فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
54

معاني أغاني التنويم والهدهدة في الثقافة الشعبية في ليبيا

العدد 54 - أدب شعبي
معاني أغاني التنويم والهدهدة في الثقافة الشعبية في ليبيا
كاتبة من ليبيا

التنويم هو مساعدة الطفل على السكون والركون إلى النَّوم، ليس بالمواد المنوِّمة الَّتي تستعملها بعض الأمَّهات اليوم، وإنما بترديد كلماتٍ بسيطة في عددها، سهلة في تركيبها، كبيرة في معانيها وأهدافها ومضمونها، ترددها الأم على مسامع الطفل، وتقوم بتنغيمها في موسيقى هادئة تُجبر الطفل بعذوبتها، على الهدوء والخلود إلى النَّوم .

أمَّا الهدهدة فهي تحريك الأم لصغيرها حركة رفيقة منتظمة لينام1، وهي بهذا المعنى اللغوي قائمة على تحريك الطفل فقط دون الغناء له، أما التنويم، وهو في اللغة العربية (تَنخيم) فهو يعني اللعب والغناء معاً2، فالكلمتان على المستوى اللغوي تختلفان في المعنى وتتفقان في الغرض منهما ألا وهو تهدئة الطفل، غير أنهما تختلفان كذلك في الوسائل والأدوات ، فالتنويم يتضمن الحركة والغناء، أما الهدهدة فقد تتضمن الحركة دون الغناء ، وفي الثقافة الشعبية في ليبيا فإن الكلمتين تشيران إلى ذات الغرض كما أنهما يشتركان في ذات الوسائل والأدوات، ألا وهي التحريك برفق، والغناء الهادئ، وهما بذلك يشيران إلى ذات المعنى .

أهمية أغاني التنويم والهدهدة:

يعتبر الباحثون في مجال الطفولة أن أغاني المهد الَّتي يتلقاها الطفل في مرحلته العمرية الأولى هي أول علاقة أدبية وجدانية تنشأ بين الأمُّ والطفل، إذ أنَّ هذه الأمهودات تلعب دورها الحيوي في وضع البذرة الأولى في التربية الوجدانية وتنبيه مشاعر الطفل للأحاسيس والمشاعر والأنغام الموقعة3.

إنَّ الطفل من أشد المخلوقات قابلية للتأثر والانفعال، ومحبَّة للكشف والاستطلاع، ورغبة في تحقيق الذات4؛ لذا فإن البيئة المحيطة وما تحتويها من تفاعلات تؤثر فيه بشكل كبير، وتواصل الآخرين معه، خاصة الأم يكون له مردوده الإيجابي على مستقبل الطفل وصحته النفسية والوجدانية، ويكون لهذه البيئة دورها الفاعل والمهم في بناء شخصية الطفل وإعداده للحياة.

إن أغاني التنويم والهدهدة ترافق الطفل في مرحلة عمرية مهمة وحساسة وأساسية أيضاً، وهي مرحلة الطفولة المبكرة (فيما بين الميلاد وعمر الثلاث سنوات)، ويكون المؤدي لها عادة (في الثقافة الشعبية الليبية) الأمِّ أو الأخت أو أيِّ امرأةٍ أخرى قريبة من الطفل، والغاية الأولى منها – كما أشرنا سابقاً - هي تلعيب الطفل أو محاولة تهدئته وإسكاته عندما يبكي5، هذا بالإضافة إلى غايات وأغراض أخرى سنعرض لها في مجال آخر .

خصائص أغاني التنويم والهدهدة:

تتدرج الأغاني الَّتي تُغنَّى للأطفال من مجرد أصوات مبهمة يتلقاها الصغير من المحيطين به منذ ميلاده إلى أن تُصبح أغاني مكتملة المقومات، وكأنَّها تنمو بنمو الطفل، تغنيها الأمهات بصفة خاصة، والقريبات للطفل6، فبعد ولادة الطفل تبدأ الأمُّ في مناغاته ومداعبته، بل ومحادثته بكلماته لا يمكن أن يفهمها طفل صغير، وتتحدث في أحيانٍ كثيرة على لسان صغيرها، وتكاد تنحصر الكلمات الَّتي ترددها أو تخترعها في محاولة إضحاك الطفل، أو جعله يبتسم7، أو لشدِّ انتباهه، أو حتَّى لمجرد الاستمتاع بمصاحبته ، وتتعدد هذه الكلمات وتختلف من بيئة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، ومن لغة ولهجة إلى لغة أو لهجة محلية أخرى، ويمكن أن نذكر هنا بعض الأمثلة عنها ، والتي كثر استعمالها من قبل أمهاتنا وجداتنا العربيات الليبيات :

كلمة (بَسْ) وتكرر عدَّة مرات باتصال ودون انقطاع، وبإيقاعات مختلفة حتَّى يبتسم الطفل .

