عند الشكليين الروس هو ما تغدو فيه العناصر الداخلية ذات وظيفة جمالية، وليست من قبيل الإدراك الروتيني الآلي.

والعنصر المهيمن عند الشكليين الروس مفهوم يعيد ترتيب العناصر داخل الأعمال الأدبية بصفة مستمرة. وتعني هذه النظرة عند الشكليين الروس «تناول الأعمال الأدبية من حيث هي أنساق متحركة، تُبْنى عناصرها في علاقات، بحيث يحتل بعضها موضع الصدارة، وبعضها يصبح مجرد خلفية، فإذا انطمس عنصر من العناصر وتراجع إلى الوراء... فإن عناصر أخرى يمكن أن تبرز إلى الأمام وتصبح عنصرًا مهيمنًا... في نسق العمل الأدبي»4. كذلك فإن العنصر المهيمن؛ كما يؤكد الشكلانيون الروس، هو الذي يضفي الوحدة والتماسك على العمل الأدبي؛ فهو الذي «يمنح العمل بؤرة تبلوره، وييسر وحدته أو تماسكه الكلي»5.

ومن ينعم النظر في حكايات «ألف ليلة وليلة» يدرك أن العجائبية تهيمن ــ كما سبق وأن ذكرت ــ على شتى مكونات السرد؛ فهي تهيمن على شخصياتها ــ على سبيل المثال ــ بشكل لافت. هذا ما تؤكده ــ على سبيل المثال ــ الصورة المبالغ فيها لشخصية الحكيم دويان، في حكاية وزير الملك يونان؛ ذلك الحكيم الذي استطاع أن يداوي الملك مما بجسده من برص، بعد أن عجز الأطباء في ذلك، وقد قام الحكيم دويان بذلك بلا دواء ولا دهان: « ثم إن الحكيم لمَّا دخل المدينة، وأقام بها أيامًا قلائل، سمع خبر الملك، وما جرى له في بدنه من البرص، وفي الصباح لبس أفخر ثيابه، ودخل على الملك يونان، وقبَّل الأرض، ثم قال: أيها الملك أنا أداويك، لا أسقيك دواءً، ولا أدهنك بدهن، فقال الملك: أتبرئني من هذا المرض بلا دواء ولا دهان؟ قال: نعم؛ فتعجب الملك غاية العجب»6. 

ومن ينعم النظر في عناوين حكايات «ألف ليلة وليلة» يلاحظ هيمنة العجائبية عليها؛ فمعظم هذه العناوين تنطوي على عالم واسع من الغرابة والسحر والعجائبية، التي تجذب القارئ نحو حكايات الليالي؛ لمعرفة ما ينطوي وراء هذه العناوين. ومن هذه العناوين ــ على سبيل المثال ــ «حكاية التاجر مع العفريت» و«حكاية الصياد مع العفريت» و«حكاية المدينة المسحورة» و«حكاية المدينة المسخوطة»... وغير ذلك كثير.

كما تهيمن العجائبية كذلك على المكان في حكايات ألف ليلة وليلة؛ فمعظم أماكنها غريبة عجيبة. ويمكن أن أضرب مثالاً على ذلك ما هو موجود في «حكاية المدينة المسخوطة» التي مُسِخَت وصار أهلها أحجارًا: «اعلمي أن هذه المدينة مدينة والدي وجميع أهله وقومه؛ وهو الملك الذي رأيته على الكرسي ممسوخًا حجرًا»7.

وفي حكايات «ألف ليلة وليلة» تهيمن العجائبية كذلك على الزمان، والأحداث، وسائر مكونات البنية السردية. ولا حاجة هنا لحصر تلك المكونات والوقوف عليها؛ فهذا ليس غاية في ذاته؛ بل هو مجرد وسيلة  لتأكيد هيمنة العجائبية على حكايات «ألف ليلة وليلة». ولعل الأهم من ذلك هو دراسة أثر العجائبية المهيمنة على هذه الحكايات في انفتاحها دلاليًّا. وهو ما ستحاول الدراسة الوقوف عليه في الجزء التالي منها.

