فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
26

قراءة في الإشكالية والمنهج الثقافة الشعبية العربية بـيــن الـهـــويّة والــكــونـية

العدد 26 - آفاق
قراءة في الإشكالية والمنهج الثقافة الشعبية العربية بـيــن الـهـــويّة والــكــونـية
كاتب من لبنان

يستوقف الباحث في هذا العنوان الأكثر إغراء للدراسة مقولات ثلاث تتبعها رابعة وهي الثقافة والشعب والهوية، بالإضافة إلى انعكاس هذه المقولات على نوع كتابي مهم هو الأدب.
ولعلّ إيقاظ مثل هذه الثوابت في اللحظة التاريخية الراهنة توحي بمحاولة تشديد القبضة عليها إيذاناً بمواجهة كلّ افتئات يحاول النيل منها..
ذلك أن المستجدات الدولية أرخت العنان لتجاوز هذه المنطلقات، بغية استبدالها بأخرى هجينة، تبدّل حياة الشعوب من حال إلى حال وتدخلها في أنفاق مغايرة لما هو سائد ومتعارف به..

من أجل هذا كان الحديث يتصاعد ويتسع حول ما للشعوب وما عليها، وما يجب عمله في هذه المرحلة التي أعلن عنها بأنها العولمة..

 

 



القسم الأول: إشكالية الثقافة الشعبية
1 - واقع الإشكالية
أ-شرعية التساؤل حول فاعلية الثقافة الشعبية
يبدو لأول وهلة أن مفهوم التراث الشعبي ومن ثمّ مفهوم الثقافة الشعبية من العناوين التي كثر التنظير فيهما ولم يحظيا في النتيجة بتعريف واضح متفق عليه، أو بمنهج وحيد نستطيع به دراسة المفهومين بطريقة علمية نقف فيها على تقنين منفرد يوضح ماهيتهما نهائياً.. نحن أمام ثلّة من الآراء التي تذهب مذاهب مختلفة في تقديم الصورة المنقحة والأخيرة لهما..
وهذا الاختلاف أدّى إلى كثير من التساؤل حولهما، لاسيّما في النفاذ إلى مقولات قد تصب خارج النطاق الإيجابي المرسوم للتراث الشعبي أو للثقافة الشعبية.. وهو ما يؤكد على شيوع مقولات مثل موت الحقائق أو عدم فائدتها وضرورة نسيانها والعبور بالحياة إلى الملائم والمفيد للبشر.. وربما ناقش البعض ثنائية الكلمة: «ثقافية شعبية» ليجد أن ليس هناك فرق بين ثقافة شعبية وأخرى غير شعبية، ما دامت الشعوب، كل على حدة، تصنع ثقافتها بمجمل فئاتها سواء أكانت شعبية أم غير شعبية، انطلاقاً من الخلط بين ما هو تراث وما هو ثقافة شعبية، وما هو ممكن البقاء والتطوير وما هو جامد صنع لمرحلة معينة من الزمن(1)..
على أنّ الإنطلاق من مقاربة تعريفية للثقافة الشعبية كانت تعوّل في الأساس على المأثور من العادات والتقاليد والأديان والمعتقدات والأساطير والخرافات والقصص والحكايات والأمثال والأغاني الشعبية والشعائر والأعياد والطقوس وآداب السلوك والضيافة والفنون الشعبية والفنون الأدبية وفنون الصناعات اليدوية والحرف..
وقد يتعدّى المأثور هذه الظواهر ليضمّ ألوان الحياة كلّها فيهتمّ بسيرة شعب من الشعوب، ويدخل في عالم أحداثه، ويتغنّى بنضالاته وبطولاته ومسيرته الكفاحية عبر حقبات طويلة من الزمن، ويجعلها أمثلة عليا لديه، مضيفاً إليها الطبائع والسمات الأساسية التي تميّز شعباً عن آخر، فتطبعه بطابعها إلى آجال قد تطول في الزمن، بل يعرّج على الأديان ويطيل البقاء فيها لإبراز القدرة العقلية والروحية في لحظة من لحظات التاريخ.. ويحتفظ ببعض الصنائع والمهارات دلالات على الرقيّ ومثاليته وضرورة الاحتذاء به..
وعلى العموم، فإنّ معالم الثقافة الشعبية تجعلها تمضي في طريقين واضحين: مادي وروحي، متلازمين حيناً ومفترقين حيناً آخر..
إلا أنّ التساؤل يبقى دائماً حول فاعلية هذا التراث الشعبي وبالتالي الثقافة الشعبية وقوة مضائهما؟ والسؤال الأهم هو : أين هذا التراث؟ وبم يتمثّل؟ بل كيف نقرؤه وبأية منهجية نستطيع الإمساك به؟ وهل تمّ جمعه؟ وعن أي تراث نتحدث أهو العربي العام أم القطري أم الإقليمي أم الفئوي؟ و“هل فقد هذا التراث الشعبي وظيفته ومضمونه أم أننا تخلينا عن أرضية الفعل الذي نشأ عليها هذا التراث؟”(2).
هذا التراكم التساؤلي يفضي إلى جملة من الإجابات قد تكون توضيحية أكثر مما هي إجابات محكمة. ذلك أنّ الواقع العربي.. وأنّ الأرض العربية والتاريخ العربي الحديث ألقيت جميعها في دوّامة القلق وعدم الإستقرار وعدم الانصراف إلى البحث الجدّي للإنشغال بما هو أهم ألا هو معركة المصير والوجود..
لذلك كان التساؤل أيضاً عن الهوّة الفاصلة بين التراث الشعبي والثقافة الشعبية وبين الحاضر.. ولذلك كنّا نمضي دائماً من غير إجابة نهائية عن مدى جدوى هذا التراث، لما فيه من ذخائر روحية متناهية العظمة وما فيه من محفوظات مادية منتشرة على كل بقعة من بقاع الوطن العربي، ومبثوثة في صفحات الكتب وفي صدور الناس، علامة فارقة تجيب عن إمكانية استمرار هذا التراث الشعبي فعلاً ومعنى واحتراماً وتقديراً..
ذلك أنّ التراث الشعبي والثقافة الشعبية لا تتوقف صناعتهما لأنّهما صنوٌ للحياة، واستمرارها مرتبط باستمراره.
ولعلّ هذا الاستنتاج الأخير يفصح عن معنى أكثر واقعية للشعبي الذي يجد سبيله في الامتداد عبر القرون: إلى الأمام وإلى الوراء..

ب- بعض مظاهر الإشكالية
وعلى ذلك لا يمكن النظر في التراث الشعبي والثقافة الشعبية على أنّهما حالة مَرَضِيّة أو مفروضة على الحاضر أو ثقيلة أو هي في حالة صراع مع المعاصر.. أي أنّ الإعاقة ليست من هذا المصنوع الشعبي بقدر ما هي من أحفاد هذا المصنوع الذين ينبغي عليهم درس حالتهم قبل درس حالة التراث الشعبي..
عند ذلك سنجد أن العيب ليس فيما صنعه الأجداد من جميل وخيّر وذي فائدة بل في الذين صار إليهم الذمام ولم يعودوا يدركون، كما قال عبد الرحمن شكري، وهو يتحدث عن الشباب المصري في تعليقه على النهل من الغرب:«وهو كثير الحيرة والشك على الرغم من غروره يترك ما يعنيه لما لا يعنيه، لا يعرف أيّ أفكاره وعاداته القديمة خرافات مضرّة، ولا أي أفكاره وعاداته الجديدة حقائق نافعة. من أجل ذلك يضرّه القديم كما يضرّه الجديد، فهو في قديمه وجديده غارق بين لجّتين أو مثل كرة في أرجل المقادير، فإلى أين تقذف به المقادير»(3). وهو الذي أشار إليه العقاد متحدثاً عن طبيعة العصر وحال العرب فيه: “هذا العصر طبيعته القلق والتردد بين ماض عتيق ومستقبل مريب. وقد بعدت المسافة بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون وبين ما هو كائن فغشيتهم الغاشية”(4).
وبعيداً من المغالاة، وتجنباً لعدم الوقوع في فخّ رفض المعاصرة لخدمة الثقافة الشعبية والتراث الشعبي، ينبغي إعادة النظر في الكثير من المواقف التي يمكن أن تعيدنا إلى نوع من إلتقاط الأنفاس وقراءة مقولة الأصالة والمعاصرة بشيء من التأني لما يفيد حاضرنا..
وربما كانت مداخلة عبد الوهاب عزام تعطي شيئاً من التلمّس لما ينبغي أن يحيا من الموروث وما ينبغي أن يتواصل مع الحاضر:“أضلّ الشرقيون أنفسهم، فإذا هم أجساد تنبض بقلوب الغرب وتفكر بعقوله، وإذ هم مستسلمون لكل ما تطلع به أوروبا، ثم إذا هم أذلاّء مقلّدون يحقرون أنفسهم وآباءهم وميراث حضارتهم وتاريخهم إلا أن تعظم أوروبا أباً من آبائهم أو تعجب بمأثرة من مآثرهم فيقتدوا بها. إن الشرقيين يتلقون عن الغربيين أفكارهم وعقائدهم كما يأخذون منهم منسوجات القطن والصوف.. بينما الصحيح أن نجد أنفسنا، أعني أن نعدّ أنفسنا أناساً أحياء مفكرين، وأن نرجع إلى تراث آبائنا نحفظ كل مفخرة ونعتز فيه بكل مأثرة ونخطط لأنفسنا في معترك الحياة خطة عمل من عقولنا وأيدينا ووحي تاريخنا وآدابنا، تصل ماضينا وحاضرنا بالمستقبل”(5).
تقارب هذه المداخلة الحقيقة، لاسيّما في قسمها الأخير.. وفي الواقع إن النظرة إلى التطور والتقدم تعير كبير أهمية إلى التجديد عبر نافذتين أساسيتين: تجديد العقل والمنهج والرؤية والأدوات والمستلزمات كلّها أولاً، والتجديد ضمن الأرض والقيم والتراث متفاعلة مع التراث الإنساني باتجاه الإفادة البشرية ثانياً.. عند ذلك يمكن أن تصبح الثقافة الشعبية العربية في دائرة وعينا، لا وهماً بل حقيقة..
وأقصد بالثقافة الشعبية وتراثها ليس فقط ما أنتج ضمن المنطلقات الآنفة الذكر في التحديد لمكوّنات هذا الثقافة، بل كل ما تراه الأمة ملائماً لنهوضها، وتقدمها وعبورها إلى مواكبة التطور الإنساني، وصنع حياة تليق بالآدميين قائمة على أساس احترام الذات ومكوّناتها عبر التاريخ الطويل.. وبهذا المعنى يصبح المنتج المحلي المرسل إلى الإنسانية قدرة تحمل الفعالية على تخصيب الحياة وتجدّدها في جميع المجالات الروحية والمادية وعلى الأخص العلمية والإنسانية.. وهو تجدّد يعوّل على الإصرار على معرفة الذات.. وعلى المخزون الذي أفرزته هذه الذات في التفاعل مع الآخر..

