فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
44

الموروث السردي العربي: التخييل وآليات اشتغاله

العدد 44 - أدب شعبي
الموروث السردي العربي:  التخييل وآليات اشتغاله
كاتب من المغرب

تعتبر قصة حي بن يقظان التي كتبها الأديب والطبيب والفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل، من أبرز النصوص الأدبية القديمة المؤثرة في المدونة الأدبية العربية، حيث تمتاز بعمق الفكرة وقوتها الرمزية، ومدى قوة الابتكار في البناء السردي في القصة وجمالياتها الفنية في الحكي والسرد السلس، كما تمتاز بالبراعة في الكتابة والإبداعية التي يتصف بها الكاتب في العديد من إنتاجاته المتعددة، وبالفعالية في الترميز والإيحاء. إن ما يميز القصة هو كونها تكتب سيرة معرفية وإنسانية، تقدم رؤية معمقة للقضايا البشرية وتنتقد بالرمز والإيحاء العديد من المواقف والسلوكات البشرية المختلفة. وفي هذا الإطار يمكننا القول إن ابن طفيل قد نجح إلى أبعد الحدود في إبداع قصة من طراز مختلف لما كان رائجاً آنذاك في عصره.

من الشفوي إلى الكتابي

يمثل السرد العربي أشكالاً شفوية متحولة إلى نصوص مكتوبة في حقول معرفية متعددة وسط كتب الأدب المختلفة، ومؤلفات السير والتراجم والطبقات والمقامات والأخبار، بل وكل التقييدات المحسوبة على التاريخ والجغرافيا والرحلة، وفي مؤلفات الفقه وعلم الحديث وعلم الكلام بفروعه المختلفة. حيث إن عملية التحول من الشفوي إلى المكتوب سجلت، حسب شعيب حليفي، «بصمات أساسية في رسم تحوّل استراتيجي لبناءات مشتتة تحت معطف الشعر الدافئ وأشكال صغرى لتأريخ الزمن، وبعض أحداثه ضمن نسق المكتوب»1. فدراسة تشكّل الآداب، حسب ما يؤكد عليه جان بسيير John Bessier، تنتمي إلى التاريخ، فتطرح مسألة التجانس والاستمرارية والطبيعة المشتركة، بمعنى الانتقال من الشفوي إلى المكتوب، ومن المقدس إلى الدنيوي2.

ويؤكد شعيب حليفي في الإطار نفسه على أن السرد العربي في تشكلاته الطويلة والمركبة، والطابع المحايث لبراغماتية النثر ووظيفته المتناهية، قد حقق ما يسمى بالانتقال التدريجي، حيث تحققت معه «مسارات أخرى من التحول في مستويات شتى أبرزها تحويل التجربة الذهنية أو المعيشة من أفعال وتخيلات إلى لغة شفوية ومكتوبة ضمن نسق تجنيسي معين»3. فالسرد الحكائي مثلاً، ومن خلال تدثّره بغايات دينية يهدف إلى الوعظ والتثبيت بالدرجة الأولى مستخدماً متعة الحكي الجميل طريقاً للخروج من الشفوي4، بل التحول الذي يحقق «عملية دينامية تؤدي إلى آثار بالغة الأهمية في تكوين النص الشعبي شكلاً ومضموناً؛ ذلك أن التناقل الشفوي يحرر النص الشعبي من الأطر الثابتة والمنتهى منها نتيجة التقييد بالكتابة»5. هنا كان الحضور القوي للمؤلف وإمكانية التقاطه للتفاصيل الدقيقة التي تسعفه في ترك الأثر في مقوله على المستوى الثقافي والديني والسياسي.

لقد تطور السرد العربي القديم وهو يؤسس لتنوعه في البناء وطريقة عرض الأحداث والوقائع، فسواء من خلال الأشكال الكبرى أم الصغرى، الخالصة منها أم الهجينة، بل ترعرع ضمن حدود ثقافية ومحددات دينية سياسية مؤطرة تأطيراً خالصاً، «ومتنوعاً يتلاقح ويتخصب بعناصره المتحركة، فضلاً عن كون السرود القديمة التي صيغت في أشكال تخيلية مختلفة، [تفسر رؤية أو تدعم شعيرة دينية (أحمد كمال زكي: الأساطير: دراسة حضارية مقارنة)]، الأمر الذي يقود إلى التقاط خلاصات أولية بالنسبة للسرد العربي في جانبه الحكائي»6. فالسرد يتموقع بين التاريخ والتقييد، بل بين التجربة الفعلية والروحية، مما يمهد لنوع من الإدراك والوعي الخاص بالواقع الذي يساهم في آلية كتابية تسعى إلى تخييل الحقائق وتحقيق الخيالات7.

إن بنية السرد العربي القديم تتفاعل فيها عناصر التخييل القصصي والحكائي وهو يشكل تجربة مندمجة باللحظة الوجودية للمؤلف السارد سواء في بيئته الخاصة أم في محيطه الاجتماعي بحيث لا يهدف إلى تسجيل الأحداث والوقائع كما هي بل يعتبرها كردود أفعال إبداعية متداخلة مع اللحظات الحياتية هدفها غير واضح أو لا محدود، وهي مولّدة للخيال المبحوث عنه من طرف السارد والذي لا يمكنه أن يوافق خيالنا الذي نولّده اليوم نقدياً أو إبداعياً.

إن الربط بين الموروث الثقافي والهوية بحكم توحدهما في الظاهر، يفرض علينا استحضار شكلين مختلفين ومتضادين من أشكال الترابط والتعالق بينهما معاً وهما: الحديث عن الموروث بفلسفة ترتبط بالنقد البربري لهوية ترفض كل جديد أو مختلف، أو على أكثر تحديد تنكره وترفضه خارج الذات. وفي هذا الصدد، تُطرح مسألة الموروث الثقافي والأدبي داخل منطق الوحدة والتعالق من خلال ارتباط طرحها بالبحث عن التأثير والوعي والاستمرار والثبات سواء من خلال اللغة التي نمارس بها التواصل، أم من خلال المعرفة التي نتبنى صدقيتها وواقعيتها.

