فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
27

تشييد الدلالة في التصوف الشعبي المغربي

العدد 27 - أدب شعبي
تشييد الدلالة في  التصوف الشعبي المغربي
كاتب من المغرب

نص من «التشوف إلى رجال التصوف»
67 رجل مجهول - ص:195-196
ومنهم رجل مجهول   
حدثني أبو عبد الله محمد بن خالص الأنصاري قال:سمعت أبا محمد عبد الله بن عثمان يقول:كان بمكناسة رجل كثير السياحة في طلب الصالحين وزياراتهم.فلم يزل يسيح إلى أن وصل جبل لبنان.فبحث عن ولي من الأولياء ذكر له أنه بالجبل المذكور إلى أن ظهر له به خيال رجل. فأراد الوصول إليه فلم يقدر لأوعار الجبل.فأشار إليه بثوبه كأنه يقول له:من أين الوصول إليك؟ فأشار له ذلك الولي إلى مكان عينه له.

فلم يزل يحتال إلى أن وصل إليه فوجده جالسا على صخرة وقد عاد من طول العبادة نحيلا كالخيال  حتى لصق جلده بعضمه.فكان إذا دخل وقت الصلاة أذن وأقام وصلى فيصلي بصلاته.
فإذا فرغ من صلاته قعد على الصخرة إلى وقت الصلاة فيؤذن ويقيم ويصلي .ثم أخرج الرجل طعاما من مزوده. فنظر إليه الولي فرده في مزوده ورمى به في حافة الجبل وقال له:إذا انصرفت عنا(احمله)معك.فلما كان وقت إفطاره قام إلى كوز فأخرج منها حب الريحان وغيره من حبوب الشجر التي تنبتها الجبال.فأكل منها. ثم قال له ذلك الرجل :أريد أن أقيم معك بهذا الجبل .فقال له الولي:لاتطيق ذلك فإني دفعت إلى ما ترى وأنا ابن إحدى عشرة سنة ومن تعود النساء لايصلح لهذا .فارجع إلى بلدك واشهد الصلوات في الجماعات وأد الفرائض واجتنب المحرمات فإنه خير لك.فعاد الرجل إلى المغرب وأقام في مكناسة يعمل ما أمره به ذلك الولي إلى أن لحق بالله تعالى.

تمهيد:
لولوج مغامرة البحث في الخطاب السردي عامة، ومنه الصوفي، مخاطره ومنزلقاته، غير الواضحة أحيانا، والمتمنعة أحايين كثيرة، خاصة وإن كان هذا الخطاب بكرا في حقل الباحثين.
 لهذا، فإن هذا التورط المعرفي يلزمه تحوط منهجي، تتحكم فيه ثلاثة شروط أساس :
-المصاحبة الطويلة المحترمة للنص المختار.
-استنطاق النص بما يلزمه من منهج للتحليل.
-تحديد هدف أو أهداف البحث .
 ونروم من خلال تجربة هذه الورقة ارتياد هذه المكابدة، ومحاولة مقاربة خطاب اجتمعت عدة خصائص على وسمه بفرادة مستقلة عن باقي الخطابات، رغم أنها فرادة تقاطع وليست فرادة انقطاع.
إننا لاندعي تقديم مقاربة شمولية تزمع الإجابة عن تساؤلات وإشكالات من صميم الخطاب الصوفي أو من خارجه، ومنه النص الكراماتي، الذي أحاطت به عدة حجب: فقهية، إيديولوجية، سياسية، كلامية، علمية،شعبية... وكلها حجب طوقت هذا الخطاب بأحكام منعته عن الدراسة بما هو خارج هذه التصورات.
 ويمكن القول- بعد الاطلاع - إن تاريخ  التصوف ليس تاريخ دراسات وأبحاث إلى حدود السنوات الأخيرة- تحاول استكناه خصوصياته من خلال نصوصه وطقوسه، بنيويا ولغويا وكذا سيميائيا، بقدر ما هو تاريخ خطابات على هذا الخطاب في تأصيله والتأريخ له وتحقيقه، بل قد تجاوزت هذا الجانب إلى نوع من الحجب ، والمتمثل في خطاب الردود. إنها إشكالية مثل هذه الخطابات البكر، التي لاتتركها لتتخذ مسارها المعرفي المرغوب: ونظن أن الإشكال يكمن في الباحث الذي يسقط في نهج مثل هذه القراءات الحاجبة لخصوصية التصوف.
إن النص الصوفي عموما تحكمه عدة علائق ومفاهيم وقضايا متشابكة، يمكن إجمالها في علاقة واحدة هي جدلية الإنساني نحو الإلهي، وهي بنية مركزية اتخذت عدة تمظهرات : طقوسية، موسيقية، سماعية، شعرية، سردية...
والنص الذي نحن بصدد مقاربته، أحد هذه التمظهرات، كيف انبنى ؟ وكيف شيد دلالته، وما العناصر الأساس في بناء هذه الدلالة ؟ .

