فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
53

النسيج التقليدي بجهة المنستير: المهـارات والمنسوجـات والدّلالات

العدد 53 - ثقافة مادية
النسيج التقليدي بجهة المنستير: المهـارات والمنسوجـات والدّلالات

يشكّل النسيج التقليدي نشاطا حرفيّا رئيسيّا بجهة المنستير أين انتشر منذ قرون ليشمل مختلف مناطقها. وقد اشتهرت كلّ الجهة تقريبا بمختلف أنواع النسيج اليدوي حتّى أصبح من أهمّ الحرف التي يتعاطاها الرّجال والنّساء مقارنة بباقي المهن التقليديّة التي ما تزال منتشرة بالمنطقة. ويرتبط النسيج بجملة من المعارف والمهارات المتناقلة التي تحوّلت إلى «فن فطري يخضع لتقاليد متوارثة عبر الأجيال»1، يساهم في صونه وتطويره معشر الحرفيّين والحرفيّات. وتتنوّع المنسوجات بالجهة لتشمل الألبسة والأغطية والمفروشات الثّريّة بالألوان والأشكال والزخارف الّتي تعدّ جزءا لا يتجزّأ من المنسوج ومكمّلة له وعنصرا أساسيّا من «البناء النسيجي المتكامل»2. ولم تعد الزخارف والرّسوم تقتصر على الوظيفة الجماليّة فحسب وإنّما تجاوزتها لتصبح علامات للفكر الرّمزي والدّلالات الثقافيّة السّائدة وتعكس تنوّعا حضاريّا هامّا.

وما تزال الجهة تحافظ على تقاليدها الحرفيّة في النسيج بالرّغم من التراجع الّذي سجّلته مقارنة بالفترات الماضية خاصّة أمام انتشار مراكز النسيج العصري الّذي يقوم على استخدام الآلات الحديثة للحصول على المنسوجات العصريّة. لذلك سنسعى من خلال هذه الدّراسة إلى عرض قطاع النسيج التقليدي بجهة المنستير كنوع من التوثيق لهذه الحرفة وحفاظا على تراث حرفي وثقافي له خصوصيّاته بالرّجوع إلى العمل الميداني المنجز والمتمثّل في جرد الحرف التقليديّة بالجهة واستنادا إلى مادّة ببليوغرافيّة متنوّعة.

المعارف والمهارات المرتبطة بالنسيج:

المواد الأوليّة، أدوات العمل ومراحله :

عُرفت جهة المنستير بعراقة منسوجاتها وتنوّع المهارات والمعارف المرتبطة بممارسة هذه الحرفة والمكتسبة عبر توارثها وتناقلها خلال عقود طويلة من الخبرة والعمل في هذا المجال. ولعلّ من أبرز مدن الجهة التي ذاع صيتها في ميدان النسيج التقليدي نذكر مدينة قصر هلال تليها عدّة مدن أخرى مثل مدينة المنستير، مركز الجهة، ومدينة خْنيس ولمْطة وصَيّادة وبوحْجَر وطْبُلْبَة وغيرها. وتختلف المنسوجات التقليديّة من منطقة إلى أخرى داخل نفس الجهة من حيث الأشكال والألوان والأحجام والزخارف ولكن أيضا من حيث المواد الأوليّة التي صنعت منها، حيث تمثّل المواد الطبيعيّة والحيوانيّة أبرز المواد التي تعتمد عليها حرفة النسيج التقليدي. وتتمّ عمليّة النّسج بنفس الأدوات تقريبا في كامل الجهة مع ضرورة التأكيد على أهميّة انتشار الأنوال الأفقيّة بجهة السّاحل عموما.

1) المواد الأوليّة الأساسيّة:

تتوفّر بالجهة وخاصّة بمدينة قصر هلال مختلف المواد الأوليّة الأساسيّة لعمليّة النسيج والّتي تشتقّ من مصادر طبيعيّة كالقطن وحيوانيّة كالصّوف والحرير، ولا وجود لإشكال على مستوى الحصول على هذه المواد وعلى الأقمشة بصفة عامّة الّتي ازدهرت تجارتها بالحوض المتوسّطي منذ القرنين الخامس عشر والسّادس عشر3 بعد أن برزت الإمبراطوريّة العثمانيّة كأحد أهمّ أطراف التبادل التجاري في مجال إنتاج وتصدير المنسوجات. ويعتبر الصّوف المادّة الأكثر انتشارا توفّره بعض مناطق الجهة وكذلك العديد من جهات البلاد. أمّا الحرير فيتمّ استيراده من الخارج ويقع جلب معظمه من خارج الجهة وبيعه انطلاقا من دكاكين خاصّة شأنه في ذلك شأن القطن. وقد سجّل الحرير بتونس وبلدان شمال إفريقيا عموما تراجعا هامّا عبر فترات تاريخيّة مختلفة بالرّغم من ازدهاره في السّابق، أين كانت تتمركز أكبر ورشات إنتاج الحرير ومتاجر بيعه بالبحر الأبيض المتوسّط خلال العهد الأموي4 وبعد أن برع العرب في الفترة الوسيطة في مجال الحرير، ووفرة انتشار أشجار التوت بهذه البلدان والّتي كانت تغذّي أعدادا هائلة من دود القزّ5. وبالنسبة للقطن فقد كانت بلدان شمال إفريقيا تنتج القطن بوفرة حتى في الفترات القديمة من ذلك مثلا امتداد مزارع القطن بقرطاج وغيرها من المناطق6. ويعتبر القماش في الفترة الوسيطة مصدر ثراء حيث كانت الأنسجة من الأقمشة والألبسة الرّفيعة تُشترى وتُخبّأ لتباع لاحقا خلال الأزمات7.

