فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

الموال : جمال الوقع واختزال التجربة وعسر الترجمة

العدد 47 - التصدير
الموال : جمال الوقع واختزال التجربة وعسر الترجمة
كاتبة من تونس

كثيرا ما ارتبطت الأشكال الوجيزة المختلفة من أمثال وأبيات شعرية وألغاز وغيرها بأمرين أساسيين الإيجاز في الألفاظ أو العبارة من ناحية وكثافة المعنى وعمق التأويل من ناحية ثانية مما جعلنا نطلق في أعمال لنا عديدة على هذه الثنائية العجيبة الإيجاز والإطناب تسمية "بلاغة الندرة وبلاغة الوفرة"(باديس،2008).

وقد عادت إلى ذهني هذه الثنائية وأنا أتصفح ترجمة لمواويل مترجمة إلى اللغة الفرنسية للشاعر البحريني المتميز علي عبد الله خليفة وتساءلت بيني وبين نفسي إلى أي حد يمكن لترجمة الموال أن تكون أمينة لجمالية الإيقاع الداخلي الذي يقوم عليه الموال ولكثافة المعنى الذي يختزله وثراء التجربة التي تحويه؟وإلى أي حد يمكن أن نقبل بترجمة الموال أصلا ,ألا توجد أعمال إبداعية عصية على النقل والترجمة ؟وحتى إن تمت ترجمتها ألا تفقد الكثير من روحها ويذهب ماؤها ويشوه إيقاعها وتطمس ملامحها؟.فالموال كما ورد في العديد من المعاجم هو «فن جديد من الفنون الشعرية المستحدثة التي ظهرت بين الطبقات الشعبية في بلاد المشرق الإسلامي في إطار التجديد والتطوير في نظام القصيدة العربية الموروثة من حيث وحدة قافيتها ،طلبا للسهولة والسيرورة بين عامة الناس تأليفا وغناء وسماعا ويغنى الموال عادة في صحبة ناي أو ربابة».وعندما نتحدث عن مقام شفوي وعن سماع وجمهور فنحن إزاء فن شعبي بامتياز يرمي إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من المعجبين والمتأثرين بما يسمعون ولذلك ولن ندخل في تفاصيل وجزئيات تخص أنواع الموال والفرق بين الموال العراقي أو الشامي والمصري وغيرها والفرق بين الموال القائم على أربعة أشطر أو خمسة أو سبعة أو تسعة.المهم أن معظم من اهتموا بالموال قد ربطوه بالفنون الشعبية فهو من الفنون القولية التي انزاحت عن مجرد القول والإلقاء إلى اللحن والغناء وفي المقامين هو يعتمد على التأثير والبراعة في الارتجال وتعتبر الموسيقى من العناصر الهامة والأساسية التي تصاحب الموال وهي عادة عبارة عن آلات فردية كالناي والمزمار وغيرهما.

لذلك مجرد كتابة الموال وقراءته من شخص آخر غير صاحبه يفقده الكثير من سحره وتأثيره ويبطل نغمه ذلك أن الموال وحضوره الشفوي واحد لا يمكن الفصل بينهما فهو يدخل ضمن الفنون الشعبية الفرجوية التي تقوم على براعة قول القائل وتناسق ذلك مع شكل الشاعر وهيأته وحضوره ونبرات صوته وتأثيرها في السامع المتعطش لمعرفة تجربة هذا الشاعر أو ذاك من خلال ما تختزله هذه الفنون الكثيفة من الرؤى والأزمان والأمكنة والتجارب ، إنها ببساطة تختزل الحياة .

لذلك اعتبرنا ترجمة الموال مجازفة في حد ذاتها ومغامرة حقيقية قد تفقد النص الأصلي روحه ومميزاته وتغيب نبرة الصوت وجمال الإلقاء إذ المعنى في الموال كل لا يتجزأ تشترك فيه عناصر عدة ليحقق النجاح والرواج والإعجاب,هذه العناصر أساسها مقام الحضرة،وخصال عدة يتميز بها الشاعر كنبرة الصوت الشجي وقوة الحضورو التأثير في جمهور متشوق للاستماع حريص على اقتناص الفكرة والمعاني المختلفة من عبارات موجزة من حيث عدد الحروف لكنها ثرية وقوية وعميقة في أبعادها المختلفة تلخص تجربة الشاعرفي الحياة وتمثل فهمه للكون وتختزل رؤاه للوجود.ويكفي أن نستشهد ببعض المواويل للشاعر علي عبد الله خليفة من كتابه المعنون «ديرة بوسع الكون»(نشر دار لارماتان 2019)والذي يتضمن مجموعة منتقاة من المواويل الجميلة مترجمة إلى اللغة الفرنسية لنفهم الصعوبات التي تطرحها ترجمة هذه الفنون القولية. وقد اعتبرنا هذا العمل مغامرة لأن الترجمة في حد ذاتها عملية صعبة وتتطلب جهدا كبيرا ومعرفة عميقة باللغتين المترجم منها وإليها وبخصوصية الحضارات المترجم عنها وإليها كذلك. فما بالك ونحن نتحدث عن نص إبداعي وداخل النص الإبداعي نتحدث عن نص مخصوص هو الموال.

