العلامات والرموز في القرى الجبلية بالجنوب التونسي
العدد 27 - ثقافة مادية
جريا على سنّة دوركايم، لكن بأكثر تفصيل ووضوح، عالج موس المجتمع بوصفه حقيقة لا تكشف عن نفسها إلاّ في شكل رمزي حيث لا يتحقّق الاتصال والتواصل بين الناس سوى عبر الرموز والعلامات المشتركة(1)، فالعالم الاجتماعي لا يكون ممكنا دون قاعدة رمزية يستند عليها ويتلبّسها متماهيا معها، إذ تخوّل الرموز الإجماع بصدد معنى العالم الاجتماعي، ذلك الاجتماع الذي يساهم أساسا في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي(2).
والثقافة، وإن تعدّدت مكوّناتها وفق التحديد الكلاسيكي الذي وضعه تايلور، هي في جوهرها نظام رمزي كما صار دارجا في الأنثروبولوجيا التأويلية مع غيرتز.
ومقاربة الثقافة الشعبية من هذا المنظور الرمزي تساعد على تفهّم ماهيتها الأنثروبولوجية لا سيما على صعيد ارتباطاتها بالثقافة العالمة التي عادة ما توضع بوصفها مقابلا لها.
وباستثمار مدوّنة من الرموز والعلامات الشعبية ماثلة في فضاءات معمارية تقليدية تقع بمناطق منعزلة بالصحراء التونسية، تحدّد الورقات المقترحة بعض خصائص الثقافة الشعبية ومظاهر حضور الثقافة العالمة فيها.
ونظرا لطبيعة الدراسة التي تعتمد مدوّنة ميدانية محدّدة، فقد تمّ تجنّب الخوض في الإشكاليات النظرية التي يثيرها مفهوما العلامة والرمز في إطار المدارس والاتجاهات التي استفاضت في الاشتغال عليهما مثل السيميائية والبنيوية والفينومولوجيا والتأويلية، والاكتفاء باستخدام إجرائي يميّز بين العلامات باعتبارها إشارة والعلامات الدالة، وهي العلامات الرمزية الحقيقية كما يعرّفها كاسيرار(3) حيث تميل الأولى إلى التشكّل حسيّا مقابل الطابع المجرّد للثانية، لكنّهما تتكاملان في الأدوار، فإذا كانت العلامة تمثّل حاملا لتثبيت المعنى، فإنّ للرمز طابعا حركيّا، لهذا يذهب “إيكو” إلى أنّ “كلّ رمز هو علامة توحي بمعنى غير مباشر ومتخيّل”(4).
1 -الفضاء الجغرافي والمعماري:
تتموضع العلامات والرموز داخل القصور والقرى بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية، وهي منطقة شاسعة مكوّنة من ثلاث وحدات تضاريسية كبرى:
- سهل الجفارة الذي يمتدّ من الجبل إلى ساحل البحر، متّسعا تدريجيا من الشمال إلى الجنوب، وتتخلّله بعض النتوءات والمنخفضات والوهاد التي تسمّى محليّا “ الرّخم” و“قلب البل”.
- الجبل وهو عبارة عن سلسلة من المرتفعات الوعرة في شكل مقوّس تمتد من جبال مطماطة شمالا إلى جبال نفوسة ببلاد طرابلس بليبيا جنوبا، وتغطّي هذه المرتفعات التي يبلغ ارتفاعها 650م بلاطة من الكلس يفوق سمكها 50 متر.
- الظاهر وهي هضبة مترامية الأطراف تعلوها طبقة من الكلس ترتفع تدريجيا من الغرب إلى الشرق لتنتهي عند سفح الجبل، في حين تغمر رمال عرق الشرق الكبير الجزء الغربي من الهضبة.
مناخيا تنتمي المنطقة إلى الصنف القاري شبه الحراري القاحل، وتقع جميعها داخل خطّي التساقطات السنوية 100مم- 200مم. وقد عرفت المنطقة المدروسة حضورا بشريا منذ فترات ما قبل التاريخ كما تشهد على ذلك الرسوم الجدارية التي تصور مشاهد من الحياة اليومية ونماذج من الحيوانات لا سيما بمنطقة غمراسن.
إنّ هذه القصور لا يمكن أن تفهم خارج هذا الإطار الجغرافي بخصائصه الجيولوجية والتضاريسية والمناخية، فالثقافة تبدو هنا ملتصقة إلى حدّ الانصهار في الطبيعة، لذلك عادة ما تصنّف هذه الفضاءات المبنية إلى قصور جبلية وأخرى سهلية، أمّا الأولى فهي الأكثر امتدادا وتعقيدا وعراقة، وتتّفق أكثر الدراسات على أنّها تعود إلى الفترة التي أعقبت الفتوحات الإسلامية لبلاد إفريقية لا سيما بعد الغزو الهلالي، غير أنّ هذا التاريخ الذي ينطوي على خلفية إيديولوجية بالنظر إلى أنّه يكرّس الثنائية القائمة بين العرب والبربر تعرّض إلى نقد وتشكيك من قبل عدد من المؤرخين الذين يرجعون هذه القصور والقلاع إلى الفترات السابقة لدخول الإسلامية ولا سيما الفترة الرومانية، ففي تلك المناطق القصية المنيعة شيّد البربر قراهم، فإذا هي قلاع وحصون طبيعية عصيّة على الطامعين والغزاة. وبالتالي تعبّر العمارة الجبلية عن إحدى الآليات الدفاعية التي استخدمها الأمازيغ أو البربر، السكان الأصليون للبلاد، للمحافظة على كيانهم الثقافي والاجتماعي.
بينما تعود القصور السهلية إلى فترات حديثة ومعاصرة، وقد ارتبط ظهورها بالاستقرار وبتزايد تمركز الدولة وتطوير آليات رقابتها على المجال الترابي، بما أضعف إمكانيات البقاء بمنأى عن سلطتها، حتى أن الاستعمار الفرنسي قد شجّع على تشييد بعضها بتوفير الأراضي المناسبة لذلك مجّانا، ممّا مكّن من إنشاء جيل جديد من القصور مثل قصر المرّة التابع لفرع من قبيلة العمارنة ( سنة 1903 ) وقصر الشقائق للزرقان ( سنة 1907) وقصر بوقفّة وهنشير الفرش لفروع من قبيلة الجليدات ( سنة 1910)، رغم أنّ الاستعمار قد قام بتخريب الكثير من القصور القديمة والتي أشارت إلى بعضها المصادر المكتوبة(5).كلّ من الأب ‘أندري لويس» وتالسهلية لتوطين القبائل ومن ثمّة إخضاعها.