العجائبية وانفتاح «ألف ليلة وليلة» دلاليًّا: 

إن هيمنة العجائبية على السرد، بمستوياته المتنوعة، في «ألف ليلة وليلة»، أمر يسترعي، بالضرورة، انتباه القارئ المتمرس بالأدب، الخبير بصنوفه وأجناسه، ويجعله يفكر في الوظيفة التي يمكن أن تحققها تلك الهيمنة خلافًا لجلب المتعة أو التسلية. إن وقفة القارئ إزاء النص، على هذا النحو، تعني أن إدراكه لتلك الملامح العجائبية التي تكتظ بها حكايات «ألف ليلة وليلة»، لم يعد إدراكًا آليًّا أو روتينيًّا؛ لأنه لم يعد يقف عند وظيفتها الظاهرة أو المباشرة؛ تلك التي تتمثل في تسلية القارئ أو إمتاعه، بل تجاوز هذا الإدراك إلى نوع آخر من الإدراك، يحاول القارئ من خلاله الوقوف على المردود الفني أو الجمالي لهيمنة العجائبية على حكايات «ألف ليلة وليلة». 

ويقترن هذا النوع من الإدراك ــ أعني الإدراك الفني أو الجمالي ــ بالتساؤل عن المسكوت عنه، القابع وراء هذا العالم العجائبي. وفي رحلة القارئ المتواصلة في الكشف عن ذلك المسكوت عنه، ينفتح النص، شيئًا فشيئًا، أمام القارئ؛ فيصل إلى قراءة للنص، وهي قراءة تختلف، بالضرورة من قارئ لآخر، بل قد تختلف لدى القارئ نفسه من وقت إلى آخر؛ باختلاف عوامل تكوينه النقدي والثقافي والمعرفي.

ولعل أول من استهوته عجائبية الليالي؛ فانجذب إليها، وحاول متابعة حكاياتها؛ هو «شهريار»؛ فهو المتلقي الأول لهذه الحكايات. ولقد فتحت العجائبية نص الليالي؛ فامتد إلى ألف ليلة، وكان من الممكن أن يُغلق هذا النص وينتهي بانتهاء الليلة الأولى؛ غير أن «شهرزاد» استطاعت من خلال السرد ذي الصبغة العجائبية إثارة الفضول المعرفي لدى «شهريار»؛ الذي كان مشغولاً دائمًا بسؤال هو: وماذا بعد؟ المقترن بتوقف «شهرزاد» عن الحكي، حين يُدرك «شهريار» الصباح، فتسكت هي عن الكلام/ الحكي، ويظل «شهريار» مؤرقًا مشغولاً حتى تستأنف «شهرزاد» حكاياتها في الليلة التالية. 

تسهم الشخصيات، بملامحها العجائبية، في حكايات «ألف ليلة وليلة» بدور رئيس في انفتاح الدلالة الأدبية في هذه الحكايات. وأولى الشخصيات الجديرة بالتوقف عندها هنا هي شخصية «شهرزاد». إنني أرى أن «شهرزاد» نفسها، يمكن النظر إليها بوصفها إحدى الشخصيات العجائبية المهمة والرئيسة في هذا النص. فهي، على النحو الذي تبدو عليه في حكايات «ألف ليلة وليلة»، شخصية ذات إمكانات خارقة وعجيبة، فمَن مِن النساء يمكن أن تقوم بما قامت به «شهرزاد»؛ النساء كلهن، آنذاك، يحرصن على ألا يراهن «شهريار»، أو أن يسمع بهن، لأنهن يعلمن المصير الذي ينتظرهن بعد الزواج به؛ وهو القتل، أما «شهرزاد» فتنبري لتلك المهمة طواعية، بل وتلح على والدها، وتجتهد في إقناعه بقبول ذلك، وهي تدرك يقينًا أن المصير الذي ينتظرها يمكن ان يكون القتل. لكنها قبلت الزواج من «شهريار»، وهي تعلم أن نيته قتلها؛ انتقامًا لنفسه من جنس النساء، واستطاعت من خلال حكاياتها ذات الصبغة العجائبية أن تثير فضوله المعرفي، وأن تستبدل لديه بالقتل الحكي؛ فيتوقف عن قتل النساء، بعد أن استهوته حكاياتها، كما استطاعت أن تستبدل لديه بالبطش الوداعة؛ فيتوقف عن البطش بالنساء، بل ويصبح رفيقًا بهن.

إن «شهرزاد»، كما تبدو في حكايات الليالي، شخصية خارقة للمألوف؛ فلقد استطاعت بفضل سردها ذي الصبغة العجائبية، أن تزاحم الرجل في مجال السرد، وأن تصنع لنفسها مكانة متميزة في عالم الأدب؛ ذلك العالم الذكوري الذي لم يكن يعترف، آنذاك، بقدرة المرأة على الإبداع.

تهيمن العجائبية إذن على شخصيات «ألف ليلة وليلة»؛ فتفتح بذلك نص الليالي على آفاق بعيدة للتأويل؛ فلم تعد «شهرزاد» مجرد راوية لحكايات «ألف ليلة وليلة»؛ بل صارت رمزًا لأشياء كثيرة تختلف من قارئ إلى آخر؛ فقد تكون رمزًا لسعة المعرفة، أو للمرأة المضحية بنفسها من أجل غيرها.. وغير ذلك كثير.