إن الرجوع إلى عصر التدوين ليس مجرد عودة إلى بداية كرونولوجية محضة، بل إنها عودة إلى فترة مثّلت فرعاً وأصلاً معاً. إن هذا الرجوع يمثل «الفترة التي رسمت فيها في الوعي العربي صورة العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي الأول، وهي نفسها الفترة التي نقلت خلالها إلى اللغة العربية، وبالتالي إلى الوعي العربي ذاته، صور الثقافات الأجنبية تحت ضغط هذه الحاجة أو تلك»8. فالعودة إذن إلى الأصل بالخصوص، وذلك بدراسة الموروث تعني مواصلة العمل على ترسيخ الطريقة التي تمّ بها ترسيم «طرقٍ في العمل والإنتاج وأساليب في الإقناع ومقاييس للقبول والرفض»9.

يرى الناقد المغربي شعيب حليفي أنه إذا كانت مؤلفات التاريخ والنصوص ذات البناءات المتنوعة قد تشربت بطريقة أو بأخرى النصوص الدينية ذات الإعجاز البلاغي وعلوم الفقه والتفسير ومحكيات المغازي وما تشعب عن كل هذا فإذا جمعت شتاتا حكائياً ثرياً يتأرجح بين تاريخ الوقائع والأخبار من جهة، والتخيلات الناعمة والقاسية من جهة ثانية. محكيان ينتسبان إلى دائرة واحدة تتخصب وتتولد في أشكال أخرى وبتلاوين مختلفة شأن مؤلفات التراجم والسير وغيرهما ومع نضج الوعي بالسرد باعتباره كتابة وسط تشكل الدولة، وفي إطار المثاقفة، أصبحت الحاجة ضرورية إلى توسيع إضافي في دائرة السرد حتى يساير في، التحولات، ويلتقط الطارئ، بحثا عن تفسيرات له وأيضا تدوين ما لم يكتبه الكلام الموزون المقفى وعجنه في نسيج تخييلي، يربط الواقع بما فوق الطبيعي الطاعن في الغيب والعجيب. ويضيف في ذلك أنه «وتدقيقاً، فابتداء من القرن الرابع الهجري ظهرت أشكال سردية تخيط الشتات وشذر التحول من القبيلة– بعصبيتها– إلى الدولة في شكلها المستعار حيناً أو الناقص حيناً آخر بحثٌ عن كمال مزعوم يضاهي الروم حضارة، والإغريق ثقافة، والعهد الراشدي عقيدة»10. ومن هذه الأشكال نجد نوعين هما: الأشكال الخالصة في السرد مثل المقامة والسيرة والحكاية الشعبية، والأشكال الهجينة مثل الخبر والمحكيات الصغرى المتفرقة وأدب المقامة والتراجم والطبقات وأخبار الأدباء والشعراء...

ويستحيل أن تنفصل هذه الأشكال الخالصة عن الهجينة إذ هما معاً يتفاعلان باستمرار مع المصنفات المدرجة ضمن ما أخضعه الفكر العربي للتصنيف، فصنفت أنماط الناس وكتب عن كل صنف حيث ظهرت كتب في أخبار الظرفاء والأذكياء، وفي أخبار المجانين والمغفلين والحمقى والطفيليين، وعلى هذا النمط ظهرت الكتب في الحيوانات وعجائب المخلوقات وكتب في خصائص البلدان، إلى غير ذلك من الكتب التي تختص بظواهر الحياة كافة. حيث تطورت وارتبطت بتقاليد المجتمع وعاداته وذاكرته فالتقطت المقامة مادتها الخام من أخبار الشطّار والمكدين في علاقتهم بذواتهم وبالمجتمع وبالآخرين كما سعت السير والحكايات الشعبية والرحلات إلى رصد تفاصيل الحياة الاجتماعية المتخيلة والمتعلقة بأفكار ووعي المجتمع وأفراده11.

مظاهر التخييل السردي

تعتبر الفلسفة نشاطاً عقلياً تأملياً يهدف إلى دراسة ظاهرة ما وتحليلها قصد إدراكها والعلم بها والتعرف عليها من كل جوانبها واكتشافها بداية، ثم إثبات منطقها لما فيها من أسباب ومسببات منطقية وفكرية، ثم، اكتشاف علاقاتها بغيرها من الظواهر الأخرى المجاورة لها وكيفية تفاعلها معها، وهي «تأمل الوجود»، وفي كل وسيلة يمكن أن يفهم بها هذا الوجود، ذلك أن الهاجس المعرفي والقلق الوجودي هما اللذان يدفعان الفرد إلى تأمل ما حوله ومراقبته، ومن ثم البحث والتقصي والجري وراء الحقيقة لإضاءة نقاط الشك والقضاء على مبعث الخوف والحيرة، وصولاً في النهاية إلى نتائج تبعث على الاستقرار النفسي والاطمئنان الاجتماعي أيضاً12.