يتمّ إعداد الخيوط الصوفيّة والقطنيّة الطبيعيّة والمصبوغة إضافة إلى الخيوط الحريريّة، وتمزج بعض هذه الخيوط للحصول على منسوجات مصنوعة من خليط من المواد، في حين يترك البعض الآخر على حاله. وقد أفرز نسج مختلف هذه الخيوط قطعا متنوّعة تجمع بين المنسوجات الصّوفيّة والمنسوجات القطنيّة والمنسوجات الحريريّة ومنسوجات تتكوّن من حرير وقطن أو حرير وصوف. وتمثّل عادة تحضير الصّوف وتحويله إلى خيوط جاهزة للنسيج مهارة تتقاسمها الجهة مع غيرها من الجهات ولو بدرجات متفاوتة، وتعتبر مرحلة أساسيّة لتوفير الخيوط اللاّزمة للنسيج.

يحظى إعداد الصّوف باهتمام خاصّ من قبل النّساء حيث يجتمعن للتعاون على مختلف مراحل تحضيره وتسمّى العمليّة محليّا «طْوَازَة». وقد عُرفت مدينة خْنيس مثلا بجودة خيوطها أين يقع إعداد الصّوف انطلاقا من فصله عن الجلد وصولا إلى تحويله إلى خيوط مخصّصة للنّسيج مرورا بغسله وتنقيته وتمشيطه وغزله. وتبدأ العمليّة بغسل الصّوف إمّا في المنزل وإمّا على الشاطئ للاستفادة من ماء البحر، فكثيرا ما يتمّ أخذ جلد الشّاة إلى البحر لغسله مع ضربه بالعصى التي تسمّى «الصبّاطة» وفي جهات أخرى «الخبّاطة» لإزالة ما علق به من شوائب، ويُـفصل الصّوف عن الجلد وهو مبلّل. يؤخذ الصّوف ثانية إلى البحر فيغسل جيّدا وفي المنزل يعاد غسله بالماء الصالح للشراب ومسحوق الغسيل، ثمّ يترك في ماء الغسيل ليلة كاملة ويضاف إليه مسحوقا آخر أبيض اللون لتبييضه وحمايته من آفة السّوس. وفي النهاية يُغسل الصّوف مرّة أخيرة ويجفّف ثمّ ينقّى يدويّا من الشوائب وبعدها تتم قردشته بأداة «القرداش» أي تمشيطه حتى يصبح ناعما، ثمّ يُغزل بواسطة المغزل حتى الحصول على خيوط نسيج سميكة أو رقيقة حسب الحاجة، تسمّى خيوط «طُعْمَة وقْيام».

وانتشر في هذه المنطقة صبغ الصّوف طبيعيّا وحتّى القطن باعتماد مجموعة من النّباتات8 من أهمّها قشور الرمّان ونبتة «القرّيصة» ودباغ الشّجر وكذلك نبتة النّيلة للحصول على اللون الأزرق الدّاكن و«الأرجاقنو» للأصفر والأخضر و«الكشنيلة» للأحمر9، وذلك قبل أن يتمّ تعويضها بصبغات عصرية منذ بدايات القرن العشرين مع تدعّم الاقتصاد الاستعماري. وقد كانت نبتة النيلة كثيرة الانتشار في قصر هلال تزرع في الغابة وتسقى بالماء ثمّ تحصد وتجفّف وتدقّ ومن ثمّة تستعمل للصباغة، حيث تسكب في أحواض تسمّى «الخْوابي» مربّعة الشّكل (متر على متر ويصل عمقها إلى 3 أمتار) تملأ بالماء البارد وتحرّك جيّدا بعصا طويلة ثمّ تضاف خصالي الصّوف بكميات محدودة حتّى لا يضعف اللّون ويصبح باهتا. وعند استعمال الصّبغات الكيميائيّة يتمّ غلي الماء في وعاء نحاسي كبير ثمّ إضافة اللّون وتركه حتى يطبخ جيّدا ثمّ رمي خصلات الصّوف وتحريكها مدّة من الزمن وفي الأخير تركها لتبرد أو نقلها إلى وعاء ماء بارد لكسب الوقت. بعد صبغها تغمس الخيوط الصوفيّة في ماء البحر لتثبيت اللّون. وقد اشتُهرت مدينة لمطة كذلك بأهميّة منسوجاتها القطنيّة ذات الألوان اللاّمعة10، واعتبرت مركزا صناعيّا لنسج الصّوف والقطن11. وقد سمحت الصّباغة العصريّة بتعدّد الألوان المستخدمة في النسيج التقليدي والتي كثيرا ما تشير إلى منسوجات جهة دون أخرى، حيث طغى اللون الأحمر السّواكي والأحمر القاني على منسوجات السّاحل، في حين انتشر اللون الأزرق المخطّط بالأحمر بجهة الوطن القبلي وجزيرة جربة وظهرت المربعات على أرضيّة بنية أو صفراء أو بيضاء بجهة قابس12.

2) أدوات العمل ومراحله :

يمثّل النول الأفقي الأداة الرئيسيّة للنسيج وينقسم إلى النّول التقليدي أو العَرْبي والنّول السّوري13 أو»الجاكار» Jacquard، وهو نفسه تقريبا باستثناء بعض الاختلافات على مستوى بعض المكوّنات مثل استخدام الجبّاد في النّول السّوري بدل النّزق في النول العربي والّذي أفرز تغييرا على مستوى حركات الحرفي عند عمليّة النّسج. يستغني النسّاج عن دفع النّزق بيديه عند العمل على نول سوري حيث أنّ جذب الجبّاد المعلّق بالنّول من الأعلى نحو الأسفل يمكّن من تحريك النّزق بدلا عن تمريره ذهابا وإيّابا فوق قطعة النّسيج. ولم يكن اقتناء الجاكار في متناول جميع الحرفيّين وإنّما أقليّة ممّن ينتمون إلى الطبقة الإجتماعيّة الوسطى تمكّنوا قبيل الاستقلال من مواكبة التحوّلات الاقتصادية وتحديث وسائل إنتاجهم من خلال تكوين رأسمال صغير لشراء، وقد انتشرت الأنوال بكلّ حيّ تقريبا بين الدكاكين والمنازل وأضحت جزءا من الإرث يتمّ توارثها عن الآباء والأجداد كدليل على عراقة هذا النشاط في صلب نفس العائلة إلى جانب جملة من الأدوات الأخرى مثل الناعورة والردّانة لمعالجة خيوط النسيج كالقيام مثلا إلى جانب المقص والذّراع للقيس. يُصنع النّول من الخشب ويتكوّن من عدّة أجزاء تكمّل بعضها البعض نذكر منها الدفّ والنّير والشّفرة والنّزق و«المطوة» والفحل فضلا عن العوارض والقفيزات، حيث تساهم جميعها في عمليّة النسيج بحمل الخيوط وتمريرها وتنظيمها والحفاظ على قطعة النسيج مشدودة إلى النّول حتّى ينتهي الحرفي من عمله. ومن الأنوال ما يصنع من الحديد ولكنّه يحافظ على جميع مكوّناته فتتغيّر المادّة فقط دون المساس بالأجزاء.

