التأثر والتأثير بين الأدب الشعبي العربي والأدب الشعبي العبري
العدد 50 - أدب شعبي
الأدب الشعبي هو ثقافة الشعوب ونجده في العالم كله، يجمع تراثهم وحضارتهم. وفي خضم قراءتي للفولكلور العبري لمست تأثرا بالفولكلور العربي، وسأبحث هنا في نظرية النوع الأدبي من خلال دراسة الأدب الشعبي، فهل هناك خصوصية للأدب ونوعه ومفاهيمه في كل شعب أم أن هنالك علاقة متبادلة في التأثر والتأثير.
لقد ربط شكري عياد النوع الأدبي في الأسلوب، وذكر أن سر النوع الأدبي هو خصائصه الداخلية الغامضة «إننا لا نستطيع أن نضع حدا فاصلا بين الرواية والقصة القصيرة من حيث الطول، إلا أن يكون حدّا تحكميا، وإذن فلا مفر لنا من البحث عن الخصائص الفنية، الخصائص الداخلية لكل من النوعين حتى نستطيع التمييز بينهما تمييزا صحيحا»1.
فقد يتفق البعض على خصوصية عمل أدبي إلا أن هذا لا يمنع تداخله مع موروثات أخرى، إذ أنّ نظريّة النوع الأدبي تثير «مسألتين أساسيتين، الأولى أنها تقبل خصوصية كل عمل أدبي، والثانية أنها تؤسس في الوقت ذاته علاقة العمل الأدبي أو الفني الفردي بنوعه الأدبي أو الفني الجامع، من هنا تعدّ نظرية النوع الأدبي مجالا تتضح فيه خصوصية الأدب ومفاهيمه»2، فمن هذا المنطلق جاء اهتمامي في البحث في الأدب الشعبي العبري، وتداخله مع موروثات أدبية في الأدب العربي.
ينتقل الأدب الشعبي بشكل عام بطريقة شفوية من جيل إلى جيل، وهناك مميزات عامة لآداب الشعوب:
وجود عناصر ما فوق الطبيعة، صراع بين قوى الخير والشر. وتحتاج الحبكة إلى ملء فجوات، وفي الغالب مشكلة تحتاج إلى حل، وتنجم عنها أسئلة اجتماعية.
ومن مميزات القصة الشعبية:
- بداية ونهاية هادئة، فقبل تأزم الأحداث تكون البداية هادئة، والنهاية في الغالب سعيدة.
- قانون التكرار لتأكيد أهمية المذكور.
- القانون الثلاثي: وهو العدد الذي يظهر سواء بعدد الأشخاص، الأشياء.
- يغلب الحوار على هذه القصص3.
هناك طريقتان لدراسة الأدب الشعبي:
- طريقة تؤكد الشمولية في الأدب الشعبي لجميع الشعوب.
- طريقة تؤكد المحليّة ووجود مجموعات تميّز أدبا شعبيا عن آخر.
ويرتكز المذهب الجغرافي في بحث النص على المضمون والحبكة للقصة، فيبحث عن مدى التشابه والاختلاف بين ثقافات مختلفة.
فيرى الباحث العراقي قصي الشيخ عسكر4 بأنّ الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت على احتكاك مباشر بالديانات التوحيدية كالصائبة واليهودية والمسيحية «كان عرب ما قبل الإسلام يزاوجون الرموز الأسطورية التي درست في التوراة والأناجيل وينظرون إلى دلالتها على الخير والشر كالحمام والغراب اللذين يحملان رمزين مهمين في العهدين القديم والجديد، ويرمزان إلى التفاؤل والتشاؤم، والفيل الذي يرمز إلى الخراب بعد أن استخدمه أبرهة الحبشي في الهجوم على الكعبة»5.