كلمة (نقغ)، أيضاً تُكرر بإيقاع رتيب مشحون بالإيحاء، وقد يضحك الطفل أو يقلد الكلمة .

وهناك بعض الأصوات الأخرى الَّتي لا يمكن كتابتها بالحروف الأبجدية أو الموسيقية، ويمكن تقريب ذلك، بأنها عبارة عن ضمِّ الشفتين مع سحب الهواء إلى الداخل، أو دفع الهواء من الفمِّ إلى الخارج، والتحكم في الهواء .

وهكذا نجد أن ما يُميز أغنية الطفل هو شكلها البسيط، فحين نحاول أن نُعرفها أو نصفها نجد أنَّها عبارة عن مجرَّد الترنُّم اللحني أو الدندنة، فكانت، وبخاصة ما اتصل منها بأغاني المهد: همهمات هادئة تسير وفق نغمة رتيبة، يصحبها غالباً تحريك الطفل، أو بعض أجزاء جسمه كالذراعين مثلاً واهتزاز الأمُّ نفسها، أو من يحمل الطفل هزّات خفيفة تُناسب إيقاع الهمهمة الَّتي تحدث بفمها، يؤكد ذلك ما ورد في القاموس الأساسي للفلكلور تحت مادة lullaby من أنَّ الأمهودات هي مجرد صوت أو تكرار لنغم ناعم رتيب مصحوب بهزات لطيفة حنون للطفل، بين الذراعين أو في السرير أو في العربة، كانت النساء يدندن به؛ ليُسكتنّ أطفالهنّ أو يحملنهم على النَّوم8 .

إن أغاني التنويم والهدهدة الليبية تتفاعل فيها الكلمات والإيقاع لتخلق شعوراً محبباً لدى الطفل والأمّ على السواء، بل إن المستمع الآخر – في حال وجود آخرين بالجوار- يتملكه ذاك الشعور الَّذي تولده هذه الكلمات البسيطة في تركيبها، الواضحة في معانيها، والَّتي تتضافر مع الإيقاع الهادئ، ومع صوت الأمِّ المفعم بالحنان والحبِّ، فيسري في نفسه الهدوء، ويغمره إحساس بالأمان .

إن ما يميز أغاني الهدهدة والتنويم هو وتيرتها الهادئة وأسلوبها الرخيم، وموسيقاها الهادئة، كما أن أداءها يتطلب من المؤدي هدوءً ومجالاً كبيراً من الطاقة الإيجابية الحاضنة لمشاعر الحبِّ والحنان والتي سيبثها من خلال صوته إلى الطفل في شكل أغنية يكون لها تأثيرها الساحر على الطفل في حال كان أداؤها بالشكل المطلوب.

نماذج لبعض أغاني التنويم والهدهدة في الموروث الشعبي الليبي :

التراث الشعبي الليبي غني وزاخر بكل أغاني ترقيص الأطفال، والتي يُطلق عليها اسم (أغاني الترجيب)9 في المنطقة الشرقية من ليبيا، واسم (الترجيم ) في المنطقة الغربية والوسطى، وكمثال لهذه الأغاني التي تتردد كثيراً على ألسنة أمهاتنا هذه الأغنية التي تقول كلماتها :

هالله10 هالله هالله

أجْنَيّنْ11 فيه الغلّة12

فيه التفاح إيْفُوحْ

فيه العنبر واللوز13

فيه ....14 يجري

ويلقّطْ في الحِجْري 15

تدعو الأمُّ هنا رب الكون أن يرزق صغيرها بستاناً مليئاً بأشجار الفاكهة والقمح والشعير، يركض فيه سعيداً، ويلتقط ما تساقط من الأشجار من فاكهة، يضعها في حجره، ربما ليأكلها أو ليبيعها وينتفع بثمنها أو ربما ليحملها إلى أمه هدية يُسعد قلبها بها، وربما ليمنحها لجائع أو محتاج فيبارك الله فيما زرع وجنى .

إن أول ما نقرأه في هذه الأغنية هو روح التدين والتعلق بالله الَّتي عُرفت بها الأمُّ الليبية، والإيمان أن للكون ربا قريبا سميعا مجيب الدعاء، يستجيب لنا إن دعوناه، ويحقق آمالنا إن ابتهلنا إليه ورجوناه .