أمّا من الناحية الوظيفية، فالصنف الثاني يكاد يقتصر على الخزن ( مواد غذائية بدرجة أولى ومصنوعات وأدوات بدرجة ثانية)، في حين يجمع الصنف الثاني بين الخزن والسكن والحماية ويكون فيه القصر جزءا من نسيج معماري متكامل هو القرية التي تسمى « البلد» مثل الدويرات وشننّي وقرماسة، وتتألّف القرية من ثلاثة طوابق ينقر كلّ منها في طبقة صخريّة تتسمّى «الرّصفة»، ويعلوها القصر الذي هو عبارة عن مخزن جماعي.
2 - تقنية الرسم على السقوف.
على خلاف ما يبدو في أكثر الأنماط المعمارية القديمة والحديثة أين تكون الزخارف والنقائش تالية لعملية البناء، فإن الرسم في هذه الفضاءات التقليدية والذي يتموضع عادة على العقود والأقبية يبدأ مع عملية التسقيف على النحوالتالي:
بعد إقامة الجدران حسب الارتفاعات المطلوبة اعتمادا على المواد المحلية التي هي أساسا الحجارة والجير والجصّ، يتم المرور إلى المرحلة الإنشائية الأصعب وهي رفع السقف المكوّن من قبوطولي أو أكثر يسمى“ الكمرة”، فتشدّ الجدران إلى بعضها البعض طوليا باستخدام خشب النخيل المعروف بالصنّور لتكون غطاء له وظيفة هيكل الإسناد على امتداد الغرفة يساعد شكله المستدير على توزيع الضغط على كل الجدران. ثم توضع طبقة من الرمل أو الجصّ المحلول في الماء على كامل مساحة سطح القبو الخشبي عندها فقط تباشر عملية الرسم باستخدام اليد أو الأصابع أو قضيب أو حتى بعض الأدوات كالمطرقة والفأس وذلك حسب الأشكال المراد الحصول عليها أو تدوينها، فإذا كان المطلوب رسما تجسيديا يوضع العنصر أو العضو المعني كالرجل أو اليد على الرمل أما إذا تعلق الأمر بالكتابة أو الزخرفة فتخط كذلك بإصبع اليد أو بعود يلعب دور الريشة أو القلم مع فارق تقني واحد وهو أن الكتابة تقتضي أن تكون مقلوبة أي أن ترسم حروفها من الشمال إلى اليمين كي تقرأ الكلمة أو الجملة سليمة من تحت السقف. ثم تمرّر فوق مساحة الرمل طبقة من الجبس لتملأ التجويفات والأحافير قبل أن توضع فوقها الحجارة والملاط الجيري. وبعد بضعة أيام تلتحم فيها الحجارة ببعضها البعض ويتماسك السقف مكوّنا كتلة واحدة، تسحب الأخشاب فيبقى السقف مرفوعا وهو مزدان بالرسوم الناتئة عليه.
3 - تصنيف الرموز والعلامات:
إنّ كلّ ما خطّته يد الإنسان على الأسقف هو فعل رمزي يحيل بشكل أو بآخر على معاني مجرّدة تتخطّى أحيانا الواقع الحسّي الذي تنطلق منه. وعلى عكس ما قد يوحي به الظاهر الزخرفي والجمالي للعلامات والرموز، فإنّ الإنسان ماثل فيها بقوّة عبر كلّ تفاصيلها(6)، فمواضيعها تتمحور حول الإنسان في إطاره البيئي الملموس وضمن شروط الحياة الواقعية دون إغفال للتاريخ(7)، فنجد الكثير منها مستلهما من الحياة اليومية والطبيعية مع شيء من التجريد، ومع ذلك فهي تتطابق مع الطابع التشخيصي للفن البدائي والممارسات التشكيلية، وهي موزّعة بين موضوعات دينية وأخرى دنيوية حيث تتجاور بل وتتداخل مثلا عقود البيع والشراء وأدوات البناء بالأدعية والبسملة والتسبيح. لكن الفصل بينها غير موجود أصلا لأن كل ما هو دنيوي كان دينيا بالأساس وفق تعبير عالم الأديان ميرسا إلياد. لكن من الناحية الشكلية يمكن توزيع الرموز والعلامات ضمن الأصناف التالية:
3-1 النقائش الخطيّة: هي كتابات باللغة العربية تنقسم إلى صنفين:
- نقائش خطيّة دينية: استخدمت لتمجيد وتعظيم اسم الله وفق صيغ مختلفة مثل “ ما شاء الله” “ الحمد لله” “الله أكبر”، “بسم الله الرحمان الرحيم”.
- نقائش خطيّة دنيوية: يمكن توزيعها حسب وظيفتها إلى نقائش تعريفية تقدّم أسماء البنائين وأصحاب الغرف، وأخرى تذكارية عادة ما تسجّل تاريخ البناء معتمدة في ذلك على تاريخ وفاة الرسول الكريم. كما تعرّف بعض النقوش بأصحاب الغرف مثل “ ايد عمر بن علي” و“ عبد العزيز المقدّم”. وهي بذلك عبارة عن وثيقة ملكية. كما تخلّد أسماء البناّئين باستخدام الصّيغة اللغوية “ صنع فلان بن فلان” والتي من خلالها يتسنّى لنا معرفة هويّة كلّ منهم، من ذلك أنّ الكثير منهم ينحدرون من كيانات قبلية عربية الأصل مرتبطة بمجال جغرافي مجاور أو حتى بعيد نسبيا كجزيرة جربة مثلا، بما يدلّ على التواصل والتفاعل بين القرى الجبلية والفضاء الجغرافي والاجتماعي الواسع المدرجة فيه.
والغايات من الكتابة متعدّدة منها التوثيق الوقاية والحماية وتحصين الغرف بنوع من السحر المقبول دينيا لا سيما وأن الأمر يتعلق بمكان لخزن الطعام الذي كما هو معروف يحاط بالكثير من قواعد الحماية والتأصيل الروحي بما يجعله مباركا نافعا ليس فقط عند استهلاكه وإنما من البذرة إلى المائدة مرورا بعملية الحفظ والخزن. وفي بيئة صحراوية جافة شحيحة بأمطارها وخيراتها يكون حسن التصرف في الطعام لتأمين توفره مطلبا استراتيجيا تسخر كل الأدوات بما في ذلك السحرية منها للسيطرة عليه.
3-2 الصور:
تجسّد مظاهر من الحياة اليومية المألوفة مثل أدوات الزراعة كالرحى التقليدية والمنجل والمعول والمذراة كما تجسد بعض المنتجات الحرفية كالحلي والقلادة والخاتم والخلال المستعمل لشد أطراف مئزر المرأة المعروف بالملاءة (الملية) والسكين والخنجر ومن عناصرها أيضا الألعاب الشعبية لا سيما لعبة الخربقة والحيوانات لا سيما الثعبان والسلحفاة وأعضاء الجسم خاصة اليد والقدم والعين.
