فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
3

المقدس بين العادة والمعتقد

العدد 3 - عادات وتقاليد
المقدس بين العادة والمعتقد
كاتبة من المغرب

 

تعتبر دراسة العادات والمعتقدات بكل تجلياتهما من أهم المتطلبات المنهجية لدراسة ثقافة المجتمعات الإنسانية في تمثلاتها للعالم. فهي تشكل البؤرة التكوينية الكاشفة للشخصية الجماعية فيها سواء في عملية إنشاء أو في عملية استهلاك الأنساق المادية والرمزية وتوزيع الوظائف.

فالعادات تعكس أنماط الاستجابات المختلفة لتحديات الطبيعة والإنسان، كما تعكس أنماط التمثلات والاعتقادات والمعارف، وتساعدنا على ضبط وتحليل الفعل الاجتماعي لأنها في النهاية تتشكل من أمشاج دينية وأسطورية وفكرية ورمزية قد تبدو متناقضة أو متوحدة داخل سياقات أخرى.

لقد تم الاهتمام بكل ما رصدته الثقافة العالمة في هذا المجال من أدب وفقه وكلام في حين  تم إغفال دراسة الذهنيات التي تبلورت كعلم له مناهجه خلال ق20 حيث ساهم مساهمة كبيرة في تبيان أن دراسة الثقافة العالمة وحدها لا تعطينا الصورة النهائية والدقيقة للمجتمعات، لأن الأنظمة المعرفية التي تنتجها النخب العالمة لا تقود الذهنيات الاجتماعية (فالنظام المعرفي يحكم الفعل المعرفي، أما المخيال الاجتماعي فبما أنه منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز، فهو ليس ميدانا لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد) 1 .

لا نعني هنا إحداث قطيعة بين الثقافتين لأن التفاعل بينهما أكثر تعقيدا كما يشير العروي2. كما لا يعني إغفال التقاطعات الثقافية داخل المجتمعات ومساهمة هذا في المقاربة الشمولية لكل أنماط التفاعل  (المجتمع والسلطة والتدين والثقافة) أي لعبة التجاذب بين المركز والأطراف التي اعتبرها أركون ظاهرة أنثربولوجية في كل المجتمعات حيث ينبغي عدم إغفال الصيرورة التاريخية معها. 3.

إن الاشتغال بموضوع المعتقد والعادة يتطلب إجراءات منهجية تفرض الدقة والحذر في انتقاء الجهاز المفاهيمي الملائم لمثل هذه المقاربات احتراسا من الوقوع في مزالق تعسفية ، خاصة إذا تعلق الأمر بتوظيف بعض المصطلحات المؤثثة لفضاءات منهجية بحمولات تختلف عن الهوية والثقافة العربية الإسلامية، ومن بين هذه المفاهيم والقضايا : المقدس، المدنس، التدين الشعبي، الحلال، الحرام، البركة...الولي، الصالح...

إن الحفر في هذه الحقول لا ينزاح عن الإطار البنيوي الكامن الذي يحضنها (أي الظاهرة الدينية) التي تبقى المحك الذي نزن به العناصر المذكورة أي المرجعية المحددة لتسمية تلك التجليات.

وإذا كانت الظاهرة الدينية مستعصية دائما منغلقة عن كل ما يطوقها بالحصر والتحديد والتكييف والتصنيف، فإن هذا ينطبق على كل تلك المتجليات الآنفة، وهذا ما يفسر أن بعض أنماط المقدس في الذهنية المسلمة قد يصبح مدنسا عند ذهنيات أخرى أو العكس.

يتحدث الباحث دي شالار DUCHALARD)4) عما سماه نور الطبيعة الذي جعل بعض المغاربة لا يتحققون في أصل بعض الأولياء حيث يتم تقديس موتى لا صلة لهم بالإسلام ، ومن هنا فالولي سيدي بلعباس دفين مراكش ما هو إلا القديس أوغسطـين5 وأن سيدي مجـدول في الصويرة هو : الاسكتلندي ماك دوكال MAC DOUGAL) 6)الذي حاز القداسة والاحترام إلى درجة رفعه إلى مقام ولي صالح.

