فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
28

سيكولوجيــــة الرقص

العدد 28 - موسيقى وأداء حركي
سيكولوجيــــة الرقص
كاتب من سوريا

بلاغة لغة فن الرقص
دوماً يبحث الإنسان عن وسائل غنية ليعبر بها عن مشاعره تجاه واقع ما، أو حدث يواجهه، هذه الوسائل التي تعبر عن حالة إنسانية يتحدث بها كل إنسان بشكل مطلق، ودون استثناء ، ومن هذه الوسائل تأتي لغة الرقص لتأخذ ميزتها الإنسانية، فعندما يرقص أي إنسان ، فإن أي إنسان مهما كان موقعه، أو لغته، يصغي إلى هذه اللغة ويتفاعل معها دون أن ينبس ببنت شفة، ودون أن يسمع لفظاً واحداً.

 


ثمة لغة لايمكن التعبير عنها إلا بلغة الرقص، ولذلك نرى مختلف شرائح الناس تستخدمها كونها الأكثر تعبيراً، والأكثر تأثيرا.
ولدت فكرة الفنون في الذات البشرية في محاولة من الإنسان ليقدم شيئا يخفف عن أخيه الإنسان، ولذلك اتسعت ألوان وأشكال الفنون من كوميديا، وسينما، ورقص، وآداب، وغناء  سعى الإنسان من خلالها ليترك شيئا مجديا ليس لزمنه فحسب، بل لسائر الحقب البشرية  
دوما وفي كل وقت يسعى الإنسان لاكتشاف وسائل التعبير عن مشاعره نحو مواقف وأحداث الحياة، وهو بذلك يحاول أن يضفي لمسات جمالية وفنية عن تعبيره للتأثير بتلك الوقائع والأحداث.
الرقص فن احتفالي اكتشفه الإنسان ليستطيع من خلاله أن يعبر عن مشاعره من واقعة ما، وهو يحدث على الأغلب في طقوس تكاد تكون تلقائية، لأن المحتفل يريد ألا يشغله شيء من أمور الدنيا عن لحظات الاحتفال التي يرقص في محرابها.
إنه هنا يمتلئ بحالة كرنفالية  غامرة من النشوة يمكن معها أن يتسامح مع أي شخص يراه ولو مصادفة حتى لاتـُفسد عليه هذه الطقوس الاحتفالية والاحتفائية سواء بالذات أو بالآخر.
الجسد هنا يعبر عما لايمكن لأبلغ لغة أن تعبر عنه، وهناك أيضا أشكال للرقص الانفرادي الذي يمكن أن يؤديه الفرد في منزل مغلق عليه كتعبير عن تلقي خبر مفرح، وكذلك يمكن أن يؤدي الرقص لدى جماعة متصوفة أوغير متصوفة إلى طقس عبادي يتقرب العبد من خلاله إلى ربه.
عالم الرقص هو عالم غني وممتع لأنه يعني جوهر الإنسان من خلال الظاهر لأن الرقص هو حالة ظاهرية، بيد أنه يعبر بقوة عما يجول في الداخل، وهنا يمكن أن نلحظ بأن عالم الرقص هو عالم صريح ومشع ليس فيه موضع للزيف، فأنت يمكن أن تلحظ على شخص يرقص رقصا باردا في مناسبة فرح، فتدرك بأن مشاركة هذا الشخص هي مشاركة غير فعلية، بل هي ظاهرية فحسب، وهذا يؤكد مجددا بأن الرقص هو حالة تلقائية بدرجة عالية ليس من اليسير على المرء أن يقوم بمحاولة التزوير في محرابها.