3-3 الأشكال الهندسية والزخرفية:
تمثّل السجل الطاغي على هذه الرسوم حيث تتوزّع أغلب الغرف والقصور بكثافة لافتة تكاد تحتكر مساحة الفضاء التشكيلي ويتكوّن سجلها من عناصر المثلث والمعينات والمربع وخطوط منحنية ومنكسرة ونقاط متعامدة أو متقاطعة ونجوم خماسية أو سداسية ذات خطوط مستقيمة فضلا عن الأقواس والقباب والمدرجات التي ترمز إلى الشكل العام للغرفة.
4 - المرجعية الشعبية للعلامات والرموز ودلالاتها:
من البديهي أن تنسب هذه العلامات والرموز إلى الثقافة الشعبية ليس فقط لأنها تدرج ضمن العمارة المحلية الصحراوية الواقعة بالمناطق النائية عن المراكز الحضرية التقليدية، ونحن نعلم أن تصنيف الثقافة الشعبية كثيرا ما يتمّ على أساس اتصالها بالريف مقابل المدينة مركز الثقافة العالمة، ولكن أيضا لانتمائها إلى المدوّنة الرمزية الشعبية المستخدمة على محامل مختلفة كالفخار والمنسوجات والجلد والألياف النباتية، أين تكرّر فيها الأشكال الهندسية نفسها كالمعينات والمثلثات والخطوط المنكسرة.
في حين أنّ بعض الرموز والعلامات لا سيما اليد المفتوحة والعين والسمكة تؤلف جزءا من استخدامات شعبية أوسع تتجاوز الممارسة التقنية في إطار التقاليد الحرفية المتوارثة لتشمل العادات الطقوسية الاجتماعية والدينية بأنواعها ممثلة نماذج قائمة بذاتها يعاد إنتاجها واستعمالها وفق الحاجات والمناسبات وما نحتاج من إمكانيات إذ يتكرر النموذج الرمزي عينه هنا وهناك محافظا على جوهره الدلالي وإن تعددت تجسيداته الصورية من حيث التصميم وأسلوب التقنية وحسبنا هنا أن نذكر بعض الأمثلة :
الجسد: يحضر عبر بعض أعضائه التي تكاد تختزلها اليد والقدم اختزالا، وإن فرضته أسباب تقنية مرتبطة باعتماد القولبة في وضع الرسوم، وهو أسلوب يصعب أو يستحيل تطبيقه على أكثر الأعضاء، فإنّه أيضا محكوم بالهوية الرمزية للأعضاء الحاضرة.
وحسبنا الوقوف عند اليد التي تعرف بالخمسة في تونس ويد فاطمة لدى الأروبيين، فهي دون أدنى مبالغة العنصر الرمزي الأكثر استخداما حيث لا تكاد تخلو منه أية ممارسة طقوسية ذات صبغة احتفالية علاوة على المنتجات الحرفية. ففي احتفال الزواج ترفع العروس كفي يديها وتدور سبع دورات متتالية في ما يعرف بالجلوة وسط أهازيج وأغاني نسائية خاصّة منها التالية:
جلّيها يـا ماشطة مــا تقـــــول جـــــلّيــت
لا هــــــي دونــيّــة ولا انخلّيها في البيت
كما يلطّخ كفّ اليد بالحنّاء لترسم على جدران الزوايا والأضرحة دون أن ننسى الرسم على البلّور والنّسيج أين تظهر اليد مطلوقة مفتوحة. وهي تستعمل كطلسم أو تعويذة للوقاية والحماية من حسد أوسوء طالع أو أيّ أذى محتمل. لهذا ترد ضمن جملة سحرية طقسية “ خمس وخميس عين الحسود فيها عود “ التي كثيرا ما تردّد في الاحتفالات فتقطع أصوات الغناء والغرف أو تعلوها بوتيرة يعتقد أنها مناسبة لتأمين سلامة المحتفى به وأهله.
ثمة اختلاف في تفسير الصورة الرمزية لليد، فهناك من يردّها إلى ما تنطوي عليه من فضائل وأسرار كعضو خاص من الجسد قد زوّد بطاقة سحريّة، “ فاليد فاتحة الجسد، وعلى مساحتها يمكن قراءة كلّ حكاياته وفكّ أسراره”(8)، وهذا المفهوم هو الذي دفع إلى إحاطة اليد بوضع رمزي مميّز وإلى تشكيل منظومة ثقافية كاملة في تمثّلها واستخدامها مثلما يبدو في تقاليد قراءة الكف المنتشرة في الثقافة الشعبية حيث يعتقد أنّ الإنسان كتاب مخطوط على راحة يده. بينما يرى آخرون أنّ قيمتها الرمزية تلك ناجمة عن الاقتران بالعدد خمسة المساوي لعدد أصابع اليد. وكما هو معلوم، تلعب الأرقام والأعداد دورا كبيرا في التقاليد الشعبية إذ هي ليست مجرّد قيم عددية محضة، وإنما أيضا دلالات رمزية مما يدفع إلى التعامل معها بحذر وحكمة. وفق التفسير الثاني فإن الرقم خمسة سرعان ما امتصّ السلطة السحرية لليد(9)، فأصبح بديلا عنها آخذا منزلة التابو (المحرّم)(10)، حتى أنّه لا يتلفّظ بإسمه، وإن حدث ذلك، فينبغي أن يصدر أو يردف بصيغة لغوية وقائيّة مثل قولهم “حاشا عينيك” أي بعدت عيناك عن أذاه، وبالتالي سلمت منه.
كما أن التمائم والتعويذات يمكن أن تأخذ إسم الخمسة كنوع من الإستعارة المؤسسة على الوظيفة الأساسية للخمسة بوصفها أداة سحريّة للتوقّي من الشرور.
ويستأثر الصنف الحيواني بحضور واضح ضمن مدوّنة الرموز والعلامات المستخدمة من خلال الثعبان الذي يمثل نموذجا رمزيا مألوفا في الثقافة الشعبية، إذ يبرز من خلال التصوير الشعبي في إطار الرسم على الزجاج وفي الحلي التقليدية فضلا عن المنسوجات كما يتواتر حضوره في المأثورات الشفوية كالأمثال والحكايات الشعبية بأنواعها ومناقب الأولياء وكراماتهم والأحاجي.
يمثل الثعبان كما يقول باشلار “ صورة مركبة أو بالأحرى مركبا من التخيل”(11)، لهذا لا تنتهي الحكايات المثيرة حوله.
وهو يستمد قوته الرمزية من التصاقه الشديد بالأرض بحكم اعتماده الزحف في تنقله بما يجعله أكثر الحيوانات بريّة le plus terrestre»، ويندرج رمزيّا ضمن مخصّبات الأرض تماما كالماء.