وعليه نستطيع أن نلمس أيضاً في تكرار صيغة الدعاء والطلب (هالله هالله هالله ) في مطلع هذه الأغنية ابتهالاً عميقاً حاراً نابعاً من قلب أمٍّ حنونٍ محبَّةٍ متطلعة، وتضرعاً مفعماً بالحنان والحبِّ يعكس في ذات الوقت خوفاً مضطرباً قد يكون خوفاً مما يخبئه القدر، أو من عيون الحاسدين، وقد يكون خوفاً من الفقر والحاجة اللذين تعيشهما الأمُّ، والَّذي يظهره عدم مبالغة الأمُّ في طلبها، فهي لم تكن كبيرة الطمع أو واسعة الخيال كثيرة الطلب ، فكلُّ ما كانت ترجوه لصغيرها: بستان صغير يعيش فيه سعيداً بما يلتقط من على أرضه من ثمار يتساقط بفعل النضج .

إن المتأمل لكلمات هذه الأغنية يستطيع أن يستخلص ما اتصفت به الأمُّ الليبية من صفات أخلاقية، وما تميزت به من تكوين نفسي خلاّق وفريد، فهي – أي الأمُّ الليبية – متدينة تؤمن بعالم الغيب، بسيطة في طلباتها، صبورة في حياتها، لا تفقد الأمل في الحياة أو في التغيير نحو الأفضل، يشعُّ الفرح والتفاؤل والرضا من كلماتها حتَّى وهي في أقسى حالات الحاجة والفقر هذا إضافة إلى امتلاء قلبها الدائم بالدفء والحنان والعطف .

من ناحية أخرى تعكس هذه الأغنية بوضوح نمطاً من أنماط المجتمع الليبي كونه مجتمعاً زراعياً يقوم اقتصاده –قبل اكتشاف النفط وبُعيده – على الزراعة، وهي الحرفة الَّتي كان يزاولها أغلب السكان، ويحلم بالتوسع فيها ونجاحها الجميع ومنهم هذه الأمُّ الَّتي تتطلع إلى مستقبل أفضل لصغيرها، يقوم على الزراعة الَّتي من أهم محاصيلها: القمح والشعير، والفاكهة .

كذلك ورد في الأغنية العنبر، وهو ليس من الفاكهة، لكن ذكر هنا لطيب رائحته المميزة، وكثر استخدامه في الحياة الليبية.

هذه الأغنية تصلح للجنسين، فيمكن أن تغنيها الأمُّ لصغيرتها، كما تغنيها للصغير، على عكس بعض الأغاني الأخرى الَّتي لا تصلح إلا لأحد الجنسين .

إن أول ما يشدنا إلى الصورة في هذه الأغنية هو غناها، فهي صورة غنية باللون والرائحة والحركة، يكاد من يسمعها أو يرددها أن يرى أمامه الأشجار الخضراء المثمرة المتناثرة أو المنتظمة في بستان صغير، ويشم الروائح الزكية المختلفة، مثل: رائحة التفاح الزكية، ورائحة العنبر النفاذة، كما يستطيع أن يحسَّ بالحركة الَّتي تتمثل في ركض الصغير بين الأشجار وتحت ظلالها، والتقاطه الفاكهة المتساقطة هنا وهناك، ومن ثم يشعر ببهجة الصغير وأمه وفرحهما حين يقوم الطفل بوضع ما التقط في حجره بفرح كبير وسعادة غامرة تفيض على فؤاد المتلقي الذي يستمع إلى الأغنية وروحه.

إن الأمُّ حين تضع صغيرها في حجرها أو على كتفها أو ظهرها أو تهدهده في مهده في سرير أو أرجوحة، ومن ثم تترنم بهذه الكلمات في صيغة هادئة وصوت دافئ حنون تدعو الطفل بها إلى الهدوء والاطمئنان، وتغمره إحساساً بالأمان فينام في هدوء شاعراً أن العالم – بوجود هذه الأمُّ الرائعة – ملكه وحده .

إن المتأمل لأغاني التنويم الليبية يكتشف بوضوح قيمة الطفولة في المجتمع العربي الليبي، كما يستشف عاطفة الأم الليبية القوية، وحبها العميق لصغرها، وحنانها عليهم، وذلك من خلال تخصيص الوقت الذي يحتاجونه لتُشعر الصغير بوجودها قربه، وبالتالي يملؤه إحساس بالأمان والطمأنينة، وبحب الآخرين له، وتقبل هذا العالم له .