وهذا الرأي يدعم وجهة نظر الباحث «דן בן עומוס دان بن عاموس» الذي أشار إلى أنّ هنالك نظريتين في بحث الأدب الشعبي6:
- النظرية الأولى: تنادي وتؤكد العالمية في الأدب الشعبي، فهو أدب كل الشعوب، -وهذا ما سنحاول إثباته في بحثنا من خلال التأثير والتأثر بين الأدب الشعبي العبري والعربي.
- النظرية الثانية: تنادي بالمحلية ووجود المجموعات في الأدب الشعبي وأحادية كل فئة مقارنة بالأخرى.
فمن هنا نجد أن تطور الأدب متعلق بمدى ارتباطه بآداب الشعوب الأخرى، و«يزدهر أي أدب بقدر ما يتاح له من احتكاك بالآداب والحضارات والثقافات الأخرى»7.
يميل الباحثون اليهود إلى ارتباط أدبهم بالحكاية الشعبية «ويذهبون في تعليل ولع اليهود بالحكايات وأهميتها لديهم بأن التوراة نفسها تورد في السفر الأول مجموعة من الحكايات عن الخلق وأصل الكون ،فضلا عن الأعمال الخارقة للأبطال والملوك، ويظهر في التوراة أيضا أن ملوك اليهود وأنبياءهم كانوا مولعين برواية الحكايات والأمثال والعبر التي تعتمد على الرمز وهو ما تعنيه كلمة «ماشال» العبرية»8.
تأثّر الفولكلور اليهودي من مصادر متعددة9:
- من خلال التوراة
- من حضارات أخرى كالحضارة العربية ووجود اليهود فيها.
- ويرى الباحثדב נוח אבי وجود ثلاثة عوامل تميّز القصص اليهودية:
- التغيير في بداية القصة ونهايتها بهدف ملاءمتها للثقافة اليهودية
- الإشارة إلى مصادر يهودية مكتوبة كالتوراة.
- توظيف موتيفات يهودية ،ذكر أسماء شخصيات معروفة.
وقد قسّم اليهود تراثهم الذي ورد في كتب التوراة التلمود قسمين «هما الهالاخاه والهاجاداه، والهالاخاه تتناول تحديد الأحكام والوصايا الملزمة لليهودي في حياته اليومية، وفي العلاقات بين الله والإنسان... أمّا الهاجاداه فهي كلمة عبرية مشتقة من الفعل هجّيد بمعنى أخبر، والمقصود بها هو تراث اليهود من الأساطير والحكايات الخرافية، ويفضل الباحثون عادة استخدام الكلمة الآرامية أجاداه»10يمتلئ الأدب الشعبي بالرموز الخيالية والغريبة كالطقوس والقوى الغيبية والسحريّة والخروج من المكان والزمان.
وعند رجوعنا للأساطير العبرية نجد تشابها كبيرا في ما جاء في القرآن الكريم، خاصة فيما يتعلق بقصص سليمان، فيتشابه المبنى والمضمون.
فعندما اطّلعنا على مبنى حكاية الملك سليمان والنحلة، وجدناه مكوّنا من جزأين، وفي كل قصة منها حبكة مستقلة، وترتبط الحكايتان في النهاية لتتوحدا في قصة.
ونجد مقدمة قصيرة تليها الأحداث والصراع نتيجة تصاعد الذروة، ومن ثم الحل.
مضمون الحكاية: في القسم الأول: تمّ وصف خلاف بين الملك سليمان ونحلة صغيرة تقوم بلسعه على أنفه، فيغضب الملك منها، فتأتي النحلة وتعترف بذنبها وتقول إنها صغيرة وأيامها معدودة، إلى أن هذا الكلام لا يخفف من حدة غضب الملك فيقوم بتأنيبها بشكل أكبر، ولكن النحلة الشجاعة لا تفقد قدرتها على الإقناع، وبلغة منافقة تنجح في التخلص من الوضع الصعب وتعد الملك أنها مع مرور الأيام ستكافئه على معروفه معها، فيضحك الملك ساخرا.