وبحكم طبائعه البيولوجية، فهو يمثل همزة وصل بين المملكة النباتية والمملكة الحيوانية(12)، بما خوّل له وظيفة الترميز إلى ما في الأرض من تجدّد وحركة ودفائن واقفا بذلك على طرفي نقيض مع الطيور التي تحيل على العالم السماوي.
وقد أفردته المعتقدات الشعبية بتصوّرات وتخيّلات وطقوس خلعت عليه مسحة أسطورية مثيرة لمشاعر الخشية والدهشة، فكانت تلك القواعد السلوكية التي وضعت لحسن التعامل معه والتي أخرجته من هويته الحيوانية لتصنّفه ضمن الجان(13)، ولأنّه كذلك فهو يمثّل وظيفة خاصة بالنسبة إلى العوالم الأسطورية عادة ما تقترن في المعتقد الشعبي بحماية الحجب والأسرار، فنجد أصناف الثعابين في الحكايات الشعبية تنتصب لحماية الكنوز ودفائن الأرض وللبرهنة على كرامة الأولياء والصلحاء من رجالات التصوف الشعبي.
غير أنّ هذه المنزلة يتقاسمها في الحقيقة مع طائفة كاملة من الحيوانات على غرار السمكة التي تحضر في هذا الفضاء حضورا يتطابق مع أهميتها في التمثّلات والتقاليد الشعبية العلاجية والسحرية، واستدعاء السمكة بوصفها ملمحا زخرفيا في الغرف والقصور الجبلية هو استدعاء للطاقة الرمزية المزدوجة التي يعتقد أنّها تكرّسها، فهي من جهة عنصر سحريّ مدمّر يوظّف كطلسم وقائي من كلّ أذى وشرّ، ومن جهة أخرى، وبحكم طبيعتها المائية، فإنّها تجسّد الخصب والحياة بما يفسّر أهميتها الشعائرية في احتفالات الزفاف ولا سيما في ما يعرف “ السابع”، أي اليوم السابع للزواج أين تحضر سمكة كبيرة لتجرّ وتقفز عليها العروس وسط زغاريد النساء، قبل أن يطهى طبق تقليدي هو الكسكسي الذي ينبغي أن يكون بالسمك في هذه المناسبة تحديدا.
تكوّن السمكة والثعبان رفقة السلحفاة الثالوث الحيواني المقدس في الثقافة الشعبية، وهي، وإن كانت تتماثل في الكثير من المحتويات الرمزية، فإنّ كلاّ منها يختصّ ببعض الدلالات طبقا لخصوصياته التشريحية والفيزيولوجية وما تثيره من تأويلات، فالحاوي لا ينفصل عن المحتوى كما يشدّد على ذلك “ جلبير دوران” في أنثروبولوجيته الرمزية.
وإذا ربطنا المعطى الإتونغرافي الخاصّ بما هو أنثروبولوجي وتاريخي عام وجدنا هذا التقديس كثيرا ما اعتبر استمرارا لممارسات وثنية أين كانت عبادة الحيوانات شائعة في إطار “ الطوطمية”التي هي الشكل الأولي للدين كما يقول دوركايم(14) وأنّ البربر كانوا قد اتخذوا من الثعبان والسلحفاة والسمكة طوطمات لهم(15)، ودون سقوط في نظرة تطورية تختزل كلّ شيء في الماضي وانغلاق داخل مفهوم الطوطمية الذي بيّن “شتراوس” تهافته(16)، فمن الواضح أن الأمر أكثر من مجرّد عنصر حيواني محدّد استخدامه بخصائصه التشريحية والفيزيولوجية الحقيقية، وإنّما هو محكوم باستيهامات وتمثّلات ودلالات محدّدة لا تكفّ عن التشكّل وإعادة الانبعاث، “ فالعلاقة بين المجموعات البشرية والأنواع الحيوانية مجازية”(17) وإن اتّخذت تمظهرات مادية نفعية في سياق الحياة اليومية، إذ أنّ الرمزي والوظيفي يتكاملان.
أما إذا نظرنا إلى طائفة الرموز والعلامات الهندسية فسنجدها بدورها منغرسة في الثقافة الشعبية كما يتبين من خلال شكل الصليب + الذي هو من أكثر العلامات والرموز حضورا حيث تزدان به أسقف الغرف بهذه القرى الجبلية كما تزدان به الأجساد عبر الوشم والفخار اليدوي والمنسوجات الصوفية). وبحكم تماثله مع الصليب، فقد أرجعه البعض مثل “كارتون” إلى المسيحية التي سيطرت على البلاد مدى قرون قبل دخول الإسلام. لكن هذه النظريّة قائمة على التخمين أكثر منها على وقائع وبراهين، لهذا فقد رفضها “قوبير” في دراسته المعروفة حول الوشم معتبرا أنّها من أصول بربرية(18)،علما بأنّ هذا الشكل يمثّل أحد حروف الأمازيغية أو اللّوبية المعروفة، ويقابل حرف التاء ( ت) في العربية وحرف T في اللاتينية. وتلعب هذه العلامة وظيفة سحرية بقدر ما هي جمالية، إذ تكوّن أداة فعّالة للوقاية والحماية، وفي نفس الوقت عنصرا للزخرفة أو الزّينة حسب إطار الاستعمال.
وفي صنف الأشكال النباتية يمكن أن نستند إلى النّخلة التي تسجّل حضورها عبر جريدها الذي يتّخذ هيئات مختلفة لا تتقيّد بمحاكاة حقيقة للشّجرة، وإنّما تستلهم منها صورة الجريد تقنية زخرفيه توشّح بها أشكال مختلفة كالعقرب والمعين والخطوط المستقيمة والمنكسرة. وهي، وإن كانت عنصرا مألوفا في البيئة الصحراوية، فإنّها تحولت بفضل اخضرارها الدّائم إلى صورة رمزيّة تختزن معاني الديمومة والحياة مما يفسر وظيفتها الطقوسية في الكثير من المناسبات مثل احتفالات الزواج والأعياد حيث تزدان بها جدران الساحات والزوايا والأضرحة حاملة وظيفة تبشيرية.