ومن الأغاني الَّتي تتغنى بها الأمهات أيضاً في ليبيا لأطفالهن، ذكوراً وإناثاً، لغرض التنويم والهدهدة هذه الأغنية:

هَوْ هَوْ هَوْ

يا نوّام الخجلة16

جيب النَّوم بالعجلة17

هو هو بالسردوك18

جيب النَّوم وأرحم بوك

إنَّ الأمَّ هنا تطلب الهدوء ومن ثم النَّوم لصغيرها، تطلبه من الله الَّذي يُنيم ولا ينام ؛ فتردد هذه الكلمات على إيقاع هادئ موزون، وبطريقة ناعمة تغريه بالنوم .

لقد جرت العادة أن تربت الأمُّ على ظهر صغيرها أو على صدره أو كتفه بانتظام وهدوء ورتابة، سواء كان الصغير في حجرها أو في مهده، وتردد مثل هذه الكلمات في هدوء ونعومة ورتابة، حتَّى يغمر الطفل الإحساس بالأمان، ويغط في نومه سعيداً مطمئنناً .

تبدأ هذه الأغنية بترديد ذاك الصوت المبهم الَّذي يتكرر في أغلب أغاني الترجيب لدى أغلب الشَّعوب في أوروبا ولدى شعوب البحر المتوسط: (هَوْ هَوْ هَوْ)19.

إن أغلب أغاني الترجيب الليبية تأتي بصيغة الطلب والدعاء، وهذا في حد ذاته دليل كبير على تدين المرأة الليبية وإيمانها بوجود رب قريب سميع مجيب ، يقدر ويلطف، ينجي ويبعد الأذى، كما أنه – سبحانه وتعالى - بكلمته (كن فيكون ) قادر على تقدير الخير لمن يطلبه .

غير أنَّنا في هذه الأغنية نجد أن صيغة الدعاء جاءت بطريقة غريبة نوعاً ما، فالأم تقول: (يا نوّام الخجلة) أي يا من تجلب النَّوم للخجلة، والخجلة طائر يُقال أنه لا ينام، و(يا نوام السردوك) - والسردوك، أيضاً طائر صغير معروف بسرعة حركته وكثرة نشاطه20، تطلب ممن يجلب النَّوم لهذه المخلوقات أن يجلب النَّوم بسرعة وفي أقرب وقت لهذا الصغير، ثم تدعو للمطلوب برحمة الوالدين .

وهنا يطرح سؤال نفسه: إذا كانت الأمُّ هنا تدعو الله، وتوجه كلامها إلى الله، باعتباره – سبحانه – هو الَّذي يجلب النَّوم أو يطرده، فكيف تدعو لله في نهاية الأغنية برحمة الوالدين ،وهو الله الَّذي لم يلد ولم يولد؟.

إن هذا الأمر يُعد من الشركيات، وعدم المعرفة بالله.

وللإجابة عن السؤال السابق ينبغي أن نضع في اعتبارنا عدة أشياء:

أولها: إن الأمُّ الليبية – كما كانت أغلب شرائح المجتمع آنذاك – على قدر كبير من الجهل بالأمور الدينية والدنيوية، وسبب هذا الجهل يعود إلى عدة عوامل، لعل أهمها: العزلة الَّتي فرضتها السيطرة العثمانية على ليبيا في فترة من الفترات، فانصرف الحكام والدايات إلى جمع الضرائب والانغماس في حياة اللهو والترف بعيداً عن احتياجات الشعب والناس21، فكان من نتائج ذلك انحدار الأمة العربية والإسلامية إلى هوَّة الجهل والفقر والتخلف، وترك أغلب الناس الفرائض في دينهم الحنيف22 أو حرَّفوا فيها23، وانتشر بينهم الفسق والفجور، وحتَّى حين تمكن بعض الصحوات – في فترات متفاوتة – من بث بعض الإصلاح في المجتمع الليبي24 شرقه وغربه، فإن المرأة بسبب تغيبها القصري عن مناهل المعرفة قد جعلها تدور في دائرة البساطة بحيث تختلط عندها الأمور، والدليل على ذلك كثرة تعلقها ب(المرابطين)25.

وقد يكون القصد من الدعاء في نهاية الأغنية هو لضبط القافية والموسيقى فقط.