1 -شكل النص:
قبل الخوض في هذه النقطة، لابد من الخوض في غيرها ويلخصها سؤال المتلقي أين هي الكرامة في هذا النص ؟ وقد نجيبه بسؤال : وهل لابد من التصريح بها ؟ أي ألا توجد الكرامة في البنية العميقة للنص ؟
عموما، فهذا سؤال مشروع، ونحن لن نقارب الكرامة في بنيتها، وإنما نقارب، مكونات قيام الدلالة في هذا النص من جسد ومكان وتواصل، إضافة إلى أننا سنتطرق لماهو أعم من الكرامة أي الولاية، فبدون الكرامة لن تتحقق الولاية، إذن فالكرامة كامنة في البنية العميقة للنص أو بين سطوره، ولم يصرح بها النص، واكتفى بذكر آليات ووسائل تحقيق الولاية عن طريق الكرامة، لكن مامميزات شكل الكرامة ؟
 يقول محمد أبو الفضل بدران جوابا عن هذا السؤال:«تقوم الكرامات على دوال متغيرة ودوال ثابثة»(1).
ومن بين الدوال الثابثة نذكر :
- الشخصيات : إنسية أو غير إنسية
- المكان
- الزمان
أما الدوال المتغيرة
- الأفعال
- الحكاية
وبتفاعل هذه الدوال نحصل على مشكلات الكرامة :
كل بسيط وشكل مركب :

المركب  البسيط  
 راو، تمهيد، عقدة، تحول تصاعدي، عقدة، مدد متوقع، مدد غير متوقع  راو، عقدة، مدد(الحل) الشكل الكراماتي 



أما عن شخصيات الكرامة، فيمكن أن نحددها من خلال بنى تلفظية تميزت بها الكرامات المضمنة في كتاب التشوف، ولها علاقة تناصية بالخطاب الحديثي، وهي على الشكل التالي :

 



فبهذا الشكل تشكلت الكرامات التي تطرقنا إليها، وقامت هذه التي بين أيدينا بسرد الراوي للحدث بضمير الأنا المتكلم وبصيغة الغائب(حدثني..قال: سمعت... يقول وذكر له...)، وبهذا الشكل كذلك تأسست الحكاية في حوار السائح مع الولي.
2 -تيمات النص :
 ولعل مايميز هذا النص، هو بساطة بنائه، ومحاكاته لفن الرواية، فهو محكوم باشتغال مكونات السرد، كالشخصيات، الزمان، المكان، الحدث، غير أن مايسمه هو حضور بعض التيمات التي خصصته بدلالات معينة لاتخرج عن خصائص ودلالات التصوف.
 ومن هذه التيمات نذكر: الجسد، المكان، التواصل، ترى كيف وظفت هذه التيمات في النص الصوفي، وماهي دلالاتها ؟