واستنادا إلى العمل الميداني المنجز تجدر الإشارة إلى استخدام بعض نساء الجهة للنول التقليدي الأفقي الذّي يشتغل عليه الرّجال، حيث لوحظ اتقانهنّ «فن استعمال آلة النسيج»15 وهو ليس بالأمر الهيّن لما يتطلّبه هذا النّوع من الأنوال من قوّة جسديّة ووقوف متواصل. ومنهنّ من أقبلت على تعلّم هذه الحرفة عن والدها في حين عزف عنها إخوتها الذّكور. وقد جرت العادة أن تعمل المرأة على نول عمودي في مختلف جهات البلاد، فتجلس أمام ما يسمّى محليّا «السدّاية» وتشرع في ممارسة ما تعلّمته من مهارات دون أن تنسى تعليق ذيل السّمكة على النول أو قرون الفلفل الأحمر الجافّ في جهات أخرى درءا للحسد وللعين الشرّيرة.

بعد أن تصبح خيوط القْيام جاهزة تُربط في النّول وتعتبر هذه العمليّة مرحلة مستقلّة بذاتها حيث هناك من يختصّ في وضع الخيوط في «المَطوة» إذا كان الحرفي لا يتقن ذلك، كما قد يتعاون أكثر من نسّاج على إتمام هذه المرحلة ممّا يدلّ على أهميّتها بالنّسبة إلى عمليّة النّسج. يشرع الحرفي في عمله مع الاستخدام المكثّف لليدين والقدمين مركّزا على أجزاء معيّنة من النّول ولسان حاله يقول «ما يعاونك على وقتك كان ذراعك، وما يوكلك العيش كان صباعك»16 يحثّ نفسه على الكدّ من أجل لقمة العيش. وتحتاج عمليّة النّسج إلى التركيز والقوّة الجسديّة فضلا عن الوقوف الدائم، لذلك كثيرا ما يردّد النسّاج مثلا شائعا «آش يْرُدّ الخْيوط حْيوط» بما أنّه يعمل على تحويل الخيوط الصّوفيّة إلى «حيوط» أي حيطان في إشارة إلى تماسك قطعة النسيج ومتانتها وكذلك إلى صعوبة الحرفة.

عندما ينتهي الحرفي من النّسج يقوم بفصل القطعة عن النّول فتصبح جاهزة للإستخدام أو تؤخذ إلى الخِياطة كما هو الحال مع بعض أنواع اللباس التقليدي مثل القشّابيّة والكدرون والخلاّلة، فتتولّى الخيّاطة إعدادها وفقا للمقاسات المطلوبة وأحيانا زخرفتها حسب الرّغبة وذلك استجابة لسوق استهلاكيّة هامّة من داخل الجهة وخارجها كما هو الحال مع المناطق المجاورة لجهة المنستير مثل سوسة والقيروان وفي بعض الأحيان المهديّة وبعض الجهات الأخرى مثل نابل والقصرين وسيدي بوزيد وجِرجيس وتطاوين. وقد ارتبطت حرفة النسيج وبعض منتجاتها الأكثر استخداما في العديد من المناطق بمأثورات شفوية يقع ترديدها من قبل النسّاجين أو خلال المناسبات مثل تلك الأبيات الّتي نظمها أحد النسّاجين بمدينة قصر هلال وتحوّلت إلى أغنية شعبيّة لاقت صدى في الوسطين الحرفي والشّعبي17:

بْنـولـِــي نِخْدِم راسـي عالــــي نسّــــــاج مْرَبّـــــي وهْـلالـــي

مـوروثــــــــة أب علـى جـــــدّ كـل هلالــــــــي فيها يكــــــدّ

كْسِينـــــــا بيهــــا كل بلـــــد خلاّلـــــــة وجِبّة من العـالـي

الجِبّـــة فــــي لــون الخمـري حريـــر الدّودة صافي أصلي

يـرغبهــا الَلبّـــــاس المِثْـــــري واللّي عنــده منصب عالــي

الـبَرْنــوس الـوبــــري نَلْقــــوه فـي الـدنيــــا مــا ثمّ خــــــــوه

حُـكّــــــام ووِزْرَه لبـســـــــــوه متسمّي ومعروف هـلالـــــي

خـلاّلـــــة علـى كـل ألــــــوان كـمّـونــــي وحــب الـرمّــــــان

وقٌطـارش كــار العِرســـــــان زْعيفه حريـر قدرها عالـــي

التقْـريطــــــه والبَـخْنُــــــوق مــا يَخْلاشـــــي منها ســــوق

وردي وأخـضـر أحسـن ذوق معشـوق إلّي شْعَـرْها حمــالي

بْنُولـي نِخـدم كـل إقمـــــــاش عَـرْبـــــي مـانــــــي غشّـــاش

وزرابــــــــي ولحـــف فـــراش وحـْـرام القِبْلــــه يـا غـــالــــي

حْـــرام الـقـبـلــــه للـعـربـــان يِرْكِبْ على القـــدّ المِزْيـــان

المَحْزِم والفوطــــــــة كتّــان للرّكبــه يفـوتــو الجلوالـــــي

تجتمع مختلف هذه العناصر الماديّة واللاماديّة في دكاكين النّسيج الّتي تتوزّع بين المدن العتيقة وباقي الأحياء السكنيّة، ويضمّ الدكّان الواحد أحيانا أكثر من نول، نولين أو ثلاثة يشتغل عليها المْعَلِّمْ والصّانع أو العاملين بأجر يومي، بينما تنتصب النساء في المنازل وراء الأنوال لسدّ حاجيات الأسرة من المنسوجات ولبيع ما زاد عن حاجتها فتساهم في تحمّل قسط من مصاريف العائلة. وتمثّل الدّكاكين فضاء للتلاقي وسرد الحكايات وأخبار الحيّ مع استحضار للماضي وحنين لزمن الآباء، فتتعزّز روح التكافل والتضامن الاجتماعي بين ممارسي الحرفة وحامليها خاصّة مع الحديث عن مشاغل المهنة وهمومها. ويزداد التشبّث بالهويّة وبذاكرة جماعيّة مشتركة فضلا عن كون الدكاكين مكانا لنقل المعارف والمهارات الحرفيّة وتعليم الأجيال الناشئة.

تمّ تعيين أوّل أمين للنسّاجين بقصر هلال خلال الفترة الإستعماريّة بقرار من الباي صدر في 5 جويلية 1913 18 وهو صالح بن حمّودة بن علي، في حين تمّت تسمية أوّل أمين للنسّاجين بمدينة المنستير في 12 ماي 1931 19 ويدعى محمّد بن أحمد عبّاس. وكانت مدينة قصر هلال مقرّا للمنضوين تحت لواء الحزب الحر الدستوري الجديد، أين انعقد المؤتمر التأسيسي للحزب عندما شهد النسيج التقليدي تأزّما واضحا انعكس على الحرفيّين من ضمنهم النسّاجين الّذين كانوا وراء نموّ هذا الحزب وتدعّمه ومثّلت أزمتهم دافعا لظهوره بالجهة20. وازداد الأمر سوءا مع صدور أمر أوت 1931 للحدّ من انتشار صنع المنسوجات التقليدية وحتّى منع بعض معامل النسيج بفرنسا من إنتاج هذه المنسوجات على غرار معمل «ليون»21. ومع ذلك فقد صمد قطاع النسيج التقليدي وحافظ على تواجده إلى اليوم كحرفة من أهمّ الحرف وأكثرها انتشارا بالجهة وما زال يلقى الإقبال والرّواج ولو بصفة نسبيّة.

أبرز المنسوجات بجهة المنستير: خصائصها ودلالاتها

يعمل قطاع النسيج التقليدي على توفير جملة من المنسوجات تحديدا من اللّباس والأغطية والمفروشات الصّوفيّة والقطنيّة والحريريّة فضلا عن أغراض أخرى توظّف للزينة أو لتجميل بعض الأدوات، منها ما هو خاصّ بالجهة ومنها ما تتقاسمه مع مختلف جهات البلاد. ويسعى الكلّ جاهدا إلى تلبية حاجيات الجهة وحتى الجهات المجاورة من قطع متنوّعة للرّجال والنّساء.

1) الألبسة والأغطية والمفروشات :

ما تزال الأزياء التقليديّة، رغم التراجع الّذي شهدته، تحظى بالإقبال من قبل الرّجال والنساء سواء خلال الحياة اليوميّة أو في فترة المناسبات الخاصّة أو العامّة حيث يتزيّن الناس وتُزيّن البيوت وفق ما جرت عليه العادة. وإن كانت منسوجات الجهة متعدّدة ومتنوّعة فإنّ من أبرزها الألبسة الرّجاليّة وهي نفسها تقريبا في مختلف جهات البلاد والألبسة النسائيّة خاصّة منها «الزيّ الغير المخيط المنتشر كثيرا بالبلاد التونسية وخاصّة بالجنوب والسّاحل»22 إضافة إلى السجّاد التقليدي المحلّيّ بأنواعه سيّما ذو المخمل القصير فضلا عن الأغطية المختلفة. وقد ورد في الأغنية الشّعبيّة السّابق ذكرها تعداد لأبرز الألبسة والأغطية المنسوجة بجهة المنستير، تضاف إليها العديد من القطع الأخرى الّتي تمّ الاشتغال عليها خلال العمل الميداني المنجز حول النسيج التقليدي. ومن أبرز منسوجات الجهة وأكثرها انتشارا واستخداما إلى اليوم نذكر:

- «الخَلاّلة»: وهي قطعة نسيج من القطن أو الحرير أو الاثنين معا كانت تصنع من اللون الأزرق الدّاكن أو الأسود ولكن في معظم الأحيان تنسج باللّون الأحمر بنوعيه الدّاكن والفاتح وتسمّى حبّ الرمّان، وتزيّن بخيوط قطنيّة دقيقة بيضاء أو زرقاء أو سوداء وفي بعض الأحيان فضيّة أو ذهبيّة. تتخذ المرأة من «الخلاّلة» ثوبا لها عن طريق لفّها حول الجسم وشدّها إلى بعضها بالخياطة أو بواسطة مشابك فضيّة أو إبزيم من الفضّة يسمّى «خْلال» وتحديدا «الخْلال المْدَوِّر» أو الدائري بنقوشه ورسومه وهو عبارة عن حلقة بها دبّوس طويل23 لشدّ هذا النّوع من اللباس النسائي ويشكّل كذلك جزءا من الحلّي التقليديّة الّتي تكمّل لباس المرأة. وتُلبس «الخَلاّلة عادة مع غطاء للرّأس أبرزها «الخلاّلة قْطارِش» و«الخلاّلة زْعيفة» وأقدمها «الخلاّلة إمْتَبْشَةْ» و«الخلاّلة مْحَمِّلْ»، وتنسج جميع هذه الأنواع خاصّة في مدينة قصر هلال.

- «الشَّمْلَة»: حزام صوفي طويل وخشن يبلغ طوله حوالي 3.5 م وعرضه 25 صم يلفّ حول خصر المرأة فوق اللباس التقليدي النسائي مثل الخَلاّلة والحْرام، أبرز ألوانها الأبيض بخطوط سوداء والأخضر بخطوط بيضاء.