وتتجلى علاقة الفلسفة بالسرد في كونها تلك القصص والتواريخ التي تساعد في فهم الوجود والكينونة البشرية، بما تضعه أمام القارئ والمحلّل من حوادث وأفعال حقيقية أو متخيلة (ونشدد هنا على التخييل باعتباره الأداة الطيعة في الإبداع والتأليف) تؤدي إلى العلم بالشيء ثم تساعد بقراءاتها المختلفة وتأويلاتها المتعددة على إنتاج تمثيلات الحقيقة، فالفلسفة أخذت من السرد مادة واستوحت منه أفكاراً ومعارف مختلفة واستقت منه قضايا كما استعملته أداة شرح وتفسير لظواهر أو وقائع. والسرد الفلسفي الرؤيوي عند ابن سينا وابن طفيل، يعرض سببية فلسفية عندما توظف رموزاً ومفاهيم تكون أساسها ومدارها، إضافة إلى الطاقة الخيالية التي تتولد عنها التصورات والأفكار عبر التمثل، تساعد السببية الفلسفية والتمثل كلاهما بطريقة أو بأخرى على النظر إلى العالم وتدبره مما أشار إليه التوحيدي ويتصل بمسألة تأمل الوجود والتفكير فيه بطريقة أو بأخرى، وهذا التدبر يمثل حقيقة التفكير الفلسفي بوساطة الإبداع الأدبي والسردي عامة.

إن التخييل في النص الأدبي عموماً، وفي النص السردي خصوصاً، لا يمكن وصفه بكونه خطاباً زائفاً أو كاذباً أو محرفاً، بل إنه خطاب يلجأ إلى الواقع لكنه لا يقدمه كما هو بصوره وحقائقه، ولكنه يحاول إفراغه من دلالاته المرجعية الحقيقية وملئه بدلالات أخرى مختلفة توافق السياق الخطابي التخييلي. وتكون هذه الدلالة الجديدة متجاوزة بالضرورة للأحداث الواقعية فتستدعي أحداثا متخيلة تتخلل الأولى تدعيماً لها، أو توضيحاً أو حتى تفسيراً لبعض منها، ولا يمكن استحضار هذه الأحداث المتخيلة إلا لغاية التأثير في المتلقي وتوجيه فكره وتأويله وفهمه نحو فهم آخر مقصود، ونحو اتجاهات معرفية أخرى.

اختلفت تعريفات «التخييل» حسب المدارس الفكرية والأدبية، وما يهمنا في هذا البحث هو تحديد هذا المفهوم من منظور التداولية ومحاولة تطبيقه على نص سردي قديم يتأسس في أغلب عوالمه وعناصره السردية على التخييل. فالفعل التواصلي بين مرسل ومرسل إليه يتم عن طريق ما يسميه سبيربر Sperber إنتاج مؤشرات ينبغي حلها والوصول إلى تفكيكها لغوياً، حيث إنها تعكس القدرة الميتا-تمثلية للكائنات البشرية، وهذه الشفرات قد تكون لغوية أو غير لغوية، غير أن ما يميز اللغة هو أنها مؤشر غني يسمح لمستعملها بوضع إمكانات متعددة في التواصل، وهذا ما يمنح اللغة إمكانات الاستعمالات العادية أو المجازية. ومن هنا فالتخييل لا يقوم على اللغة وإنما على السياق التواصلي، ويرتبط بالعوالم والكيانات التي يخلقها المبدع.

ارتبط مفهوم التخييل الأدبي، حسب الدكتور سعيد جبار، بما أتت به التداولية التي لم تغفل جانب التخييل، حيث يعتبر «تجلياً من تجليات التواصل الإنساني، وحاول التداوليون أن يجدوا لخطاب التخييل أرضية تداولية لمقاربته، وتعرف حقائقه وأهدافه، والنتائج التي يحققها على مستوى التطور المعرفي لفعل التواصل»13. فالتداولية، حسب الباحث دائماً، تهتم بالجانب الاستدلالي في التخييل، لأنه يعتبر المبدأ الأساسي الذي يميز الخطاب الجاد الصادق عن الخطاب التخييلي، وتؤكد من خلاله على لا كينونة الكيانات التخييلية، فوجودها يرتبط بالضرورة بتمثيلاتها التي تتجلى عبر الملفوظات. فهذه الخصائص لا تجعل خطاب التخييل يفقد خاصيته المعرفية التواصلية، باعتبارها خاصية تتمظهر من خلال المقومات السياقية والاستلزامات الخطابية التي يعيد المتلقي بناءها من أجل الوصول إلى الدلالة التي يهدف تحقيقها المرسل أو المتكلم14.

إن مهمتنا كمتلقين للنص السردي القديم أو حتى الحديث والمعاصر لا تقف عند مسألة قبول العمل الأدبي أو رفضه، وإنما مهمته تتجلى في البحث والاجتهاد وإعمال عقله واكتشاف أدوات الفكر لديه. ورغم أن ليس كل متلقٍ قادر على اكتشاف الدلالات التي تحتويها النصوص التي يقرأها ويتفاعل معها، لكن الضرورة تتطلب منه على الأقل الحصول على قدرة أو معرفة تمنحه إمكانية إدراك العلاقات بين الصور المستخدمة داخل النص، وفهم مغزاها. فمعرفته وخبرته الخاصة في مجال القراءة المسبقة تقوم في الأصل على المعرفة الذاتية وعلى الذوق الجمالي الخاص به، وإلا يصعب عليه في النهاية الوصول إلى اكتشاف حقيقة المكونات والعناصر الجمالية في النص الأدبي. ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن عملية التلقي وأفق انتظارها هي في الأصل عملية مشتركة بين المؤلف والقارئ، فالأول من خلال تجربته وأدواته الكتابية والإبداعية واللغوية التي تحتمل التحول والانفتاح الدلالي، والثاني من خلال خبرته الفنية وذوقه وتأويله الجمالي للنص. فأي قراءة نقدية أو تحليلية تستدعي منا الوقوف على أهم العناصر المكونة للنص السردي وعوالمه المتعددة من خلال رؤية المؤلف للعالم وللذات معاً.

