عرس تراثي وثقافة لا حدود لها
العدد 56 - التصدير
على مدار أربعة عشر عامًا استطاعت مجلة الثقافة الشعبية الفصلية المحكمة أن تحقق نجاحًا ملحوظًا محليًا وعربيًا ودوليًا، وأن ترسم لها خريطة ثقافية على امتداد الدول والأفراد التي كانت ولاتزال تتعامل معها، وتعلن للقاصي قبل الداني من خلال قنوات تواصلها التقليدية والإلكترونية، وعبر اللغات التي اعتمدتها في موقعها الإلكتروني أن البحرين لديها الإمكانات الثقافية والمعرفية والتراث مما يؤهلها لتكون قادرة على نسج علاقاتها الثقافية، فتاريخها عبر الزمن، وحضارتها الديلمونية التي كان ولايزال يتشرب منها شعبها بعض فنون الحياة، وصناعة التاريخ، وبناء الأمجاد، وحضارتها العربية والإسلامية القديمة والحديثة التي بسطت معالم الحياة لأفراد المجتمع ليكونوا قادرين على مواجهة تحديات الواقع المعيش، والتخطيط لبناء مستقبل هذا الوطن وما يحمله من إرث حضاري وثقافي وأدبي تحت قيادة رشيدة آمنت بدور الثقافة في صنع الإنسان، هكذا كانت منذ الوهلة الأولى لولادتها، وهكذا كانت أسرة تحريرها التي آمنت بدور التراث الثقافي الشعبي المادي وغير المادي في صنع الحضارة الإنسانية، ومشاركتها في بناء ثقافات الشعوب، وبخاصة إذا كان المنبع الرئيس منبثقًا من أصالة المكان وتاريخه.
وكما نعلم أن الموروثات الثقافية المادية وغير المادية هي لبنات أساسية لكل فرد في المجتمع الذي يتكئ على روافدها، وذاكرتها المحفوظة في وجدان الإنسان، وبين سجلات ذاكرته الشفاهية عادة، والمكتوبة أحيانًا، لهذا حرصت أسرة المجلة على احتضان أفكار الباحثين والكتاب والمشتغلين بالتراث عامة، والمختصين في مجال التنقيب والتقصي والرصد المعني بكل ما يرتبط بعالم التراث الشعبي المحكي والمدون، والمادي، حيث تتحفنا هذه الأسرة في كل عدد من أعداد المجلة بدراسات ومقالات وفنون وحكايات وأفكار تسهم في تعزيز ما لدينا من معارف، وترشدنا إلى المزيد من البحث والاطلاع، وتسهم في تقوية علاقتنا بموروثنا وتاريخنا وعاداتنا وأعرافنا التي أصيب بعضها بترهل وجفاف بسبب انجراف العديد من أفراد المجتمع إلى التقليعات المتموضعة في قالب الموضة أو التحديث أو التطوير، وإن كنا نؤمن بالتحديث والتطوير، ولكن هذه التقليعات بعيدة كل البعد عن تطلعات المجتمع والنخب الثقافية التي تنادي بنسج العلاقة بين الأصالة والحداثة، بين الماضي والحاضر، بين الواقع المعيش، والحياة اليومية، وبناء المستقبل.
ومع هذا الثوب القشيب الذي تزدان به المجلة بين الحين والآخر، وتأكيدها على أهمية التراث والموروثات الشعبية المختلفة والمتعددة، فربما لايزال هناك موقف ما عند بعض أفراد المجتمع تجاه مفهوم الثقافة الشعبية، أو الجماهيرية، وكأنها مصطلح غير مرغوب فيه، وليس محببًا، وأنه ضد الثقافة العالمة، أو العالية أو النخبوية، أو الرسمية، بمعنى تلك التي تقدم في المدارس والجامعات، لكن لا يخلو أي مجتمع إنساني من تراث ثقافي موزع بين الثقافة الشفاهية، والثقافة المكتوبة، بل حاولت دول كثيرة التقريب بين هذين العنصرين أو الثقافتين حتى وصل بهما إلى التلاحم في أحيان كثيرة، أي أن هاتين الثقافتين تنطلقان من توجه واحد في الأصل والأساس، وهي تربية النفس، وتنمية الوعي والوجدان، مع اختلافهما في الأساليب والطرائق والوسائل، والمادة نفسها، وتشترك هاتان الثقافتان في بناء الإنسان ليكون قادرًا وواعيًا لدوره في المجتمع، وكيف يتسلح بماضيه وتراثه لعيش حاضره بأفكار ممزوجة بين أصالة الماضي العريق، ونظريات الحاضر، وحلم المستقبل، وكما قيل (من لا ماضٍ له لا مستقبل له).