5 - التداخل بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة
5-1 مستوى الممارسة التقنية
إذا نظرنا إلى مدوّنة الرموز والعلامات من وجهة نظر تقنية أي بوصفها تشكيلات ترسم وفق مهارات ومواد سبق شرحها وجدنا أنها لا تمثل أسلوبا تنفرد به الثقافة الشعبية في هذه المنطقة ذلك أنّ استخدام الجصّ في الأسقف والجدران للرسم عليه كتابة وزخرفة يعد جزءا من التقاليد المعمارية والفنية العريقة المعروفة بالبلاد مع فارق أساسي هو أنّ طبقة الجصّ لا توضع هنا مباشرة فوق هيكل البناء لترسم فوقها منذ البداية الأشكال المرغوب فيها قبل أن توارى بطبقات من الحجارة والملاط الجيري كما يقع بالنسبة إلى القصور الجبلية وإنما يتم استعماله بعد استكمال هيكل البناء حيث تكسى الجدران والسقوف والقباب بطبقات من الجصّ قبل أن تباشر عملية النقش التي تسمّى «نقش حديدة» ذلك أن الرسم يتمّ عبر الحفر والنحت بينما يعتمد في الثقافة الشعبية الصحراوية على أسلوب القولبة le moulage بملء الفراغات بملاط الجصّ أو الكتابة العادية.
لكن في الحالتين المادة واحدة والفضاء التشكيلي المستخدم نفسه مع اختلاف واضح في المهارة والإتقان والتفنّن، وتلك صفة جوهرية كثيرا ما تجرى على أساسها المقابلة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية لا سيما في الحقل الفنّي، فمقابل الفنّ النخبوي الرفيع، حيث الاستهلاك المادي والرمزي للأعمال الفنية يعدّ من التمظهرات الراقية للرفاه(19)، بما يضاعف الاهتمام بالشكل والتفنّن إلى حدّ التعقيد تحقيقا للتفرّد الفنّي الذي يكرّس نمطا من الجمالية « تمثّل تعبيرة عن تمييز لوضع داخل الفضاء الاجتماعي»(20)، هناك الفنّ الشعبي المتّسم ببساطة وسذاجة وعفوية لفتت إليه الأنظار، حتى أنّ اكتشاف الثقافة الشعبية كثيرا ما تحقّق عبر مدخلها الفنّي كما يبدوفي بلورة مصطلح الفنون الشعبية منذ القرن الثامن عشر بأوروبا تحت تأثير النزعة الرومنسية، بل إنّ مصطلح الفولكلور نفسه قد التصق بالتعبيرات الفنية عبر التركيز على الأدب الشعبي.
طبعا ليس هنا المجال لإجراء مقارنة على مستوى الرموز والعلامات المرسومة على الجصّ بين القرى الجبلية وتلك التي نجدها في القصور والدور الفاخرة بالمدن العتيقة والتي تنتمي إلى الفئات الحضرية البورجوازية، وإنّما المطروح هو تعقّب توزّعها وتموضعها بين المدوّنتين(الشعبية / العالمة أو الرسمية )، فالكثير من العناصر تتكرّر هنا وهناك، و لعلّ من أهمّها النجمة الخماسية والنجمة السداسية والخطوط المنكسرة والأشكال الهندسية والامتدادات الشعاعية دون أن ننسى الخطّ الذي ظلّ يكوّن في حدّ ذاته حقلا فنيّا ورمزيّا تعتمل فيه مختلف نزعات الثقافة العربية الإسلامية بذاكرتها ومخيالها ورؤياها الكونية، مماّ يعني وجود سجل تشكيلي ورمزي مشترك يؤكد وحدة المرجعية الثقافية.
5-2 حضور الثقافة الرسمية في مدونة الرموز والعلامات الجبلية
لئن بدت مدونة الرموز والعلامات مهيكلة معماريا داخل فضاءات مغلقة في مناطق نائية طوقتها الجبال فعزلتها في قلاعها المنيعة، فإنّ الكثير من عناصرها تكشف عن نوع من الانفتاح والتواصل الأنثروبولوجي مع الثقافة العالمة كما يتجلّى في التمظهرات التالية :
- استخدام الكتابة: كثيرا ما توضع الكتابة بوصفها الحدّ الفاصل بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، بل إنّها تغدو مقياسا تصنيفيا، فيتمّ الحديث عن ثقافة مكتوبة مقابل ثقافة لا مكتوبة أو شفاهية. غير أنّ مدوّنة العلامات والرموز المعروفة الكثير منها مشكّل من الكتابة على امتداد فضاء سقف الغرف والقصور. فنجد فيها الشعر وأسماء البنائين والملاّكين والمواعظ والحكم والبسملة والأدعية والتواريخ وغيرها من المحتويات، فالثقافة الشعبية تستخدم بدورها الكتابة، لكن ليس فقط باعتبارها مجرّد تقنية للتدوين، وإنّما أيضا باعتبارها إطارا يمنح أفقا جديدا للتعبير والتواصل ضمن بيّنة المتخيّل الشعبي دون تقيّد صارم بضوابطها اللغوية والنحوية. كذلك فهي تقرأ أحيانا مقلوبة بحكم أنها مكتوبة من فوق السقف رغم أنّه من الممكن أن تكون سليمة لو رسمت مقلوبة، أي من الشمال إلى اليمين كما يلوح في الكثير منها، كما تتواتر فيها الأخطاء بأنواعها (صرفية، نحوية)، بل إن لغتها تكون أحيانا من الدارجة المحليّة، فالكتابة هنا مزوّدة بإيحاءات تصنع منها عنصرا زخرفيّا وأداة وقاية وطاقة إضافيّة في الترميز بل والفعل كذلك، ولا شكّ أنّ هذا الجمّ من الوظائف مستمدّ من مفهوم اللغة وارتباطها بالنصّ القرآني في الثقافة العربية الإسلامية، حتى أنّ المتصوّفة ذهبوا إلى أنّ « الوجود بمراتبه ومستوياته قد تجلّى في القرآن من خلال وسيط اللغة»(21).
وقد أفضى هذا التصوّر إلى بناء معارف خاصّة في التعاطي مع اللغة أطلق عليها ابن خلدون « علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء»(22)، وتقوده فكرة جوهرية مفادها أنّ « طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء»(23)، من هنا نفهم التوظيفات السحرية المكثّفة للكتابة من حيث هي تجسيد مادّي للغة، فكثيرا ما تتّخذ الأحجبة هيئة نصوص مكتوبة، لكنّها تبدو أقرب إلى طلاسم تشكّل وتوزّع فيها الكلمات على مساحة الورق وفق تناسب عددي ونوعي معلوم، فتحضر فيها الجداول والتفريعات حيث تعاد صياغة الكلمات ضمن معادلات حسابية خاصّة اعتقادا بأنّ للحروف طاقاتها الخفيّة التي بفضلها يمكن أن تفتح سبلا وآفاقا لا حدود لهما.
إنّ الكتابة هنا تؤلّف عملية مركّبة تتحقّق في إطار طقوسي من الانصهار بين الرمزي والوظيفي والشكل والمحتوى، فكلّ عنصر فيها غير قابل للحذف والاستبدال بما في ذلك حبر الكتابة المعروف بالصّمغ والذي يدخل في إعداد الوصفات العلاجية في الطب الشعبي.