اشتغال التخييل في قصة حي ابن يقظان

1 - البناء السردي في القصة

كتب الفيلسوف العربي ابن طفيل15 (506ه. 581ه/ 1110م. 1185م) رسالة عبارة عن قصة بعنوان «حي بن يقظان»16، في أسلوب حكائي ورمزي استطاع أن يترك أثراً واضحاً في قراء العربية في عهده وحتى يومنا هذا، فهي ذات طابع صوفي، يدعو فيها إلى فلسفة الإشراق الروحي، عن طريق التأمل. وقصة «حي ابن يقظان» هي التي سنحاول تحليلها في هذه الدراسة، نظراً لتميزها الأسلوبي والإبداعي ولصبغتها الأديبة القصصية. وموضوعها يتلخص في أن طفلاً اسمه «حي بن يقظان» الاسم جاء ذكره في القصة رمزياً ومعناه مطابق لما مر عند ابن سينا، حيث نشأ في جزيرة من جزر الهند دون خط الاستواء، ومن غير أب ولا أم، لأن تلك الجزيرة أعدل بقاع الأرض، ولإشراق النور عليها، فتخمرت الطينة فيها طويلاً حتى صلحت لتولد الحياة، ويحكي ابن طفيل أن ذلك الطفل- على حسب رأي آخر- لم يتولد من الطينة مباشرة، بل كان ابن أخت ملك تلك الجزيرة المجاورة، حملت به سراً من زواج مشروع برغم أخيها الملك فلما ولدته وضعته في تابوت أحكمت زمّه، وأسلمته لأمواج البحر، فحملته الأمواج إلى تلك الجزيرة المجاورة، وأياًّ ما كان مولده فقد ربته ظبية حنت عليه لأنها حسبته رضيعها المفقود، وكبر الطفل، وكان ذا موهبة فذة فلحظ وفكر فاهتدى إلى أفكار كثيرة طبيعية، أو تمت بصلة إلى ما وراء الطبيعة ثم اهتدى كذلك إلى ما اهتدى إليه الفلاسفة الإشراقيون، من الفناء في الله عن طريق الوجد والهيام في معناها الصوفي. وحاول بهذا الوجد أن يرحل من هذا العالم، في حين أتى إلى نفس الجزيرة متصوف آخر يقال له «أبسال» كان في جزيرة أخرى يعبد الله على دين أهلها السماوي وأراد أن يعتزل الناس في الجزيرة التي فيها حي بن يقظان، وأن يعبد الله فيها على طريقته الصوفية، معتقدا أن الجزيرة خالية من السكان. وسرعان ما التقى بحي بن يقظان، فتعارفا وعلمه «أبسال» اللغة، ولم يكن من قبل يعرف عنها شيئاً، ثم الشرائع السماوية، ثم قاده إلى الجزيرة المجاورة التي كان قد أتى منها، وهناك حاولا أن يهديا أهلها إلى الحقائق الكبرى التي تتجاوز حدود الشريعة دون أن تضارها وأن يبينا لهم أن الجزاءات المادية في الكتب السماوية ليست سوى رموز، وأن الحب يقود إلى القربى من الله والفناء فيه، ولم يفلحا في دعوتها فاقتنعا أن هذه الحقائق التي اهتديا إليها بالفطرة والعاطفة لا سبيل لها إلى قلوب العامة، وأدركا حكمة الشريعة في مسايرتها عقول العامة على قدر ما تيسر لهم فهمه، وحينئذ نصحا إلى هؤلاء العامة بالثبوت على دين الآباء. ثم رجعا إلى جزيرة حي بن يقظان، ليتعبدا، على طريقتهما، حتى الرحيل من دار الشر والبؤس17.

إن بناء السرد لدى ابن طفيل في القصة يدخل ضمن منظور التفرد في اعتماد الفكرة، والابتكار في البناء الفني، والبراعة في المعالجة، والفعالية في الإيحاء. لقد عرض ابن طفيل في هذه القصة سيرة المعرفة الإنسانية، عبر سيرة «حي بن يقظان»، وكيف استطاع بقدرته الإبداعية وإمكانياته الأدبية وبفطرته الفائقة من الارتقاء بالمعرفة من الحواس والتجربة إلى المعرفة العقلية القائمة على نتائج ومعطيات ما جربه وخبره في عالم الكون والفساد حتى خلص إلى الحكمة الشرقية. هذا البناء المعتمد على تقديم المعرفة الأساسية للمتلقي وجعله يشاركه إياها ويدافع عنها بطرقه الخاصة، استطاع من خلاله ابن طفيل أن يقدم لنا قصة من طراز مختلف ساهمت في الرقي بالأدب العربي القديم وبجعلنا نفتخر بأن هذا الأدب ينتمي إلينا وننتمي إليه.

إن «ابن طفيل» لم يتوقف عند تقديم الأخبار والمعلومات والأحداث لمتلقيه بصورة موضوعية وجافة، بل حاول سردها بأسلوب شيق معتمداً على تنظيمها في إطار من التخييلية والإبداعية، حيث أسس معرفة محددة المعالم ومضبوطة المعلومات تعتمد على قضايا وأحداث وأفكار مرتبطة بالضرورة بالمقارنة والاستدلال والتأويل والتفسير والتحديد. من خلال كل هذه المسائل حاول المؤلف أن يصل إلى توجيه القارئ إدراكياً وتأويلياً، والوقوف على أهم الحالات التي يمكنها أن يضبط من خلالها معرفته ويعيد توجيهها نحو وجهة يريدها، بل هدف، من خلال التمثيل الذي يحدد العوالم التخييلية في القصة ويفصّل الوقائع التي تبنى داخل ممكنات التخييل المفتوح، إلى تحقيق المقصدية التواصلية من النص.