ومما لا يحتاج إلى تأكيد أن حكايات «ألف ليلة وليلة» تمتلئ بعوالم خرافية سحرية، تضفي عليها طابعًا عجائبيًّا، بما تحويه من جن وعفاريت. وأؤكد أن وراء هذا الطابع العجائبي غاية دلالية غائبة يتوصل إليها القارئ المتمرس بالأدب، وليست الغاية من ورائه مجرد إمتاع القارئ وتسليته. في «حكاية الصعلوك الثاني»، على سبيل المثال، نجد عفريتًا يتعامل معه الإنسان تعاملاً في غاية الغرابة؛ إذ لا نجد الإنسان يخافه، خلافًا للمعهود من خوف الإنسان من الجن والعفاريت: «ثم صار صراع كبير بين بنت الملك والعفريت، ودار العراك بينهما في كل أرجاء القصر، ونحن واقفون نتفرج ونتعجب، وانقلب الاثنان إلى شعلتين من النار، ثم ما شعرنا إلا والعفريت قد صرخ من تحت النيران، ونفخ في وجوهنا بالنار؛ فلحقته الصبية، ونفخت في وجهه؛ فأصابنا الشرار منها ومنه، فأما شرارها فلم يؤذنا، لكن شرارة منه وقعت في عيني فطمستها... ولحق الملك شرارة منه في وجهه فأحرقت نصف وجهه ولحيته... وبينما هما كذلك إذ بقائل يقول: الله أكبر، الله أكبر، فتحٌ ونصرٌ، وإذا ببنت الملك قد أحرقت العفريت، وإذا به صار كومة رماد»8. إننا هنا نلاحظ حرص الإنسان على مناوأة العفريت، ومحاولة التخلص منه، بل والاشتباك معه، والنيل منه بإحراقه، والأغرب كذلك أن هناك أناسًا يتابعون هذا الصراع بين ابنة الملك والعفريت، دون خوف. والمسكوت عنه هنا، فيما أرى، أن الإنسان لا بد أن يتحرر من الخوف من هذه العوالم، بما تنطوي عليه من جن وعفاريت؛ لأن النفع والضر بيد الله وحده، ولا شك أن إيمان الإنسان بربه، وبأنه وحده هو النافع والضار، هو السبيل الوحيد لتحريره من الخوف من هذه العوالم؛ ولذلك جرى إحراق العفريت مباشرة بعد قول القائل: الله أكبر، الله أكبر، فتحٌ ونصرٌ. 

وفي كثير من حكايات «ألف ليلة وليلة» تبدو العجائبية في صورة ما وراء الطبيعة؛ حين تُسْند إلى بعض الأشخاص صفات يستحيل للعقل البشري أن يتصورها؛ إذ لا يمكن للإنسان مثلاً أن يفهم لغة الحيوانات. إن هذه معجزة لا تحدث إلا مع من منحهم الله إياها؛ مثل سيدنا سليمان ــ عليه السلام ــ الذي كان يفهم لغة الطير؛ لأن الله أفهمه إياها. ففي «حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع» يسمع التاجر حوارًا بين الحمار والثور، يشكو فيه الثور إلى الحمار تعبه اليومي بسبب الحرث والطحن، ويحسده على راحته؛ ويقبل الحمار لفضوله أن يكون مكان الثور في الحرث والطحن، ويحتالان لتنفيذ ذلك، لكن الحمار ندم على ذلك أشد الندم، ثم احتال على الثور؛ حتى أعاده ثانية إلى ما كان عليه. وقد أضحك ذلك الحوار التاجر بحضرة زوجه، وحين سألته عما أضحكه، امتنع عن إجابتها؛ لأنه سيموت إن أخبرها بما أضحكه، وعندما ألحت عليه، وكاد أن يخبرها بما أضحكه، على أن يموت بعد ذلك، لم ينقذه من ذلك سوى ما سمعه من الحوار الذي دار بين الكلب والديك، وهو الحوار الذي أنهى الجدل بين التاجر وزوجه9. إن الصورة العجائبية التي بدا عليها التاجر في هذه الحكاية جاءت لتؤكد أن الإنسان مهما حصَّل من علم، ومهما اكتسب من معارف وخبرات، فإن علمه سيظل محدودًا، بما قدَّر الله له من علم ومعرفة، وأن على الإنسان أن يبحث عن المعرفة في كون الله الفسيح، وفي مخلوقاته المتنوعة.

