فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
32

الذاكرة الشعبية والعولمة

العدد 32 - التصدير
الذاكرة الشعبية  والعولمة
كاتب من لبنان

 

إن حركية التواصل العالمية بين البشر، تتميز بالتطور المضطرد بدءًا بالحمام الزاجل حتى عصر ثورة المعلوماتية العالمية في ميدان الأنترنت والفضائيات. ونحن كباحثين ومتتبعين لهذه الحركية التواصلية الاجتماعية نركض في مساحات الزمان والمكان، نحط الرحال لنستنطق حيناً ونطير مع الزمن الضوئي أحياناً. الإنسان يكبر وينمو والكرة الأرضية تصغر وتضيق. هناك جدلية دائمة بين التقدم والحضارة، بين الصناعة والحرفة بين الثقافة والحداثة بين الفولكلور والفن بين الدواء والغذاء بين ماهو قديم وما هو حديث... من بين هذه الجدليات الثقافة الشعبية وتحديات العصر.

الثقافة الشعبية التي يبدعها الشعب هي مادة غنية ومعبرة ذات دلالات رمزية ضمن المنظومة الثقافية للمجتمع. وعندما نخضع هذه الثقافة للبحث والتحليل لابد من الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات التالية:

لا تحظى الثقافة الشعبية بما يليق بها من الاحترام والتقدير، باعتبارها ثقافة العامة وليست ثقافة النخبة.

اختزال التراث الشعبي او المأثور الشعبي بالمعنى الضيق بحيث لا يتعدى جانباً محدداً من الفنون كالموسيقى والغناء والرقص... واعتبار ذلك نوعاًً من أشكال التعبير العادي. إلا أن التراث الشعبي أغنى وأوسع وأكثر تنوعاًً من ذلك، بحيث يطال مختلف أشكال الثقافة وتنوعاتها.

تنبهت مؤخراً الشعوب الغنية منها والفقيرة إلى ما يشكله التراث الشعبي من ثروة وقيمة، فحرصت على المحافظة عليه.

 فالثقافة الشعبية يمتلكها عامة الناس، ولم تسلط عليهم الأضواء، بل قاموا بعملهم بشكل عفوي ومتقن، متفانين وباذلين من دمهم ومن ذواتهم وأحاسيسهم ضمن ذوقهم الفني في مختلف المجالات. فكانوا المثال الذي يحتذى به، مجسدين بإنتاجهم لوحات مميزة أبدعتها أياد ماهرة، او أفكاراً نسجت لوحات مزركشة فريدة من نوعها.

فالثقافة الشعبية هي مجموعة من الإبداعات المادية وغير المادية والتي تحدد الهوية الثقافية. والنتاج يكون فردي او جماعي، والمشاركة كذلك حيث تشترك الجماعة في أداء متجانس متماسك، كما في الكرنفالات والأعياد والاحتفالات الثقافية، حيث تبدو الشعائر والطقوس وكل الممارسات الاجتماعية والثقافية، وهذا يعطي معنى لوجود البشر، ويعطي كذلك الإحساس الجماعي والهوية الوطنية للأفراد والجماعات، وهذه الممارسات المتوارثة من الماضي تشكل قوة حية تغذي الحاضر، والمتمثلة بالتراث الحي حيث التعبيرات والمعارف والمهارات والقيم المرتبطة بها.

إن حفظ هذا التراث من جيل إلى جيل، وإستمرار صوغه مع الاستجابة للتغيرات في البيئة الاجتماعية والثقافية يوفر للأفراد والجماعات والمجتمعات الإحساس بالهوية والاستمرارية، ويشكل ضمانة التنمية المستدامة.

عناصر كثيرة من التراث مهددة بخطر الزوال، ويرجع ذلك أساسا إلى اعتبارات متعددة، لها علاقة ببنية المجتمعات والتغييرات التي تطرأ على البنية الداخلية والعوامل الخارجية المؤثرة. نجد مثالا ً على ذلك في تناقص أعداد فناني الأداء والحرف والتعبير الشعبي بكافة تجلياته.... بالإضافة إلى الميل الواضح بين جيل الشباب لتأثيرات ثقافية خارجية مستوردة.

في هذا السياق، يجب تظافر الجهود بين المؤسسات المحلية أو الدولية، لرصد وتجميع مايمكن جمعه قبل «تسونامي» العولمة والتغيير او ما قبل الزوال، لحفظ المادة التي تشكل طابعا محليا باعتبارها مكونا من مكونات الهوية الثقافية للمجتمع. معتمدين على تقنيات علمية في جمعها وتبويبها، وإخضاعها  للتحليل والنقد الموضوعي، وإبراز مكامن القوة أو الضعف فيها، ومن منطلقات علمية وموضوعية. بعيدا عن السجال القديم الجديد بين ما يعرف بالتقليد والمعاصرة.

ونظراً للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تواجهنا، فإننا أمام مفترق مفصلي يمكن أن يؤدي الى انسلاخ تدريجي عن الهوية الثقافية الوطنية التي يتميز بها أي مجتمع من المجتمعات. وفقدان هذه الهوية يؤدي الى الإنخراط في هوية وافدة تنقلنا إلى لاتوازن الإنتماء ومعرفة الذات، مما يؤدي الى خلل معرفي على مستوى الهوية نفسها.  لذلك لابد من الاعتماد على الأسس المعرفية والمنطقية، البعيدة عن العواطف بتبني ماهو تقليدي محلي، أو ماهو وافد، فاعتماد الموضوعية  أساسي لدراسة مختلف أشكال الثقافة، بأبعادها المحلية والوافدة.

هذه  المداخلة المتواضعة هي بمثابة إشكالية للبحث، وعلى جانب من الأهمية للتركيز عليها، من أجل تظافر كافة الجهود وفي مختلف المجالات الحياتية.

 ونحن كمشتغلين في المجال الثقافي بشكل عام وباحثين في المادة التراثية، مركزين على الثقافة الشعبية، ملزمين بتحديد دورها ووظيفتها، وتبدو الأهمية كذلك في هذه المرحلة المفصلية والحساسة التي تمر بها مجتمعاتنا، من اجل تحديد العلاقة وإبراز التحديات الحاصلة بين ثقافتنا الشعبية والعولمة.

 

أعداد المجلة