ج-تاريخية الإشكالية
عند ذلك تتجلى القدرة على استيعاب الواقع من خلال تواصله مع الماضي دون انقطاع.. هذا الواقع الذي يحمل ذكريات الأرض وإبداعات البشر عليها وما عرفوه من ثقافة وحضارة وعلم ومعارف... تنسجم مع طبيعة تكوينهم، في بقعة هدهد أبناؤها ترابها، وصاغوا ما يحتاجونه وفق ما تهضمه هذه الأرض، وتتمخض به عن النبت القادر على الحياة وتجديد نفسه عبر شرايين الشعب ونوازعه واهتماماته وما يستريحون إليه، دون حسبان ما صنعوه جامداً لا يقبل الحركة، بل متحركاً يقدّم الجديد القائم على القديم..
وعلى ذلك تكون هذه الثقافة الشعبية ليس نافلة من النوافل يستطاع الاستغناء عنها وحذفها أو تحييدها.. بل هي في قلب عملية التحوّل والتغيير.. وعند ذلك لا يستطيع أن يقول قائل إنّه لا يفضل سكنى الخيام على سكنى البيوت ولا حكايا السمر على ما يقدّمه الكتاب أو يعرضه الإعلام.. بل تكون النظرة تواصلية، الجديد يبني على القديم.. فلا يمنع الدخول إلى العصر بهذه العدّة ولا يمكن الوقوف في وجه التكنولوجيا وحسبانها عائقاً لأنها غير موجودة في التراث الشعبي دون الالتفات إلى الأرضية الأساس التي انطلقت منها العلوم والمعارف والآداب والفولكلور والفنون والحضارات.. لأنّها تواجدت في هذا التراث الشعبي.. إلا أنّ التقصير كان سمة العاملين في حقل التواصل والقاصرين عن فهم أهمية هذا التراث وتوظيفه لخدمة الحاضر والمستقبل.. لأنّ في هذا التواصل تكمن الهوية، البطاقة التي ندخل بواسطتها إلى الحياة وإلى العالم، أمّة بمميّزات وإنجازات وشخصية..
هذا المنطلق هو الجوهري، وهو الذي يبقى، أو كما سمّاه الشيخ الدكتور عبد الله العلايلي(6) بأن الثقافة الشعبية الثرية بعطاءاتها “تمثل الإحساس العام وتعبر عن أعمق مفاعيل التطور الكامنة بأكثر مما يعبر عنه الأدب الأنيق الذي هو أدب افتعالي”.
وربما ابتعدنا قليلاً في القول: إنّ الثقافة الشعبية وبالتالي التراث الشعبي هما تعبير عن وحدة المشاعر والأحاسيس لشعب من الشعوب واتفاقه حول الخلق أي إعطاء الجديد الملائم أوضاع الجماعة.. وعلى ذلك يكون التطور عماد هذا اللقاء- العطاء، ليصدر عن اقتناع يصنعه العقل وتزينه الأحاسيس فيغدو مدماكاً رئيساً من أبنية البناء الداخلية التي من الصعب اختراقها إلا بتطور جديد وخلق جديد يقوم على القاعدة نفسها لسابقه.. وبذلك يتم وضع الجواهر التي غالباً ما تكون الأساس، يضاف إليها من التحسين والتزيين والإضافات ما يبرزها بصورة أفضل خارجياً، إلاّ أنّ الحفاظ على الجوهر أمر رئيس..

2 -مقاربات مفاهيمية
على ما تقدّم يمكن استنتاج تعريف مستمدّ من داخل عملية صنع التراث الشعبي نفسه وبالتالي الصيرورة التي آل إليها وموقف الناس منها.. فالثقافة الشعبية هي النشاط الشعبي المقبول من عموم الناس، هو تقليدي وبسيط، يركن إلى بعض الممارسات القروية في أحيان كثيرة ولا يهمل النشاطات الأخرى لباقي الشعب في المدن والأرياف وعلى المستوى العادي أو النخبوي، وشرطه الاتفاق في الذوق والقبول من الجميع انطلاقاً من الملاءمة بين ما يرتضيه الشعب في ميوله ورغباته وعاداته وتقاليده ومسرّاته وأحزانه وقيمه وأديانه وفنونه وآدابه ومشاعره وأحاسيسه وذاته الخاصة..
وهو مقبول سواء أكان في الأرياف أم في المدن، لاسيّما الذي نقله الريفيون إليها، فتقبلته كما هو وأضافت إليه، أم لم تتقبله ولم تطبعه بطابعها.. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الثقافة الشعبية سلوكاً ونشاطاً يقوم بهما الإنسان بالفطرة والعفوية والسليقة، هو نتيجة زمن غابر، توغل في النفوس وأصبح عادة وتقليداً يثير في أصحابه شعور الرغبة في ممارسته واستحضاره دون نفور ودون تعارض مع المعاصر وشكلاً من أشكال التكيّف ومحاولة من المحاولات لتناول المظاهر التراثية الشعبية متقاربة، ويتفق عليها على أنّها تمثل وحدة الشعور ووحدة الاحترام وتجلي الإجماع حولها على الرغم من قدمها وتقليديتها وبساطتها وتأثرها أو عدم تأثرها بمستجدات العصر.. فهذه الثقافة الشعبية تبقى المنتج الثقافي الآيل إلى الحاضر والموروث من الجماعات القديمة في بوتقة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفنية والأدبية.. التي تراودنا من حين إلى آخر كمؤثر عاطفي يشخص حاملاً بقايا موسومة بالخصوصية لفئات اجتماعية صنعتها أو أسهمت في إبقائها على مرّ الزمن.

3 - في المواقف: دوّامة القبول والرفض والتصويب
في مثول هذه الثقافة الشعبية اليوم ثمة مواقف متباينة منها، تتوزع بين القبول والرفض، لما فيها من تباعد بين ما يجري عصرياً من تطورات أحدثت الأفضل كما يعتقد البعض، وبين من يعتقد أنّها ينبغي أن تحيا لما تحمله من خصوصية تعبّر عن الصدق في التكوين والأداء وسلامة القيم وقرب التناول وتأثيرها الطبيعي في العقول والنفوس.. وهذا إن دلّ على شيء فعلى الابتعاد من زمن الخلق وانقطاع التواصل وإيجاد بدائل يظنها البعض أجدى وأنفع لهذا العصر..
وفي التقدير أنّ هذا الموقف المتردد من الثقافة الشعبية والتراث الشعبي تنقصهما جملة من التحديدات والاتفاقات حول ماهيتهما وفائدتهما والنظرة إليهما.. إنّ فقدان عنصريّ التاريخ والأرض واللغة يؤول إلى فقدان جوانب مهمة من شخصية الإنسان وبالتالي المجتمع.. ومفهوم التاريخ ينبغي ألاّ يؤخذ بسطحيته.. بل يجب الغوص في أعماقه لاستخراج هذا السلوك الموحد للناس، والذي ربطهم برابطة الشعبية والاتفاق والالتحام والوقوف في وجه المخاطر والبحث عن العوامل المشتركة التي دفعت بالناس إلى إنتاج هذا التاريخ، والتي هم بحاجة إليها في كل زمن لإحداث التواصل وإبقاء اللحمة.. والتراث الشعبي ليس إلاّ عاملاً رئيساً في هذا التوحد.. لذلك ينبغي التركيز على هذه الأهمية، وهي لن تكون ما دام الموقف من التراث الشعبي والثقافة الشعبية غير واضح لناحية تصنيفهما وتقسيمهما إلى أنواع ومدى ملاءمة هذه الأنواع للحاضر وتناولها متفرّقة حيناً، وفي علاقات متينة فيما بينها في حين آخر، حتى نستطيع تعيين مدى جدواها في التوجه نحو المستقبل بما يفيد الأمة..
بذلك تصبح العودة إلى التراث الشعبي مهمة مزدوجة على صعيد الوطن وعلى صعيد الحضارة والثقافة والبناء والتواصل وإيجاد ألوان التقارب بين فئات الشعب..
وهذه المهمة المزدوجة تجد فعاليتها وأرضها الخصبة فيما يواجهه العرب من عقبات ومشكلات حادة تعصف بمجتمعهم.. ألم يعد الصهاينة إلى التاريخ والتراث ليستحضروا عوامل توحدهم، ويقدّموا مزاعمهم التي ارتكزوا عليها لإيجاد كيانهم..؟ ألا يشكّل ذلك حافزاً لنا للعودة إلى ثقافتنا الوطنية الموغلة في القدم والتي تنتظر الإحياء والتواصل كما فعل روّادنا في عصر النهضة العربية؟
إن عودة سريعة إلى بعض تقارير اليونسكو تثبت أنّ العدوّ الصهيوني يحاول اقتلاع كلّ ما هو عربي فلسطيني في فلسطين وإحلال بعض مزاعمه محلّها. نقتطف هذا المقطع من تقرير اليونسكو للتدليل على فداحة الأمر:» إنّ الثقافة الفلسطينية في الأراضي المحتلة تواجه مشروعاً منظماً يستهدف الحطّ من شأنها وتزييفها واستلابها، وأنّ التراث الفلسطيني يتعرّض للنهب والممتلكات الثقافية تهدّدها المخاطر»(7).
وهذا ما يبرز أهمية التراث الشعبي والثقافة الشعبية التي صنعتها الأجيال المتعاقبة عبر الزمن.. إنّ محاولة محوهما يعني محو الشخصية والتاريخ والخصوصية، وإلغاء جهود آلاف السنين وإفقاد الأمة بريقها الذي ازدهت به عبر الزمن، هذا البريق الذي هو بمثابة الروح والجسد لأمّة تعتزّ بأنّها من خير الأمم.. وعلى ذلك ينبغي استعمال سلاح التراث الشعبي والثقافة الشعبية في وجه المفتئتين عليهما.. وأعتقد أنّه سلاح ماض أولى إيجابياته الإبقاء على وحدة الأمة وبالتالي تاريخها وتراثها وخصوصيتها وهويتها.
على أنّ الأجدى دائماً الاتجاه نحو التوحد.. فليس عندنا ثقافات بل ثقافة واحدة ولا تراثات بل تراث واحد.. ولا بأس أن تكون قديمة، فهي لم تأت من العدم.. ولم تحكم بالجمود في أي حقبة من حقبات التاريخ بل كانت متحركة تتناقل الأجيال عبرها القيم التي تؤمن بها وتحفظ بوساطتها صورة ذاتها وخصائصها ومميّزاتها، وهو ضروري للحاضر والمستقبل، ولن يكون هذا الضروري جدّياً ما لم يفعّل ويوظّف في خدمة التحديث والتطور، دون أن يعني ذلك الانكفاء على الذات والتقوقع والثبات بداعي الاحتفاظ بهذا التراث الشعبي، بل الانطلاق إلى الفضاء الأرحب مع صانعي الخير للإنسانية. على ذلك ينبغي إعادة النظر بهذه الثقافة ومضامينها وفق الخصوصية التي دأبنا على التنادي بها، وقدّمت الأمة من التضحيات ما لم تقدّمه أمّة أخرى في سبيل قضاياها.. عنيت بذلك كلّه تحويل الثقافة الشعبية إلى موحدة للشعب والوطن وإلى أداة دفاع ثقافية في زمن تُعبر الحدود فيه، وتطغى ممارسات العولمة وتطبيقاتها على ما عداها فتتعرّض للهوّية بشكل رئيس.