  إيقاع الرقص
أحيانا يشعر الإنسان بأن اللغة المباشرة للمشاركة بالأفراح أو الأتراح لاتكون كافية، وأنها تكون تقليدية.  
الإنسان إذن كائن تواق لاكتشاف أشكال وألوان التعبير عن نفسه, وقد استطاع أن يبدع في هذه الألوان  أحيانا بشكل أدق من الكلمة المباشرة.
وهي في واقع الأمر لغات غير لفظية, فهو يمكن أن يعبر عن موقفه من واقعة ما من خلال نظرات عينيه, يمكن أن يعبر من خلال حركة بشفتيه, من خلال تقطيب في الحاجبين, أو حركة في قسمات الوجه.
 الضحك أيضا  محاولة للتعبير والمشاركة في حدث ما دون لغة,  كما أن البكاء له ذات الوقع.
 وقد يعتمد الإنسان أحيانا على الصمت في محاولة لإبداء رغبة، أو رفضها،  مثل الفتاة التي تصمت عندما تـُسأل من قِبل وليها إن كانت توافق على زواجها من فلان فيقال في ذلك :   (السكوت علامة الرضى ) .
كما أنها يمكن أن تعبر بالصمت ذاته عن الرفض فتبدي استياء يظهر على قسمات محياها, وقد تهز رأسها علامة بالرفض وتستدير ذاهبة إلى حجرتها.
 ويمكن للشخص أن يبدي عدة هزات من رأسه نحو الأسفل علامة بالموافقة, كما يمكن أن يرفع حاجبيه نحو الأعلى علامة للرفض
ثم استطاع الإنسان أن يصنع آلات تصدر أصواتا تعبر عن فرحه أو ترحه, هذه الآلات التي سميت فيما بعد بــ الآلات الموسيقية، وهذه الآلات ذاتها يمكن لها أن تـُرقص المرء، ويمكن لها أن تبكيه عندما تكون لغة الجسد   هي المستولية في واقعة ما.
كما يمكن لجمع من الناس أن يعبّر عن ارتياحه لقول في الأدب أو الشعر أو السياسة من خلال التصفيق للشخص الذي يقف على المنبر. ويمكن في بعض الحالات أ ن تعبّر تلويحة اليد عن السلام, وكذلك عن الوداع.

  الرقص الشرقي  
للرقص تاريخ عريق في التراث العربي في منطقة الشرق، فقد استخدم الناس من مختلف مواقعهم وشرائحهم الرقص في مناسبات عديدة، ومثل الانتصارات، والأعياد الوطنية، وحفلات الأعراس، وما يزال الرقص يحقق حضوراً لدى غالبية المجتمعات العربية والإسلامية في مناسبات وطنية، واجتماعية، حيث نرى الأطفال يرقصون احتفالاً بقدوم شخصيات هامة، ونرى شخصيات هامة في البلاد تستخدم لغة الرقص في مناسبات وطنية واجتماعية، ونرى فئات الشباب تحتفل بالرقص كتعبير عن مشاعر النصر والبهجة وزوال أسباب الكرب.
عندما نتحدث عن عالم الرقص، فإننا نتحدث عن ثنائية العلاقة بين الظاهر والباطن في عالم الإنسان .
استخدمت المجتمعات العربية كسائرمجتمعات العالم فن الرقص لأغراض متعددة, فدخل الرقص إلى الغناء, والمسرح, والسينما, وافتتاح المهرجانات, وكذلك إلى السياسة فيمكن أن يحتفي ملك الدولة أو أميرها أو رئيسها بضيوفه من خلال تقديم حلقات راقصة من فلكلور بلاده كبادرة ترحيب بهؤلاء الضيوف, ولعلي أذكر أن الراقصة المصرية سهير زكي رقصت أمام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون.
وهنا يمكن أن يتعرف الضيف على روح إيقاع المجتمع من خلال ما يتلقاه من رقص شرقي وكذلك موسيقى شرقية على مائدة طعام شرقي. وهذه في جملتها تعابير عالمية موحدة لا تحتاج إلى مترجم, فالضيف لا يحتاج إلى مترجم عندما يستمتع بإيقاع الرقص الشرقي, أو عندما يستمع موسيقى شرقية, أو عندما يتناول طعاما شرقيا, أو يتناول كأسا من شراب شرقي.
وقد انتشر فن الرقص الشرقي في سائر أنحاء العالم ولاقى استحسانا من الراقصات الشرقيات اللواتي أبدعن في تقديم هذا اللون من فنون بلادهن, وهو رقص يعتمد على هز الصدر والخصر والأرداف يُطلق عليه بالإنكليزية ( رقص البطن ) ويمكن له في مصر أن يجذب الكثير من السياح ليذكرهم بعصر الفراعنة باعتقاد أن الرقص الشرقي يعود إلى ذاك العصر.
وربما لذلك نرى أن القاهرة تقيم أكبر مهرجان عالمي للرقص الشرقي وهي فرصة لتعلّم فن الرقص الشرقي من قِبل راقصات متدربات في مختلف أنحاء  العالم وهن يشاركن في هذا المهرجان.
لعل ما يميز هذا الرقص أنه يعطي انطباعا للجمهور الغربي بأن المرأة  ما زالت تحافظ على
 أنوثتها.
لكن تبقى الراقصات الأمريكيات والألمانيات والنيوزلنديات والفرنسيات وغيرهن يشعرن بقلق وعدم طلاقة وهن يرقصن الرقص الشرقي في القاهرة أمام جمهور شرقي بعد ترتيبات متواصلة على أيدي مدربات مصريات يقبضن ستين دولارا من الراقصة المتدربة في الدرس الواحد.
والسبب حسب خبرة الراقصة سهير زكي – وهي أعلم بأسرار مهنتها – يعود إلى أن  الراقصة الغربية مهما اتقنت من أساليب الرقص الشرقي،  فإنها لن تصل إلى مستوى يعادل الراقصة المصرية بسبب افتقادها للأذن الموسيقية التي تتذوق  الموسيقى الشرقية,   ولروح الدعابة وخفة الظل.