فإذا انتقلنا إلى عالم الحيوان في حكايات «ألف ليلة وليلة» وجدنا العجائبية تهيمن عليه بوضوح. ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك بالقرد، كما يبدو في «حكاية أبي محمد الكسلان مع الرشيد»، هذا القرد ذو القدرات الخارقة العجيبة؛ فكيف لقرد مقيد بحبل أن يفك هذا القيد بنفسه؟ وكيف له أن يغطس في البحر، ويغوص في أعماقه، ويعود إلى المركب وفي يده الجواهر النفيسة؟ وكيف يستطيع هذا القرد أن يخلص «أبا المظفر» من آكلي لحوم البشر، وأن يحل قيده: «قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن التجار رسوا على الجزيرة؛ فنزل الغطاسون الذين يغطسون على المعادن واللؤلؤ والجوهر، وغير ذلك. فأعطاهم التجار دراهم أجرة على الغطاس. فغطسوا فرآهم القرد يفعلون ذلك، فحل نفسه من رباطه ونطّ من المركب وغطس معهم؛ فقال أبو المظفر: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... ويئسوا من العثور على القرد. ثم طلع جماعة من الغطاسين، وإذا بالقرد طلع معهم، وفي يده نفائس الجواهر، فرماها بين يدي أبي المظفر؛ فتعجب من ذلك، وقال: إن هذا القرد فيه سر عظيم. ثم حلوا وسافروا إلى أن وصلوا إلى جزيرة تُسَمَّى جزيرة الزنوج؛ وهم قوم من السود، يأكلون لحم بني آدم؛ فلما رأوهم السود، ركبوا في القوارب، وأتوا إليهم، وأخذوا كل من في المركب وكتفوهم، وأتوا بهم إلى الملك؛ فأمر بذبح جماعة من التجار؛ فذبحوهم، وأكلوا لحومهم. ثم إن بقية التجار باتوا محبوسين وهم في نكد عظيم. فلما كان وقت الليل قام القرد إلى أبي المظفر، وحلَّ قيده، فلما رأى التجار أبا المظفر قد انحل؛ قالوا: عسى أن يكون خلاصنا على يديك يا أبا المظفر؛ فقال لهم: اعلموا أنه ما خلصني، بإرادة الله تعالى، إلا هذا القرد»10. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الذي يمكن أن تثيره صورة القرد، سالفة الذكر، في ذهن المتلقي؟ إنه ــ أعني المتلقي ــ سيحاول تأويل تلك الصورة العجيبة. وبذلك تنجح الصورة العجائبية هنا للحيوان/ القرد، في فتح آفاق التأويل لدى القارئ، وستتعدد تأويلات القراء المختلفين لتلك الصورة العجائبية. ويمكن القول: إن تلك الحكاية تطرح، من خلال صورة القرد، سالفة الذكر، فكرة تتصل اتصالاً وثيقًا بالسياق العام لحكايات «ألف ليلة وليلة»؛ إذ تحاول «شهرزاد» من خلال تلك الصورة، أن تقلل من تسلط «شهريار» على النساء. فليس «شهريار» قادرًا، دائمًا، على الفعل؛ فهو، في نهاية الأمر إنسان، لا تتحقق قدرته على الفعل إلا بأمر الله؛ بل قد يقوم الحيوان أحيانًا بما قد يعجز الإنسان عن فعله.  

وفي مواضع كثيرة من حكايات «ألف ليلة وليلة» يسهم الحدث العجائبي في فتح الدلالة أمام القارئ. ففي «حكاية قمر الزمان»، على سبيل المثال، نجد صورة للرجل، لا يمكن فهمها إلا في سياق عجائبي؛ إذ نجد جارية تضرب عنق رجل، وتتركه مطروحًا على الأرض: « فرأيتهن قد خرجن برجل، وقلن لها: يا سيدتي قد رأينا هنا رجلاً، وهو بين يديك، فقالت للجارية التي معها السيف: ارمي عنقه؛ فتقدمت إليه الجارية وضربت عنقه، ثم تركته مطروحًا على الأرض ومضت... ودرجت الناس في الأسواق، والتموا على المقتول يتفرجون عليه»11. وقد تبدو هذه الصورة التي بدت هنا للرجل غير غريبة؛ لكنها، ستبدو غريبة للغاية أمام القارئ الذي ينعم النظر فيها. فلقد قلبت «شهرزاد»، من خلال هذه الصورة التي رسمتها للرجل، التصور الراسخ لدى «شهريار» وغيره من الرجال، حول المرأة، وعنفوانها، وقدرتها على الثأر من الرجل بالسيف؛ تلك الأداة التي يرى «شهريار» وغيره من الرجال، أنه لا يصلح لاستخدامها سوى الرجال. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الصورة، سالفة الذكر تطرح تساؤلاً أمام القارئ: كيف أمكن لشهرزاد أن تطرح هذه الصورة أمام شهريار الذي يأمر هو بقتل النساء بالسيف؛ فإذا به أمام صورة تعطي للمرأة الحق في أن تفعل ذلك؟ إن «شهرزاد» هنا تحاول أن تخلخل أمام «شهريار» ما رسخ في مخيلته حول المرأة من الضعف والخنوع، كما تحاول من ناحية أخرى ترويض «شهريار» ليكف عن قتل النساء. هذه كلها ــ وغيرها كثير ــ فجوات نصية، تبرز أمام القارئ، من خلال صورة الرجل، سالفة الذكر. ولقد تكررت هذه الصورة التي صوَّرت بها «شهرزاد» الرجل في أكثر من حكاية؛ ففي «حكاية الشاب الذي أكل الزرباجة» تبدو حرية المرأة في الزواج من الرجل؛ حين ترفض زواجه لغياب عقله وسوء فعاله: «قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت للشاب: لا أقبلك على عدم عقلك، وسوء فعلك»12.