القسم الثاني: الثقافة الشعبية والهويّة
1 -الثقافة الشعبية والهوية ووحدة المنطلق
نتناول مفهوم الهوّية بارتباطه الوطيد مع التراث الشعبي والثقافة الشعبية.. ذلك أننا لا يمكن في حال من الأحوال البحث عن عناصر التراث وثقافته، وفي الوقت نفسه عن عناصر الهوّية في مكانين مختلفين، فإنهما يتوحدان، أو قل: إنّهما ينطلقان من المنطلق نفسه.. وقديماً عرّف الجرجاني الهوّية بقوله:»إنّ الهوّية هي الأمر المتعلق من حيث امتيازه عن الإغيار»(8)، أي أنّ لكل أناس في جماعة هوّيتهم التي تميّزهم عن الآخرين، ليس بحسب عرقهم أو أفضليتهم عن سواهم، وإنّما بصفات معينة هي فيهم، اكتسبوها عبر الزمن وأضافوا إليها إبداعاتهم في الشؤون المختلفة فغدت لصيقة بهم، يعرفون بها.. وهي عبارة عن عادات وتقاليد وتراث ودين وحضارة وفنون وآداب وثقافة ومنازع مختلفة.. بالإضافة إلى بعض المحلّيات والخصوصيات التي هي من النتاج الجماعي الذي لا يتواجد إلاّ في الموروثات والتفاعلات والإنتاجات الشعبية الخاصة.
والهوية بمفهومها العام هي الصفة التي يتمايز بها الأفراد أو الجماعات عن بعضهم، وتتحدد بها حالاتهم، فهي على الصعيد الفردي تعني التمايز، وعلى الصعيد الجماعي تعني التمايز والتماثل في آن واحد، أي تماثل أفراد الجماعة مع بعضهم وتمايزهم كجماعة عن الجماعات الأخرى ضمن هذا الإطار(9)..

2 - الهوية والعولمة
وحديث الهوّية عاد إلى الظهور بكثافة في أدبيات المرحلة الأخيرة ابتداء من تسعينات القرن العشرين، أي مع اتضاح اتجاه العولمة وسياستها الآيلة إلى الهيمنة.. وكان ذلك يقتضي التدخل بمصائر الشعوب وأوضاعها التاريخية وخصوصياتها بغية خلق مجتمع دولي جديد يتراجع فيه القبض على الهوّية وتتقدّم فيه ذهنية الإلغاء للكيانات والنطاقات المحدّدة لكلّ دولة.. وأبرز الوجوه في ذلك الثقافة التي غدت هدفاً من الأهداف العولمية، وأصبحت العولمة الثقافية في سلّم الأولويات التي تنبّهت لها الشعوب، وعاجلت إلى الإمساك بما لديها، وشهرت سلاح الدفاع عن كل ما تمتلكه من خصوصيات.. ولقد جهدت العولمة الثقافية « لتقوم بتعميم أزمة الهوية، حيث يتضاءل، مع تزايد الثقافات الأقوى في فضاء مفتوح، وزن الثقافات الوطنية ونفوذها»(10).

3 -حركتا العولمة
وهذا ما يفسّر سلوك العولمة في قيامها بحركتين متناقضتين: الأولى بإرادتها، حيث من جهة تشجع على الانقسامات القومية والدينية والتراثية والثقافية والعرقية والحضارية.. باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان مؤكدة على صراع الثقافات في مسعى إلى تفتيت الكيانات الكبيرة القائمة على أساس التعدّد الثقافي والقومي والديني، ومن جهة ثانية تعمل على توحيد العالم على ثقافة واحدة(11).. والثانية: بغير إرادتها، حيث بسعيها لتنفيذ سياستها الآيلة إلى التفتيت والهيمنة وإلغاء الثقافات تدفع هذه الثقافات بدورها إلى التحفّز والحذر فتلتفّ على مكتسباتها لتحميها وتصبح أكثر تمسّكاً بها.. وهذا ما يحصل على الصعيد العالمي حيث يتمّ الاستنفار لدى الشعوب لتدافع عن ثقافاتها ومكتسباتها وخصوصياتها..
لكنّ ذلك لم يمنع المخاوف على غير صعيد على الرغم من اليقظة والحذر.. لأنّ ما يسود في معظم دول العالم الثالث، من أزمات ثقافية وتفكك وضياع، يلقي في روع العاملين في ميادين الثقافة الكثير من التساؤلات حول الأوضاع الراهنة لدى كل شعب على حدة ولدى الشعوب مجتمعة.. الأمر الذي يلقي بالمزيد من الاختلاف في وجهات النظر دون ائتلافها إلا فيما ندر.. والأزمة متأتية من الظروف الداخلية، كما هو الحال عند العرب، ومن الظروف الخارجية، لاسيّما التي أحدثتها العولمة عبر تدخلاتها في شؤون الدول من جهة، وعبر الانقسامات الحادة التي أحدثتها لدى المثقفين من مؤيد لها حيناً ومعارضٍ لتطبيقاتها وأفعالها في حين آخر. أضف إلى ذلك ما يعانيه المثقف العربي وسط أمّته من تهميش وضياع وملاحقة وتعثّر الديموقراطية والاستئثار بالسلطة وبثّ التشويهات المختلفة حول الثقافة ومفاهيمها وتعرّض الوطن لأزمات عديدة، أبرزها الثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية..