غِنـى ألوان الرقص  
لم يكتف الإنسان بلون واحد من الرقص ليعبر من خلاله عن حالة الفرح لديه، والعالم مليء بمئات الرقصات، وأذكر من هذه الرقصات العالمية :
- الفالس، مصدرها البلدان الواقعة على ضفاف الدانوب متل ألمانيا والنمسا، وقد عرفنا في بلادنا هذا اللون من الرقص في بعض الأفلام والأغنيات العربية ومنها : ليالي الأنس في فيينا.
- وهناك رقصة تدعى  التانغو، انتقلت هذه الرقصة خلال هجرات الأفارقة عبر اسبانيا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. - ومن الرقصات الأخرى : التشاتشا، وأصلها من الريف الكوبي  تعتمد على الإيقاع السريع، ثم رقصة الرومبا يمكن أن تظهر في الأولمبياد، وكذلك رقصة السامبا وهي تعود إلى أصل برازيلي، وكذلك رقصة الباسادوبلي  تعتمد على الرقصات الغجرية في جنوب اسبانيا.
  كل رقصة تعبر عن إيقاع مجتمع، بل يمكن أن نرى حتى القبائل تختص برقصات معينة دون غيرها.  
ثمة أشكال وألوان متعددة من الرقص في سائر البلدان العربية مثل الرقص الخليجي, والرقص الصوفي, ورقص السماح, والرقص الإيمائي, ورقصة السيف والترس.
الرقص ملك وحق لجميع مجتمعات العالم, يمارسه الفقير كما يمارسه الغني, ويمارسه الخادم كما يمارسه السيد.
فإذا أتينا إلى مجتمع السودان على سبيل الإشارة, نراه غنيا بفنون وألوان الرقص من مختلف مواقعه الجغرافية والاجتماعية, حتى ذاك الذي يعيش في عمق الصحراء  تراه يحتفل ببعض مناسباته من خلال رقصات معينة تعبّر عن طبيعته, فنرى الرقصات تنسجم مع وقع المناسبات.
ثمة رقصة في السودان تدعى رقصة كليبو وهي تختصر على النسوة اللواتي يحتفلن حول النقارة, أو النقار الذي يبدي حركات بهلوانية من خلال هز الخصر, أو الهرولة والقفز, فيأخذ الرقص طابعا إحتفائيا بمشاركة هذين العنصرين الفعّالين في الاحتفال.
وهذه الرقصة تكون عادة في حالات الزواج أو الخطوبة, أو الختان, أو مناسبات النجاح .
ومن الرقصات الأخرى في السودان رقصة شوشنقا، وهي قريبة من  رقصة كليبو, لكنها تختلف في سرعتها وفي الحركات وإيقاعات النقارة المتنافسة, مع حركة الراقصات السريعة مع اللعب بالضفاير المرسلة يمينا وشمالا على حسب هزة الرأس. ويهرولن في شكل دائري حول النقارة. ويبدأ الرقص للنساء فقط, وهذا لا يعني عدم تدخل الرجال نهائيا, بل يتنافسون للدخول لحظة بعد الأخرى لرفع الروح المعنوية     للرقص, وإعطاء بعض الهدايا للنقار أو الراقصة الماهرة.