وفي بعض حكايات «ألف ليلة وليلة» تنتج العجائبية من المبالغة في تضحيم الحدث، إلى درجة لا يمكن للعقل أن يتقبلها  إلا في الإطار العجائبي؛ ويبقي السؤال عن دلالة ذلك التضخيم للحدث مطروحًا أمام القارئ. هذا ما نجده بوضوح في « حكاية الناسك»؛ وفيها أن رجلاً كانت لدية جرَّة ظل يجمع فيها السمن حتى امتلأت، وكان السمن في هذا البلد غاليًا؛ فقال هذا الرجل الناسك في نفسه: «ينبغي أن أبيع هذا السمن الذي عندي جميعه، وأشتري بثمنه نعجة، وأشارك عليها أحدًا من الفلاحين؛ فإنها في أول عام تلد ذكرًا وأنثى، وثاني عام تلد أنثى وذكرًا، ولا تزال هذه الغنمة تتوالد ذكورًا وإناثًا؛ حتى تصير شيئًا كثيرًا، وأقسم حصتي بعد ذلك وأبيع ما شئت، وأشتري الأرض الفلانية، وأنشئ فيها غيطًا، وأبني فيها قصرًا عظيمًا، وأقتني ثيابًا وملبوسًا، وأشتري عبيدًا وجواري، وأتزوج بنت التاجر الفلاني، وأعمل عُرْسًا ما صار مثله قط، وأذبح الذبائح، وأعمل الأطعمة الفاخرة والحلويات وغيرها... وبعد ذلك تحمل زوجتي، وتلد غلامًا ذكرًا؛ فأفرح به وأربيه... وآمره بالمعروف فلا يخالفني... فإن رأيته يلزم الطاعة زدته عطايا صالحة، وإن رأيته مال إلى المعصية أنزل عليه بهذه العصا، ورفعها ليضرب بها ولده؛ فأصابت جرة السمن التي فوق رأسه؛ فكسرتها، وساح السمن على رأسه وثيابه ولحيته، وصار عبرة لمن اعتبر»13. إن العجائبية هنا منشؤها تضخيم حدث بسيط؛ وتوقع نتائج عنه لا يمكن تحققها؛ فهل يمكن أن تتحقق كل هذه الأمور من خلال شراء نعجة واحدة؛ فيتحقق لهذا الرجل الناسك كل هذه الآمال: فيشتري الأراضي، ويبني القصور، ويقتني الثياب، ويشتري العبيد والجواري، ويتزوج، ويقيم عُرْسًا لا مثيل له. لقد ضاعت كل هذه الآمال التي تمناها هذا الرجل؛ فانكسرت جرة السمن. إن الغاية من هذه الحكاية ليست إحداث المتعة للقارئ أو تسليته، بقدر ما هي رسالة إلى هذا القارئ مؤداها: لا تتوقع أشياء يستحيل تحققها. هذا، فيما أرى، هو المسكوت عنه وراء هذه الحكاية. 