4 - الثقافة الشعبية والهويّة: إشكالية الوجود والاستمرار
على أن تناول مثل هذه المسألة الدقيقة لدى العرب، عنيتُ: الثقافة الشعبية والهوّية، يثير إشكاليات عديدة تحدث إرباكا ًكبيراً على المستويين الشعبي والرسمي سواء أكان في تحديد السمات المجتمعية أم في التعريفات الخاصة والعامة لهذه المصطلحات أم على أساليب التعامل، أم على الأوضاع الراهنة بارتباطها بما يجري في العالم من تحوّلات في أمور كثيرة ليس أقلّها المفاهيم والبنيات التركيبية للمجتمع..
وإذا كانت الهوية الحضارية كما يقول د. محمد عمارة: «لأمّة من الأمم هي القدر الثابت أو الجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميّز حضارة هذه الأمة من غيرها من الحضارات والتي تجعل للشخصية القومية طابعاً تتميز به الشخصيات القومية الأخرى»(12)، وإذا كان مفهوم الأصالة يعني “البحث عن الجذور، كما يعني أيضاً التجانس والتواصل في حياة الشعوب، أن يكون حاضرها استمراراً لماضيها ومستقبلها استمراراً لحاضرها، فلا يقع الانفصام في شخصيتها ولا تحدث الازدواجية في ثقافتها بين أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، بين دعاة القديم ودعاة الجديد، كما تعني الأصالة أيضاً دفع مسار التقدم المادي والمعنوي”(13)، فإنّ هذه الإشكالية تتجلى خطوطها فيما يشهده الوطن العربي من أزمة حادة في التوفيق أو الخروج من دوّامة شبه الجمود الذي يخيّم على قضايا كثيرة وفي طليعتها القضية الثقافية أو الهوية الثقافية التي يجري حولها بحث مستفيض يشوبه نوع من المراوحة أو عدم اتخاذ القرار المناسب لتقديم الحلول الآيلة إلى الخروج من الأزمة أو على الأقل تبيان دور المثقف وتحديد الهوية الثقافية الخاصة والأخرى العامة وما يتوّلد عنهما من تشعبات تدخل في تفصيلات التحديد..
إنّ التراث الشعبي العربي هو جزء من الثقافة العربية، بل هو جزؤها الأهم، وربما هو الجزء الوجداني الباقي في الضمائر والقلوب والعقول، يتحفز للبروز كلّما لاح حديث ما عن الثقافة الشعبية أو الوطنية أو القومية أو التراثية.. إلى آخر ما هنالك من انفعال عقلاني ووجداني شديد الحضور بكثافة..
لكن المسألة لا تتوقف على هذا الأمر وحده.. فلا حديث عن التراث والثقافة والهوّية من دون الحديث عن الأرض واللغة والتاريخ والسياسة والاقتصاد والمصير المشترك.. ولا حديث عن الثقافة ما لم تخدم الشعب في ماضيه وحاضره ومستقبله.. والإشكالية هنا تتجسّد في أمور أخطر.. وخطورتها تكون على تلك العناصر الرئيسة لتكوين الأمة. وتصبح عملية التطور وحلّ المشكلات في صلب البحث، منه تستقي وعليه تنبني وله تنظّر وتفعل..
فالحديث عن التراث الشعبي والهوية يمكن أن يختزل، ويتركز في الحديث عن الهوّية الثقافية أو الثقافة على وجه التحديد..
وهو موضوع كان وسيبقى الشغل الشاغل لمجمل العاملين في الحقول الفكرية والإصلاحية والاجتماعية والسياسية والتربوية.. على مرّ الزمن. وكما نرى هو موضوع واسع ومعقد يطال كلّ الشؤون المترابطة والمنسجمة ضمن الإطار القومي لأمة من الأمم وعلى الأخص الأمة العربية.
كما هو موضوع له علاقة وثيقة بالخصوصية وبالتالي بما يجري في العالم قديماً وحديثاً سواء أكان على شكل تفاعل أم على شكل تنافر واعتداء أو استعمار أو تهميش أو إلغاء.. وهو ما يعيد إلى الذهن، في حركة ثقافة الحاضر المحلي والعالمي، ما طرأ على الثقافة من معطيات بدّلت الكثير من المستجدات وأزاحت الكثير من المفاهيم وحوّلت التوجّهات، وبات القول بخصوصيات ومحلّيات وهوّيات وتراثات شعبية أمراً في غاية التعقيد، لاسيّما أمام زحف العولمة بآليتها الضخمة في الإعلام ووسائله وإمكاناته وطرق النشر والأقمار الصناعية والمعلوماتية عموماً.. وكل ما يمكن أن يدرج تحت اسم ثورة المعلومات والاختراعات العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصالات.. الأمر الذي عدّل في مفهوم الثقافة وجعلها تتخطى الكثير من المتعارف به، خصوصاً أمام الخلفية الكامنة وراء هذا التقدم العلمي الهائل، وهي خلفية تعوّل على جملة من الاحتكارات الإعلامية والمالية والثقافية والعسكرية.. حملت معها جملة من التهديدات والتغييرات الديموغرافية والثقافية.. عبر ما سمّي بالنظام العالمي الجديد الذي حوّل الثقافة إلى مادة مجتمعية مجرّدة من بعض المفاهيم التي عرفتها، فأصبحت أكثر عمومية تتعدّى وظيفتها، كما تتعدى سياسيتها وعقائديتها لتصبح بدورها سلعة أو مبشراً دعائياً تجارياً، سواء للسلعة أم لصاحبها.. وهو تغيير بدأ العالم يلمسه فيما بعد الحرب العالمية الثانية حيث ساد التوجّه الأيديولوجي ليخدم قطبين أساسيين في العالم أو حزباً أو تياراً سياسياً على هامشهما أو خارج هذا الهامش..
إلا أنّ التعريف الحريّ بالاهتمام في موضوع الثقافة هو “أنّها مجمل ما يقدّم لعقل الإنسان ونفسه وحسّه من فكر وأدب وعلم ومثل وقيم وعادات وأنماط حياة وتسلية، لتكون الثقافة هذه البيئة الذهنية والنفسية والحسية لاستقبال ما يحدث في المجتمع الذي ينتمي إليه الإنسان والتفاعل مع الحدث والمستقبل في ضوء معطيات هذه الثقافة”(14).
يبدو هذا التعريف للثقافة شديد العمومية، وفي الوقت نفسه يتوقف عند الأساسي في الثقافات في أي زمن أنشئت فيه.. وهو مدخل ملائم للوقوف على مفهوم الهوّية الثقافية التي لا تكون إلاّ بارتباط مع واقعها.. إذ تتمثل فيه بضع حركات تتم في عدة اتجاهات أبرزها: إلى الماضي وإلى الحاضر والمستقبل، كما تتمثل فيه بضعة نشاطات تشترك فيها ملكات الإنسان التي تختزل باثنتين: العقل والوجدان.. وهما متغيران مع الزمن، مع حفاظهما على الذي يمكن أن يبقى ذا فائدة وإسقاطهما الذي لا فائدة منه أو هو في حكم الميت دون إهمال اللحظة الحاضرة، بل البناء عليها لتوجّه جديد.. وهو ما يفيد في مسألة التقويم الدائم والمستمر لخصائص انتقال المجتمع.. وهذه السيرورة الجدلية المتمثّلة في تقادم الثقافة ونشوء الثقافة الجديدة هي جوهر مركّب الأصالة- المعاصرة، وفي الوقت نفسه، فإنّ السيرورة هي ذاتها مدخل الفضاء الثقافي”(15)، تماماً كما هي الشجرة التي هي بحاجة إلى تشذيب غصونها وفروعها والإبقاء على أصولها، ففي ذلك صحة وحياة أفضل لها وطرح للثمار أكثر.. وإلاّ بقيت بعض الأشياء فيها ثقلاً بلا فائدة يؤثر في النموّ الجديد لها.. كذلك في موضوع التراث والهوية والثقافة فالحاجة ماسة إلى التجديد، وما أكثر الجديد الضروري لحياتنا في العصر الحديث، حيث تتشكل قاعدة جديدة قوامها الانطلاق من دوافع معرفية جديدة ذات مميزات أدق وأسرع وأشمل مما كان سائداً في النوع والكمّ والجهد والتفاعل وتحصيل النتائج.. دون أن يعني ذلك التخلي عن جملة ثوابت أكثرها أهمية:
- سوف يستمر المجتمع نفسه في مهمته بتقديم الثقافة ومواكبة تطورها وانتقالها إلى آفاق جديدة.. أي أنّ أصباغ هذا المجتمع ستكون هي الأساس وتكون ألوان أصالته وقيمه وخصائصه.. طافية على السطح ضمن تحديدات النطاق القومي.
- ستبقى الهوّية الثقافية وسيبقى التراث الشعبي ماضيين في تشكّلهما وإن تقاسما المعارف مع الخارج، لكنّ الجوهر هو الأساس والشعوب التي تحافظ على جواهرها هي القادرة على الحياة لأنّها تتمتع بالشخصية القادرة على ذلك.. لأنّ ما لديها أصيل وثابت وقادر على الحفاظ على خصوصيته فيما يعكسه من أسس لحركته الاجتماعية التاريخية.. وهذا ما يفسّر انتصار بعض الشعوب ثقافياً وانهزامها عسكرياً (أثينا وروما- العرب وتركيا)، كما يفسّر انهيار بعض الدول في التسعينات، على الرغم من تقدمها العلمي والتكنولوجي ووصولها إلى درجة القطبية في العالم، بحيث تراجعت لتلتفّ حول خصوصياتها وقيمها ومعتقداتها..
- وطنية التراث الشعبي والثقافة والهوّية هي الأبرز في عملية التحول، على الرغم من التدفقات الثقافية في غير مجال.. وهو شعور نابع من حب تملك الوطن والانتماء إلى هوّيته بكل ما ينتج فيه، لاسيّما إذا كانت هوية وطنية قومية تحرّرية تحمل قضية عادلة كما هو الأمر عند الأمة العربية، ذات الموقف الواضح من قضايا الإنسانية وثقافتها العادلة الإيجابية، وإن توسعنا، هو موقف ينبري ضدّ ما يسمّى الغزو الثقافي أو الاستعمار الثقافي أو الاستلاب الثقافي أو تدمير الثقافة المحلية وتتفيهها وإلغائها في مقابل ذلك، وفي ظروف الأمة العربية التي توالت عليها الأزمات منذ ما قبل القرن العشرين نجد أنفسنا منحازين إلى ثقافة تصون الهوّية وتبرز الوجه الخلاّق فيها وهو الجانب التحرري الديموقراطي والمعرفي في مجمل النتاج الثقافي في بلادنا، فنرى فيه صفة الوطنية، بحسبان أن الثقافة الوطنية أولاً: هي مختلف ألوان الثقافة والإبداع المنتجة في الإطار العام لحركة التحرر العربية، الهادفة إلى التحرر من التبعية والهيمنة المطلقة لدول الرأسمالية العالمية وإلى ترسيخ الديموقراطية، والتفاعل مع حضارات الشعوب الأخرى ومنجزاتها الحديثة والخروج من واقع التخلف إلى أفق التقدم والعدالة الاجتماعية(16)..

5 - بين هوّيتين ثقافيتين:الخاصة والعامة
إذ نتحدث عن هوّيتين ثقافيتين لدى أمّة واحدة هذا لا يعني انفصالهما عن بعضهما في الشكل وإن اتحدا في الجوهر..
في حال الأمة العربية، نحن أمام تراث شعبي عريق، كما نحن أمام هوّية ثقافية موغلة في القدم.. والثقافية التي أعنيها هنا هي الشديدة الخصوصية وهي التي دأب عموم الشعب على تكوينها منطلقاً من ذاته سواء أصنعتها هذه الذات أم أخضعتها لها وأذابتها في كيانها وأصبحت جزءاً منها، فكانت بهذا المعنى خادمة لها كونها الممثلة للصدق والعفوية والقيم والعادات والتقاليد والأديان والفنون والآداب التي اصطبغت بالألوان المحلية.. وهو ما أرادت تسميته بالهوية الثقافية الخاصة..
لكن ثمّة نوع آخر من الثقافة ينمو ويترعرع شاقاً لنفسه طريقاً أكثر عمومية، وهو يتمثل بالوافد المختلط بالأصيل سواء أكان على شكل ترجمة أم تدريب أم إعلام أم كتب أم نشرات أم سفر أم ندوات... تروج كلّها في المجتمع حاملة ثقافة يتعاظم دورها دون أن تندمج كلياً في الثقافة الخصوصية، وتكوّن لنفسها مساراً قد يصل إلى حدّ الخصومة مع هذه الخصوصية أو ترقب تطويرها.. وهذا ما أردت أن أسميه الهوّية الثقافية العامة.. وفي الواقع هو ليس هوّية ثقافية أصيلة، وربما يصبح بعضها أصيلا ً، ولم تصنعه الأمّة ولم يندرج بعد في بناها العقلية والنفسية والوجدانية.. في حال بلاد العرب هو موجود بكثافة ولقد قوي تأثيره في الهوية الثقافية الخاصة، إلى حدّ أهملها وربما يلغيها.. حيث حوّلها إلى هامش وأجلسها في مكان يصعب مع الزمن الوصول إليه.. إلاّ أنّ هذه العامة لم تفلح في الحلول محلّه.. ذلك أنّها بقيت هجينة قلّما توغلت إلى الجوهر، لأنّها في جلّها إسقاط ونوع من التعالي ونموّ خارج أطر المكان الذي ينبغي أن ينمو فيه..
لذلك دائماً هذا العام في أزمة.. لأنّه يصرّ على غربته عن المجتمع العربي في تتفيهه ما لديه والتعالي عليه وكأنّ حامليه سقطوا من كوكب غير الكوكب الذي يعيش عليه العرب.. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية لم تتبنّاه الحكومات العربية نهائياًَ ولم تصدر قرارات رسمية فيه.. فأصبح بدوره في أزمة وفي غربة..
وفي تقديرنا أنّ هذه الثقافة العامة فقدت خطّ السير الصحيح.. لأنّ التطور إنما يحصل من الداخل، والانتقال إلى حالة جديدة تتمثل في انتقال الجوهر.. وهذه العامة ما لم تراع هذا الجوهر ستظل طائراً يغرّد في غير سربه.. والسرب الحقيقي هو الذي يعوّل على عدم تجاوز الموروث والتفاعل معه، لأنّه الأقرب إلى خلق حالة التحوّل بما فيه من إبداع جماعي وتفاعل عقلي ونفسي وحسيّ للجواهر الأساس مستمرّة في جزء منها في الحاضر، وقابلة للتطور والنماء والإفادة..