وفي القسم الثاني: يتضح صراع الملك سليمان مع بلقيس ملكة سبأ، حيث جاءت تختبر حكمته وتضعه في موقف محرج، عندما طلبت منه التمييز بين الأزهار الطبيعيّة والاصطناعية، فتنقذه النحلة من موقفه المحرج.
وأكبر دليل على تداخل الحضارات في الأدب الشعبي هو هذه القصة فهي تذكرنا بمضمون مشابه وإن اختلفت الشخصيات في قصة الأسد والفأر واستخفاف الأسد بالفأر ليتفاجأ من إنقاذه له لاحقا، وهذه القصة تعود بجذورها الأولى إلى الحكيم اليوناني اوزوفيوس وأمثاله التي تمّ تداولها في حضارات مختلفة.
وهناك قصص عبرية تنتهي بمَثل فيه مغزى وعبرة تتشابه مع قصص عربية كقصة مسمار جحا، ومغزاها في اتخاذ الحجج الواهية للوصول إلى الهدف المراد ولو بالباطل. فهذه القصة لجحا الذي عرف بناصر الدين نجدها منتشرة لدي يهود الأندلس ضمن لهجتهم التي عرفت باسم لادينو وهي لهجة تجمع بين اللغتين العبرية والإسبانية.
شخصية هرشلي اليهودية يقابلها شخصية جحا:
هرشلي هو شخصيّة يهودية11 عاشت في اوكرانيا في القرن الثامن عشر، وكان هرشلي بمثابة مهرج جلسات الرابي باروخ ممزيبوز، هرشلي كان إنسانًا فقيرا استطاع بروح دعابة يمتلكها أن يقتحم عالم الأغنياء، كما أنه تميّز بالحكمة بدراسته للتوراة منذ نعومة أظفاره. وتدور معظم قصصه في رحاب التوراة والمعتقدات اليهوديّة.
ومن هذه القصص: «يحكى أنّه في مدينة مزيبوز انتشرت شائعة بأن رجل دين يهودي« رابي» يتصرف وكأنه ملك . فأغضب هذا الشيء الملك وأمر بأسره، ولكنّ الجنود الذي ذهبوا لتنفيذ المهمة، وجدوا أنّه رحل لفترة معينة، فتركوا له ورقة لضرورة الحضور للملك.ولكن رجال الدين وقعوا في حيرة فكيف يقومون بتسليم الرابي، فاقترح هرشلي أن يذهب هو على أنه الرابي ولو نجح فقد حُلّ الأمر أما، إذا اعتقل عندها هرشلي هو المعتقل وليس الرابي، وهذا ما حصل، وقف هرشلي أمام الملك، وطلب منه الملك أن يجيب عن أربعة أسئلة إذا نجح في الإجابة عنها سوف تكون تصرفاته الملكيّة لائقة به. وإلا اعتقل.
والأسئلة هي :
1. أنت تعرف مملكتي فما هي المساحة الدقيقة للمملكة؟
2. ما هو وزن القمر؟
3. هل تعرف كيف يتصرف القائد، وما هي أهميتي قائدًا؟
4. هل بإمكانك أن تعرف دواخل البشر، وبماذا أفكر الآن؟
فأجاب هرشلي:
مساحة المملكة تقريبا معروفة لدي باستثناء مساحة المياه والبحيرات لأنها تتغير كل سنة حسب منسوب الأمطار فهات لي المساحة الدقيقة للبحيرات أخبرك بمساحة المملكة كاملة.
فقال الملك : حسنا يا يهودي تجيب السؤال بسؤال، أقبله منك ولكن في الأسئلة المتبقية لن أقبل.
هرشلي: أمّا السؤال حول وزن القمر فهو ألف لتر ونصف بالتمام والكمال وإذا لم تصدقني اذهب وقسه.
فقال الملك : انتصرت عليّ في هذا السؤال.
هرشلي: أنت أهم من أبينا ابراهيم ولا يوجد لدينا من هو أهم منه.
الملك :حسنا أجبت اجابات جيدة عن ثلاثة أسئلة، ولكني لا أعتقد ستنجح في الإجابة عن السؤال الرابع.