بل بلغ الحد بجون وندوس JOHNWINDUS  إلى القول :

« من الصعب تعريف الولي بهذا البلد، كما يصعب معرفة كيف أصبح هؤلاء أولياء، لكن أي شيء خارق للعادة يصنع وليا، فالبعض أصبحوا أولياء بسبب الوراثة وآخرون بسبب بعض المهارات الخاصة، وكثيرون بسبب غبائهم أو حمقهم والبعض بسبب خبثهم البالغ»7.

وإذا كانت مثل هذه الدراسات الصادرة عن بعض الرحالة تنحو هذا المنحى الوصفي والقدسي فإن الكتابات الكولونيالية تجاوزت هذه النظرة من حيث الموضوعية والتدقيق لأن الغرض الأساسي الذي كان يؤطرها هو خدمة المشروع الاستعماري ، من هنا جعلت البحث في المعتقدات والممارسـات الدينية مرتكزها، وهـذا ما حدا بألفريد بيل ALFRED BEL للقـول :

« إن حكم وإدارة أهالي هذا البلد (المغرب) وممارسة وصاية نبيهة عليهم يقتضي بالضرورة معرفة معتقداتهم وعاداتهم»8.

إن مثل هذه المقاربات لا يمكنها أن تتم إلا داخل النسق المفاهيمي الذي تنتمي إليه وإخراجها من هذا النسق يعني موتها والحكم عليها بالعبثية، فهو الذي ينظم علاقاتها ويوزعها في خانة وظيفية مرتبة.

من ناحية أخرى لا تتبدى هذه الأشكال إلا بالرمزية، فهي تتحالف ضد اللغة الجوهرية، ويبقى الافتنان سيد المواقف بدلا للمعرفة .

فالولي هو مركز الجذب وليس طريقة للافتراق، إنه الذي تنتظم حوله باقي المكونات الثقافية الأساسية التي تفرغ في نسق متخيل/لا مرئي يتأسس بالرموز التي ينبني عليها تأويل العالم، جاء في مباحث الأنوار:

 «إن الإيمان بقدرة أشخاص من البشر على الاستجابة لمجموعة من المشاغل النابعة من وسطهم الاجتماعي، جعل الناس يتعلقون بمن اشتهر صلاحه من هؤلاء المدركين، سواء في المدينة أو في مناطق قروية جدا كالصحراء والسودان »9

لقد كانت الحاجة إلى الولي ضرورية بالنسبة للمدارات الحضرية أو القروية لضبط الاستقرار والفوضى التي كانت تعم نتيجة المجاعات والصراعات حول المكاسب...و(الصالح كان مقصودا في ذاته، يتقي الناس عقابه وسخطه، ويحتاجون إلى بركته وكراماته) 10.

إن ظهور وتطور المقدس نتيجة عدة شروط قد تؤجج الحاجة إلى وجوده أو قد تطفئ شعلة الانبهار به، وهنا نطرح السؤال عن مدى علاقة المقدس بالتاريخ ؟

فالوعي بهذه التجربة يترتب باختلاف البنيات الاقتصادية والثقافية للتنظيم الاجتماعي. يلح ميرسيا إلياد11 على أن التجربة الدينية أو نمو المقدس تحيط به مجموعة من الحوافز، فمن البديهي أن يتعذر نمو الرمزيات المرتبطة بالأرض –الأرض، المرأة، الخصب- خارج اكتشاف الزراعة ووجود النظام الزراعي، لأن مجتمع الصيادين لم يكتسب شعور تقديس الأرض الأم بنفس الكيفية، غير أن كلا الاتجاهين يشتركان في التصور القدسي للكون حيوانا كان أو نباتا..وهذا عكس المجتمعات الحديثة التي عرت الكون من قداسته.

إن المقدس يتغير عندما ينتقل من درجة العادي إلى القدسية، وهذا الانتقال لا يمس في أغلب حالاته الجانب الشكلي بل ينساب إلى الذات، وهذا الانسياب والتبدل لا يترك له مجال الحرية ولو على مستوى اللغة، إنه يغلق الرؤية والشعور ويباشر بطقوس وشعائر مختلفة .