6 -الثقافة الشعبية والهوية: المجال والحركة والتقاطع
تتقاطع في موضوع الثقافة الشعبية والهوية جملة من المعطيات التي تحدّد وجودها وفاعليتها.. وهو موضوع يسكن الأماني والوجدان والممارسة.. ولكن كيف يتم ذلك. بل كيف نتعامل معه وقد ألقيت على عاتقنا مهمّات كثيرة ينبغي إدراكها وتصنيفها وإنجازها؟
من البديهي التمسّك بالمقولات التي حدّدناها سابقاً كمؤسس وكتطلّع وهوّية وقيمة.. لكنّ هذا التمسّك لا يجدي إن بقي في نطاق القول والتعاطف بدون النظر في الحركة التي تتحتّم للخروج من دوّامة المراوحة والقلق والخوف على ما صنعته أيادي الأجداد..
لقد قدّم العربي أنموذجاً راقياً في التعامل مع موضوع الثقافة الشعبية والتراث والهوية وصنعها جميعاً.. يوم كان القرار متخذاً لبناء الدولة العربية.. فتضافرت الجهود لإنتاج حياة متقدّمة تستفيد من آخر ما توصل إليه الإنسان من إنجازات.. تجمّع ذلك فيما وصلت إليه الحضارة العربية في أوجها في العباسي وقبله الأموي.. لقد استفيد من طاقات الشعوب الأخرى وإنتاجاتها في المستويات كلّها.. هذه الشعوب التي انضوت تحت لواء الإلهي لتجمع المكاني والزماني والعلمي والمعرفي والحضاري والتراثي والديني والاجتماعي والسياسي وفي الأساس الثقافي.. ولم يمض ذلك دون خطة أو دون غيرة على الخصوصية.. فأسهم العربي والفارسي والهندي والرومي والحبشي في إنتاج حياة تجمهرت فيها مختلف المعارف وفنون القول.. كان المنطلق هو ضرورة الإنتاج وكان القرار يسقط من الحساب كلّ معيق ويعلي كلّ مسهم بإيجابية..
نورد ذلك لنؤكد أن صانعي الثقافة والحضارة وبالتالي التفوّق عوّلوا على الداخل وانطلقوا من الأرض والتاريخ واللغة والقيم والعلم بما تعنيه هذه الكلمة من فاعلية تمّت من داخل الذات ولخدمة مقولات غزيرة وكثيفة في الدين الإسلامي وهي الحضّ على العلم وتشجيع العلماء وتبنّيهم وإشاعة أجواء من الترغيب بالعلم والقراءة والتزوّد بهما.. الأمر الذي حوّل المجتمع إلى ورشة إنتاج لا تقتصر على النظري بل العملي أيضاً لذلك سميت أمة “إقرأ”.. تلك هي بعض وجوه الخصوصية العربية، وإن لم تكن كذلك فهي من قبيل الهذر والكلام الذي يقال من أجل إظهار الغيرة على زمن انقضى وكأنه ذكرى يستعذب معيدها التغنّي بها.
أمام العرب أمثلة كثيرة في الزمن الراهن.. وهم أمّة لديها من الإمكانات ما لم يتوفّر لسواها.. عنيت الثروتين العلمية- المعرفية-الحضارية- الإنسانية والروحية من جهة والثروة المادية من جهة ثانية.. وهو ما لم يتوفر لدولة كاليابان مثلاً لناحية الثروة المادية الطبيعية وللكثافة السكانية والإمكانات الأخرى التي جعلت منها دولة عظيمة تحتل المرتبة الثانية في الإنتاج الصناعي العالمي.. ومع ذلك هي دولة متقدمة وتعدّ من الدول ذات الطراز الأول في مجالات متعدّدة أبرزها العلم والمعرفة والإنتاج.. بل احتفظت بها جميعاً، ولا تزال هذه الخصوصيات تتصدر النشاطات والسلوكات لدى الشعب الياباني..
الهوية والتجدد
الموروث هو الأساس والثقافة هي الأساس والتراث هو الأساس أيضاً والأفضل أن نبني عليها جميعاً.. ذلك هو المجال الذي ينبغي التحرّك فيه.. عندما نرسم المجال الحيوي نحن مضطرون إلى التحرّك في المستويات التي تحدّد في المجال-السلّم الارتقائي.. المجال الحيوي هو القاعدة التي يكمن فيها الجوهر، الأساس الذي انبنت عليه الهوّية.. وهو جوهر دائم وبقية المجالات متحرّكة متغيّرة، تعمل على التطوير، لكن ضمن المؤسسّات.. على ذلك سنتقبل أي جديد بل أيّ تجدّد.. الهوّية لا تفهم بالجمود بل الحركة، والهوّية لا تعرف النهايات، بل هي أفق مفتوح على كل شيء.. إنّ زيارة إلى مدينة طرابلس الغرب سوف ترينا النمط الإيطالي في العمارة الليبية وزيارة إلى حقولها سوف ترينا نمط المزارع الإيطالية الزراعية منتشرة في كل مكان سواء منها أشجار الزينة البيئية أم المثمرة كالزيتون والليمون.. زيارة أخرى إلى مدينة الجزائر سوف ترينا النمط الفرنسي بادٍ في العمارة والتنظيم المدني.. ذلك ما يسم الفنّين الإيطالي والفرنسي... لكن زيارات أخرى مماثلة إلى دمشق وبغداد والمنامة.. سوف تظهر هذا الأثر للذوق العربي والفنّ العربي في العمارة والتنظيم المدني، حيث الأساسيات العربية تبدو في كل شيء منتصبة عبر الزمان تحكي عن الأصالة والرقي والتقدم.. كذلك الأمر نفسه للأندلس حيث الملامح العربية تبدو في معالم كثيرة لا تزال باقية إلى يومنا هذا..
ذلك هو المجال حيث كانت الحركة دائبة.. وما ينقص اليوم تلك الحركة نفسها.. وهي لا تتمثل في هذه المظاهر وحسب بل في أمور كثيرة تعدّ تراثية كما تعدّ ثقافة شعبية.