هرشلي: أنت تعتقد أنك أمام رابي يهودي، ولكنك أمام هرشلي واحد من تلامذة الرابي.
فهنا تتشابه شخصية هرشلي اليهودية بشخصية جحا من ناحية الدهاء والذكاء وحسن التخلّص، إلا أنّ الحكايات اليهودية حريصة دائما على إضفاء المعالم الدينية فنجد في سيرة هرشلي الذاتية بأنه تتلمذ على يد حكماء التوراة. وقد تعددت البلاد التي اتخذت من جحا بطلا لقصصها الشعبية ولكن ما يلفت الانتباه هنا أن الأدب الشعبي قد تداخل بين الشعوب، وكل شعب كان يحاول حصر القصص في أدبه من خلال توظيف عادات وتقاليد ومعتقدات دينية تميّز هذا الشعب كما نرى هذا متكررا في الأدب الشعبي العبري.
هذا الأمر يعود إلى كون الشعب اليهودي عاش في مناطق عربية وأجنبية كثيرة، فلهذا فإن أدبه يجمع حضارات عدة.
إن أهم ما يميّز الأدب الشعبي، قدرته على التأقلم مع آداب الشعوب الأخرى، وتتضح هذه الظاهرة بشكل لافت في الثقافة اليهودية في فترة القرون الوسطى، خاصة مع انفتاح الثقافة اليهودية على حضارات متنوعة إسلاميّة ومسيحيّة بوجود اليهود في بلاد عربية. ففي هذه الفترة تمّت ترجمة كتب عديدة، منها كتاب كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة12.
ولكن من الصعب الحديث عن الأصل والصورة في الأدب الشعبي، وكثيرا ما تناقش باحثون حول هذا الموضوع، وفي حالات كثيرة لم يتوصلوا إلى نتيجة واضحة.
هناك مثال لقصة يهودية وردت في مصادر قديمة عن يهوشع بن لوي والنبي الياهو وعندما نقرأها نجد تشابها كبيرا بينها وبين قصة سيدنا موسى والنبي خضر في سورة الكهف، وإن كانت هناك تفاصيل قد اختلفت .
فقد اختلفت أولا الشخصيات، فاختارت القصة اليهودية أن تقوم باستبدال شخصية النبي موسى بشخصية يهوشع بن لوي، ويرجع بعض الباحثين اليهود سبب هذا التغيير إلى أن شخصية النبي موسى تحتل مكانة كبيرة في الثقافة اليهودية لا تسمح بأن يتلقى علمه من إنسان آخر13.
كما ونجد أنه في القرآن يقوم النبي الخضر بقتل طفل صغير، بينما القصة اليهودية تتحدث عن قتله بقرة رجل فقير قام باستضافتهما، أيضا بدلا من ثقب السفينة، قام النبي الياهو بالدعاء على الأغنياء الذين رفضوا ضيافتهما بأن يكونوا كلهم قادة بينما دعا للفقراء الذين قاموا بكرم الضيافة بأن يكون لهم قائد واحد،لأنه من يكون لهم قائد واحد يوصلهم إلى بر الأمان.
وقد يرجع الاختلاف إلا أن القاصين اليهود فضلوا الابتعاد عن أفعال قد تبدو قاسية، كقتل الولد أو ثقب السفينة، وقد يرجع إلى اختلاف الهدف، ففي القرآن كان الهدف التأكيد على الناحية اللاهوتية للأفعال كعلاقة الأهل الصالحين بابن عاق بينما اهتمت القصة اليهودية بالنواحي الاجتماعية والطبقية وعلاقة الأغنياء بالفقراء.
كذلك نجد تأثير مفاهيم إسلامية في قصص يهودية كحكاية النبي الياهو مع الرجل الغني الذي أراد شراء الثيران14، يذهب في المرة الأولى إلى السوق فيلتقي النبي الياهو، فيطلب منه الأخير أن يقول قبل شرائه عبارة بإذن الله تعالى سأشتري الثيران فيرفض فتُسرق أمواله مرتين وفي المرة الثالثة يقولها فيشتري الثيران ويبيع ملِكا إياها بمبلغ باهظ الثمن . ومفهوم «إن شاء الله» هو مفهوم إسلامي ومن أعمدة الحياة الاسلامية.