والكتابة في هذا الإطار الخاصّ، تبدو مستعجلة، فهي لا تنجز على مهل وفق نصوص معدّة سلفا كما يقع في الثقافة العالمة، وإنّما كثيرا ما تكون من وحي اللّحظة بما يجعلها أشبه بالخاطرة ومكاشفة الذات في لحظة عابرة. كما تتميّز بالاقتضاب الشديد، فترد من حيث الشكل النحوي، على هيئة كلمات مفردة، أو تراكيب جزئيّة أو جمل قصيرة. غير أنّ اختزالها يقترن بالتكرار: تكرار الصيغ المكتوبة عينها وكأنّها نشيد يردّد، ولعلّ ذلك يعكس تأثير الذائقة السماعية الملتصقة بالثقافة الشفاهيّة في ممارسة الكتابة.
أمّا على الصعيد البلاغي، فإنّ التكرار هو نوع من التأكيد، واستنساخ الرموز والعلامات المكتوبة وإن كان يدخل في بناء الفضاء التشكيلي بما يمنحه من تواتر وإيقاع فإنّه يساهم في تثبيت المعنى تماما كنفي للزمن ورجوع إلى زمن المقدّس إلاّ بالمحافظة على ما تدعيه أنه نموذجها الأصلي فيستعاد دوريّا بالصيغة عينها مهما تباينت السياقات وتعدّدت الجماعات.
ويمكن أن تعتبر رسم العلامات والرموز برمّتها ممارسة طقسيّة ليس فحسب لما تقوم عليه من تكرار وإيقاع رتيب يكوّن جوهر الطقس نفسه كما يقول كازنوف(24)، وإنّما أيضا لما يكتنفها من تجييش وجداني ومخيالي، لأنّها لا تكتفي بالتعبير عن الذّات وإنّما تترك توقيعها على المّادة الصلبة شاهدا للتاريخ.
- السّمة التاريخية:
لطالما وسمت الثقافة الشعبية بمعاداتها للتاريخ، فهي وعبر ارتهانها إلى الذاكرة والخيال والأسطورة والمقدّس تتمرد على الزمن الكرونولوجي في محاولة استعادة لحظة البداية بنماذجها الأصلية النقية، لهذا يتمّ فيها التلاعب بالأزمنة، فتسقط فترات تاريخية بأسرها من الذاكرة وتختلق أخرى ليضيع التسلسل الخطي للوقائع ويستبدل بآخر أسطوري يتمحور حول شخصيات وأحداث ترى فيها الجماعة تاريخها الحقيقي، ضمن هذا التصوّر الشعبي للتاريخ تغيب التفاصيل لأن الزمن الحقيقي هو زمن مطلق لا يتعلقّ بالحيثيات الكرونولوجية بقدر ما يتحرّك ضمن أبنية مطلقة كما يتمظهر في الأسطورة وفي الحكاية الشعبية العجيبة. وكما لاحظ ميرسسا إلياد، « فإنّ الذاكرة الشعبية ترفض المحافظة على العناصر الشخصية والتاريخية للسيرة الذاتية لأحد الأبطال»(25)، إذ تمارس عملية أسطرة تحوّل الشخصية إلى جدّ مقدس بما يدمج الفرد في صنف نموذجي(26).
وتماما كذكرى الشخصيات، لا تستطيع ذكرى الوقائع الصمود طويلا أمام فعل التآكل التاريخي، طالما أنّ « الذاكرة الشعبية تشتغل بواسطة بنيات مختلفة تتمثّل في الأصناف بدل الأحداث والنماذج بدل الشخصيات التاريخية»(27).
وإذا كانت الذاكرة تحريفية وانتقائية بطبيعتها كما يقول هالفاكس، فإن فعلها ذاك يظهر خاصة في علاقتها بالزمن عبر التلاعب به، فيفكّك ويركّب من جديد بشكل يصبح فيه الماضي خلقا واختلاقا مستمرين أكثر منه امتدادا تاريخيا حقيقيا في الحاضر عبر الذاكرة.
لكن مدونة العلامات والرموز الشعبية في هذا الفضاء الذي نحن بصدده فيها احتفاء استثنائي بالزمن الكرونولوجي على غير ما جرت عليه العادة في الثقافة الشعبية، إذ تتعدّد القرائن اللغوية والعددية الدالة على أزمنة بعينها، فإذا نحن إزاء ضرب من التأريخ تذكر فيه تفاصيل الأحداث والشخصيات والمناسبات في إطارها التاريخي الحقيقي بدقة متناهية.
والواقع إن علاقة الثقافة الشعبية بالتاريخ شديدة الالتباس، ذلك أنّ تمرّدها عليه لا يعني تحرّرها منه أو أنّها لا تعبأ به، بل العكس تماما لأنّها عمليّا لا يمكن لها أن تتموضع خارج الزمن، فهوالإطار الحقيقي للوجود الإنساني كلّه، بقي أنّه يتمّ تمثّله والتعامل معه في الثقافة الشعبية عبر إدراجه ضمن بنى زمنية أكثر إطلاقا بما يمكّن من الاستيعاب الرمزي للزمن الكرونولوجي الفيزيائي اتّقاء لشرّ سطوته وعبثيته، من هنا تولّدت تلك النزعة إلى الأصول والبدايات التي تكرّسها الأساطير التأسيسية في محاولة لصياغة تاريخ مقدّس قائم على النماذج والمثل أكثر من الوقائع والشخصيات المألوفة، وهو ما ينزّل الجماعة منزلتها في الزمن الحياة والكون.
ومع ذلك فإن التفاصيل المثبتة على الأسقف تجسّد تاريخا دنيويا كرونولوجيا مقابل تاريخ مطلق مقدّس حيث يتجلّى الاهتمام بتدوين أحداث وأشخاص وعناصر من المحيط المحلّي ليصبح السقف سجّلا حقيقيا يمكن الاعتماد عليه في كتابة تاريخ هذه المجتمعات المحلية، بما يدفعنا إلى مراجعة نقدية لنظرية احتكار المجتمعات الحديثة للمعرفة التاريخية وإلى القبول بإمكانية كتابة تاريخ وضعي حتى في ظلّ غياب مصادر مكتوبة كما الشأن في المجتمعات الشفاهية طالما أن لها هي الأخرى تاريخها المحفوظ في محامل غير كتابية كالوشم على الجسد والرسوم الجدارية والمنظومات الشعائرية ومجموعات الأثاث وسائر المنسوجات التقليدية والممارسات الشفاهية.