والأغنية تعكس صورة من صور المجتمع الليبي وهي البيئة الحيوانية، حيث وردت في الأغنية بعض أنواع الطيور، كما تعكس صفة من صفات الأم الليبية غير التدين والتعلق بالله، ألا وهي الصبر، هذا الصبر الذي نقرأه من خلال رتابة الكلمات ومقاطعها، فنكاد نرى الأم وقد نسيت تعبها كله، وتركت واجباتها الأخرى من أجل أن تخصص هذا الوقت لصغيرها، وتبث فيه الشعور بالأمان فينام بهدوء وطمأنينة مهما كلفها ذلك من وقت وتضحيات .

أمَّا الأغنية التَّالية فقد اشتهرت في المناطق الغربية والوسطى من ليبيا أكثر من المناطق الشرقية، وهي تصلح أيضاً لتنويم الجنسين، فكلماتها عامة، ولا تختصُّ بملامح جنس معين، تقول كلماتها:

يا هوه سلّمْ على هو

يا هوه هات الهوّايا26

على عدْ زيتون غريان

وما في البلح من نوايا27

ويمكن تخيل الأمُّ، أو العمَّة أو الخالة، أو الجدَّة، أو الأخت، أو أي امرأة من محيط الطفل، باعتبار أن الغناء للطفل في الموروث الشَّعبي الليبي ارتبط بالنساء، على عكس الغناء للطفل في التُّراث العربي القديم، فقد كان الرجال يراقصون أولادهم أو أحفادهم ويغنون لهم، وقد حوت الكثير من كتب المصادر الكثير من الأمثلة على ذلك28.

ولنعد إلى الأمُّ الليبية، وأغنيتها السابقة، فيمكن تخيل هذه المرأة، وهي تضع الصغير على كتفها، وتهزَّ جسمها إلى الأمام وإلى الخلف، أو تضعه في حجرها، وتهزَّه إلى اليسار واليمين، أو في أرجوحة مخصصة له في (البيت)29، وتربت على ظهره في حركات متناغمة، تُذكره بضربات قلبها حين كان في أحشائها جنيناً، بينما تُردد تلك الكلمات في أسلوب هادئ، وصوت ناعم يبثُّ في نفس الطفل الراحة والسكون، والامتلاء بالأمان والسكينة ،فينسى دموعه، ويغمض عينيه وينام .

ويتجلى في المقطع الأول من الأغنية (يا هوه سلّم على هوه)، معنيين افتراضيين:

- المعنى الأول: هو أن الأمُّ تعبر عن اشتياقها لشخص غائب، ربما كان زوجاً أو حبيباً أو أخاً أو أباً، وترسل سلامها إليه ، فـ(هوه) تُستخدم في اللهجة الليبية لمخاطبة المفرد المذكر بمعنى (يا أنتَ)، و(هيه) لمخاطبة المفرد المؤنث بمعنى (يا أنتِ)، وهذان اللفظان يستخدمان لغرضين: إمَّا للتقليل من شأن الشخص المنادى وتحقيره، أو لإخفاء اسمه خجلاً أو خوفاً، والواضح هنا أن الغرض هو إخفاء اسم الشخص المرسل إليه السلام، وبهذا يصبح المعنى الذي تقصده الأم في الأغنية هو: احمل سلامي يا أنت إلى ذلك الشخص البعيد الَّذي لا أجرؤ على ذكر اسمه.

- والمعنى الآخر، والَّذي أميل إليه، هو أن الأمُّ تدعو الآخرين، من كافة شرائح المجتمع، ذكوراً وإناثاً إلى التحابب والسلام، ونبذ العنف والحرب والمشاكل، فتقول: يا أنتَ ويا أنتِ، ليُسلمَ كلٌّ منكما على الآخر، فتكون بذلك هذه الأغنية دعوة راقية للسلام والمحبة، ولعله حين يعم الهدوء والسلام ينال الأمُّ ووليدها جزء منه، فينعم الطفل تحت مظلته بالراحة والسعادة .

ثم بعد أن يعمَّ السلام والمحبة والهدوء بينكما (هوه، هوه) أي بين الآخرين، هات أو أحضر (الهوّايا)، و(الهوّايا) أو (الهوّاي) مصطلح يتكرر كثيراً في الغناء الشَّعبي الليبي، خاصة غناوي العلم والشتاوي30، ويُلوح به أو يُشار إلى شخصية مجهولة، أو طائف يُذهب الهم والحزن، ويساعد على نسيان الألم، والذكريات المرة، أمَّا في أغاني التنويم، فهو شخص أو طائف يساعد على جلب النَّوم للطفل.