7 - استمرار الإنتاج المعرفي
إنّ عدم التوقف عن الإنتاج أمر في غاية الأهمية.. والحركة هنا تعني الإنتاج.. والحفاظ على الخصوصية يعني متابعة الحركة-الإنتاج ضمن المجال الحيوي نفسه.. والإنتاج الذي نعنيه مختلف الاهتمامات: إنتاج الثقافة والمعرفة والعلم والتكنولوجيا والمعلوماتية.. الإنتاج المادي والروحي الذي يعدّ استمراراً وتطوراً لما هو في الخصوصية..
إنّ الخوف والقلق ينبغي ألاّ يتوجها إلى ما تنتجه العولمة وحسب، بل إلى توقفنا نحن عن الإنتاج، وهو أمر ظاهر.. إنّ ما تقوم به الجامعات في بعض الأقطار العربية من ضخ علم ومعرفة هو نوع من التكرار والاجترار والنقل والترجمة والتمثّل بالأجنبي.. ذلك الذي وعى دور الجامعة منذ الثورة الصناعية عندما استطاعت تحويل الدور من منتج معرفي ومكان لتداول العلوم إلى منتج اجتماعي اقتصادي يضع خططه وفق الحاجات المطلوبة في الحقول المختلفة.. عند ذلك كان التجدّد في الحياة الاجتماعية والانطلاق إلى آفاق أرحب بغية الحفاظ على الكيان الاجتماعي..
وفي بلادنا نحن العرب، تعظم الحاجة إلى هذا التحوّل من وضع الاستهلاك إلى وضع الإنتاج- الاستهلاك.. وهو الحركة المطلوبة لإحياء التراث الشعبي، ضمن ثقافة شعبية ناهضة ومستمرة، وتشديد القبضة على الهوية، والسير في ركاب العصر، أمّة لها تميّزها وإسهامها في إعادة إنتاج الحياة..
عند ذلك ستتجدّد الهوّية وتتسع الخصوصية ويعود التلاحم مع التراث، وعند ذلك تتجدّد العناصر المكوّنة للمجتمع من أصول شعبية وتاريخية ودينية ونفسية وفنّية ولغوية وتراثية وتأخذ مكانها الطبيعي في الحياة كما تتجدّد الأرض بالإعمار والبناء والوسائل الجغرافية والإيكولوجية والطبوغرافية وطرق التعامل مع الطبيعة ووسائل العيش.. تتجدّد ضمن أصولها، وهي التي تعدّ ثوابت أساسية في الخصوصية تتخذ سمة الاستقرار ضمن حركة القشرة الخارجية.. وهذا التجدّد هو ما يعطي للثقافة الوطنية والقومية سماتها الرئيسة وخصائصها المميّزة لها، حيث يصبح من العسير إلغاؤها أو تغييرها..
إنّ التجدّد في الأساسيات سوف يتبعه تجدّد في ميادين الحياة الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. وتدخل في حياتنا مفردات جديدة حول الإنتاج والصناعة والمهن والتكنولوجيا والثقافة والفنون، ولا بأس أن نشترك مع الآخرين في إحداثها طالما أنّها لن تؤثّر في الجواهر والأساسيات وطالما ستكون الطريق إلى الخلق والإبداع في العلم والفن والبحث والثقافة.. وسيستفيد المستقبل من الحاضر والماضي على حدّ سواء وسيكون المستوى الرئيس الجوهري خلاّقاً غنياً بالدراسات والابتكارات التي يعوّل عليها مصير الأمّة فتعتني بما توصّل إليه العصر وتغنيه في الحقول المختلفة..
هذه الحركة في المجال العربي هي ضرورية.. الإنتاج- الحركة سوف يعزّز الهوّية والخصوصية ويجعل من التراث أكثر إضاءة ومن الثقافة عصرية منبعثة من الذات.. إلاّ أنّ الحركة في تجديد الأساسيات ستتسم بالبطء بينما ستتقدّم عناصر أخرى أكثر عصرية مستجيبة للمتطلبات.. ولا بأس أن تكون كذلك لأنّ تجديد العقل والمشاعر والأحاسيس سيتمّ ضمن الأرض والقيم والموروث والتراث والخصوصية والهوّية.. حيث الالتصاق الشديد بها وتبنّيها سيبقيان مؤشراً لديمومتها على الرغم من أنّ الخروج منها أو الحيدة عنها سيبرزان وكأنّ المجتمع تخلّى عنها ولكن في الواقع هو اعتناق لها..
إنّ الحديث عن الهوية والخصوصية، بهذا القدر من الأهمية، لن يتوافر على الصعيد العربي بغياب القرار السياسي العربي.. إنّ التراث الشعبي والهوية هي ملك الأمّة العربية.. وأي تخطيط لإعادة القبض عليهما لن ينفع ما لم يكن على مستوى أمّة لأنّه يهم كلّ الشعوب العربية.. وهذا يقتضي حلّ كثير من الإشكالات على المستوى العربي، ليس الآن مجال معالجتها، إلاّ أنّ حل مسائل مثل الديموقراطية وازدواجية المثقف والسلطة والموقف من التراث والهوّية، واللغة بالدرجة الأولى، والموقف من العلم والمعرفة ودور الجامعات والمراكز البحثية والتفكير على مستوى 14 مليون كلم2 وحلّ بعض إشكالات العلاقات بين الأنظمة وتبنّي خطة مشتركة وإعادة العمل بمنطلقات يعدّها العرب لاسيّما المسلمون الأساس في البنية الاجتماعية ألا وهو العلم والمعرفة وحماية العلماء والعارفين وإفشاء المعرفة بما يشجّع على القراءة والتزوّد بالمعرفة ودخول العالم على أساس أننا ذات مستقلة تتعامل مع الآخرين على قاعدة الاحترام المتبادل.

القسم الثالث: المنهج والإشكالية
المعايير المنهجية
إن الإشكالية التي نحن بصددها تمتد على رقعة واسعة تغطي بلاد العرب. والتعاطي معها لا يمكن أن يكون اعتباطياً، بل وفاق منهج يعتمد على مجموعة من الخطوات مستمدة من واقع الثقافة العربية.

1 - معيار الوضوح في التعاطي
مرّة أخرى لا نريد الابتعاد من التراث الشعبي نفسه، ولا من الواقع الثقافي الشعبي الذي نعيشه.. ما نريده هو الاقتراب مما نقوم به أولاً وما يدور حولنا ثانياً. إننا في زمن سريع التبدّل والتغيّر.. حيث تقوم قيم وتخفض أخرى.. وحيث تحصل الانكسارات النفسية على غير صعيد.. فينتابنا القلق، ويصبح الرنوّ مزدوجاً: إلى الماضي من جهة والمستقبل من جهة ثانية.. وفي الحالين يتملّكنا الخوف على ما لدينا من الضياع ويسودنا الارتباك في فقدان أساليب المواجهة.. لن ندّعي أن التراث الشعبي والثقافة الشعبية وحدهما اللذان سينبريان لحلّ مشكلاتنا.. إنّما هناك عوامل متعدّدة تقف في وجه تطورنا ليس أقلّها خطراً سلطان العولمة.. وعلى هذا يمكن أن يكون الوضوح في التعاطي سبيلاً من سبل الانتقال إلى حالات أفضل.. لذلك ينبغي وجود منهج يقوم على عدّة ركائز، ومنها:
ولعلّ اختيارنا للتراث الشعبي والثقافة الشعبية حصراً، لا يعني إلغاء العوامل الأخرى.. وهو ما قصدته بالوضوح في التعاطي مع التراث الشعبي.. ذلك أنّني لا أحسب منتجات القديم لقدمه هو تراث شعبي وحسب.. بل إنّ كلّ ما صنع منذ القديم إلى الزمن الراهن هو من قبيل التراث الشعبي.. إنّ الألوان الكفاحية التي قدّمت في سبيل التحرر والاستقلال هي من الإضافات المشرقة له.. وعلى ذلك فإنّ سيرة عنترة وألف ليلة وليلة والتراث الإسلامي والعربي برمّته لم يتوقف عند حدّ من الحدود، بل استمرّ يصنع التقاليد والعادات والقيم.. لا يمكننا أن نحذف من هذا التراث ثورات الفلاحين في لبنان في القرن التاسع عشر على الإقطاعيين والأجانب.. كما لا يمكننا أن نحذف كفاح إبراهيم هنانو في سوريا ضد المستعمر لرؤية سوريا حرّة مستقلّة.. ذلك كلّه نوع من الثقافة الشعبية أضيفت إلى ما سبقها وأرسلت إلى التاريخ لتكون تقاليد كفاحية منطلقة من الذات التي تكوّنت حرّة عبر التاريخ(17)..
وبهذا تكون مسألة التراث الشعبي تتخطى الشيئيات لتصل إلى المعنويات، وتركز على ما يفرح الذات وهي ماضية للحفاظ على مكوّناتها وهويتها عندما يعتدي عليها معتد..
والوضوح الذي ينبغي أن ننطلق منه يعوّل على طرح الإشكالية ومن ثمّ إيجاد المنهج لحلّها.. والإشكالية تكمن في أي تراث شعبي نريد وكيف يتمّ توظيفه؟ والمنهج هو في كيفية التعاطي مع هذه الإشكالية.. ولذلك ينبغي النظر إلى المسألة وفق المعايير التالية:

2 - معيار القدمة والمعاصرة
نتساءل أحياناً عن سبب القدمة في النظرة إلى التراث الشعبي وما يفرزه من ثقافة شعبية، فنسمه بالقصور عن مجاراة الواقع والانغلاق ضمن الزمن الذي أحدث فيه.. كما نتساءل عن المعاصرة، عن ماهيتها وفعاليتها واستجابتها لنداءات التطور الحديث.. وفي حال العرب يجري الخلط بين الإثنين عند البعض والتفريق فيما بينهما عند البعض الآخر.. وهي مسألة لم ينظر إليها موضوعياً.. ذلك أنّ المحاسبة ينبغي أن تنطلق من الذات أولاً ثمّ تعود إلى القديم ثانياً وتنظر إلى الواقع الحديث ثالثاً.. عند ذلك يمكن أن تكون المحاسبة شاملة الجميع.. إنّ من يحاول استحضار الماضي برمته إلى الحاضر كمن يقذف بالمجتمع إلى خارج الزمن.. والأمر نفسه للذي يرى في المعاصرة حلاً دائماً للمشكلات الراهنة.. وما ينبغي التركيز عليه هو جملة من المرتكزات منها:
- أيّ ماضٍ نريد؟ وماذا نريد منه؟ وما جدوى إحضاره إلى هذا الزمن؟
- أيّ ثقافة شعبية نريد؟ وأين نجدها؟ وما هي مقوّماتها؟
- هل استنفدنا العمل بمقولة التواصل بين الماضي (التراث الشعبي) والحاضر؟
- هل فهمنا معنى المعاصرة والتحديث؟
- وما هي مصائر الثقافة الشعبية في زمن العولمة الذي نعيشه؟
وفي الإجابة نجد أن جملة من الإلحاحات تفرض نفسها لدى التعاطي مع تلك الثنائية: القدمة والمعاصرة أو القديم و الحديث أو الأصالة والمعاصرة.. في مقدمة هذه الإلحاحات مسألة الإجابة عن السؤال أي ثقافة نريد؟ بالطبع الثقافة الشعبية المنفتحة على كل الآفاق والمستندة على قواعد متينة موغلة في القدم والمعدّة تتويجاً لها، الثقافة الإنسانية التي تتفاعل مع واقعها أولاً ومع العالم ثانياً والمستجيبة لحاجات التطور من الداخل ثالثاً والمندمجة مع مجموع ما أنتجه الشعب من حضارة وعلم ومعرفة وفن وأدب وتراث إجمالاً..
ومن هذه الإلحاحات اتخاذ القرار الملائم لضرورة العودة إلى هذا التراث الشعبي واستحضار المفيد منه في شبه عملية من التواصل بين المحطات المضيئة عبر السنوات الغابرة.. وقد يكون فقدان عملية التواصل هذه عاملاً رئيساً في القطع ما بين الماضي والحاضر والانصراف إلى الجديد الذي نهضمه ولا نتمخض عنه ثمراً..
ومن الإلحاحات أيضاً العودة إلى قراءة مقولة التحديث في كل شيء ضمن الأرض والقيم.. وهذا ما لم يحسم بعد إلى الزمن الراهن.. وفي هذا الصدد لا تكفي بعض مظاهر التحديث في المجتمع العربي، لاسيّما التي تسقط إسقاطاً ولا تنبع من الذات ولا تتفاعل معها.. فيتحوّل المجتمع إلى مستهلك يدمن على الأخذ ولا يحسن العطاء، بينما تعيش الثقافة الشعبية مهمّشة في الأماكن القصيّة من دائرة الاهتمام.
وعلى هذا ينبغي إعادة النظر في مسألة القدمة والمعاصرة، لا على أساس أنهما متناقضان، بل متواصلان يكمل أحدهما الآخر ويبنيان وفق منطق التطور المنشود للمجتمع.. وقد تفيد هنا قضية الحراك الثقافي، ويقصد بها “معرفة الاتجاهات المتغيرة بين طرفي المعادلة في الأصالة والمعاصرة في المجتمع ثقافياً واجتماعياً. وبمعنى آخر يدل مصطلح الحراك الثقافي على الحركة المستمرة للعناصر الثقافية القابلة للتأثر والتغيّر والتبدّل الحاصل جرّاء الاحتكاك والتلاقح مع الثقافات الأخرى”(18).
وفي إعادة النظر هذه سوف تلاحظ هذا الحضور المكثّف للتراث الشعبي وثقافته، وكأنّه جزيرة تحاط بها المعاصرة من كل جانب.. جزيرة محببة الارتياد تدغدغ العواطف والمشاعر وتثير الحنين دون أن تندمج بهذه المعاصرة..