-البعد العقلاني:
ليست هذه الرسوم ممارسة لا طائل من ورائها يمكن اعتبارها مجرّد تهويمات وانفعالات يائسة مبعثها الشعور بالعجز أمام الطبيعة وقسوة الحياة، بل إنّها تتأسّس على ضرب من العقلانية حتى بمعناها الأداتي، أي ليس كفاعلية ذهنية وتمثّل منطقي مجرّد للعالم، وإنّما بوصفها أداة لمعالجة موضوعات ملموسة ترنوإلى تحقيق أهداف عملية، فمن حيث هي ممارسة تقنية، تتجلّى في العلامات والرموز معارف ومهارات فنية ومعمارية متعلّقة بحذق استخدام المواد الطبيعية المتوفّرة، فالجير والجبس أو الجصّ والحجارة والتراب والأخشاب، وهي العناصر الأساسية التي تدخل في مفردات العمارة الجبلية التقليدية، تستخلص من المحيط الطبيعي المحلي وفق أساليب معلومة أنضجتها خبرات الأجيال، دون أن ننسى المبادئ التشكيلية التي تقود تنفيذ الرسوم كالتناظر والتوازن والمقابلات.
ولئن تعلّق الأمر بنشاط رمزي في ظاهره بحكم أنّ هذه الرسوم لا علاقة لها بالاعتبارات الإنشائية للبناء، فإنّها لا تخلومن الأبعاد الوظيفية بما أنّها لا تقطع صلتها بواقع الجماعة، وإنّما تتداخل معه مستجيبة لتحدياته، فتنهض بوظيفة التوثيق للأحداث والأشخاص حافظة الذاكرة الجماعية من التلف والنسيان وتسجّل العقود والعهود تنظيما للمعاملات والعلاقات، وحتى العلامات والرموز السحرية هي مسالك للوقاية والحماية تحقّق أهدافا واقعية في نظر الذين يعتقدون فيها، وهي في الجملة تحرص على أن تستمدّ عناصرها من الثقافة العالمة الرسمية حرصا يبعد عنها الشكوك في شرعيتها، فثمّة وعي بهيمنة الثقافة العالمة وبأنّ التنصّل منها أو مناهضتها لا يعنيان سوى الهامشية واستباحة الجماعات التي تتبناها رمزيا واجتماعيا، إذ ينبغي ألاّ نتغافل عن سياق التنازع بين الكيانات الاجتماعية القبلية من ناحية، وبين العرب والبربر من ناحية أخرى، فهناك نزعة عقلانية براغماتية تدفع إلى عدم الخروج عن القواعد الثقافية السائدة والمتداولة والتي هي واقعيا قواعد الثقافة العالمة التي تعتمد اللغة العربية، حتى أنّنا لا نكاد نعثر على اللغة الأمازيغية ضمن النقائش الكتابية رغم أنّها مازالت تستخدم إلى حدّ الساعة في قريتي الدويرات وشننّي.
إنّ سلب الثقافة الشعبية صفتها المنطقية العقلانية تعبّر عن عمليات الإقصاء التي مارستها الثقافة العالمة بحقّها أكثر منها توصيف لحقيقة موضوعية، ذلك أنّ مقولة العقلانية نسبية وهناك بالأحرى أنواع من العقلانيات على غرار ما بيّنه «فيبر» بمناسبة تحليله لعقلنة الأفعال الاجتماعية حيث بيّن أنّ كلّ فعل اجتماعي قابل للفهم باعتبار أنّ الأفراد الذين يقومون به يمتلكون حدّا ما من العقلانية، وبالتالي ينبغي تفهّم ما يحرّك عقلانيا هذا الفعل، وهو يميّز بين نمطين من العقلانية: الأولى محدّدة بالغاية، أي أنّها تطمح إلى نتائج محدّدة، أمّا الثانية فهي محدّدة بالقيمة عبر الاستمداد والاستلهام من المثل والمعتقدات، ويمكن للنمطين أن يحضرا معا في السلوك الواحد(28) .
ولم تعد اليوم فكرة القطيعة والتعارض بين الذهنية المنطقية والذهنية ما قبل المنطقية ذات قيمة علمية تذكر بعدما تهدّم صرحها تحث ضربات النقد المعاصر في حقل الاجتماعيات والإنسانيات بوجه عام. بل إنّ الاتّجاه الطاغي في الأنثروبولوجيا المعاصرة يميل إلى التشديد على التماثل والتقاطع كما تظهره مدرسة الإتنوسيمولوجيا L’ethno-sémantique التي تركّزت جهود الباحثين في إطارها على جرد الأنظمة التصنيفية الخاصّة بكلّ ثقافة قبل تحليلها اعتمادا على المقارنات.
من هذا المنظور، فإنّ هذه الثقافة العالمة لا تختلف في جوهرها العقلاني نوعيا عن الثقافة الشعبية، فالاختلاف لا يمسّ سوى الدرجات والأشكال التي على أساسها يمكن توزيعهما وترتيبهما، وآية ذلك أنّ المفاهيم والتصوّرات الكبرى هي في مجملها متماثلة حيث تسيطر عليها نزعة الأسطرة والتقديس، فالمعاني والمعتقدات الدينية تكاد تكون هي نفسها والرمزيات الكبرى المتعلقة بالحياة والخصوبة والموت والبعث والخير والشر والطاهر والنجس والجميل والقبيح، تتشابه وتتكرّر في إيقونات أصلية ثابتة، فلا يمكن الزعم بأنّ الثقافة العالمة قد أنتجت عقلانيتها بينما ظلّت الثقافة الشعبية حبيسة خيالاتها، فالاثنتان مترادفتان بنيويا، إنما الفرق أنّ كلاّ منهما يشغل سوسيولوجيا على مستوى مختلف عن الآخر، فإذا كانت الأولى تمثّل ما هو شامل ممأسس، فإنّ الثانية ترتبط بما هو محلّي خاصّ، والتمييز بينهما لا يتحدّد بالمضمون العقلاني للثقافة العالمة مقابل الطابع الخيالي الأسطوري لنظيرتها الشعبية، فهما يغترفان من الينابيع عينها، والتداخل بينهما أكبر من أن يحصر في جملة من الخصائص النوعية للثقافة العالمة التي تمتدّ إلى قلب الثقافة الشعبية لتخضعها لمنطقها ورؤاها العامة للقضايا الجوهرية للحياة، ذلك أنّنا حتى لوافترضنا وجود هوية أنثروبولوجية خاصة بكلّ منها، فإنّ هناك اتجاها مقابلا للتأثير، أي أن للثقافة الشعبية حضورها داخل الثقافة العالمة من خلال الطقوس والشفاهيات والأساطير ومختلف الصور المخيالية، وحسبنا لتأكيد ذلك الإشارة إلى إندراج ظاهرة الأولياء والزوايا والطرق الصوفية في الثقافة العالمة بعدما حظيت بالقبول من لدن الفقهاء كذلك الكثير من التقاليد الشفوية، لا سيما الحكايات الشعبية، التي أضحت جزءا من الأدب الرسمي بعدما أعيدت صياغتها ولعلّ مثل هذا التداخل هو الذي يفسّر نفور الأنثروبولوجيين من استخدام كلمة فولكلور باعتبارها تنهض على مسلّمة القطيعة بين الماضي والحاضر وبين مكوّنات الثقافة الواحدة، بحيث لم يكن يتصوّر ما هو موروث قديم إلاّ على هيئة رواسب باهتة وفق التحليل المعروف لتايلور الذي ظلّ مسكونا بهاجس مرعب من انبعاث السلوكات البدائية من جديد في العالم المعاصر(29).