2 - 1 - تيمة الجسد :
لقد ركز المتصوفة على مكون النفس، وعملوا على تطهيرها والحرص على صفائها بغية الارتقاء بها إلى مدارك العرفان ومراتب البدلاء، حيث سخروا لهذه التجربة العالم المادي كله ومنه الجسد، فهذا المكون ماهو إلا وعاء للنفس ووسيلة لترقيتها: فبالنفس تعرف مراتب المتصوفة. وتعد الكرامة الصوفية إحدى التجارب التي تقدم صورة واضحة عن حقيقة ودلالة الجسد الصوفي وجدله مع النفس.
 إضافة إلى باقي التجارب الصوفية الأخرى، كالحضرة والجذبة أو الرقص الصوفي. فعند الحديث عن تجربة كراماتية، كطي الأرض أو المشي على الماء أو في السماء...
لابـد من طرح سؤال : من يحقق هذه التجربة الخارقة : هل روح الصوفي أم جسده ؟ أم هما معا ؟ ونعتقد أنه بحل هذه الإشكالية يمكن أن تتضح الصورة التي نحن بصدد استدعائها من النص الكرماتي، الذي يشتغل فيه الجسد كعلبة للروح موصولة بزمان ومكان خاصين دون استثناء مكون الخيال«الشرط الضروري لكل تلق مرتبط بعالم الأشياء»(2).
إذن، فنحن أمام ذات الصوفي العلامة بتعبير السيميائيات تنقسم إلى دال هو الجسد ومدلول هو الروح، إنها ثنائية شبيهة بما قام به سوسور عند تقسيمه بين اللغة/ الكتابة حيت اعتبر الأولى سابقة على الثانية، هذه الأخيرة التي لا تتعين إلا بعد أن تشير إليها الأولى، أي إن طرفا العلامة في تعالق منطقي، وكذلك الصوفي العلامة، فطرفها الدال الجسد ماهو إلا تابع لعنصر الروح المدلول، وتتضح هذه العلاقة في النص من خلال شخصية الولي، وهي شخصية دالة بأوصافها وحالتها، يقول الراوي: «إلى أن ظهر له به خيال رجل (...) فوجده جالسا على صخرة وقد عاد من طول العبادة نحيلا كالخيال حتى لصق جلده بعظمه». إن هذه الأوصاف لعلامة دالة على تكريس الصوفي لجسده خدمة لروحه، حتى عاد جسده دالا أيقونيا بسماته النحافة التي تحققت بعدة تمظهرات حركية  gestuelle، حسب كريماص، الذي عد  الجسد نصا دالا يقوم بعدة تلفظات حصرها الولي في العبادة: وقد عاد من طول العبادة نحيلا كالخيال... فهذه الحركية لجسد الولي هي بمثابة لغة جسده أو ماسماه كريماص ب somatique  التي تدخل في تأسيس نص حركي ، يمكن أن ندرسه كوحدات حركية تعبيرية، أو تمفصلات ثنائية تجلت في مسار حركة جسد الولي أثناء صلاته على الصخرة أي ثنائيات: أعلى/ أسفل- يمين /يسار- جلوس/ وقوف- ركوع/سجود...
إذن فالجسد الصوفي ماهو إلا قالب يحتوي ويحجب هذه الطاقة الجوانبية :الروح الساعية إلى تحقيق ماهو مفارق لما هو طبيعي في الجسد، بل و أساسي لأنه فطري ضروري (الأكل، الشرب، اللباس...) لهذا رمى السائح طعامه في حافة الجبل «وقال له الولي»إذا انصرفت عنا احمله معك».
 ويبقى طعام الروح أغنى وأوفر عند الولي من طعام الجسد، لهذا آثر الصوم والإفطار على حب الريحان وبعض الحبوب التي ينبتها مكان عبادته الجبل»فلما كان وقت إفطاره قام إلى كوز فأخرج منها حب الريحان وغيره من حبوب الشجر التي تنبتها الجبال».

وقد نفسر أسباب تمجيد الجانب الجواني على الجسد عند الولي، باعتقاده بفناء جسده وبقاء روحه وخلودها أثناء اتحادها مع الذات الإلهية، ولعل هذا أهم عامل رسخ لدى المتصوفة قدرتهم على مفارقتهم للفطري الطبيعي، أي «انتصار الصوفي على الغداء المألوف، هو انتصار على مايمثله هذا من حياة يومية فانية وغير خالدة، فالله لايأكل، والخالد لايأكل، ومن في الجنة، حسب تصور الصوفي، لا يأكل، ويود الصوفي تحقيق كل ذلك في نفسه»(3).