أما الزمان في حكايات «ألف ليلة وليلة» فهو مكتظ بالعجائبية؛ فمن الواضح أنه يخرج عن حدود الزمان المألوفة، ليشكل لنفسه إطارًا عجائبيًّا متميزًا. فهو ليس زمانًا واحدًا؛ بل عدة أزمنة، يتوالى ظهورها في الحكايات على نحو لا يخضع لترتيب محدد؛ فـ«حكاية الملتمس مع زوجته» ــ على سبيل المثال ــ تدور في زمان يختلف عن الزمان الذي تدور فيه «حكاية الخليفة الحاكم بأمر الله مع الرجل التاجر»، وهما ــ أعني الحكايتين سالفتي الذكر ــ يختلفان في زمانهما عن الزمان الذي تدور فيه سائر حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ ومن هذه الحكايات ما يلي: «حكاية المرأة الصالحة في بني إسرائيل»، و«حكاية بعض الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب» و«حكاية نبي من الأنبياء»... وغير ذلك. إن مجيء الزمان في حكايات «ألف ليلة وليلة» على هذا النحو، أمر يدفع القارئ نحو البحث عن تفسير لذلك؛ حتى لا تبدو هذه الحكايات مفككة لا رابط بينها، ما دامت تدور في أزمنة مختلفة. إن هذا الأمر يفتح أمام القارئ آفاق التأويل. وقد يمكن القول: إن ذلك يؤكد ترابط حكايات «ألف ليلة وليلة» ووحدتها؛ فاختلاف الزمان في هذه الحكايات مقصود إليه قصدًا؛ لتأكيد فكرة مفادها: أنه مهما اختلف الزمان وتباين، فسيظل تعميم الحكم على المرأة بالغدر والخيانة أمرًا غير مقبول، ولا يمنع ذلك من وجود بعض النساء الخائنات. هذه فكرة من بين أفكار أخرى كثيرة حاولت «شهرزاد» إقناع «شهريار» بها من خلال حكاياتها، ونجحت في ذلك.

أما المكان في حكايات «ألف ليلة وليلة» فيكتظ بالعجائبية؛ التي تأخذ القارئ إلى عوالم بعيدة من التأويل؛ فتفتح الدلالة أمام هذا القارئ. وهو ما نجده، على سبيل المثال، في «حكاية العور العشرة»؛ إذ  يدخل الصعلوك قصرًا لبنات ملوك، تتركن القصر للصعلوك مدة أربعين يومًا؛ فيتفقد الصعلوك القصر في هذه المدة: «وها نحن نسلمك مفاتيح القصر، وفيه أربعون خزانة، ولك أن تفتح تسعة وثلاثين بابًا، واحذر أن تفتح الباب الأربعين؛ حتى لا تفارقنا؛ فقلت لهن: لا أفتحه، ثم خرجن وقعدت في القصر وحدي، ولما قرب المساء فتحت الخزانة الأولى ودخلتها؛ فوجدت فيها بيتًا كالجنة، وفيه بستان أشجار مخضرة، وثماره يانعة... ومياهه متدفقة؛ فارتاح بها خاطري، وتمشيت بين الأشجار، ثم خرجت من ذلك المكان، وأغلقت باب الخزانة كما كان، ولما كان الغد فتحت بابًا آخر فوجدته بستانًا جميلاً لم تر العين مثله، ثم فتحت الباب الثالث فرأيت قاعة كبيرة مفروشة بالرخام الملون، والمعادن الثمينة، والأحجار الفاخرة... وجعلت في كل يوم أفتح بابًا أو بابان، حتى فتحت كل الغرف»14. هذا الوصف المبالغ في غرابته لهذا القصر؛ لا يمكن فهمه إلا في الإطار العجائبي؛ إذ لا يمكن تصور قصر على هذه الهيئة؛ فله أربعون خزانة، والخزانة تتصل في مخيلتنا بما نحفظ فيه الممتلكات النفيسة؛ كالذهب والفضة والأموال، فإذا بنا هنا نجدها تحوي بيتًا هيئته شديدة الغرابة، والخزانة الثانية تحوي بستانًا، والثالثة قاعة كبيرة ممتلئة بالمعادن الثمينة والأحجار الفاخرة. هذا كله يطرح أمام القارئ تساؤلات متعددة حول هذا القصر: ماذا عساه أن يكون، وما الدلالة الكامنة خلفه؟ وقد يكون ذلك القصر، على هذا النحو، طرحًا لمعالجةِ واحدةٍ من الثنائيات الضدية التي تكتنز بها حكايات «ألف ليلة وليلة»؛ هي ثنائية: الغنى المبالغ فيه، في مقابل الفقر المبالغ فيه. فهناك في حكايات «ألف ليلة وليلة» مَنْ له هذا القصر، وفيها كذلك مَنْ لا يجد طعام اليوم لنفسه ولأسرته؛ وهو ما يبدو في «حكاية الصبية المقتولة»: «قال الخليفة لجعفر: انظر هذا الرجل الفقير، ثم إن الخليفة تقدَّم إليه وقال: يا شيخ، ما صنعتك؟ قال: يا سيدي، أنا صياد، وعندي عيلة، وخرجت من بيتي من نصف النهار، وإلى هذا الوقت، لم يُقَسِّم الله لي شيئًا أقوت به عيالي ...»15.