لكن، وبعيدا عن مثل هذه الأحكام المعيارية والهواجس الإيديولوجية، فإنّ ما يتواضع عليه اصطلاحيا فولكلورا أو تراثا شعبيا يعدّ جزءا من الثقافة العامّة السائدة في مجتمع من المجتمعات، وهو لا يتمظهر كنظام رمزي مستقلّ، وإنّما في علاقة عضوية بالثقافة العالمة التي كثيرا ما تحدّد له ماهيته وحدود اشتغاله، وهويّة الثقافة الشعبية في عديد الأحيان هي مستنسخة مصطنعة وفق قواعد ومفاهيم الثقافة العالمة، فلا نجد فيها من الملامح والمكوّنات إلاّ بقدر ما تسمح به الثانية لتكون امتدادا لها حينا أو صورة مقلوبة عنها أحيانا فاقدة في الحالتين جوهرها بوصفها بنية رمزية مستقلّة، فتماما كالقطع الأثرية القديمة التي ينطوي استخدامها الاستهلاكي على دلالات ثقافية واجتماعية جديدة لا علاقة لها بقيمتها التاريخية الحقيقية، يعاد اكتشاف الموروث التقليدي بعد تجريده من أهم مقوماته في إطار ما يسميه «دي سرتو» «جمال الميّت»(30).
خاتمة
بقدر ما تنغرس هذه الرموز والعلامات في بيئتها المحليّة الشعبية متطابقة مع العزلة الجغرافية والتمايز الإثني للجماعات المرتبطة بها، بقدر ما تبدومتقاطعة في دلالاتها وفي الكثير من محتوياتها الرمزية مع الثقافة الرسمية السائدة، فهي لا تعدوأن تكون إحدى صيغها وليس معادلا لها،، فليس ثمّة استقلالية رمزية للثقافة، إنّها دائما تحت الرقابة(31). ومع ذلك فالثقافة الشعبية لها هوامش للمناورة والتحايل عبر ترسانة من الرموز والعلامات قادرة على مخاتلة الهيمنة السياسية والرمزية للثقافة العالمة وتجاوز المظاهر العيانية والظرفيات الآنية للكشف عن أعماق ثقافة المجتمع بل والإنسان كتجريد مطلق، فتحيل على المشترك الأنثروبولوجي خلف الاختلافات والتقسيمات، ذلك أنّ الرموز والصور لا تتحدّد ولا تتقيّد بحدود الثقافة وقيودها، و إنّما تحاول جاهدة البقاء حيّة باستمرار رغم تفسخ الشروط والبنى الموضوعية التي تحويها وتنتظم داخلها، ولعلّ هذا الحضور هو الذي حافظ على الثقافات مفتوحة(32).
الهوامش
1 - Mauss (Marcel), Sociologie et anthropologie, Paris, Quadrige/ Presses Universitaires de France, 1983, p. 294.
2 - Bourdieu (Pierre), Langage et pouvoir symbolique, Paris, Ed. Seuil, 2001, p. 204.
3 - Cassirer (Eernst), La philosophie des formes symboliques 3, La phénoménologie de la connaissance, Ed. Minuit, 1972, p.357
4 - إيكو( إمببرتو)، التأويل في السيميائيات والتفكيكية، ترجمة بنكراد ( سعيد)، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2000، ص 130.
5 - Martel ( André), Les confins saharo-tripolitains de la Tunisie (1881-1911), Paris, PUF, 1965, p. 276.
Louis ( André), Tunisie du Sud. Ksars et villages de crêtes, Paris, CNRS, 1975, p. 88.
6 - Louis (André), Etrange cité berbère du sud tunisien, Douiret, Tunis, STD, 1975, p. 47.
7 - Ibid.
8 - الزاهي ( نور الدين)، المقدّس الإسلامي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، 2005، ص 56.
9 - Doutté (Edmond), Magie et religion dans l’Afrique du Nord, Alger, A. Jourdan, 1908, p. 325.
10 - Herber (J.), « La main de Fatma » , Revue Hespéris, Année 1927, Tome VII, Paris, La Rose, p.210.
11 - Bachelard (Gaston), La terre et les rêves du repos, Tunis, Cérès Editions, 1996, p. 272.
12 - Ibid., p. 269.
13 -Probst-Biraben (J.H.), « Le serpent, persistance de son culte dans l’Afrique du Nord », Journal de la Sociétés des Africanistes, 1933, Vol.3, 1933, p. 293.
14 -Durkheim ( Emile), Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, Quadrige/PUF, 1990, p. 123.
15 - Probst-Biraben (J.H.), Op.cit., p. 293.
16 - Lévi-Strauss (Claude), Le totémisme aujourdhui, Paris, PUF, 1962.
17 - Ibid., p. 116.
18 - Gobert (Ernest- Gustave), Parfums et tatouages, Tunis, Editions Sahar, 2003, p. 99.
19 - Bourdieu (Pierre), La distinction, critique sociale du jugement, Tunis, Cérès Editions, 1995, p. 81.
20 - Ibid., p. 82.
21 - أبوزيد ( نصر حامد أبوزيد)، فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1998، ص 299.
22 - مقدّمة ابن خلدون، بيروت، دار الكتب العلمية، دون تاريخ، ص 413،
23 - المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
24 - Cazeneuve (Jean), Sociologie du rite, Paris, Presses Universitaires de France, 1971, p. 13.
25 - Eliade (Mircea), Le mythe de l’éternel retour, Gallimard, 1969, p. 62.
26 - Ibid.
27 - Ibid.
28 - Weber (Max), Economie et société, Tomes 1 et 2, Plon, 1995, p. 55.
29 - Detienne (M.), L’Invention de la mythologie, Paris, Le Seuil, 1981, p.46.
30 - De Certeau (M.), « La beauté du mort », in La culture au pluriel, Paris, Christian Bourgeois, 1993.
31 - Grignon (Claude) et Passeron (Jean-Claude), Le savant et le populaire, Misérabilisme et populisme en Sociologie et en littérature, Paris, p.93.
32 - ألياد ( ميرسيا)، صور و رموز، ترجمة كاسوحة (حسيب)، دمشق، منشورات وزارة الثقافة السورية، 1998، ص 225.