وللسهر وردي مفهوم خاص لعلاقة الروح بالجسد، فالروح عنده قسمان :
1 - روح روحاني، مرتبطة بالذات الإلهية وأكد هذا الصنف من القرآن في الآية:
«فإذا سويته ونفخت فيه من روحي»
            من سورة ص، الآية:72.
      «ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي» من سورة الإسراء، الآية:85
2 - روح حيواني، وهي التي بها حياة الجسد وحركته، ولذلك فهي مشتركة بين المخلوقات، والولي لايذعن لها كثيرا ويقهرها لأنه في غاية النوع الأول .
إن الصوفي بهذه الصيغة دائم التحول، فمن الجسد الإنساني إلى الجسد الصوفي، ومن الروح الحيواني إلى الروح الروحاني» وبفعل هذا التحول يعتبر أهل التصوف الجسد محطة الروح التي إن حلت فيه تنقله إلى مرتبة الكمال(...) الجسد المهيأ لإحلال الروح الإلهية فيه يسمو إلى عالم الكمال»(4)، وهذا ماابتغاه الولي وهو يديم العبادة على الصخرة فوق الجبل، حتى عاد كالخيال، وهي خصائص لم يحققها السائح فصار طرفا مناقضا لذات الصوفي جسدا وروحا.
ونجمل ماتقدم في أن «الجسد الإنساني متوفر على سحرية خاصة به»(5) في استقلال عن أي تمظهر، سواء أسطوري أو ديني أو طقوسي، ناهيك إذا ماتم اعتماده موضوعا من منظور صوفي ؛ فالتصوف يتعامل مع الجسد تعاملا خاصا-كما رأينا- لأنه جسد مصير للروحاني، فهو شفاف خادم، حامل للروح في سعيها لتحقيق أسمى درجات الحلول، لأن الولي يؤمن بأن روحه من روح الله حيث نفخ فيه من روحه، وما الجسد إذن إلا سجن لهذه الروح» فنحن نحيا حياتنا الحقيقية في أعماق الذات، لا في الجسد البالي الذي نكشفه للعالم ولكن لانكشف به العالم»(6).

2-2 -الذات- المكان- الصورة
علمنا أن النص الكرماتي كغيره من النصوص الإبداعية التخيلية مشكل بالسرد، هذا الأخير الذي يركز أساسا على اللغة،”ويتضح من جهة أخرى أنه إذا كانت اللغة تواصلا فهي أيضا منتج للمعنى والدلالة”(7). حسب كريماص، هذه الدلالة التي جسدتها لغة هذا النص في انفعالات كل من السائح والولي وكذا أهوائهم ورغباتهم، إضافة إلى دلالات جمالية ونفسية وخيالية، أي إننا بواسطة اللغة نقف أمام كون دلالي مبني بتجربة الصوفي، فهذه كلها مقومات هذه الصورة/ النص التي نرى فيها هذا الصوفي في عالمه الخاص، بواسطة اللغة» والحقيقة إن كل تعبير لغوي في جوهره تصوير باللغة»(8).
لأن التصوير اللغوي غالبا مايعتقد أنه ينجز فقط باللغة، وهو على خلاف ذلك أعم بكثير، فإضافة إلى البلاغة فثمة قنوات أخرى تحقق الصورة اللغوية، فهذا النص مثلا نلاحظ أنه خال من التشبيهات والمجاز أو المحسنات البلاغية، غير أن المتمعن في النص يلحظ أنه مبني باللغة الوصفية التي تركز على المكان (الجيل، الصخرة، الولي، الجسد..) وكلها موصوفات مادية محسوسة، أي لها نموذج في تصوراتنا الذهنية، فهي ليست غريبة عن الإدراك، ومن تمة فهي محسوسات استدعت تمثلات ذهنية أو صورا كانت منطبعة في ذهن المتلقي.
فالمكان في النص مفتوح محدد (الجبل) وتحديدا فوق الصخرة أي إنه غير مسيج ومحدود، ولوحده يمكن أن يثير ذهن المتلقي ليشكل صورة معينة ممتدة امتداد هذا المكان الذي يختلي فيه الولي، هذه الوظيفة أو التجربة هي الأخرى ستفيف لخاصية هذا المكان دلالة ثانية ذات وظيفة الإرساء encrage بالمعنى البارثي لأن الجبل باعتباره مكانا خالصا له دلالة عامة وعائمة في النص، ويمكن أن تكون له وظائف عدة، غير أن الخلوة وطقوس الولي على الصخرة، المستفادة من سياق النص احتوت هذه الدلالة العائمة وحصرتها في أن هذا المكان له دلالة خاصة ،خلوة الولي، ولماذا الجبل بالذات ؟
إن هذا المكان المفتوح والمتعالي لم يختر اعتباطا، بل له حمولة رمزية، حيث لكل صوفي طقوسه ومقاماته ومكانه الذي يحقق فيه تجربته الخاصة، والولي الذي بين أيدينا حقق تجربته في مكان رامز بسماته الدلالية، كالارتفاع.