إذا كان كل عدد من أعداد المجلة يشكل عرسًا وفرحًا لنا نحن في البحرين، وإلى القراء المنتظرين، فهل يعنى أن حفلة العرس اكتملت، وتنتهي بنشر العدد وتوزيعه؟ أم لايزال هناك طموحات كثيرة في حقيبة هذه المجلة، وهناك أفكار مزروعة في بناة عقول أسرة تحريرها؟ إننا قراء المجلة لا يحد طموحنا حاجز ولا يقف في وجهه عائق، بل يزداد كلما وصلنا العدد الجديد من المجلة، وهو يحمل بين دفتيه مادة غزيرة وقلائد جمالية، ومعارف متنوعة تحكي عن الشعوب والدول، وما يشكله تراثهم في وجدان حياتهم، لذلك لدي طموح ليس مبالغًا فيه، وإنما لإيماني بقدرة القائمين على مشروع هذه المجلة على احتضان هذا الطموح، ويتمثل في إعادة النظر لوضع المجلة وإصدارها الفصلي، أي هل يمكن لنا أن نرى تحولاً لهذا المشروع المهم، من كونه مجلة فصلية تهتم بالتراث الشعبي إلى مركز للتراث الشعبي المادي وغير المادي؟
بمعنى إذا كانت البحرين ولا تزال مقر نشاط ثقافي متنوع منذ نشأة المكان، وتواجد الإنسان عليه حتى يومنا هذا، وأن هذا النشاط متعدد في نوعه وماهيته وطبيعته وهدفه وجمهوره، ويزداد ألقًا كلما تقدمت مملكة البحرين في عمر الزمن الفيزيائي، وعمر التطور الثقافي والفكري، ولا شك أن الكتاب والمثقفين والمعنيين بالثقافة عامة والثقافة الشعبية بخاصة في أي بلد يسعون دائما إلى وضع بلدهم على خريطة المشهد الثقافي الخارجي بعد تمحور كل الجهود ليكون هذا التراث الثقافي ماثلا في الداخل، ويمارسه المعنيون بصورة عامة، لهذا نطمح أن تكون المجلة نفسها أحد فروعه، وكذلك الموقع الإلكتروني، بالإضافة إلى أدوار أخرى يمكن القيام بها، وتتمثل في تعدد الأقسام داخل هذا المركز، فتكون هناك حوارات ولقاءات مباشرة أو افتراضية شهرية تناقش موضوعًا تراثيًا معينًا، يكون بعدها ملفٌ لعدد من أعداد المجلة، وفرع يهتم بالمسابقات الثقافية ذات الشأن بالتراث الإنساني تقام كل عامين مثلاً، وفرع يهتم بشأن الطباعة والإصدارات على غرار بعض المعاهد العربية المهتمة بالتراث، وأن يكون مع كل عدد من الأعداد كتاب، وهو الذي قامت به المجلة نفسها مع بعض أعدادها، ولكن الطموح هو الاستمرارية كما كانت ولاتزال عند بعض المجلات كمجلة دبي الثقافية قبل توقفها، ومجلة العربي، ومجلة نزوى، ومجلة الفيصل، وغيرها، وفرع آخر يختص بإقامة الملتقيات الثقافية كل سنتين مثلاً يناقش فيها موضوعات مرتبطة بالثقافة والفن والفلكلور والتاريخ الشفاهي، والحكايات، بالإضافة إلى الاهتمام بدور الحكواتية في البحرين حيث الزمن يمضي، ومن كان يمارس هذا الدور مع الوقت لا نجدهم، لذلك هناك بعض النساء والرجال الذين لديهم هذه المهارة، ولكن بحاجة إلى تدريب وتنمية مهارات الحكي، وبناء الجمل ونسجها لتكون حكاية، كما أنهم بحاجة إلى تدريب على كيفية حكاية قصص الأطفال والأشعار، وغيرها، وكما حفظت المجلة وجامعة البحرين الحكايات الشعبية الشفاهية في خمسة مجلدات، وستبقى ما بقي الإنسان، فأعتقد ما طرحناه من طموحات لا ضير بوضعها على طاولة الحوار، لإيماننا أن الطموحات لا حد لها، ولأن البحرين قادرة على تحقيق الطموحات التي تعتبر تظاهرات ثقافية متنوعة، وتشكل حراكًا ثقافيًا وإثراءً معرفيًا، وتسهم مع المجلة والموقع الإلكتروني في المزيد من التواصل بين حضارات الشعوب وثقافاتها وتطلعاتها، هذا ما نأمله.