الخاتمـــة  
يجدّ الإنسان نحو اكتشاف الفنون بأجناسها المختلفة ليفجر من خلالها طاقة الشاعرية الكامنة في عمقه.‏
يعجز الإنسان أن يكون شاعراً إلاَّ إذا كان فناناً، ويعجز أن يكون فناناً إلاَّ إذا كان شاعراً. يفشل في التعبير عن حجم شفافيته إذا كانت حاسة الذوق الفني لديه متدنية. كل الأعمال العظيمة تحتاج إلى عظمة روح الفن في نوازعها، حتى تلك الأعمال السطحية فلابد أن تحمل لمسات فنية سريعة تمكنها من تحقيق حضور ولو لأيام قلائل.‏
الفن هو مزيج من شاعرية الإنسان وأحلامه والإنسان الفنان الذي يكون الفن مهنته هو مخلوق سحري بكل المواصفات، لذلك يُنظر إليه على أنه نجم مضيء، وبذات الوقت هو كوكب جمالي، لأن النجوم هي كواكب ومصابيح جمالية تزيِّن السماء. وهذا تعبير عن لبّ المقارنة بين مصابيح الأرض ومصابيح السماء، الفنان هنا يزيّن ليل أرواح الناس.‏
كل إنسان يمكن له أن يمارس شيئاً من الفنية في كاره.‏
- يمكن أن تبني بناءً فنياً،‏  يمكن أن تصدر مجلة فنية‏، يمكن أن تطبع على عيني حبيبتك قبلات أكثر شاعرية وفنية، كما يمكن لك أن تتحوّل إلى كائن “جلف” فاقد لكل حالة شاعرية وفنية في ذائقتك، يمكن لك أن تتحوّل إلى كائن أثقل من جبل في أمسية ربيعية فائقة الشاعرية، يمكن أن تمسي فراشة ترفرف بجناحيها على رحيق زهرة موسمية تضيء عطراً.‏
ماهو أكثر بهاءً في هذه الموازنة، أن فاقد الفن لا يتذّوقه، وأن واهب الفن هو أكثر الناس تذوّقاً وانتعاشاً بنسماته. ثمة لحن ينساب في حافلة يقدّم لأشخاص غذاءً روحياً، ولا يقدّم لآخرين غير ضجيج، إنهم عجزوا عن إعطاء لمسة فن واحدة، فعجزوا عن استقبال لمسة من فن.‏
استطاع الإنسان أن يعبّر عن فنيته الروحية بقوة، كما استطاع أن يعبّر عن بروده الروحي بقوة، استطاع أن يكون في منتهى الجبروت والقسوة والموت الإنساني فيغزو ويبطش ويلحق المظالم والويلات بأهله. استطاع أن يقدّم أروع الألحان، اللوحات، الآداب، الأشكال المعمارية، الأزياء.‏
في النهاية انتصر دافنشي على نيرون، انتصر موزارت على كاليغولا. ذهبت الحروب، ولبث الفن: ذهب الزبد جفاء، ليمكث في الأرض ما ينفع الناس. رسالة الفنون تكمن في أنها تميز بين الطيب والخبيث، تقف حدّاً فاصلاً بينهما. ‏ هي رسالة الحق والجمال والمحبة. بمقدار ما تهب الفن وتخلص له، يهبك لآلئ الجمال الروحي، إنك مليء بالفن. كل الإبداعات الفنية التي غدتْ علامات بارزة في أجناسها، سجّلت خلودها على قدر ما طفحتْ بنزعات الفن .
للرقص مكانة هامة في حياة شعوب الأرض قاطبة, إذ لا  يخلو مجتمع من المجتمعات من الرقص.
يُستخدم الرقص في أهم المراحل الانتقالية في حياة الناس مثل حفلات الخطوبة, والزفاف وكذلك الولادة. ويمكن استخدام الرقص في مناسبات أعياد الميلاد, والمناسبات الوطنية, والختان, والنجاح.
أكدت بعض الآثار على دلائل وعلامات الرقص قبل الميلاد بألف عام في بلاد الرافدين ووادي النيل حيث نقش السومريون والآشوريون وقدماء مصر نقوشا على جدران    معابدهم.

أعداد المجلة