وفي الشطر التالي: (على عدْ زيتون غريان، وما في البلح من نوايا)، يظهر فيه الاعتداد بالمكان (غريان)، وبيان الحرفة الرئيسية فيها (الزراعة )، ووفرة محصول معين بها، وهو الزيتون .

في المقطع الأول (على عد زيتون غريان )، خصصت الأمُّ مكانا معينا للمحصول المتوفر، وهو غريان، أمَّا في المقطع التالي، فكان عاماً، يشمل كل نوى البلح في نخل العالم، وهذا من أساليب المبالغة الَّتي تميزت بها أغاني الترقيص الليبية، حيث تتمنى الأمُّ أن ينام طفلها ساعات بعدد زيتون غريان، ونوى بلح الدنيا.

نلمس من خلال المقاطع السابقة معاناة حقيقية للأمِّ ،إمَّا لأن الصغير كثير البكاء والشكوى والطلب، أو لأنها مشغولة لا تملك الوقت لتلعبه الساعات الطوال الَّتي ينشدها؛ لدرجة أنَّها تتمنى الهدوء والسلام للعالم كله ليهدأ صغيرها وينام الكثير من الوقت بعدد حبات الزيتون الَّتي تتدلى على أشجارها في غريان، بل وبعدد نوى البلح في جميع أرجاء الدنيا.

وقد يكون طلب الأمُّ المبالغ فيه ذاك هو من باب الحبِّ لا غير، إيماناً منها أن كثرة النَّوم تُسعد الطفل أكثر ، كما نستشفُّ من خلالها ميل الشخصية الليبية إلى السلام والمحبة، والدعوة الدائمة إلى التواصل والتراحم والتواد .

وهكذا نرى أن أغاني التنويم والهدهدة كجزء من أغاني (الترجيب) في الموروث الشعبي الليبي قد كانت لها وظيفتها المحددة، كما أنها قد تميزت عن أغاني (الترجيب ) الأخرى31 بالعديد من الخصائص والميزات منها على سبيل المثال: قصر تلك الأغاني، حيث تراوحت أبياتها بين الأربعة أو الخمسة، كما أنها تميزت بأسلوب أدائها الذي يختلف كثيراً عن أسلوب أغاني (الترجيب ) الأخرى، هذا الأسلوب المتميز بالهدوء والبطء والرتابة، والذي يفرضه الغرض من الأغنية، كما يفرضه شكل الكلمات ووضعها في البيت الواحد .

هذا ولا يزال تراثنا الشعبي بحاجة إلى البحث والجمع والدراسة لاستخراج كنوزه وحفظها للأجيال القادمة كجزء من الثقافة الشعبية، ومعبر عن الهوية الليبية.

 

الهوامش

1. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، ط4، مكتبة الشروق الدولية، مصر، 2004م، ص 978.

2. المرجع نفسه، ص909

3. أحمد زلط، أدب الطفولة، أصوله، مفاهيمه، رواده، ط2 الشركة العربية للنشر والتوزيع والإعلان ( القاهرة، 1994م)، ص 15

4. زين العابدين درويش: تنمية الإبداع، دار المعارف (القاهرة، 1983م)

5. أحمد بوزيد المسماري، لمحات من التُّراث الليبي،

6. عبد السلام قادر بوه: أغنيات من بلادي، دراسة في الأغنية الشَّعبية، مكتبة ليدي (بنغازي، 2004م)، ص 263.

7. المرجع نفسه، ص265 - 266.

8. أحمد أبو السعد، أغاني ترقيص الأطفال عند العرب منذ الجاهلية إلى نهاية العصر الأموي، ط2، دار العلم للملايين (بيروت، 1982)، ص 20/ 21.

9. الترجيب في الموروث الشعبي الليبي له أكثر من معنى، ويُستعمل لأكثر من غرض، ففي عالم الطفولة يُستعمل (الترجيب) بمعني الغناء والترقيص وله أغراض منها بثُّ السعادة والهدوء والاطمئنان في نفس الطفل ، أما في عالم الكبار فتستعمل كلمة (الترجيب) بمعنى: التصغير والملاعبة والملاطفة، والغرض منها كسب ودَّ الأخر وتعاطفه .

10. بتفخيم الهاء، والكلمة هنا تعني الطلب والدعاء أي: يالله يالله .