3 - معيار الانسجام والاهتمام
لا يكفّ بعض الدارسين عن تعميق الهوّة بين الأصالة والمعاصرة أو التراث الشعبي والحديث أو موقع الثقافة الشعبية مما يجري.. إننا، شئنا أم أبينا، نتاج لمراحل سابقة تربّعت على قمّة التطور العربي أياً كان شكله.. فدراسة الشخصية العربية اليوم تظهر الكثير من وشائج القربى بين العربي وماضيه.. لا أريد أن أحصر هذا التراث الشعبي، كما قلت سابقاً في بعض المحنطات، وإنّما أريد الانطلاق إلى أجواء أرحب تستوعب تجارب الثقافة الشعبية بحيث لا تستثني تجربة دون أخرى إلاّ ما كان مفيداً لتطور المجتمع.
وعليه فإنّ القول:« إن الثقافة الشعبية تختص بالتقليدي، بالموروث مقابل الحديث والمعاصر، وتختص بالديني العفوي مقابل الكنسي السلطوي، وتختص بالشعبي مقابل النخبوي وبالهامشي مقابل الرسمي..»(19) أمر قابل للنقاش في غير تعبير من تعبيراته.. ذلك أنّ استحداث هذه الثنائيات، وهو من قبيل التوصيف لا من قبيل الدخول إلى جواهر الأشياء.. فهذا الأخير لا يُري الحقائق في هذه الهوّة من التناقض والتثنية بقدر ما يعكس الإهمال الذي لا يطال التراث الشعبي وحسب بل مجالات أخرى حياتية ليس هنا مكان الحديث عنها، ولكن أكتفي بالقول: إنّ هذا الإهمال ينال من كلّ شيء معاصر ولا يوليه أهمية ما، لكنه لا يعني أنّ إهماله أحدث فيه ثنائيات ضدّية مع الحاضر برمته.
لذلك فإنّ البحث في مسألة التراث الشعبي وثقافته، يحاول أن يجد الانسجام ويوحد المنظور ويرتب الشيئيات بما يتناسب وماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها(20).. والتراث الشعبي العربي، بالمفهوم الذي نوّهت به، لا يزال حاضراً بقوّة، وهو متواجد بكثافة في سلسلة المواقف الشعبية المتمسكة بهويتها الثقافية.. وهو ما يشهده الزمن الحالي في غير موقع من مواقع الصدام على أرض العرب، ذلك أنّ “أي مجتمع إنساني له خصوصيته (هويته) الثقافية بحكم تاريخه الاجتماعي الفريد، والذي لا يمكن أن يتكرر، فهو أشبه بالبصمة الثقافية المميّزة مثل المنطقة العربية الإسلامية على سبيل المثال وإن كانت هذه الخصوصيات الثقافية لا تنفي الواقع المشترك مع باقي المجتمعات والمناطق الحضارية بحكم أننا ننتمي جميعاً إلى الجنس البشري”(21).
وربما أفضى بنا هذا التفكير في رفض الثنائيات في معالجة مسألة إيجاد الانسجام بين التراث الشعبي والمعاصرة إلى الخروج من دائرة هذا المصطلح للقول مع د. محمد عابد الجابري:”في الخمسينات والستينات وما قبلها وهي المرحلة التي تريد العولمة ودعاتها إقصاءها وإعدامها كانت الثقافة ثقافتين: ثقافة استعمارية امبريالية وثقافة وطنية تحرّرية. أما اليوم فالتصنيف الذي يريد تكريسه الواقعون تحت تأثير أيديولوجيا العولمة هو ذلك الذي يجعل الثقافة صنفين: ثقافة الانفتاح والتجديد وثقافة الاندماج والجمود. ولو سمّوا الأشياء بأسمائها لقالوا: ثقافة التبعية والثقافة الوطنية”(22).
وتلك الثقافة الوطنية هي التي نريد أن يؤول إليها تراثنا الشعبي لأنّه مرتبط طبيعياً بقضايا الوطن، وهو سجل لما قالته الأمّة وفعلته عبر الزمن، وإيجاد الخط الموصل إلى الراهن هو من أوليات الاهتمام للوصول إلى الانسجام.

4 - المنهج والنقد
من الخطأ حسبان الباحث في الثقافة الشعبية منفصلاً عن هذا التراث، لاسيّما إذا كان عربياً.. إنّ الفصل القسري لا يجدي، كما أنّ الاستسلام إلى الدعة وحسبان أنّ حقوق التراث الشعبي قد تأمّنت محاولة لتشويه الحقائق.. إنّ المنهج الذي نريده هو المنطلق من الواقع، وهذا كفيل إذا ما نظر إليه بإمعان بالقيام بالفرز الجدّي لمجمل الوقائع(23).. ذلك أنّ وسم العرب بالتأخّر يرتكز إلى تمسّكهم بهذا الماضي دون تجديد فيه.. بالإضافة إلى عوامل أخرى متعدّدة.. يعني هذا أنّ العرب لا يزال قسم كبير منهم يعتدّ بهذا التراث ويحسبه نافعاً لزمنه.. وما نريده في هذه العجالة هو تسليط الضوء على جملة من القضايا نختار اثنتين لأهميتهما في هذا المجال:
المنهج: حيث يقتضي البحث من الداخل.. داخل المجتمع بتكويناته المختلفة، وداخل الذات وما تلبسها من خلط وتشويش، بحيث أصبحت مقسّمة بين ما لها وما عليها، بين ما هو خاص بها وما هو دخيل عليها.. لا أدّعي أنّه ينبغي الفصل القاطع بين الخاص والدخيل، بل يجب الانطلاق من منهج واضح يضع في أولويات بنوده إظهار المشرق من هذا التراث الشعبي وتمييز القابل للحياة من الذي كان شديد المحلّية وقد عفّ عليه الزمن. وبالتالي إيجاد منافذ التواصل التي كانت سبباً في استمرار هذا الماضي في الحاضر.. بعد ذلك يمكن الانطلاق إلى الآفق الأرحب في الاستفادة من الإيجابيات ووضعها في شكل انسجام مع المستجدات والإبقاء على قنوات التطور ضمن الخصوصية القابلة للاندماج مع الغير، بعيداً من الإلغاء أو الإقصاء.
النقد: ولا بد من الاعتراف أن قسماً كبيراً من تراثنا الشعبي لم يرافقه نقد يشذبه ويبقي على الأفضل فيه.. ولشدّ ما تحتاج مجتمعاتنا العربية اليوم إلى هذا النقد الذي بوساطته يمكن التعرّف إلى المفيد من سواه..
 تلازم المنهج والنقد: فالنقد والمنهج متلازمان، فلا منهج من دون نقد ولا نقد من دون منهج. وشرط هذا التلازم البقاء في داخل الثقافة الشعبية واستعارة الأدوات النقدية منها وليس من خارجها، والابتعاد من الإسقاط والتتفيه والنظريات المسبقة..

5 - بين العقلانية والانفعالية
أ- الزمن العولمي
إن طرح مسألة الثقافة الشعبية في هذا الزمن تجد خطورتها في التحوّل الكبير الذي طرأ على الإنسانية، لاسيّما في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم.
إنه زمن لم يعد يركن فيه إلى مقولات جاهزة يتناولها الناس بجمودها، بل «إنّ ما تقوم به القوى المسيطرة في المراكز الرأسمالية القومية من تفكيك وإعادة بناء العالم بمنظماته وأبنيته، وقواعد تنظيم العلاقات بين الشعوب والحكومات والمنظمات غير الحكومية، والاحتكارات العملاقة متعددة الجنسية من أجل تطبيق القواعد والنظم التي فرضتها إرادات الحكومات الغربية، والاحتكارات متعددة في الثقافة والإعلان والتسويق والبثّ الفضائي»(24) ليعدّ خطوة تهدّد ليس التراث الشعبي وحسب بل الكيانات كلّها وصولاً إلى التفتيت وإلى حدّ جعل القبيلة الأساس لإثارة الاقتتال إيذاناً بطمس الهويات والخصوصيات التي تعدّ عائقاً أمام نفاذ وسريان عالمية التفكير ونمط الاستهلاك الكوني(25).. الأمر الذي يوضح طموح العولمة إلى صوغ ثقافة كونية شاملة تغطي مختلف جوانب النشاط الإنساني..
ذلك هو الزمن الذي نتحدث فيه عن التراث الشعبي وثقافته، بما يحويه من مبادئ وقيم وسلوك عملي ومعنوي وأخلاق وأفكار لا تزال ماثلة في تركيبة الذات العربية..

ب- حقيقة الأمّة
ومن البديهي القول إننا في أمّة لها طابعها الخاص الذي يحدّد مبادئها وقيمها وتوجهاتها السلوكية أفراداً وجماعات.. كما هو بديهي القول: إن العملية الاجتماعية- الثقافية تمثل مجموع القوى والمؤسسات الاجتماعية والنشاطات الثقافية والقرارات التي تقوم بصوغ وإدارة وتوجيه الشؤون الاجتماعية والثقافية للأمم والشعوب. وتقوم تلك العملية بأداء مهامها من خلال التعامل مع التراث الحضاري وإحياء بعض جوانبه الثقافية وإهمال بعضها الآخر، والتأكيد على جوهر الموروث من القيم والمعتقدات والعادات وتطوير مسلكيات ومواقف قيمية جديدة لمواجهة التحديات الداخلية النابعة من تغيّر الظروف السياسية والاقتصادية والعلمية-التكنولوجية(26)..