ورغم أن الموال يقوم على أشطر مختلفة تتفاوت في الاشتراك في القافية بين الرباعي والسداسي وغيرها وتختلف في المعنى فهو في غالب الأحيان يقوم على جناس تام يشترك في الحروف للكلمة الأخيرة ويختلف في المعنى مما يكسب الموال جمالية نغمية وسحرا إيقاعيا مهما حاولت الترجمة أن تكون وفية فلن تقدر على إيصال تلك الجمالية ومن هنا نفهم بعض الأصوات التي ترى أن الشعر لا يترجم وخاصة الشعر الشفوي العامي الملحون أو الموال ويكفي أن نذكر بما قال الجاحظ منذ القرن الثالث للهجرة عن صعوبة ترجمة الشعر وما يتهدد ذلك من ذهاب بروح المعنى ورونقه ووزنه ومائه وقد أفضنا في هذا الأمر في كتابنا" دراسات في الخطاب "(باديس ،2008)،لندرك مرة أخرى أن الأمر غير هين ويتطلب شجاعة كبرى ومعرفة عميقة بالصور والأوزان في اللغتين المترجم منها وإليها.

ولا أدري لماذا أشعر دوما بصعوبة الترجمة وخطورتها كلما قرأت نصا مهما مترجما لشاعر أعرفه جيدا وملمة بعض الشيء بتجربته ويكفي أن آخذ نموذجا مترجما لموال من مواويل الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة لندرك حجم الفرق بين النص الأصلي والنص المترجم بدءا من العنوان إلى المعاني والصورالمجازية وجمال الوزن والإيقاع:

خذ شمعداني

دقت على صدرها وقالت :أنا لك روا

وأنا الكتاب الذي بكل ما تريده روى

وانت الهيام الذي يسرب بخيالي روى

خذ شمعداني ضوى واشعل بناري نار

واعطي الضوى كل نجم مطفى ولا قط نار

واجدم على ظلمة خرسا وخلها فنار

عط مهجتي مهجتك ..خلنا نتساقى روا

فعمق المعاني والاستعارات العجيبة للعشق والهيام القائمة على درجات ومستويات من النور والظلمة ثم المقابلات المختلفة بين النار والماء بين الاشتعال والإطفاء في سجع عجيب وجناس محكم التوظيف وإيقاع ساحريعمق الفكرة ويثري المعنى يؤكد صعوبة المهمة. ففهم النص مكتوبا في لغته الأصلية يتطلب جهدا أوليا لا يمكن تغافله ومن هنا نفهم دور الشاعر وهو يبدع ويحاول شكل عباراته في النص الأصلي حتى لا يغيب المعنى في جناس الموال فيشكل على القارئ.

كل هذه المعاني تكاد تغيب تقريبا في النص المترجم الى الفرنسة ولا يعود الأمر بالضرورة إلى عيب في الترجمة أو نقص في ثقافة المترجم أو جهل للغتين المترجم عنها وإليها وإنما تعود أساسا إلى صعوبة ترجمة الفنون الشفوية التي أساسها الإلقاء وحضور الشاعر وجهورية صوته وقدرته على الإقناع والتأثير ومن سمع الشاعر علي عبد الله خليفة يلقي مواويله لا يمكن إلا أن يتساءل عن روح الشعر ومعانيه وإيقاعه وهو يقرأ هذه الترجمة:

Prends ma chandelle

Frappant sa poitrine ,elle a dit:pour toi je suis une source d’eau

Et je suis le livre ,qui récite tout ce que tu désires

Et toi,tu es l’amour passionne,qui coule des songes ,dans mon imagination

Prends ma chandelle ,lumière et allume un feu de mon feu

Et donne la lumière à chaque étoile éteinte ,qui n'a jamais vu la lumière

Et lance –toi sur une obscurité absurde,et fait d'elle un phare

Donne ton Coeur au mien ,laisse-nous nous abreuvons de songes.

ولا نرى داعيا للإطالة واتخاذ نماذج عديدة من المواويل والترجمات للمقارنة بين النص الأصلي والمترجم فغرضنا من هذه الورقة هو التأكيد على صعوبة ترجمة الشعر وخاصة ترجمة المواويل هذه الفنون القولية الشفوية التي أساسها مقام الحضرة ،مقام الفرجة بمختلف عناصرها من منشد أو شاعر وجمهور متلق وزمان ومكان ،إنها مقامات مخصوصة. مهما حاول المترجم تقريب المعنى فلن يكون أبدا أمينا لروح الشعر وإيقاعه ومائه ورونقه ولكن مع ذلك تظل هذه الترجمة خطوة نحو الآخر لتقريب الفكرة والمعنى بعض الشيء تحاوره وتقرب وجهات النظر بين حضارتين لمد الجسور وتجاوز العزلة والانغلاق.لكن إيصال جمالية النص ووزنه وإنشائيته يظل دوما من المهام العصية على المترجم مهما أوتي من قدرات على فهم الشعر ومهارة في الترجمة وحذق لهذه الصنعة لذلك لا نستغرب تحول الشعر نثرا في بعض الترجمات والصور المجازية العميقة في حضارة مخصوصة إلى مشاهد باهتة بلا روح في العديد من الترجمات. أما إذا كان المترجم لا يفهم بعض الصور ولا يرى في الترجمة إلا عملية تقنية وترجمة لبعض المعاني ونقلا لبعض الألفاظ من معجم إلى آخرفتلك الطامة الكبرى وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل مرة أخرى ونحن نقارن نصا أصليا بنص مترجم أين روح النص الإبداعي؟أين الإيقاع والموسيقى؟أين الرؤى البعيدة والصور الكثيفة؟ وفي نهاية الأمرأين الشعر؟

كل هذا يؤكد مرة أخرى أن الترجمة عملية صعبة تحتاج مختصين متمكنين كل التمكن من اختصاصهم وصنعتهم وهي فن راق لا يجيده الكثيرون.لكن هذه الصعوبة ينبغي ألا تثنينا عن ممارسة هذا الفن وتشجيع عملية ترجمة كل العلوم والفنون ونحن نؤمن بأن ترجمة مختلف الفنون الشعبية يظل دوما غاية تنشد وجسرا ضروريا نحو الآخر يبني الأواصر ويفتح بوابات التواصل والتثاقف.

أعداد المجلة