- «الحْرَامْ»: لباس نسائي يصنع من الصوف الأسود أو الأزرق الداكن أو الأحمر السّواكي.

- المِنْشَفْ:هو غطاء صوفي مستطيل الشّكل أبيض اللّون تتخلّله خطوط متوازية سوداء أو زرقاء أو خضراء أو ورديّة، تُغطّي به المرأة نصفها الأعلى عند الخروج من البيت.

- البرنس أو «البَرْنُوسْ»: هو من الألبسة الرّجاليّة في فصل الشتاء يصنع من الصوف الأبيض أو البنّي، علما وأنّه يُعدّ أيضا من الأزياء النسائيّة في الأوساط المدينيّة بمدن الشّمال الشرقي.

- «الكَدْرُونْ»: لباس من الصّوف للرّجال مع الإشارة إلى أنّه كان يمثّل أيضا لباسا نسائيّا يطوّق بحزام أو يطرّز بالخيوط الفضيّة في بعض المناطق شمال شرق البلاد كمدينة تونس مثلا.

- القَشّابِيّة: لباس صوفي رجالي يلبس خاصّة في المناطق الرّيفيّة في مختلف جهات البلاد تقريبا ويستخدم بكثرة من قبل الفلاّحين.

- «العْبَانَة»: غطاء ينسج من الصّوف أو من الصّوف والقطن أو من الحرير والصّوف بألوان متنوّعة.

- الفَرّاشِيّة: تأخذ شكل المستطيل وتصنع من الصوف أو أحيانا من القطن وتستخدم كفِراش كما يوحي بذلك اسمها أو كغطاء، تزيّن بخطوط عريضة أو دقيقة من لون مغاير.

- المَنْقُوشْ: يشبه الفراشيّة ويضطلع بنفس الوظيفة ولكّنه أقلّ عرضا منها، يزخرف برسوم في شكل معيّنات يطلق عليها تسمية «مقروض».

- الكْلِيم: ينسج من الصوف في شكل أشرطة عريضة ذات ألوان مختلفة أو لون موحّد تتخلّله خطوط متوازية من لون مختلف ويستخدم كفراش، يصنع أحيانا من الأقمشة والملابس القطنيّة المستخدمة.

- - الزّربيّة: تنسج من الصّوف بألوان مختلفة في مختلف جهات البلاد تقريبا وتُعدّ من أبرز المنسوجات بقصيبة المديوني من ولاية المنستير، منها الزرابي ذات النقط المعقودة ومنها ما تختلف زخارفها من منطقة لأخرى وفق تصاميم معيّنة سيّما النماذج القديمة.

وقد ضمّ كلّ من متحف اللّباس التقليدي بمدينة المنستير، وقسم اللباس بالمتحف الأثري والإتنوغرافي بمدينة المكنين مجموعات متحفيّة ثريّة تتمثّل في معروضات لمنسوجات صوفيّة وأخرى مطرّزة تعكس تنوّع اللباس التقليدي بالجهة وثرائه. نذكر من أبرز هذه القطع «الجبّة صوف أشطار» المصنوعة من الصّوف نصفها أو شطرها أزرق والشّطر الآخر أحمر و«الحْرام نْفاصي» لباس الزفاف من الصوف والخيوط الذهبيّة وحْرَام الصّْباح الصوفي والمْحَرْمة الصوف والمْحَرْمة ورق عنبر الحريرية إلى جانب السراويل الحريريّة والأحزمة والفْرامِل المطرّزة وقوفيّات الرّأس والمناديل الحريريّة والصوفيّة والقْمجّات الذهبيّة.

2) خصائص المنسوجـات ودلالاتها:

تعدّد الألوان والزخارف وتنوّع الرموز

تعكس المنسوجات التقليديّة بجهة المنستير بألوانها المختلفة وزخارفها المتنوعة ورسومها المعبّرة مجموعة من الدلالات والمعاني المُجسّدة للفكر الرّائج في المجتمع وللمعتقد السّائد بين مختلف فئاته الاجتماعية. ولئن كانت المنسوجات الرّجاليّة تميل إلى اللّون الموحّد فإنّ تلك الخاصّة بالنّساء يغلب عليها تمازج الألوان وكثرة الزّخارف من نفس مادّة النسيج أو من مادّة مغايرة. فالألوان التي يتم اختيارها بصفة عفويّة والتي ترمز عموما «إلى المفاضلة والتمييز والمظهر المتنوّع وتوكيد الضّوء»24 لها دلالاتها مثل اللون الأبيض رمز النور والشفافية والبساطة والطهارة والنقاء والقدسيّة والأسود الّذي يرمز إلى الباطن والزّمن وجاذبيّة الأرض والثبات والجلد والأزرق لون الفكر والإلهام والتفاني والبنيّ في إشارة إلى الأرض والأخضر لون الحياة والسرور والنماء والسّلام والأحمر لون القوة والحماسة والطاقة والنار والحب والمتعة25.

ونختصّ بالذّكر بعض المنسوحات التي جلبت الانتباه بألوانها مثل «الحْرام السّواكي المْوَشّحْ» وهو حْرام لونه أحمر سواكي مطرّز بالفضّة المذهّبة والحرير على الصوف26، أو ضفائر الخيوط الصوفيّة المتعدّدة الألوان المزخرفة بالحرير وورود من الصوف فضلا عن الأشكال الهندسيّة وتُزيّن أطرافها بخيوط فضيّة مذهّبة تُشدّ إلى الشّعر فتتدلّى على ظهر المرأة مكمّلة بذلك اللباس التقليدي. ونذكر أيضا «الحْرام الأكحل الصوف» المزخرف بمثلّثات حمراء وخطوط رماديّة عند أطرافه و«الكَدْرون» الصوفي الرجالي البنيّ اللون المُزيّن بزخارف في شكل ضفائر حريرية سوداء و«الخلاّلة حبّ الرمان» نسبة إلى لونها الأحمر والبرنس الأبيض الناصع و«الشملة» الخضراء حول خصر المرأة ذات بعد جمالي وعملي «حفظ القوام وإظهار الرشاقة. الخفّة وسرعة الحركة أثناء القيام بالأعمال المنزليّة أو الخارجيّة. الامتثال والانضباط وتنفيذ الأوامر»27.