إن اختيار الولي لهذا المكان له تأثيره الدلالي القوي في تجربته تجاه الأعلى، أي أن علاقة الولي بهذا المكان تمثل ثنائية الأسفل/ الأعلى.
 «وتبين من كل هذا أن«الفوق» و«الأسفل» لايدلان فحسب على أمكنة معينة ومتمايزة وعلى اتجاهات وأوضاع متمايزة ومحددة، وإنما يحدثان أيضا آثارا مختلفة»(8).
فالصوفي بهذا ذات مفارقة لذات الإنسان، وفي سعيها للوصل إلى الذات الإلهية، لايسعها إلا مكان يسمح لها بتحقيق رغبتها وموضوع قيمتها، فهي ذات مرتفعة عن الذات الإنسانية، إنها في رفعة روحانية قريبة من مصدر روحها الله، وما ارتفاع المكان إلا واحد من المقومات الرمزية التي اختارها هذا الولي ليبرز للسائح رفعته ومفارقته له/ الإنسان الدنيوي، أي إننا في هذا النص أمام طرفي نقيض.
*السائح               *الولي
-الإنسان           -الصوفي
-الفناء            -الخلود
-الأسفل            -الإرتفاع
وتعد هذه الثنائيات إحدى العناصر الأساسية في بناء المعنى داخل هذا النص، لأن المعنى لايتشكل إلا بالتعارض والتناقض.
إذن، فالجبل يعد مكونا مكانيا أساسيا في بناء الصورة في هذا النص، غير أن السائح هو الآخر له مكانه، فقبل أن يصل إلى الجبل قد قطع فضاء معينا، ويؤشر عليه في الـنـص» فلم يزل يسيح إلى أن وصل إلى جبل لبنان» إن هذه القرينة بربطها مع سياق النص ككل تؤكد لنا أن هذه الذات (السائح) لها هي الأخرى فضاؤها الخاص بها، الذي مارست فيه تجربتها، والمغاير تماما لفضاء الولي؛ حيث إن هذا الانتقال بين هذين الفضاءين يوضح انتقال الذات من العالم الإنساني إلى العالم الصوفي، الانتقال من النقص إلى تحقيق موضوع القيمة، لقاء الولي.
إنه انتقال بين كونين دلاليين، غير أن هذا الانتقال مر عبر وسيط معيق تمثل في خاصية الجبل أو خاصية الكون والفضاء الصوفي «فأراد الوصول إليه، فلم يقدر لأوعار الجبل».
إن هذه الخاصية لاتسم المكان الصوفي فقط بل هي شاملة للتجربة الصوفية ككل، فالأوعار متعددة في حياة الصوفي نحو تحقيقه لكرامته، والمكانية منها يسيرة، وأشقها أوعار النفس/ الروح، التي تنـزع إلى الدنيا والفناء وتنازعها أخرى لتميل بها إلى البقاء والخلود، وهي صفات انعدمت في السائح، فكانت عائقا ثانيا بعد عائق أوعار الجبل.