2 - التخييل وآليات اشتغاله

إن ابن طفيل، وهو المتكلم المعروف والمشهور في زمانه، يريد أن يبلغ رسالة مفادها أن المسؤولية الدينية تقتضي اكتشاف الذات والعالم عبر التأمل والتفكير المتأني في الأشياء، وطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى التي تتعلق بالمعقولات والموجودات وبأصل الوجود، وصولاً إلى اكتشاف العلاقة بين العلة والمعلول والفاعل والمفعول، بين الوجود وواجب الوجود، وأن الكون واحد في الحقيقة وأن هذه الوحدة ناجمة عن وحدانية الخالق ووحدة التكوين. إن «حي» هذا الإنسان البدائي الذي تربى في جزيرة معزولة بعيداً عن البشر وتدرج في مراحله العمرية المختلفة وبنمو عقله التدريجي، يبدأ إدراك اختلافه تماماً عن كل ما يحيط به، ويبدأ في اكتشاف نقاط ضعفه وقوته واختلافه عن باقي الكائنات. فهو عار بلا ملابس ولا شيء يستره على خلاف الحيوانات حوله والتي يغطي جسدها الجلود والشعر والريش، ما يدفعه لاتخاذ ملبس يواري سوءته، ثم يدرك مدى ضعفه البدني وأنه أقل سرعة من غيره، ثم يدرك أنه يتعلم فعل الأشياء خلاف غيره من الكائنات التي تولد وتدرك ما تفعل، ثم يدرك أنه يفكر وبهذا فهو يمتاز عن غيره... فعند موت الغزالة التي اعتنت به وربته وساهمت في حفاظه على بقائه يبحث عن السبب لينتهي به المطاف إلى أنه لا بد من وجود شيء خفي داخلها وهو «الروح» وبخروج روحها فارقت الحياة. وبمراقبته لكل ما حوله واستخدامه لعقله في تفسير كل شيء كان دائماً ما يجد عائقاً سلبياً تنتهي إليه الأشياء فأدرك وجود مسبب لكل هذا وهو الذي يدير الكون كله... فيلجأ إلى عبادة الروح والتصوف حتى يصل إلى درجات التنوير عند الصوفية. إن المذهب الذي توصل إليه ابن طفيل في كتابه «حي بن يقظان» هو المذهب العقلي، لأنه اعتقد أن في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه من المحسوس إلى المعقول، ويصل بقواه الطبيعية إلى معرفة الله. وهو في ذلك كله لا يعرف الكلام. فهناك فكر مستقل عن اللغة، واستعداد فطري يميز الناس بعضهم عن بعض، لأنه ليس في وسع كل رجل أن ينتهي إلى معرفة الخالق وحقيقة الكون عن طريق الفطرة والاكتساب الشخصي من غير حاجة إلى معلم. ويؤكد الكاتب منير إبراهيم تايه أن ابن طفيل أبرز في هذه الرواية المراتب التي يتدرج بها العقل في سلم المعرفة من المحسوسات إلى الجزئيات ثم إلى الأفكار الكلية.وأن العقل الإنساني قادر من غير تعليم ولا إرشاد على إدراك وجود الله بآثاره في الأرض وفي مخلوقاته وإقامة الأدلة على ذلك. بل وأن هذا العقل قد يعتريه العجز في مسالك الأدلة والعدم المطلق واللانهاية والزمان والقدم وهي المسائل التي حيرت الفلاسفة ووجدوا أنفسهم عاجزين أمامها. فنحن نلمس بوضوح شيئاً من الغرض الذي أراده ابن طفيل عندما شرع في التأليف حين يقول: «ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر، وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعم ضررها، وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي المظنون بها على غير أهلها، فيزيد حبهم فيها وولعهم بها. فرأينا أن نلمح إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق، ثم نصدعهم عن ذلك الطريق». هؤلاء هم من سعى ابن طفيل إلى المجاهدة في تقويمهم وإصلاح أمرهم، حينما اختار «حي بن يقظان» مغادرة الجزيرة وحياة العزلة ليعود مع رفيقة «أبسال» إلى الأرض المعمورة ومجتمع الناس، وهو ينظر إلى ما آلت إليه أحوالهم من الضلال، وقد ظهر إشفاقه عليهم ورغبته في الرفق بهم طمعاً في هدايتهم إلى طريق الحق علهم يظفرون بالنجاة على يديه. فتصفح طبقاتهم، وتبين له أن كل حزب بما لديهم فرحون. وقد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جمع حطام الدنيا. ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر. لا تنجح فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة، ولا يزدادون بالجدل إلا إصراراً. وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظَّ لهم منها. وقد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون18. 

يتجلى التخييل في النص من خلال وقوف المؤلف على العديد من المظاهر الثقافية والدينية التي لمسها في مجتمعه، وخاصة لدى أفراده الذين لا سبيل لإخراجهم من جهالتهم وسقوطهم الأخلاقي والقيمي. فمنذ البداية يبدأ المؤلف في حكي قصة حي بن يقظان الذي يجهل أصله ولا يعرف له أب أو أم في جزيرة من جزر الهند. إن ابن طفيل وهو يحكي لنا هذه القصة العجيبة يدرك مدى أهمية التخييل في إيصال الفكرة إلى متلقيه ومحاولة توجيه رأيه نحو معرفة معينة يقصدها، ألا وهي نقد سلوك أفراد المجتمع وفضح عوراته المتعددة. يقول في ذلك: «تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف كثيرة الفوائد عامرة بالناس يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إن لم يجد له كفؤاً وكان له قريب يسمى يقظاناً فتزوجها سراًّ على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم. ثم إنها حملت ووضعت طفلاً فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن روته من الرضاع وخرجت به في أول الليل في حملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر وقلبها يحترق صبابة وخوفاً عليه، ثم إنها ودعته وقالت: اللهم إنك قد خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئاً مذكوراً ورزقته في ظلمات الحشا وتكفلت به حتى تمَّ واستوى وأنا قد أسلمته إلى لطفك ورجوت له فضلك خوفاً من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد، وكان المد ينتهي إلى أقصاه في البر لا يصل إلى ذلك المكان إلا بعد سنة فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة مستورة عن الرياح والمطر محجوبة عن الشمس»19.