وقد عُرفت منسوجات منطقة السّاحل التونسي عموما بطغيان التزيين الهندسي على الأغطية28 في وسط القطعة أو في أطرافها، حيث تتكرّر الخطوط المستقيمة العريضة والرقيقة المتوازية التي ترمز إلى المياه المنسابة المتدفّقة والتي تميّزت بها الزّخارف البربريّة في البلدان المغاربيّة29. وتشتمل زخارف المنسوجات على الخطوط المنكسرة والمتقاطعة إلى جانب المنحنيات والمربّعات والدّوائر والمعيّنات والنّقاط والنّجوم والأهلّة والمثلّثات التي تشير إلى الذكورة أو إلى الأنوثة إن كانت مقلوبة30. وتتنزّل مختلف الأشكال ضمن سجلّ متنوّع الرّسوم والزخارف: الهندسيّة والنباتيّة مثل الأوراق والأغصان وخاصّة الورود التي تزخرف الكثير من القطع وترمز إلى الجمال وإلى «القلب والحب… والصفاء والطهارة»31، والحيوانيّة كالسّمكة رمز الخصوبة والتكاثر وكذلك الوقاية من العين الحاسدة على المستوى المحلي، شأنها في ذلك شأن اليد أو ما يسمّى «الخُمْسة» كشكل آدمي لا يكاد يغيب عن أيّ عمل حرفي فنّي. وكثيرا ما تزخرف أطراف المنسوجات بما يسمّى «الهْذوب» أي الخيوط الرقيقة التي تتدلّى منها أو كذلك بالورود الصوفيّة. ولا يخلو هذا السجلّ من الحضور الرّمزي البربري والتأثير العربي واللّمسات التركيّة وحتّى من بعض الرّموز البونيّة والرومانيّة القديمة. كما لم يغفل عن الواقع المعيشي وما يحتويه من مستحدثات تجسّمها صور وعلامات جامعا بذلك بين التقليد والتجديد ومجسّدا «للمكنز الزخرفي للمنسوج التونسي بمختلف أصنافه»32.

ولطالما أفرز هذا الثراء انتقالا للمعارف والمهارات بقديمها وجديدها عبر ثقافات مختلفة متآلفة غير متنافرة لفترات تاريخيّة متعاقبة وعكس ترابط الحضارات وتواصلها من خلال النسيج ورموزه الدّلاليّة خاصّة وأنّ «الرّموز هي الأداة الأقدم للمعرفة والأهمّ في طرق التعبير»33 نجدها في النسيج والتطريز والمعادن والخشب والفخّار والحجارة والرّخام، حيث تعدّدت المحامل وبقيت الرّموز خالدة بطابعها الكوني وخصائصها المحليّة. وقد أكّدت البحوث الأثرية في مناطق مختلفة من البلاد عراقة النسيج التونسي، حيث كشفت الحفريّات بالموقع الأثري بكركوان البونيّة عن أدوات غزل ونسيج تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد34. وتُعرض بمتحف باردو لوحة فسيفساء تعود إلى القرن الرابع ميلادي تتضمّن جملة من المشاهد من بينها مشهد لامرأة بصدد غزل الصوف35.كما ذكرت العديد من المصادر والمراجع التاريخيّة لعلّ من أبرزها كتاب «المقدّمة» لابن خلدون جودة المنسوجات الصوفية لدى بربر شمال إفريقيا عموما التي «بلغوا فيها المبالغ»36.

ولا تقف وظيفة المنسوجات من منظور انثروبولوجي عند ستر الجسد أو توفير الغطاء والفراش أو الوقاية من البرد شتاء ومن الحرّ صيفا وإنّما تتجاوزها لتتحدّث عن الإنسان في أصله وجنسه وسنّه وانتمائه الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي والطّبقي والمهني وحتى وضعه العائلي. فلئن كانت «خَلاّلة النيلة» مثلا ذات اللّون الأزرق الداكن قد خُصِّصت بجهة المنستير للباس الأرامل، فإنّ «الحْرام الصوفي السّواكي» يعتبر اللباس الشتائي للمرأة الشابّة بلونه الأحمر الداكن وخطوطه الحمراء الفاتحة وأطرافه المزخرفة بضفائر من خيوط صوفية موحّدة اللون. وتُلبس «الجبّة الصوف شطار» بلونيها الأحمر والأزرق من قبل الفتاة في فترة ما قبل الزواج. كما لا تزال عادة ربط الشّملة، الحزام الصوفي، أو وضع «الخلاّلة» على تابوت المرأة المتوفاة عند حمل الجنازة متواصلة إلى اليوم بمدينة قصر هلال في إشارة إلى جنس الميّت. وتُلبس القشّابيّة خاصّة في الأوساط الريفيّة وما تزال تحظى إلى اليوم بالإقبال سيّما من قبل ممارسي النشاط الفلاحي، في حين يمثّل الكَدْرون لباس الرّجل من البلديّة أو من أعيان المناطق الحضريّة في عدّة جهات. كما يشير عدد المنسوجات وأحجامها إلى الانتماء الاجتماعي للعائلة ووضعيّتها الماديّة، فكلّما كان عددها كبيرا وحجمها ثقيلا دلّ على الثراء، لذلك كانت العائلات تتنافس على تجهيز بناتهنّ من قطع النسيج حفظا للمكانة الاجتماعية وذخرا لوقت العُسر والشدّة. في المقابل، قد تتّخذ المنسوجات التقليدية منحى فلكلوريّا خلال المناسبات كرداء للزينة والفرح والتعبير الجسماني «يعكس الانتماء الثقافي والإتنوغرافي لمجموعة اجتماعيّة معيّنة»37.