وفي كثير من  حكايات «ألف ليلة وليلة» تتولَّد العجائبية، أحيانًا، من آلية سردية  يمكن تسميتها «الأنسنة»؛ أي إضفاء الطابع الإنساني على غير الإنسان. ومن ينعم النظر في «ألف ليلة وليلة» يلاحظ  هيمنة تلك الآلية على حكاياتها؛ هذا ما يبدو بوضوح ــ على سبيل المثال ــ  في «حكاية الشيخ الثاني والكلبتين»، و«حكاية الشيخ الثالث والبغلة». ويظل السؤال: ما المردود الدلالي لتلك الآلية؟ وهل هي تسهم، بطابعها العجائبي، في انقتاح الدلالة أمام القارئ؟ 

في «حكاية تتعلق بالطيور»، على سبيل المثال، يدور حوار بنَّاء بين الطاووس وزوجه وبين بطة، يؤكد خوفهم جميعًا من الإنسان وبطشه، واللافت للانتباه أن هذا النقاش يضفي على هذه الطيور طابعًا إنسانيًّا واضحًا؛ فنقاش هذه الطيور يقوم على أساس فكري يستند على الأدلة المنطقية والبراهين العقلية، التي يؤسس عليها الإنسان رأيه في كل ما يناقشه من قضايا أو أفكار. ففي «حكاية تتعلق بالطيور» تذكر البطة أن الإنسان هو سبب حزنها وخوفها، وأنها لذلك تحذر منه، بل وتحذر منه الطاووس وزوجه، فيقول لها الطاووس: لا تخافي حيث وصلت إلينا، فقالت البطة: الحمد لله الذي فرج عني همي وغمي. فلما فرغت من كلامها نزلت إليها زوجة الطاووس، وقالت لها: أهلا وسهلاً ومرحبًا، لا بأس عليك، ومن أين يصل إلينا ابن آدم، ونحن في تلك الجزيرة التي في وسط البحر»16، وتبدأ البطة في عرض الأدلة التي تبرهن بها على منطقها في الخوف من الإنسان؛ فتذكر أنها رأت أثناء نومها إنسانًا يخاطبها قائلاً: «أيتها البطة احذري من ابن آدم، ولا تغتري بكلامه، ولا بما يدخله عليك؛ فإنه كثير الحيل والخداع. واعلمي أن ابن آدم يحتال على الحيتان؛ فيخرجها من البحار، ويرمي الطير ببندقية. وابن آدم لا يسلم أحد من شره، ولا ينجو منه طير ولا وحش»17. ولا شك أن هذه الأنسنة للطيور في هذه الحكاية ليست لمجرد الإمتاع أو التسلية؛ فهي تسهم في انفتاح الدلالة الأدبية أمام القارئ. ومن التأويلات التي يمكن طرحها هنا؛ أن الله منح الإنسان عقلاً ليفكر به، وليستخدمه فيما يعود نفعه عليه وعلى سائر المخلوقات، لا فيما يضره ويضر غيره من المخلوقات. هذا، فيما أرى، هو المسكوت عنه في أنسنة الطيور في «حكاية تتعلق بالطيور»؛ فالإنسان خليفة الله في أرضه، وقد خلقه الله لإعمارها؛ لا لإفسادها.

ومن «الأنسنة» كذلك ما نجده في «حكاية الوزير المحتال» حين نجد الصبية تتحدث مع سمكة؛ إذ توجه الصبية سؤالاً إلى السمكة، وتجيب السمكة في الحال عن سؤالها: «وأما ما كان من أمر الجارية فإنها أخذت السمك ونظفته ورصته في الطاجن، ثم إنها تركت السمك حتى استوى وجهه وقلبته على الوجه الثاني؛ وإذا بحائط المطبخ قد انشقت، وخرجت منها صبية رشيقة القد، أسيلة الخد، وفي يدها قضيب من الخيزران، فغرست القضيب في الطاجن، وقالت: يا سمك، يا سمك، هل أنت على العهد القديم مقيم؟ فلما رأت الجارية ذلك غشي عليها. وقد أعادت الصبية القول ثانيًا وثالثًا؛ فأوقع السمك رأسه من الطاجن وقال: نعم، نعم، نعم»18. 