إن خطاب التخييل في النص، يلجأ من خلاله المؤلف إلى الواقع أو على الأقل إلى كتب التاريخ والقصص الشعبي الذي سمعه من الناس وفهم مغزاه، حيث حاول أن يكيفه مع وعيه الثقافي المتقدم، وإمكانية استثماره في معرفة أدبية وفكرية تستمد قدرتها على التغيير في الوعي الإنساني من خلال ما تحمله من معانٍ وأفكار ومعلومات تاريخية متخيلة أو واقعية لا فرق. هذا الخطاب التخييلي المستمد من الواقع والتاريخ لا يقدمه المؤلف كما هو بصوره وحقائقه، ولكنه يحاول إفراغه من دلالاته المرجعية الحقيقية وملئه بدلالات أخرى مختلفة توافق السياق الخطابي التخييلي، ولعل ما يحاول المؤلف استدعاءه من خلال قصة الزواج السري وإنجاب الطفل ورميه في البحر والدعاء إلى الله لحمايته ورعايته، يجعلنا كمتلقين ندرك مدى حضور المرجعية الدينية والثقافية لدى ابن طفيل من خلال قصة النبي موسى مثلاً. إن هذه الدلالة الجديدة متجاوزة بالضرورة للأحداث الواقعية والتاريخية حيث تستدعي أحداثاً متخيلة تتخلل الأولى تدعيماً لها وتأطيراً لما يعتمل داخلها من أفكار ومعارف محددة المعالم، أو توضيحاً أو حتى تفسيراً لبعض منها، كأن يكون هذا التفسير متخيلاً أو واقعياً لا فرق مادام المؤلف يستثمر قصته المتخيلة للوصول إلى غاية معرفية وفكرية معينة، ولا يمكن استحضار هذه الأحداث المتخيلة إلا لغاية التأثير في المتلقي وتوجيه فكره وتأويله وفهمه نحو فهم آخر مقصود، ونحو اتجاهات معرفية أخرى تكون أساساً لجعله يعي أهمية الحكي في تكوين شخصية ثقافية وفكرية ونقدية.

طبعاً، إن خطاب التخييل في «حي بن يقظان» ينطلق من مرجعية تاريخية وواقعية نسبياً، ليصل في النهاية إلى خلق نوع من الصدمة الفكرية لدى المتلقي الخاص. حيث لا نجد للحقيقة وجودا في النص، اللهم بعض الأفكار التي تعبر عن المحسوسات والمدركات والحوادث الطبيعية والإنسانية، بينما نجد التخييل الأسطوري يلعب دوره في العديد من المواقف كتخيل إنسان بجناحي طائر أو ذنب ثور، ومن هنا تتجلى قوة الخطاب التخييلي الذي يصنع أبعاداً فكرية لا يمكن للحواس أن تفهمها ببساطة إلا في إطار نوع من الجهد الفكري.

تلعب الأسطورة دوراً كبيراً في إنتاج النص الأدبي التخييلي القديم، باعتبارها مادة حيوية وأساسية لأي مؤلف أدبي يرغب في إيصال فكرته عن طريق الرمز والإيحاء، مخافة رد فعل السلطة أو المجتمع المحافظ. وها هو ابن طفيل بدوره لا يخرج عن هذا الإطار، حيث يستحضر الأسطورة ويستثمرها استثماراً جيداً في حكايته الجميلة. لأنه يدرك إدراكاً تاماًّ أن الأسطورة أو الخرافة هي مادة غذائية للأدب بصفة عامة. يقول في النص وهو يستحضر ادعاء البعض حول حقيقة «حي» باعتباره سليل الأرض لا أب له ولا أم: «وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فإنهم قالوا إن بطناً من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينة على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها الحر بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى، وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جداً وكان بعضها يفضل بعضاً في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه، مشابهة بمزاج الإنسان فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها وحدث في الوسط منها لزوجة بنفاخة صغيرة جداً منقسمة بقسمين بينهما حجاب رقيق ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبثت به تشبثاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل إذ تبين أن هذا الروح دائم الفيضان عند الله عز وجل وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم»20.

يلعب التخييل في النص السردي القديم وظيفة تأطير المعرفة وتحديدها إبداعياً، باعتباره وسيلة خطابية مهيمنة في أي نص، حيث كان الخطاب التخييلي بمثابة الدافع الأساسي لتحويل المادة التاريخية أو العلمية أو الدينية إلى مادة أدبية محض. ولا يتأتى هذا الأمر للمؤلف إلا إذا أدرك قيمة هذا الخطاب وقدرته على التأثير في المتلقي. إن ابن طفيل وهو يكتب نصه الجميل «حي بن يقظان» كان يدرك أهمية التخييل حيث عمل على استثمار الأسطورة والخرافة والمادة العلمية والدينية لأنها مادة تؤسس لخطاب أدبي مؤثر وأساسي في المدونة الأدبية عموماً. فالنص مفعم بالتنوع والانفتاح؛ فقد بات من الجدير الانهماك في ملامسة جوانبه المتعددة؛ باعتباره نصاً تراثياً يحتوي على العديد من المظاهر والوقائع والأفكار التي تستدعي التأويل والدراسة والتحليل.

يستثمر ابن طفيل الأسطورة لإيهام القارئ، في كثير من الأحيان، وإن كان يحاول أن يضفي على مكان أحداثه مسحة غرائبية وعجائبية، تارة بواقعية الجزيرة عبر الوصف من جهة؛ وتارة بتأثيث الفضاء بمكونات طبيعية، وعبر الاستعانة ببعض من عاصره أو سبقه من المؤرخين لتأكيد أصلها الجغرافي والاجتماعي. فالأسطورة تضفي على النص مسحة تخييلية قوية تسهم في تقوية الخطاب السردي ووسم الحكاية بالعديد من المواقف التخييلية والغرائبية التي تحبب إلى القارئ تلقي النص وحسن قراءته. إنها من صنع الإنسان ومن إنتاج فكره، حيث كان الفكر الإنساني لا يستطيع تمثُل الظواهر الطبيعية والبشرية بواسطة أسسه المعرفية البسيطة. فلولا الأسطورة لما تركت لنا المدونة الأدبية الإنسانية هذا التنوع والتعدد في النصوص الأدبية السردية والشعرية بكل تشكيلاتها. ولذلك كان يصعب على أي مؤلف آنذاك أن يسلم من الأسطورة في نصوصه لأنها تمثل جزءاً أصيلاً من فكره وثقافته.