وقد اتبعت قصص يهودية دينية أخذ بعض قصصها من الحضارة العربية ومحاولة ملاءمتها لحاجاتها الدينيه ووجهات نظرها، كقصة الراعي الذي أراد أن يتعلم الصلاة15، ووفقا للنص اليهودي أطلق على القصة اسم الراعي البسيط والناي، وقد وردت بالصيغة العبرية بأكثر من نسخة، وإحدى هذه النسخ تقول: ذهب طفل طيب القلب مع والده للصلاة في الكنيس في يوم الغفران ،كي يتأكد الأب أن ابنه سيصوم هذا اليوم ولن يرتكب الحماقات، وأثناء الصلاة طلب الطفل من أبيه أن يوافق على أن يخرج الناي الذي كان معتادا عليه أثناء عمله راعيًا، ولكن والده منعه من ذلك ووبّخه بشدة، وأثناء الصلاة أخرج الراعي الصغير نايه وقام بالعزف فوبّخه والده، لكن رجل الدين«الرابي» قطع صلاته وقال: إن هذا الراعي ونايه قد ساهما في ايصال صلواتي، وإن النار الموجودة داخل قلبه هي التي قُبلت من الله تعالى»16.
أما القصة الثانية فهي الأقرب إلى النص العربي:
يحكى أنه كان يعيش راع في إحدى القرى ولم يكن يعرف كيفية الصلاة، وكان يدعو يوميا : الهي لا يُخفى عليك أنه لو كانت لك ماشية كنت سأقوم برعايتها لك مجانا، لأنني أحبك، وفي إحدى الأيام سمعه طالب حكيم يرتاد الكنيس بشكل منتظم مرّ من هناك وقال له: أيها الأحمق الدعوة لا تصل هكذا وعلّمه ماذا يقول، ولكن في نفس الليلة رأى الطالب الله في منامه يقول له: إن صلاة الراعي كانت أقرب إليّ فعاد الطالب إلى الراعي وسأله عن صلاته فقال أصلي كما كنت سابقا لأني نسيت طريقتك فسرد عليه الطالب حلمه وطلب منه أن يكمل صلاته كما كان يفعل17.
ومن هذه القصة تتضح أهمية الصلاة من القلب، لهذا فإن دعوة الانسان البسيط الساذج مستجابة لصدقها وقد تفوق أي دعوة لرجال دين، فالله يقيّم الناس بايمانهم .
وهنا نلاحظ كيف تم إضافة معالم يهوديه عند أخذ القصة في ذهاب الراعي الى الكنيس للصلاة وتحديد الزمن في مناسبة دينية يهودية وهي يوم الغفران18.
وهناك مفاهيم تمّ تناولها في الثقافة اليهودية وحكاياتها الشعبية من القصص الإسلامية، كمفهوم الثوب الطويل ودلالته.
فهناك حديث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول فيه «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قميص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه. قالوا: ماذا أوّلْتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين» رواه البخاري ومسلم.
وعند رجوعنا للحكايات الشعبية اليهودية، نرى توظيفهم لمفهوم الثوب الطويل، فهناك حكاية باسم الثوب الساطع تحكي عن رجلين حكيمين ظهر لهما ملاك وثوب ساطع بيده، غير أن هذا الثوب ليس كاملا، واتضح لهم أنّ القميص يرجع إلى يوسف منسق الحدائق من أشكلون، وعندما ذهبا إليه وقصّا عليه القصة، قرّر يوسف وزوجته إكمال الثوب عن طريق بيع زوجته والتصدّق بالمال، وتتحمل الزوجة عدة سنوات إلى أن يتم عتقها، فترسل لهم السماء الثوب كاملا. فهنا تم أخذ مفهوم الثوب الطويل وكنايته في إتمام الدين.