كما تتولد العجائبية كذلك، في كثير من حكايات «ألف ليلة وليلة» من خلال «التحوُّل»؛ وهي آلية سردية تقوم على تحول الكائن إلى كائن آخر، أو إلى أشياء أخرى؛ كأن يتحول الثعبان إلى عصا، أو يتجمع الدخان ويصير عفريتًا، وقد يحدث هذا من خلال إسباغ صفة كائن لآخر؛ كأن تظهر السمكة بوجه بوم، أو أن يظهر الثعبان بوجه قرد، وغير ذلك؛ مما يمثل انتهاكًا واضحًا لقوانين العقل والمنطق، وهو الأمر الذي لا يمكن تقبله إلا في ضوء الإطار العجائبي؛ فليس من المعقول أن يكون للسمكة وجه غير الذي نعرفه، أو أن يظهر الثعبان بوجه قرد. إن هذا التحول يجعل تلك الكائنات تبدو في صورة فوق طبيعية، تجعلها قريبة الشبه بالكائنات الخرافية، التي يصعب على العقل تقبلها لمخالفتها المعتاد أو المألوف في تلك الكائنات، وفي الوقت نفسه لا يمكن للعقل رفضها على نحو تام؛ لأن المتلقي يدرك تمامًا أن هذه الكائنات موجودة بالفعل في الواقع، ولا يمكن تجاهلها.  ففي «حكاية العور العشرة»، على سبيل المثال، نجد حصانًا له جناحان يطير بهما بسرعة فائقة: «ثم انشغل بالي... فقمت إلى الباب الأربعين وفتحته؛ فشممت رائحة ذكية، ثم رأيت في وسط الغرفة حصانًا مشدودًا ملجَّمًا، سرجه من الذهب الأحمر؛ فركبته فلم يبرح مكانه، ولم يتحرك من موضعه، فأخذت المقرعة وضربته بها؛ فصهل بصوت كالرعد القاصف، وفتح جناحين وطار بي، وغاب عن الأبصار في جو السماء»19. ولا شك أن هذه الصورة العجائبية للحصان؛ تفتح أمام القارئ أسئلة متعددة حول الدلالة الكامنة خلف هذه الصورة: هل الحصان هنا شكل من أشكال العقاب العنيف؛ استحقه هذا الصعلوك؛ لخُلْفه الوعد الذي أخذه على نفسه، وعاهد عليه صاحبات القصر، بأن يفتح خزائن القصر جميعها، عدا الخزانة الأربعين، ثم خان العهد وفتحها؟ هل هذا الحصان معادلٌ موضوعيٌ للصعلوك نفسه في فضوله وبحثه عن المجهول، وهو ما يظهر في رحلة هذا الحصان الجوية؟ وقد يصل القارئ إلى تأويلات أخرى لهذه الصورة، وتعدد التأويلات هنا هو، في حقيقة الأمر، ميزة ناتجة عن الطابع العجائبي الذي غلَّف هذه الصورة. 

أقول، في نهاية هذه الدراسة، إن العجائبية عنصر مهيمن على حكايات «ألف ليلة وليلة»، وهي مدخل صالح لقراءة تلك الحكايات، قراة مفتوحة لانهائية، تتعدد بتعدد قرائها.  

 

 

 الهوامش 

1.    سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1985م، ص 170. 

2.    انظر: رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة: جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998م، ص 36.

3.    انظر: المرجع السابق، ص 35.

4.    نفسه، ص 35 ــ 36.

5.    نفسه، ص 35 ــ 36.

6.    ألف ليلة وليلة، مكتبة معروف، القاهرة، د.ت، ج1، ص 15.

7.    المرجع السابق، ج1، ص 41.

8.     نفسه، ج1، ص 33.    

9.    انظر: نفسه، ج1، ص 4 ــ 6.

10.    نفسه، ج2، ص 647.

11.    نفسه، ج2، ص 943.

12.    نفسه، ج2، ص 95.

13.    نفسه، ج2، ص 844.

14.    نفسه، ج1، ص 37 ــ 38.

15.    نفسه، ج1، ص 49.

16.    نفسه، ج1، ص 342.

17.    نفسه، ج1، ص 342.

18.    نفسه، ج1، ص 38.

19.    نفسه، ج1، ص 20.

 

 

الصور 

1.    https://www.behance.net/gallery/31480335/illustrations-for-the-book-of-Arabian-tales/modules/200952047

2.    https://www.behance.net/gallery/31480335/illustrations-for-the-book-of-Arabian-tales/modules/200952055

3.    https://www.behance.net/gallery/31480335/illustrations-for-the-book-of-Arabian-tales/modules/200952045

4.    https://www.behance.net/gallery/31480335/illustrations-for-the-book-of-Arabian-tales/modules/328954147

 

أعداد المجلة