فانطلاقاً من الأحداث والمواقف والفضاءات السردية في النص، نجد الحضور القوي للأسطورة حيث نشعر بأن ابن طفيل يحكي وهو مؤمن بها إيماناً قوياً لأنها تسعفه في الوصول إلى غايته التي تتجلى في توجيه رأي متلقيه ودفعه إلى اعتناق تصوراته النظرية والفكرية والأدبية حول موضوع الحكاية، حكاية «حي» باعتباره شخصية مختلفة عن شخصيات الحكايات الأخرى. ولا أدل على ذلك إلا هذا المعجم التخييلي الموجود بالنص حيث يحدده محمد العمري21 فيما يلي: البث، الأسرار، الغرابة، المشاهدة، البهجة، السرور، اللذة، الحبور، الطرب، النشاط، المرح، الانبساط، البوح، الإرادة، الرياضة، البروق، النور... وهو معجم صوفي شعري مفعم بالإبداعية على مستوى التوظيف والتحديد.

هذا المعجم الذي يتعدد في النص هو معجم غني يحيلنا مباشرة على القول إن ابن طفيل كتب نصه وهو يدرك أهمية التخييل والمعجم التخييلي في التأثير على متلقيه، نظراً لكونه معجماً حاملاً لرموز وإيحاءات لارتباطه بالشخصية الأساسية في النص أو لارتباطه الوثيق بأحداثه. كما أن هذا المعجم يتأسس على أفق تخييلي باعتباره موجهاً مهماًّ للمتلقي لإحداث نوع من المفاجأة على مستوى التأويل والقراءة.

تحتوي قصة «حي بن يقظان» العديد من الأفكار المضمرة الرمزية، وهي تعد نموذجاً للتمثيل الكنائي؛ بما تنطوي عليه من الابتعاد من المباشرة والوضوح باعتباره يصطدم بعوائق السلطة السياسية والدينية في المجتمع. إن ولادة «حي» كان في جزيرة الواقواق الأسطورية،حيث كان الفضاء الخاص بالولادة، ينفتح على المطلق واللانهائي، كأنه الخلق الأول الذي ارتد إليه آدم بعد خطيئته الكبرى الذي أخرجته من الجنة، وإن كان يبدو سطحياً في القصة أنه «ليس هناك ذكر قارة أو أرض لا يلفها البحر، وإنما جزر متجاورة ومنفصلة في آن، جزر ترمز إلى ما هو مغلق، إلى ما يكتفي بنفسه، إلى القطيعة المطلقة. ليست جزيرة صالحة لسلامان، ولا جزيرة سلامان صالحة لحي»22، فإذا كانت تبدو كذلك أو ما يشبهه أفقياً، فإنها منفتحة عمودياً على اللانهائي؛ بحيث تفضي إلى أقاصي المطلق. إن هذا الفضاء/ الرمز يتعالى على الأفضية الواقعية المترعة بالقيود والفساد، المدنسة بالقيم المادية الفاسدة، ليرسم لنفسه شكل الإطلاق والصفاء، بما يجعل مخلوقاً إنسانياً مثل «حي» ينشأ تلك النشأة الخلقية والخَلقية المتفردة التي جعلت منه نموذجاً للأصفياء. فوحدته في المكان الغريب والعجيب هو ما جعل منه قطب نفسه، وهو «ما أفضى به إلى التعرف على الحق والفناء عن ذاته، بحيث غدا له كونه المستقل عن كوننا، وغدت له مقاماته الكريمة الخاصة به»23. فالعزلة وظيفة أساسية للفضاء «جزيرة الواقواق» وهي المعنى الذي يهيئه المكان من أجل العبور إلى الحقيقة التي يتعين على البطل الوصول إليها. لقد كانت رحلته مع العزلة في هذا الفضاء المتخيل، طريقاً إلى المعرفة، التي بدأ يطلبها بالمفاجأة والتأمل، والتجربة، والملاحظة24.

الهوامش

1 - شعيب حليفي، «السرد العربي : الشكل والامتداد»، مجلة آفاق، اتحاد كتاب المغرب، العدد 61/ 62، الرباط، 1999، ص. 67- 68.

2 - المرجع السابق، الصفحة نفسها. ويمكن الاطلاع أيضاً على:

* Louis Ngandu Nkashama, Ecriture et discours littéraires (Etude sur le Roman Africain), Ed. L’Harmathan, Paris, 1989, P. 28.

3 - شعيب حليفي، المرجع السابق، ص. 68.

4 - نفسه، ص. 96.

5 - عبد الحميد حواس، الأدب الشعبي وقضية الإزاحة والإحلال في الثقافة الشعبية، ضمن كتاب جماعي: الأدب العربي وتعبيره عن الوحدة والتنوع، مركز دراسات الوحدة العربية، جامعة الأمم المتحدة، بيروت، ط. 1، 1987، ص. 408.

6 - حليفي، المرجع السابق، ص. 67.

7 - المرجع السابق نفسه، ص. 77.

8 - محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، ط. 1، 1981، ص. 70.

9 - المرجع السابق، ص. 16.

10 - شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي: التجنيس وآليات الكتابة، خطاب المتخيل، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط. 1، 6200. ص. 29.

11 - المرجع السابق، ص. 29- 30.