الأمثال العبرية والعربية وصلة وثيقة:
عند مراجعتنا للأمثال العبرية والعربية نلاحظ تشابها ملحوظا في المضمون، و في أحيان كثيرة يكون التشابه باللفظ الحرفي أيضا.
وقد اشتهر سفر الأمثال في الأدب الشعبي العبري، وهو أحد أسفار التناخ والعهد القديم19، والذي نسب إلى الملك سليمان، وهدف إلى إرشاد القارئ في حياته، ولإيجاد حلول وأجوبة لأسئلة قد تعتري الإنسان. ولم تُوَجّه الأمثال لشعب معين وإنما خاطبت البشريّة بشكل عام . ويراعي سفر الأمثال التأكيد على مفاهيم الصدق والعدل والأخلاق، وكُتبت كل الأمثال بطريقة مسجوعة، وعادة احتوى شطرا المثل على الشيء ونقيضه أو الشيء ومرادفه ومقارنة بين الجزأين:
- المثل العبري: لا تنظر إلى الجرة بل انظر ماذا يوجد داخلها. وهذا يذكرنا بالمثل ليس كل ما يلمع ذهبا.
- المثل العبري: لا تعمل لصديقك ما تكرهه لنفسك ويقابله المثل العربي : اعمل لأخيك ما تحب لنفسك.
فهنا المعنى واحد واللفظ يكاد يكون حرفيا. ففي الوقت الذي تم توظيف أداة النفي والنهي في اللغة العبرية في جملة منفية تمّ توظيف الجملة المثبتة في المثل العربي.
- المثل العبري: طبيعة الانسان لا يمكن تغييرها ويقابله المثل العربي: الطبع يغلب التطبع.
- المثل العبري من التوراة:من يزرع بدمعه يحصد المثل العربي: من جدّ وجد ومن زرع حصد.
- المثل العبري: ذهب الجمال وبقيت الغفلة المثل العربي : يا ماخد القرد على ماله ويفضل القرد على حاله.
- المثل العبري: القشة التي كسرت ظهر الجمل المثل العربي: القشة التي كسرت ظهر البعير.
امثال عبرية وعربية جاءت في تطابق كامل معنى ولفظا:
- كل كلب يجيه يوم
- الكذب ملوش رجلين
- اللي بيجي بالساهل يروح بالساهل
- بعيد عن العين بعيد عن القلب
- اللي بيضحك بيضحك في الآخر
- دخل من دان وطلع من الدان التاني
الأدب الشعبي العربي، العبري والتفات النوع:
إن مصطلح التفات النوع هو مصطلح شائك تحدّث عنه الباحث علاء عبد الهادي20.
ويرى عبد الهادي أنّ الالتفات النوعي بمثابة امتزاج نص مع نصوص أخرى دون البحث عن وهم الأصل. فهو نص تشعبي «وهي التفاتات لا يشكّل أي منها فرعا لأصل، بل تُعدّ مراكز كلها للنّص الأدبي التشعبي بعامة، والشعري بخاصة، وذلك ارتباطا بمفهومنا حول الكتلة النصية التي تجمع هذه الالتفاتات كلها في لُحمة واحدة دون وهم الأصل»21.
هذا ما يمكن ملاحظته من خلال دراستنا للأدب الشعبي العربي والعبري، فقد يمكن تسمية هذا الالتفات بالتناصي22، فلاحظنا سلفا أننا عند قراءتنا لقصة عبرية من التراث الشعبي تذكرنا مباشرة بنص آخر عربي، كقصة النبي الياهو وارتباطها في أذهاننا بتناص قرآني من سورة الكهف، أو قصة الثوب الطويل وارتباطها بحديث نبوي .