وبالرّغم من حرص النسّاج أو النسّاجة على الحفاظ على الجانب التقليدي للأنسجة إلاّ أنّ ذلك لا يحول دون ابتكار تصاميم حديثة على مستوى الأشكال والألّوان والرّسوم تضاف لما تمّ توارثه من زخارف ورموز وتفتح المجال للتجديد والإضافة. وقد مثّلت المنسوجات اللّباسية التقليديّة بأشكالها وألوانها وحتى مكمّلاتها مصدر إلهام للطلبة والطالبات بمعاهد الموضة والفنون الجميلة وكذلك لمصمّمي الأزياء ومختلف مراكز النسيج، فنسجوا على منوالها أزياء عصريّة بلمسات تقليديّة مواكبة للعصر. وتمثّل مسابقة الخُمسة الذهبيّة التي ينظّمها سنويّا ديوان الصّناعات التقليديّة بمشاركة حرفيّين وحرفيّات في النّسيج والتطريز من مختلف الجهات تثمينا لهذا العنصر التراثي وتشجيعا على استمراريّته وتناقله بين الأجيال. ويساهم الكثير منهم في تلبية حاجيات السّوق التقليدي من المنسوجات ولكن أيضا الاستجابة لنزعة فنيّة تجمع بين نماذج قديمة وأخرى حديثة كشكل من أشكال التجديد في الزيّ التقليدي سعيا إلى إعادة توظيفه والتعريف به داخليّا وخارجيّا. كما احتفت السّاحات العامّة لبعض مدن الجهة بتراثها الحرفي حيث ازدانت بمشاهد تجسَّد مراحل النسيج التقليدي على غرار مدن قصر هلال ولمطة وقصيبة المديوني38. وتشهد الجهة تنظيم العديد من المهرجانات السنويّة تهمّ النسيج تثمينا لموروثها الثقافي39.

الخــاتمة

تتيح دراسة النسيج التقليدي بمختلف مكوّناته من مواد أوليّة وأدوات وتقنيات نسج وزخارف وألوان مجالا للتعرف على جزء من التراث الثقافي اللامادي المحلي وما يزخر به من مهارات ومعارف متوارثة ومتناقلة من جيل لآخر، أفرزت منتجات محمّلة بمعطيات تاريخيّة واتنوغرافية وانتروبولوجيّة. كما تفتح الباب أمام دراسات متنوّعة حول الأقمشة من حرير وقطن وصوف وما ارتبط بها من أنشطة حرفيّة وأسواق وتعاملات وعلاقات تجاريّة وتأثيرات حضاريّة اتسمت بها المجتمعات وترسّخت في تاريخها عبر مختلف الفترات، القديمة منها والوسيطة والحديثة وصولا إلى المعاصرة.

وترتبط المنسوجات ارتباطا وثيقا بالحياة اليومية فهي ترافق الإنسان من لحظة ولادته إلى مماته وتفرض نفسها كضرورة وحاجة من حاجياته الأساسيّة، فضلا عمّا تعكسه من أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافيّة وتقف شاهدا على التطور التاريخي للمجتمع المحلّي وما تعاقب عليه من حضارات. فاللباس مثلا ليس اختيارا فرديا بقدر ما هو ميل جماعي يأتي استجابة لذوق المجموعة، لذلك كثيرا ما يتضّمن نزعات تتوافق مع تغيّر الذّوق العام وتخضع لمتطلّبات العصر على جميع المستويات.

ونخلص إلى القول أنّ جهة المنستير لا تختلف عن مثيلاتها من جهات البلاد من حيث جمال منسوجاتها وثرائها الفنّي والدّلالي ومهارة حرفيّيها وحرفيّاتها في إنتاج قطع متنوّعة، إلاّ أنّ بعض مناطقها خاصّة مدينة قصر هلال قد تفوّقت في هذا المجال لتنافس مدينة تونس العاصمة في حفظ هذا الموروث الثقافي وضمان استمراره رغم منافسة النسيج العصري وما تواجهه الحرف التقليديّة من مصاعب وأزمات تهدّد الكثير منها بالزّوال.

الهوامش:

1. قانصو (أكرم )، التصوير الشعبي العربي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون و الآداب، الكويت، 1995، ص.15.

2. أيّوب (عبد الرّحمان)، "الرّموز وأبعادها الحضاريّة في المنسوج التونسي"، مجلّة الفنون والتقاليد الشعبيّة، عدد 13، 2001، ص.165.

3. Buti (G.), Pascual (J.P), Raveux (O.), " Avant propos ", In Rives Nord-Méditerranéennes, "Les textiles de la Méditerranée (XVè- XIXè siècles)", http://rives.revues.org/document 1253. html.

4. Varron (A.), " Les origines de la soie ", In Les cahiers de CIBA, n°8, 1947, p.282.

5. Golvin (L.), Aspects de l’artisanat en Afrique du Nord, Vol. II, Paris, 1957, p.53.

6. Golvin (L.), Aspects de l’artisanat en Afrique du Nord, Vol. II, Paris, 1957, p.52.

7. Lombard (M.), Les textiles dans le monde musulman du VIIè au XIIè siècle, T. III, La Haye, Paris, 1978, p.316.

8. Fleury (V.), " Les industries indigènes de la Régence ", In Revue Tunisienne, 3è année, n° 9, 1896, p.180.

9. إبراهم (الحبيب)، قصر هلال من النشأة إلى الاستقلال، تونس، ماي 2002، ص. 129.

10. عبد الوهاب (حسن حسني)، ورقات عن الحضارة العربيّة بإفريقيّة التونسيّة، القسم الثاني، منشورات مكتبة المنار، تونس، 1981، ص.105.

11. Annuaire Tunisien du commerce, de l’industrie, de l’agriculture et des administrations de la Régence, SAPI, Tunis, 1936, p. 294.

12. قرقوري ستهم (سميرة)، البقلوطي (ناصر)، التريكي (سمير)، تقـاليد وحرف فنيّة من تـونس، وزارة السياحة والصناعات التقليديّة، مطابع سنباكت، 1998، ص 131.