قد يكون المقدس صخرة عادية كانت لا تثير أدنى إحساس عند المرور بجانبها لكنها تدخل تاريخ المقدس عندما ترتبط بحدث خاص، وبزمن خاص، قد ترتبط قدسيتها بفعل (نبي جلس عليها، مر بها، اختبأ عندها...) أو برؤيا رمزية أو حتى بإديولوجية  مفبركة في زمن سياسي يتخذ من المقدس ستارا يمرر عبره كل طموحاته وأفعاله، خطاباته وتطلعاته (سبعة رجال والحكي الشعبي الذي حيك حولهم في المغرب ) .

أمام كل هذا نجد المقدس العلوي الذي ينتخب أو يكلف بمهمة، وهذا العمل أو اليقين هو الذي يضفي عليه صفة المقدس، لكن رغم اختلاف هذه الأنماط من تجليات المقدس يظل القاسم والجامع بينها إثارة ألوان متناقضة من الشعور بالفزع، الرهبة والخوف الذي يصل في بعض حالاته إلى المرض أو حتى الانتحار والموت بمبرر العقاب الآلي المباشر الذي يصيب من تجرأ عليها(عالم الجن مثلا).

هكذا فمفهوم المقدس يظل غامضا، وكل محاولة لتدقيقه تعمق من تستره وغموضه رغم إنارة بعض جوانبه والإحاطة ببعض حدوده لأن المقدس دائما مغلف بالخفي ويتحكم فيه أهل الخفاء الذين يجمعون بين ما يغوي ويرهب ويسحر في اعتقاد روجيه أطو12 .

وأية مقاربة تؤطر البحث في المقدس وتماهياته تفرض الإمساك بمفاهيمه بشمولية أي الاشتغال بالسياق الكلي الذي أنتج ومارس مفاهيمه، بمعنى آخر الابتعاد عن الانعزالية أو الرؤية الضيقة التي لامسناها عند بعض الدارسين الرحل أو حتى بعض الكولونياليين كما سبقت الإشارة.

إن هذا الملتمس يفرض إقامة جسر جدلي بين التاريخي والفكري ، وعندما نطرح هذين الشرطين نعي النظرة الإدماجية الكلية التي لا تفصل فيه بين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي واللغوي الذي يحدد المسار التقني لهذا المفهوم انطلاقا من استراتيجيات ورهانات تحضر فيها كل الحقول السابقة .

 القداسة مفهوم متطور حيوي، زئبقي قد تمسك به وقد ينفلت منك بحذر ورهبة حسب تجلياته وحسب الأشكال التي يمارس فيها كطقس يحدد لون وقيمة المقدس، وهذا ما يفسر الموقف المعاصر منه، إذ لا يحمل تقريبا نفس الحمولات التي كانت له في القديم.

فقد يتعلق بذات أو شيء أو كلمة، وكل هذه الألوان تنتمي إلى مجتمع معين، كل مجتمع له توابث، خصوصيات  وقيم، من هنا فإن كل مقاربة له تنطلق من فحص المعاني والتمظهرات والسلوكات، وردود الفعل التي تشكل في حد ذاتها وسيلة لفهم ذلك الواقع، ولكن الإشكال يكمن في الحذر الذي ينبغي التسلح به لئلا نغتال الشيء ومعناه، أو بالأحرى الذات والقيم المنتجة معا. يقول ميرتشيا إلياده :

«فأن نعي العالم على أنه عالم حقيقي وذو مغزى هو أمر يرتبط ارتباطا حميميا باكتشاف المقدس، فمن خلال تجربة المقدس كان على الذهن البشري أن يدرك الفرق بين ما يكتشف عن نفسه بوصفه حقيقيا وقويا وغنيا وذا معنى، وبين ما هو ليس كذلك».13

إن فكرة محاكاة الإله التي يطرحها ضمنيا إلياده في قوله هي مفهوم مؤصل في معظم الأديان، وقد جاء في التوراة:

(وكلم الرب موسى قائلا: كلم جماعة بني إسرائيل وقل لهم تكونون قديسين لأني أنا الرب إلهكم قدوسي) 14

والمسيحية في رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس (كونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء)15، وفي الإسلام روايات كثيرة عن التشبه بأخلاق الله، خاصة عند الفرق الباطنية كالمتصوفة  ، هكذا يؤكد ميرتشيا إلياده على أن أقدم مستويات الثقافة تشير إلى أن العيش ككائن بشري هو في حد ذاته فعل ديني إذ أن الغذاء والعمل والحياة الجنسية  لها قيمة قدسية.