12 - إبراهيم صحراوي، السرد العربي القديم الأنواع: الوظائف، البنيات، دار الاختلاف، ط. 1، الجزائر، 2008.

13 - سعيد جبار، من السردية إلى التخيلية: بحث في بعض الأنساق الدلالية في السرد العربي، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، بيروت، الرباط، الجزائر، ط. 1، 2013، ص. 57.

14 - المرجع نفسه، ص. 60.

15 - هو أبو بكر محمد بن عبد االله بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي. ولد قبل سنة 506هـ، وتوفي سنة 580هـ أصله من وادي آش. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه كان تلميذاً لابن باجة، ولكنه هو نفسه يتذكر أنه لم يتصل به اتصالاً شخصياً. كان طبيباً بغرناطة، وعمل كاتباً لعامل هذا البلد، ولأحد أبناء عبد المومن، وعلا أمره حتى أصبح طبيباً لأبي يعقوب يوسف المنصور خليفة الموحدين. وكانت له حظوة عظيمة عنده، وهو الذي قدم إليه ابن رشد في ظروف معروفة، ونصح هذا الفيلسوف القرطبي بأن يدون شروحه لكتب أرسطو. ثم تخلى ابن طفيل عن عمله كطبيب للمنصور، وتركه لابن رشد، وتوفي في مراكش سنة 580ه.

16 - ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم: صلاح فضل، تعليق: عبد العزيز نبوي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط. 1، 2013.

17 - يمكن العودة في ذلك إلى: أحمد أمين، حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهر وردي، دار المعارف، القاهرة، ط. 1، 1952، ص.135.

18 - منير إبراهيم تايه، «حي بن يقظان» لابن طفيل.. الفلسفة في رداء الأدب، موقع: هوف بوست عربي، بتاريخ: 21/ 01/ 6201، رابط الموقع:

* http://www.huffpostarabi.com/moneer-taya/-_3654_b_9003316.html.

19 - ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق فاروق سعد، الدار العربية للكتاب، الطبعة الرابعة، 1983، ص. 32-33.

20 - ابن طفيل، المصدر السابق، ص. 3-37.

21 - محمد العمري، "الفضاء الاستعاري في الخطاب النثري: حي بن يقظان بين التخييل والحجاج"، أعمال ندوة الصورة والخطاب: قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، كلي الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، المغرب، 2009، ص. 241.

22 - عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2007م، ص: 73.

23 - محمد علي الغريب الشناوي، القص في النثر الأندلسي، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003م، ص: 345.

24 - إبراهيم الحجري، «حي بن يقظان: شعرية الفضاء»، دراسة منشورة على الإنترنيت، نسخة إلكترونية، رابط الدراسة:

* http://rodin.uca.es/xmlui/bitstream/handle/10498/15183/05_Hagari.pdf?sequence=1، ص. 132.

المصادر

* ابن طفيل، حي بن يقظان، تقديم: صلاح فضل، تعليق: عبد العزيز نبوي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط. 1، 2013.

* ابن طفيل، حي بن يقظان، تحقيق: فاروق سعد، الدار العربية للكتاب، الطبعة الرابعة، 1983.

المراجع بالعربية

* إبراهيم صحراوي، السرد العربي القديم الأنواع: الوظائف، البنيات، دار الاختلاف، ط. 1، الجزائر، 2008.

* أحمد أمين، حي بن يقظان لابن سينا وابن طفيل والسهر وردي، دار المعارف، القاهرة، ط. 1، 1952.

* حمد العمري، «الفضاء الاستعاري في الخطاب النثري: حي بن يقظان بين التخييل والحجاج»، أعمال ندوة الصورة والخطاب: قضايا النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، كلي الآداب والعلوم الإنسانية، فاس، المغرب، 2009.

* سعيد جبار، من السردية إلى التخيلية: بحث في بعض الأنساق الدلالية في السرد العربي، منشورات ضفاف، دار الأمان، منشورات الاختلاف، بيروت، الرباط، الجزائر، ط. 1، 2013.

* شعيب حليفي، الرحلة في الأدب العربي: التجنيس وآليات الكتابة، خطاب المتخيل، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط. 1، 6200.

* عبد الحميد حواس، الأدب الشعبي وقضية الإزاحة والإحلال في الثقافة الشعبية، ضمن كتاب جماعي: الأدب العربي وتعبيره عن الوحدة والتنوع، مركز دراسات الوحدة العربية، جامعة الأمم المتحدة، بيروت، ط. 1، 1987.

* عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2007م.

* علي الغريب الشناوي، القص في النثر الأندلسي، مكتبة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003م.

* محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، ط. 1، 1981.

المراجع باللغة الأجنبية

* Louis Ngandu Nkashama, Ecriture et discours littéraires (Etude sur le Roman Africain), Ed. L’Harmathan, Paris, 1989.

المجلات والدوريات

* مجلة آفاق، اتحاد كتاب المغرب، العدد 61/ 62، الرباط، 1999.

المواقع

* إبراهيم الحجري، «حي بن يقظان: شعرية الفضاء»، دراسة منشورة على الإنترنيت، نسخة إلكترونية، رابط الدراسة:

http://rodin.uca.es/xmlui/bitstream/handle/10498/15183/05_Hagari.pdf?sequence=1.

* موقع: هوف بوست عربي، بتاريخ: 21/ 01/ 6201، رابط الموقع:

http://www.huffpostarabi.com/moneer-taya/-_3654_b_9003316.html.

الصور

1 - http://inkitab.me/sites/default/files/styles/landing_page_image_style/public/field/image/%D8%AD%D9%89-%D8%A8%D9%86-%D9%8A%D9%82%D8%B8%D8%A7%D9%86_0.jpg?itok=3zdvuPw3

2- 3 ,4 -https://www.freepik.com/

أعداد المجلة