13. السّوري: تطلق كلمة السّوري في اللهجة العاميّة التونسيّة على كلّ ما هو غير تقليدي أي عصري وتشير بالدّرجة الأولى إلى ما هو أوروبّي وخاصّة ما هو فرنسي ربّما في علاقة مع الحضور الاستعماري الفرنسي بالبلاد. ويقال "يتكلّم بالسوري" أي يتحدّث باللغة الفرنسيّة و"لِبْسَة سوري" أي لباس عصري خارج عن عادات اللباس المحليّة. والنّول السوري هو النول العصري تحديدا الجاكار خلافا للنول العَرْبي التقليدي المحلّي الصّنع.

14. التيمومي (الهادي)، تاريخ تونس الإجتماعي 1881-1956، دار محمّد علي الحامي صفاقس، 1997، ص،99.

15. قرقوري ستهم (سميرة)، "النساء...ثقافة " مجلّة المرأة التونسيّة عبر العصور، تونس، 1997، ص. 140.

16. العبادي (محمّد رضوان)، مجمع الأمثال الشعبيّة التونسيّة، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، 2018، ص.777.

17. أغنية للفنّان الشعبي فرج حمّودة، من مدينة قصر هلال.

18. الأرشيف الوطني التونسي، السّلسة "ب"، الحافظة 185، الملفّ 86، وثيقة عدد 20، الأمر العليّ المؤرّخ في 5 جويلية 1913.

19. الأرشيف الوطني التونسي، السّلسة "ب"، الحافظة 185، الملفّ 180، وثيقة عدد 5، الأمر العليّ المؤرّخ في 12 ماي 1931.

20. التيمومي (الهادي)، تاريخ تونس الإجتماعي 1881-1956، دار محمّد علي الحامي صفاقس، 1997، ص.97.

21. التيمومي (الهادي)، تاريخ تونس الإجتماعي 1881-1956، دار محمّد علي الحامي صفاقس، 1997، ص.97.

22. قرقوري ستهم (سميرة)، البقلوطي (ناصر)، التريكي (سمير)، تقـاليد وحرف فنيّة من تـونس، وزارة السياحة والصناعات التقليديّة، مطابع سنباكت، 1998، ص 122.

23. البقلوطي (النّاصر)، صناعة الحليّ الفضيّة التقليديّة، الدّيوان الوطني للصناعات التقليديّة، تونس، 2016، ص. 144.

24. كوبر (جي.سي.)، الموسوعة المصوّرة للرموز التقليديّة، ترجمة مصطفى محمود، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014، ص.122.

25. كوبر (جي.سي.)، الموسوعة المصوّرة للرموز التقليديّة، مرجع سابق، من الصفحة 122 إلى الصفحة 132.

26. قرقوري ستهم (سميرة)، البقلوطي (ناصر)، التريكي (سمير)، تقـاليد وحرف فنيّة من تـونس، وزارة السياحة والصناعات التقليديّة، مطابع سنباكت، 1998، ص 134-135.

27. رحماني (نعيمة)، بكوش (نصيرة)، "دراسة سيميو انثروبولوجيّة لعادات وطقوس الزواج بتلمسان"، مجلّة الثقافة الشعبيّة، عدد 36، السّنة العاشرة، 2017، ص.96.

28. قرقوري ستهم (سميرة)، "النساء...ثقافة" مجلّة المرأة التونسيّة عبر العصور، تونس، 1997، ص.139.

29. الرّفاعي (أنور)، تاريخ الفن عند العرب و المسلمين، الطّبعة الثانية، دار الفكر، دمشق، 1977، ص163.

30. أيّوب (عبد الرّحمان)، رموز ودلالات بالبلاد التونسية، وكالة إحياء التراث، تونس، 2003، ص. 57.

31. قانصو (أكرم )، التصوير الشعبي العربي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون و الآداب، الكويت، 1995، ص.42.

32. 32. أيّوب (عبد الرّحمان)، "الرّموز وأبعادها الحضاريّة في المنسوج التونسي"، مجلّة الفنون و التقاليد الشعبيّة، عدد 13، 2001، ص.166.

33. كوبر (ج.س.)، الموسوعة المصوّرة للرّموز التقليديّة، ترجمة مصطفى محمود، المركز القومي للترجمة، الطّبعة الأولى، القاهرة، 2014، ص.5.

34. البقلوطي (ناصر)، صناعات تقليدية وحرف صغرى من صفاقس، دار محمّد علي الحامي للنشر، صفاقس، 2016، ص. 48.

35. لوحة فسيفساء معروضة بمتحف باردو في قاعة سوسة تظهر منزل أحد الأعيان "السيّد جول" في القرن الرابع ميلادي وتحتوي على مشاهد مختلفة (منزل، طيور، قطيع أغنام) من ضمنها إمرأة بصدد غزل الصوف.

36. ابن خلدون (عبد الرّحمان)، مـقدّمة ابن خلدون، الجزء الثاني، دار البلخي، الطبعة الأولى، دمشق، 2003، ص.99.

37. Sefrioui (A.), Le costume : Arts islamiques. Les trésors du royaume, Maroc, Ed. Plume, Paris 1999, p.194.

38. زيّنت الساحات العامّة والشّوارع الرئيسيّة لبعض مدن الجهة بمجسّمات ومشاهد تبرز مراحل النسيج التقليدي وأهمّ الأدوات المستخدمة: ساحة النافورة بقصر هلال قبالة بلديّة المدينة، مدخل مدينة لمطة وتحديدا في شارع الحبيب بورقيبة أمام البلديّة، مفترق طرق مدخل مدينة قصبة المديوني مجسّم لمغزل ضخم وكرة من الصوف.

39. تنتظم بالجهة العديد من المهرجانات نذكر منها مهرجان النسيج بقصر هلال والمهرجان الوطني للزربيّة والحرف الفنيّة بقصيبة المديوني ومهرجان الفخار والصناعات التقليديّة بالمكنين والمهرجان الوطني للفنون والحرف والتراث الشعبي بالمنستير.

• الصور

- تعـود جميـع الصّور إلى صاحبة البحث في إطار العمل الميداني حول جرد الحرف التقليديّة بجهة المنستير، باستثناء الصورة رقم 2 للأستاذ نجيب شوك.

أعداد المجلة