11. تصغير لمفرد جِنان وهو البستان أو الحقل والحديقة

12. الغلة: هي المحصول من قمح وشعير وغيرها

13. أعتاد الأهالي على زراعة أغراس اللوز الفتية تحت أشجار الزيتون لأن انتاج الزيتون يبلغ نصف انتاج اللوز في فترة 10-20 سنة، ...وكانت أشجار اللوز تقطع بعد مرور 20-25 سنة لكي لا تعيق منتوج الزيتون، راجع نيكولاي . إ . بروشين ،تاريخ ليبيا من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1969م ترجمة عماد حاتم، دار الكتاب الجديد المتحدة بيروت ،ط2، توزيع دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع، طرابلس 1999م، ص 30

14. يذكر هنا اسم الطفل سواء كان ولداً أم بنتاً بصيغة التصغير، كأن يُقال: فيه أحميدة يجري، وأحميدة تصغير لاسم محمد أو أحمد أو حمد أو محمود .

15. المقصود: يلتقط الثمار الواقعة على الأرض ويضعها في حجره

16. هو طائر الحجل أو السمان

17. بسرعة

18. صغير الحجل أو السمان

19. لفتتْ ظاهرة احتفاظ أغاني المهد بتلك الهمهمات الَّتي تُفصح عن البدايات الآولى لها مثل «هو هو ..ننه هو»، الباحثين فذكروا أن هذه الظاهرة ليست ملحوظة عند الأوربيين وحدهم، وإنما تشاركهم فيها جميع شعوب البحر المتوسط ...فبينما تبدأ أغنية المهد المعروفة في مصر :

نينا نام ...نينا نام

وادبحلك جوزين حمام

- تبدأ الأغنية الإيطالية بكلمات مشابهة كما تبدأ أغنية المهد الرومانية أيضاً.

إن ما يُغنى في تونس والعراق ولبنان وسوريا متشابهة، فالتونسية تُغني لولدها:

ننّي ننّي جاك انعاس

أمك فضة وبوك نحاس

ننّي ننّي جاك النَّوم

يا خدين بوقرعون

والسورية تُهدهده قائلة :

أوللاّ يا أولاني

أوللاّ يا أولاني

يا ربّي لا تنساني

من فضلك يا رحْماني

واللبنانية تُعلله:

هي وهي وهلللّا

سمن وعسل بالجرا

مناكل نحنا والبوبو

ومنشحت خيّو لبّرا

- أو تقول :

هي هي هلّينا

دسْتك لَكَنِك عيرينا

لنغسل تياب زوزو

وننشرها عالياسمينا

والعراقية تدلله قائلة

دلّل لُول دلّل لول

يا لولد يبني دلول

لول لول يا قمبر

هسا أتعيش وتكبر

- أحمد أبو السعد، مرجع سابق، ص20 - 23.

20. قد يكون الطائر الطنان

21. كان من أثر الضعف الَّذي ألم بالولاية العثمانية وفيها إقليم برقة وتفشي الجهل بين القبائل، ثم ضياع نفوذ الحكومة في دواخل الإقليم أن أنصرف الناس عن إقامة شعائر الدين واشتغلوا بأمر دنياهم، وما كان الاهتمام بالدنيا من عادات هذه القبائل المتنقلة والبعيدة عن نفوذ الحكومة وسلطانها سوى الإمعان في أعمال السلب والنهب وقطع الطرق على القوافل، والأمثلة كثيرة على التضليل الَّذي لجأ إليه أهل برقة للتحلل من التمسك بشعائر الدين، حيث ت1كر الروايات أنه كان في برقة واد اسمه وادي " زازا" معروف بقوة رجع الصدى وأن الناس الراغبين في عدم صوم شهر رمضان كانوا يذهبون إلى هذا الوادي قبل حلول شهر رمضان بأيام ويصرخون جميعاً سائلين: أي وادي " زازا" أنصوم رمضان أم لا؟ فيجيب الصدى بالكلمة الأخيرة من هذه الجملة وهي " لا" ويتصور من سأل ذلك الوادي أنهم أصبحوا في حل من الصوم فيفطرون غير مقيدين بأوامر الدين الحنيف قانعين أن الأمر صدر إليهم بعدم الصوم . ينظر: الحياة الاجتماعية في ولاية طرابلس الغرب العثمانية في العصر العثماني الأخير ( 1835-1911م )، أعمال مؤتمر الحياة الاجتماعية في الولايات العثمانية في العصر الثاني، منشورات مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات، جمع وتقديم، عبد الجليل التميمي، زغوان 1988/ ص 407