لذا، يمكن القول إن هذا المكان مخصوص بسماته، ودلالاته، وكذا مخصوص بتجربة الولي فيه، فهو مكان خاص رمزي لتجربة خاصة وذات رمزية، إن مكان الولي عامل مشارك مساعدله في تجربته، فهو غير محسوس بالنسبة إليه، فإحساسه به إحساس روحي وليس ماديا، هو ثابت ثبات روحه التواقة إلى الله، على خلاف فضاء السائح المتعدد الذي له به ومعه علاقات وجدانية عاطفية، لأنه ذات إنسانية، وكل هذا مؤشر عليه في قول الولي :

«ثـم أخـرج الرجـل طعامـا مـن مـزوده»
«ومن تعود النساء مثلك لايصلح لهذا»

أي إن الولي تمكن من تحقيق ولايته وبالتالي كرامته عبر تجاوزه لعدة  أوعار منها المادية فاستقر بأعلى الجبل، ومنها المعنوية النفسية فاستقر في مقام الولاية.
وكلها خصيصات منعدمة في السائح الذي انتبه إليها وهو في صعوده إلى الولي في قمة الجبل «من أين الوصول إليك ؟» وكذا أثناء مقابلته له وجلوسه إليه، مما دفع به إلى العودة من جديد والركون إلى مكانه الأصلي السفح أو المكان الدنيوي«مكناسة»، حيث العبادة العادية من صلوات وفرائض وطعام ونساء ، وكلها سمات تجسد الفقد الذي حال دون تحول ذات السائح إلى شبه ذات الولي»إن الفقدان هو العلاقة بالواقع، إن الواقع المقتطع والموجود مسبقا لايمكن إدراكه إلا من زاوية الضياع والفقد الذي نشهد له به، فاستحالة الوصول إلى موضوع الرغبة يولد الاستيهام الذي يمثل سيناريو الأصول والذي يبرز الذات في علاقتها المستحيلة بموضوع مفقود»(9).

3 - التواصل :
يحضر في هذا النص صنفا التواصل، أي اللفظي وغير اللفظي، أما الأول فيتمثل في الحوار بين الولي والسائح ومن مؤشراته:
- وقال له : إذا انصرفت عنا احمله معك
- ثم قال له ذلك الرجل : أريد أن أقيم معك بهذا الجيل
- فقال له الولي : لاتطيق ذلك فإني دفعت ..
 وهذا النوع سار في كل النصوص ، أما ما أثارنا في هذا النص هو حضور نوع ثان وهو التواصل غير اللفظي،/ وهو المتصدر للفظي، وأول ماتعامل به الولي مع السائح، «فأراد الوصول إليه فلم يقدر لأوعار الجبل، فأشار إليه بثوبه كأنه يقول  له : من أين الوصول إليك ؟ فأشار له ذلك الولي إلى مكان عينه له، فلم يزل يحتال إلى أن وصل إليه أي أن التواصل بين طرفي النص تحقق بما هو غير لغوي، متجسدا في الإشارة بالثوب، فهو إذن تواصل تفاعلي. وهو كما حدده LLoyd وزملاؤه «يستخدم للتدليل على أي اتصال  يحدث بين شخصين أو أكثر عبر قنوات غير لفظية»(10). وهذه القنوات أو الآليات يمكن أن تشمل لغة الجسد كما جاء في تعريف آدم كيندون Adam kindom ، الذي يرى أن التواصل غير اللفظي يقصد به:«الوظيفة التواصلية لحركة الجسم، والإيماء والتعبير الوجهي والتوجه ووضع الجسم والمسافة»(11).
 وكلها قنوات تواصلية غير لفظية وظفها طرفا هذا النص ومن مؤشراتها:
ثم أخرج الرجل طعاما من مزوده ، فنظر إليه الولي فرده في مزوده..
فالنظرة رسالة من الولي إلى السائح تفيد المنع، تلثها استجابة من السائح دليلا على فكه لشفرة رسالة الولي برميه لمزوده في حافة الجبل.
فالإنسان يمكنه أن يستقبل ويرسل بشتى الصور: «بالجسد، بالحركات بالنظرة أو اللمســة، بالصراخ أو بالرقص، بكل الأعضاء الفيزيولوجية التي تصلح كأدوات للإرسال»(12).