وملاحظة هذا الالتفات النوعي بحاجة إلى خلفية ثقافية بحيث نربط بين الأدبين، وهذا يؤكد ما رمى إليه الباحث علاء عبد الهادي في قوله «إنّ النص التشعبي نص غير مركزي»23، والدليل على هذا، ما حصل في الأدب الشعبي العبري كما رأينا سابقا، فقد أُخذت قصصٌ من شعوب أخرى وتمّت ملاءمتها لحاجيات يهودية دينية في ذكر مناسبات دينية عيدي الفصح والغفران .فالالتفات النوعي هنا اقتصر على الموضوع وليس الشكل. وهذا يؤكد على أنه « لا تكمن وحدة النّص التشعبي في أصل، بل يمكن احتمال من احتمالاتها المختارة الذي اختاره القارئ المستخدم بين نقطة مختارة يبتدئ بها، ونقطة مختارة ينتهي إليها، فغالبا ما يكون النّص التشعبي ذا نهاية مفتوحة»24.
الخاتمة
وجدنا من خلال هذا البحث أن الأدب الشعبي العبري قد تعددت مصادره، فالمصدر الأول كان من الكتب الدينيّة التوراة والتاناخ، فيما تنوعت التأثيرات الأخرى من الحضارات العربية والغربية المختلفة نظرا لوجود اليهود في البلاد العربية المختلفة والأجنبية. كذلك، قبل قيام الدولة الصهيونية لم تكن اللغة العبرية لغة محكية لدى الشعب اليهودي،فقد تكلموا العربية والايديش، واللادينو والفارسية ولهجات أخرى.
ومن البدهي أن يقوموا بقص قصصهم الشعبية بلغة هذه الحضارات المختلفة، فمن هنا ظهرت مسألة التأثر والتأثير بين الأدبين العربي والعبري، إضافة إلى حرص الأدب العبري على إضفاء صفات للقصص بحيث تصبغها بقيم ومعتقدات من الديانة اليهودية سواء كان هذا في توظيف شخصيات دينية رئيسة في القصة الشعبية، أو في ذكر أسماء لأعياد يهودية الغفران والحانوكاه والفصح، وحرصوا كل الحرص على إدخال مبادئ تربوية يهودية في قصصهم .
الهوامش
1. شكري عياد، القصة القصيرة في مصر، ص 32 .
2. علاء عبد الهادي / مقال في الأهرام الرقمي.
3. انظر : اولريك اكسيلـ،، قوانين التأليف الشفاهي،دراسة الفلكلور،بيركلي جامعة كاليفورنيا،1965.
4. قصي الشيخ عسكر، الأساطير العربية قبل الإسلام وعلاقتها بالديانات القديمة
5. قصي الشيخ عسكر ، ص
6. דן בן עמוס,ספרות עממית יהודית
7. الطاهر أحمد مكي، الأدب المقارن، أصوله وتطوره ومناهجه، ص 510.
8. أحمد علي مرسي،الفولكلور زالإسرائيليات، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2001.ص 50
9. נוי,ד(תש"ל,א ) צורות ותכנים בסיפור העממי(ערכה:עדנה ציציל, ירושלים,אקדמון.
10. أحمد علي مرسي، الفولكلور والاسرائيليات، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2001 ،ص 51 .
11. ויקיפידיה, הרשל'ה אוסטרו פול. http://he.wikipedia.org%
12. لمزيد من الإطلاع أنظر: עלי יסיף ,סיפור העם העברי עמי 293 . علي ياسيف ،القصة الشعبية العبرية
13. أنظر:עלי יסיף, סיפור העם העברי, עמ' 294.
14. עלי יוסף, סיפור העם העברי,עמ 294 .
15. עלי יוסף, סיפור העם העברי ,עמ' 295 .
16. עלי יוסף, סיפור העם העברי, עמ'416 .