ويؤكد هذا الطرح إميل دوركايم16 الذي يرى أن المجتمعات لا تتكون من مجرد مجموعات من الأفراد الذين يحتلون مكانا معينا في ظل ظروف مادية معينة بل إن المجتمع هو قبل كل شيء مجموعة من الأفكار والمعتقدات والمشاعر المتلونة والمختلفة التي تتحقق بواسطة الأفراد، وفي المحل الأول من هذه الأفكار توجد فكرة الأخلاق المثالية التي هي السبب الرئيسي لوجود المجتمع، ودراسة الدين هي دراسة لظروف تكوين هذه الأخلاق المثالية.

      هكذا نخلص إلى أن دراسة المقدس تدخل في علاقة دائرية مع تعريف الدين، فالأشياء المقدسة غالبا ما ينتجها المجتمع، بينما الأشياء الدنيوية يصنعها الفردي، إن هذا يعني أن الدين يصنع المقدس بينما لا يمكن للفرد واحدا أن يصنع الدين، أو بعبارة أصح إن المقدس يمكن أن يدخل في الدين، بينما لا يمكن أن نعتبر كل مقدس دينا ، ولعل هذا ما يفسر حقيقة وماهية الاحترام الذي يهيمن على المؤمن بل يجبره على عدم الشك فيما يؤمن به، وهذا الاستنتاج يحيلنا إلى الأصل الاجتماعي للمقدس بغض النظر عن مضمونه وطبيعته.

      هذا ما عمل يونغ على تفسيره عندما نادى بإلغاء الفيزيائية أمام معرفة الحقيقة الدينية ، فهناك حقائق لا يمكن تفسيرها وإثباتها ولا نفيها، يقول :

« إن الإبانات الدينية من هذا القبيل ترجع إلى أصول يتعذر إقامة الدليل عليها فيزيائيا لأنها لو كانت غير ذلك لدخلت في نطاق العلوم التجريبية، وقد يرفضها العلم إذا كانت غير قابلة للتجريب»17.

فالإبانات الدينية تتنازع مع الظاهرات الفيزيائية، وهذا دليل على استقلال الروح، أي استقلال الخبرة النفسية عن الوقائع الفيزيائية. كما أنها تتأسس بالخافية(اللاشعور) أي على سياقات  متعالية لا يطالها الإدراك الفيزيائي.

 

 

الهوامش

1 - محمد عابد الجابري –العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ط2 سنة 1992. ص16

2- Laroui Abdellah.esquisses historiques,casablanca,centre culturel arabe 1992 .

3- Mohamed Arkoune : penser l’histoire du maghreb (p.p 48-50)-in.l’état du maghreb/sous la dir.de camille et yves la coste,casa,le fennec,1991.

4- les s.i.h.m.france ш. p.488 .

5- ibid. p.439.

6- ocnnor : avision of morocco,p.224.

 7   -جون وندسون .م.س ص55-56

 8  - ألفريد بيل م.س.ص 54

 9  - الولالي، مباحث الأنوار  في مناقب بعض الأخيار ص 230

10 - أحمد التوفيق – المجتمع المغربي في القرن 19 (اينولتان 1912 - 185 ) منشورات كلية الآداب بالرباط، الطبعة الثانية ج2 ص64

11 - ميرسيا إلياد،كتاب المقدس والعادي، ترجمة عادل عوا بودابست، صحاري.ط1 سنة 1994. ص38

12 - رودولف أنطو، العنصر اللاعقلي في فكرة الإله وعلاقته بالعقلي ص21

13 -ميرتشيا إليادة ، البحث عن التاريخ والمعنى في الدين ص39-40 ، ترجمة سعود المولى، مركز دراسات الوحدة العربية ط1 سنة 2007

14 - سفر اللاوين /الاصحاح 19/ الآيتان 1و2

15 - إنجيل متى الإصحاح 5 الآية 1

16- sociologie et philosophie.p79.éd.c.bouglé, alcan1924,puf,1967

17  -  كارل.غ.يونغ، الإله اليهودي ، ترجمة نهاد الخياط ، دار الحوار، سوريا ط2  سنة 1995

 

أعداد المجلة