22. أسس بعض أصحاب النفوذ من شيوخ البدو في الجبل الأخضر شمال برقة ضرباً من الكعبة قصدوا به تقليد البيت الحرام الَّذي قضى الإسلام بحجه على كل من استطاع إليه سبيلا، وقج أراد مؤسسو هذه الكعبة الزائفة أن يدخلوا في أذهان البدو أن زيارتها تقوم مقام حج بيت الله الحرام، ينظر، أحمد محمد حسنين، في صحراء ليبيا، بدون مكان، بدون تاريخ، ص 48

23. وردت عن مظاهر هذا الجهل والتحريف الكثير من الحكايات في الكتب والمراجع منها هذه القصِّة الَّتي نقلها أحمد بن محمد السلفي في معجم السلفي وهو مخطوط في دار الكتب المصرية ( ملف رقم 5865 تاريخ 3932، ج2، ورقة 325، 326 ): روى الفقيه علوان البستي أنه كان ينتظر الصلاة هو وجماعة من بني عمه في مسجد بست ( اسم لموضع على البحر شمال مدينة البيضاء الحالية بنحو 25 كم ) ببرقة دخل أعرابي واستقبل القبلة، وقرأ في الركعة الأولى قولاً ما هو بقرآن وهو " الله أحد قاعد، على الرصد مثل الأسد، لا يفوته أحد "، وأتى في الركعة الثانية بمثل هذا القول فلما فرغ من ذلك أخبره الفقيه بأن ما قاله ليس بقرآن، وأن صلاته لا يقبلها الله منه، غير أن هذا الأعرابي كان على قدر كبير من الجهل، فلم يقبل تدخل هذا الفقيه، وأعلمه بأن الله ليس من السفلة الَّذين يردون قاصديهم = ينظر: عبد الفتاح رجب بولبيص: تاريخ برقة الإسلامي، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس 2009، ص 168 .

24. من ذلك ما قام رجال الحركة السنوسية من إصلاح وتثقيف ، للمزيد، ينظر: أحمد صدقي الدجاني، الحركة السنوسية، نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر، القاهرة، 1967م .

25. تُطلق كلمة ( مرابط ) في العامية الليبية – في الغالب – على هذه الأصناف من البشر:

1. الدراويش، وقد اكتسبوا العطف والتقديس لعدة أسباب أهمها غموضهم، وبعض الكرامات الَّتي نسبها إليهم العامة .

2. الفقهاء، وهم المتعلمون الَّذين حفظوا القرآن ودرسوا العلوم الشرعية في إحدى مراكز التَّعليم المنتشرة آنذاك في العالم العربي الإسلامي، أهمها :، مكة، الأزهر، جامعة القرويين، القيروان .

3. السحرة، وهم أولئك الصنف من الناس الَّذين يتعاملون مع الجن ويتداولون السحر الأسود .

- ويبدو الخلط واضحاً من الفئات الثلاث رغم التفاوت والتباين بينها، هذا الخلط مرده في الأساس إلى الجهل الَّذي يثير الخوف في نفس الإنسان من كل ما يعتقد أن له قوة ما يمكن أن تنفعه أو تضره .

- كما أن كلمة مرابط تُلق أيضاً على بعض النباتات الطبية الَّتي لها خاصية علاجية معينة، كالفيجل والحرمل، كذلك فإنها تطلق على بعض الحيوانات .

26. الجالبة للنوم

27. عبد السلام قادر بوه، أغنيات من بلادي، دراسة في الأغنية الشَّعبية، مكتبة الليدي (بنغازي، 2004م)، ص 280 .

28. وكمثال نذكر ما رُويّ عن الزبير بن العوام أنه رقّص ابنه عروة بأبيات، وصفه فيها بالبياض، كما يجد فيه عذوبة يستلذها كما يستلذ المرء ريقه، قال: مبارك من ولد الصديق ...ألذه كما ألذ ريقي.= ينظر: الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت255هـ)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1980. 1 100.

29. البيت في اللهجة الليبية يُقصد به الخيمة المصنوعة من مواد مختلفة، وهي تختلف في شكلها ومواد تكوينها وحجمها من مكان إلى آخر في ليبيا .

30. الأمثلة على ذلك كثيرة منها: وعاها بكاء هوّاي ...انظر احذاها هي بيش خترفت – للمزيد ينظر: عبد السلام محمد شلوف: ثلاثية تراثية، دار الفضيل للنشر والتوزيع والإعلان، بنغازي، 2007 .

31. من أنواع أغاني الترجيب الأخرى في الموروث الشعبي الليبي: أغاني ترقيص الذكور وأغاني ترقيص الإناث بالإضافة إلى أغاني التحفيز والتعلم .

أعداد المجلة