17. ספר חסידים, מהדורת ויסטינצקי פריימן , סי,ה-ו
18. يوم كيپبور، يوم هاكيپبوريم أو عيد الغفران (بالعبرية יוֹם כִּפּוּר أو יוֹם הַכִּפּוּרִים)، هو اليوم العاشر من شهر "تشريه"، الشهر الأول في التقويم اليهودي، وهو يوم مقدس عند اليهود مخصص للصلاة والصيام فقط. ويوم كيبور هو اليوم المتمم لأيام التوبة العشرة والتي تبدأ بيومي رأس السنة، أو كما يطلق عليه بالعبرية روش هاشناه، وحسب التراث اليهودي هذا اليوم هو الفرصة الأخيرة لتغيير المصير الشخصي أو مصير العالم في السنة الآتية- ويكيبيديا
19. מרואן פאעור, הראשון בספרות,חלק א , עמי29 .
20. علاء عبد الهادي، قصيدة النثر والتفات النوع، العلم والايمان للنشر والتوزيع، 2009 .
21. علاء عبد الهادي، ص 144 .
22. أنظر علاء عبد الهادي، ص 145.
23. أنظر علاء عبد الهادي، ص 147.
24. علاء عبد الهادي ن قصيدة النثر، ص 148 .
المراجع
- اكسيلـ،، اولريك قوانين التأليف الشفاهي،دراسة الفلكلور،بيركلي جامعة كاليفورنيا،1965.
- الشيخ عسكر ،قصي ، الأساطير العربية قبل الإسلام وعلاقتها بالديانات القديمة
- عبد الهادي ،علاء ،قصيدة النثر، العلم والايمان للنشر والتوزيع، 2009 ..
- عبد الهادي ،علاء،مقال في الأهرام الرقمي
- عياد، ،شكري القصة القصيرة في مصر،.
- مرسي ،أحمد علي ،الفولكلور زالإسرائيليات، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2001.
- .مكي، الطاهر أحمد ،الأدب المقارن، أصوله وتطوره ومناهجه.
- مصادر باللغة العبريّة
- נוי,ד(תש"ל,א ) צורות ותכנים בסיפור העממי(ערכה:עדנה ציציל, ירושלים,אקדמון.
- ויקיפידיה, הרשל'ה אוסטרו פול. http://he.wikipedia.org%
- ספר חסידים, מהדורת ויסטינצקי פריימן , סי,ה-ו
- :יסיף ,עליKסיפור העם העברי עמי 293 . ياسيف ،علي،القصة الشعبية العبرية
- פאעור, מרואן הראשון בספרות,חלק א ,
- الدكتورة جهينة عمر الخطيب
- حاصلة على الدكتوراه في الرواية الفلسطينية ورسالتها موسومة بـ» تطور الرواية العربية في فلسطين 48.
- حائزة على لقب شخصية العام 2016 من مؤسسة سيدة الأرض في رام الله لدورها الريادي في خدمة القضية الفلسطينية .
- حاصلة على جائزة وزارة الثقافة والرياضة عام 2019 عن فئة البحث الأدبي
- عضو اتحاد الكتّاب الفلسطينيين
- أصدرت ثلاثة كتب «تطور الرواية العربية في فلسطين 48» و«فضاءات ثقافية في الأدب الفلسطيني المعاصر»، وأدب الأطفال الفلسطيني بين البناء الفنّي والبعد التربوي
- تعمل على مشروع بحثي حول الأدب الفلسطيني ومن بين المواضيع التي تعمل حاليا عليها الإيروس في الأدب والفن التشكيلي الفلسطينيين وكتاب حول المسرحيين الفلسطينيين ومعجم كتّاب الأطفال في فلسطين وكتاب الأديبات الفلسطينيات .
- ناشطة ثقافية ، شاركت في مؤتمرات دولية عدة ، ونشرت عددا من الأبحاث المحكمة في مجلات عربية ودولية
- تتصف مجالاتها البحثية بالشمولية والتنوع وخاصة الدراسات السيميائية والمقارنة والنقد الأدبي وأدب الأطفال والتراث الشعبي.
الصور
1. https://ashmagautam.files.wordpress.com/2013/11/mcj038257400001.jpg
2. https://www.incimages.com/uploaded_files/image/1940x900/getty_883231284_200013331818843182490_335833.jpg