خلاصات :
لقد حاولنا فيما سبق أن نركز على تحليل هذا النص بغية الوقوف عند محطات تشييد دلالته، من جسد ومكان وتواصل...، وقد ركزنا فقط على هذه المحطات المكونات ، وحاولنا أن يكون وقوفنا سيميائيا منطلقين فيه بالأساس من معجم كريماص مع الانفتاح على بعض الميادين السميائية الأخرى كالبارثية أو الأمريكية في التواصل، وكل هذا لنوضح أن المتصوف له بنية خاصة جوانبية وبرانية متمثلة في الروح الروحانية التي يحتويها الجسد الفاني، هذه الخاصة التي لايقيدها شيء في الخارج من مكان ولاجسد.
كما تبين لنا أن الدلالة في تجربة الولاية تشيد بواسطة الثنائيات الخلافية كما هو موضح في هذا النص، زد على ذلك أن النص الصوفي اللغوي نص قائم بذاته،أي له دلالته الخاصة المتفردة بمعجمها وتراكيبها و بمتنها الحكائي المفارق للمألوف.
إننا لا نجزم أن النص الكراماتي جنس، وإنما حاولنا من خلال هذه الورقة أن نبين مدى قابلية مثل هده النصوص للتحليل السيميائي،الذي يبحث عن الدلالة      و كيفية انبنائها في أي عمل.و الكرامة كما رأينا نص شفهي أصلا، يحوي ويتقاطع مع النصوص ذات البعد الغرائبي/العجائبي،و الفانطاستيكي .

الهوامش والمراجع

1 -أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكر والمضمون، ط1، 2001.
2 -maurice mourier. comment vivre avec l’image, Ed (P.U.F)1ere édition,paris.1989.P228.
3 -علي زيعور، الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، ط1، دار الطليعة ، بيروت1977.
4 -فؤاد إسحاق الخوري، إيديولوجيا الجسد ، رموزية الطهارة والنجاسة، ط1، دار الساقي، بيروت، لبنان. 1997.
5 -رؤوف عبيد ، مدخل إلى علم جديد، ظواهر الخروج من الجسد،ادلتها ودلالاتها، ط3، دار الفكر العربي، الإسكندرية، مصر1984.
6 -Greimas(A.J) , courtes (J). Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage ,T1 , Ed hachette paris. 1979.
7 -محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الإستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية، ط1،  مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان1994.
8 -ارسطو، الفيزياء، السماع الطبيعي، تر، عبد القادر قنيني ،إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب. 1998.
9 -كاترين كليمان، التحليل النفسي، تعريب: د. محمد سبيلا، حسن احجيج،2004، ص:65.
10 -الأمين موسى، الإتصال غير اللفظي، ط1، 1996، ص:
11 -المرجع نفسه.
12 -سعاد عالمي، مفهوم الصورة عند ريجس دوبري2004، ص:37.

الببليوغرافيا :
- ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق احمد التوفيق، ط1،  منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. 1984.
- أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكر والمضمون، ط1، 2001.
- محمد أبو الفضل بدران، أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكل والمضمون، ط1، إصدار مركز زايد للتراث والتاريخ، الإمارات2001.
- محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية، ط1،  مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان1994.
- علي زيعور، الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، ط1، دار الطليعة، بيروت1977.
- فؤاد إسحاق الخوري، إيديولوجيا الجسد، رموزية الطهارة والنجاسة، ط1، دار الساقي، بيروت، لبنان. 1997.
- رؤوف عبيد ، مدخل إلى علم جديد، ظواهر الخروج من الجسد،ادلتها ودلالاتها، ط3، دار الفكر العربي، الإسكندرية، مصر1984.
- ارسطو، الفيزياء، السماع الطبيعي، تر، عبد القادر قنيني ،إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب. 1998.
- كاترين كليمان، التحليل النفسي، تعريب: د. محمد سبيلا، حسن احجيج، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، الناشر، جريدة الزمن، سلسلة ضفاف1. 2004.
- الأمين موسى، الإتصال غير اللفظي، ط1، مطابع أمبريال الرباط المغرب 1996.
- سعاد عالمي، مفهوم الصورة عند ريجس دوبري، افريقا الشرق المغرب2004.
-Greimas(A.J), courtes (J). Sémiotique, dictionnaire raisonné de la théorie du langage ,T1 , Ed hachette paris. 1979.
-Corinne piétés, Bernard- marie du pont. Image, phlilosoplie, médicine. le corps en regards. Ed, Ellipses.paris.2000.
- maurice mourier. comment vivre  avec l’image, Ed (P.U.F)1ere édition,paris.1989.

أعداد المجلة