ج- أزمة الثقافة العربية
كما أننا نتحدث في ظلّ أزمة ثقافية عربية لم تجد حلولاً لها حتى زمننا هذا.. ولقد مضى حين من الدهر ونحن نردد هذه المقولة التي تضع الثقافة العربية في مأزق.. وذلك يعود إلى أنّ الحياة العربية نفسها تمرّ بمأزق كبير يعود سببه للواقع العربي نفسه، في تكوينه ونظمه ومؤسساته وعقلية التعامل وعاطفية المواقف وسرعة الانقلاب على الحقائق وموقف بعض السلطات من المثقف وهذا الأخير منها والأزمات المتتالية التي تتراكم دون حلول والقلق الذي تعيشه الجماهير العربية المتأتي من قلق الحياة نفسها واضطرابها وكثرة المشكلات التي تتناولها والتكوين النفسي للأفراد والجماعات وغياب المفاهيم الصحيحة للديموقراطية والمسؤولية(27)..

د- لا بدّ من العقلانية والانفعالية
وهي مسائل لا تحلّ إلاّ بالعودة إلى الأصول التي فرضت فعاليتها في الزمن الحديث وأثبتت أنّ التطور ليس حلم كسول بل عمل دؤوب يعوّل على التخطيط والتنفيذ انطلاقاً من العلم والمعرفة واستيعاب آخر المستجدات على الصعيد الكوني.. وهو تخطيط لن يجد ثماره ما لم ينظر إلى الواقع بعقلانية.. ذلك الواقع الذي هو مزيج  مما استجدّ وما قام في المراحل السابقة في شبه نسق يستفيد من رسم هيكلية داخلية لما جرى ويجري داخل الجسم العربي وخارجه.. إنّ العقل الانفعالي الذي ينتاب التفكير هو جزء من المطلوب في معركة المصير العربية. أن ننفعل بالتراث الشعبي ونتناوله بعقلانية بعيداً من ذهنية الإلغاء قريباً من وضع الحسابات التي هي في نهاية التحليل تنفيذ لخطة تستفيد من العقل كما تستفيد من المشاعر والنقد..

6 - المقياس المنهجي لأساسيات الثقافة الشعبية والهوية
لا بد هنا من إيجاد مقياس واضح للتعامل مع الثقافة الشعبية الخاصة والأخرى العامة.. وهو المقياس الذي يقوم على جملة من المستويات لدى الحديث عن البناء الاجتماعي ودور الخاص والعام فيه.. وهو يمكن تسميته بسلّم الارتقاء للموجود وهو يحتوي على أربع درجات أو مستويات:

أ-الثقافة الشعبية الخاصة
في الدرجة الأولى من الأسفل أو قاعدة السلّم الارتقائي التطوري تأتي الثقافة الخاصة، وهي تتوغل في تاريخ تكوّن شعب من الشعوب عرقياً وعقلياً ونفسياً وتاريخياً ودينياً وفنياً، بالإضافة إلى كلّ ما ينطلق من جوهر التكوّن والبنيان في الأساس، وهو نقطة البدء ومسار النموّ في تلك القاعدة السلّمية التي تتسع أفقياً وتضيف إلى بنائها الجوهري عمودياً ضمنها وليس خارجها.. والتطور الذي يلحق هذا الجوهر هو القابل للتحوّل والتغيّر والنماء في إطار زمني تراكمي في الثقافة والحضارة والفنون والمعارف والأيديولوجيات والأعراف والتقاليد والعادات.

ب- بنية الثقافة الشعبية الخاصة
في المستوى الثاني، وهو الثابت الثاني في السلّم الارتقائي وهو يشمل البيئة الطبيعية وما جرى عليها من تبدّل وتغيّر وتحوّل، كما يشمل المؤثرات الخاصة في الشعب من مناخ وسلوك ونمط عيش واستعمال الطبيعة ضمن الابتكارات واستعمال العلوم المختلفة كعلم الآثار والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء في حدود الاكتشاف المحلّي وتفاعله في الجوهر مع الذي يقبله هذا المحلّي عبر نقلته إلى الجديد.

ج-الإبداعات والنشاطات
في المستوى الثالث يأتي النشاط والإبداع والانطلاق والإنتاج والخدمات والعلاقات الخاصة ضمن المجال الحيوي الواحد على مستوى فرد وعلى مستوى جماعة.. حيث تنشأ علاقات قسرية تلزم الفرد وهو يصنع مجاله الحيوي الخاص أن يتعامل مع الآخرين في محيطه كي يقوّي هذا المجال.. وهو في هذا مضطرٌّ إلى الاستمرار في الحياة شاء أم أبى، كما هو مضطرٌّ إلى صنع إنتاج مميّز ضمن الجماعة التي هي بحاجة إليه كما هو بحاجة إليها. كما تنشأ علاقات تلزم الجماعة على التعارف على حدود من الالتقاء فيما بينها لمصلحتها مصلحة المجتمع في الحدود المختلفة، لذلك كان القانون وكانت الشرائع والأديان عرفاً وكتابة.. ولذلك كان على المجتمع أن يحافظ على تلك العلاقة ويطوّرها. وفي النتيجة ثمّة إنتاج لخصوصية معينة يشارك فيها الجميع، هي من الشعب وإليه، حيث تصبح كالمقدّس الذي يعني خرقه خرقاً لأمن الجماعة وأصولها وأسباب معيشتها واستمرارها..

د- المظهر العام للثقافة
في المستوى الرابع يأتي العام.. وهو العنصر الأكثر حركة.. وهو المتأثر دائماً بالخارج، ومنه يستمدّ عموميته في الثقافة والحضارة والعلم والمعرفة والتكنولوجيا والمعلوماتية والسياسة والاقتصاد وتطور أساليب الحياة.. وقليلاً ما يتأثر هذا العمومي بالعادات والتقاليد الأخرى الخارجية.. وغالباً ما يقتبس تكوّنه من التطوّرات العالمية.. وهي في المراحل الأخيرة قوية ومؤثّرة إلى حدّ بعيد.. وقد يتموضع اليوم في قمّة السلّم الارتقائي لعدّة أسباب منها: البعد فيما بينه وبين قاعدة الهرم التي هي الأساس والخصوصية بسبب عوامل تكوّنه أولاً، ولأنّ القرار السياسي يبدو مشلولاً أمام المستجدات العالمية في زمن العولمة حيث يتراوح ولاء الحكام بين الأرض التي أنجبتهم وبين الوافد المغري والمؤثّر في سياساتهم ثانياً. ولأنّ المثقفين يغرقون في أزمة، بالإضافة إلى تهميشهم وقلّة فاعليتهم وشلل دورهم في الظروف العامة، فتصبح الصلة بينهم وبين القاعدة أمراً في غاية الصعوبة لعدم القدرة على ردم الهوّة الزمنية ثالثاً. وهو ما يفسّر في الذهول الكبير أمام التسارع العلمي والمعلوماتي الذي وصف بالانفجار الطاغي على ما عداه من خصوصيات ومحلّيات وتراثات وثقافات وحضارات.. حيث يرافقه ادّعاء بنهاية التاريخ والتبشير بنظام عالمي جديد أصبحت مقوّماته غير خافية على أحد لاسيّما في ثورة المعلوماتية والتحديث والعصرنة..

القسم الرابع: إشكالية الأدب الشعبي
1 - واقع الإشكالية
في ضوء ما تقدم يمكن العودة إلى موضوع التراث الشعبي والهوّية في فرع من فروعه المهمة، ألا وهو الأدب..
وفي ضوء الإشكالية نفسها، فإنّ النظرة إلى الأدب تبدو في شيء من الإرباك لناحية التصنيف والتسمية: تراث شعبي وأدب شعبي..
وهي إشكالية وقف عندها كثير من الباحثين في نطاق حديثهم عن هذا النوع من الأدب. ولقد طغت عند قسم كبير منهم وعند من يتمتّعون بموهبة شعرية وقدرة على صوغه باللهجات العامية، مسألة التفريق بين الأدب الذي كتب بالفصحى والآخر الذي كتب باللغة العامية.. فأصبحت عبارة «أدب شعبي» وكأنّها تطلق على ذلك الجزء الذي يقال بالعامية..
ولقد ولّد ذلك نوعاً من الانصراف عن هذا الأدب لدى دارسين كثر حسبوه انحطاطاً للأدب واللغة والفنّ.. ولشدّ ما قوي هذا الانصراف في مرحلة اشتداد الصراع بين الفصحى والعامية، وتصاعده إلى حدّ حسبان العامية وتبنّيها هي مؤامرة على الفصحى، اللغة المقدّسة التي تسم العرب بسمات خاصة وكانت ولا زالت عاملاً رئيساً في توحدهم، فيها يتمّ الإبداع وفي أجوائها وقواعدها يستقيم التعبير.. ولقد وجد هؤلاء مسوّغهم في الدعوات التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى مدى قسم كبير من القرن العشرين، ودعت إلى إحلال العامية محلّ الفصحى، أو إلى استبدال الحرف العربي بالآخر اللاتيني(28).. بالإضافة إلى حسبان اللغة العربية لغة ميّتة، فكيف نعبّر بالميّت عن الحيّ.. علاوة على تعدّد اللهجات العربية ووصول بعضها إلى حدّ الانغلاق في تعبيرها وألفاظها، بحيث لا تعود مفهومة من قبل شعوب عربية أخرى..
في هذا المجال ينبغي التمييز بين أمرين: الأول مسألة التآمر، والثاني مسألة الإبداع والتعبير عن الوجدان بطريقة عفوية وساذجة وقريبة من الواقع، أي البيئة التي أنتجته والشخص القادر على إبداعه والتعبير عنه..
ففي الأمر الأول وجد البعض أنّ سلطان العامية قد يقهر سلطان الفصحى لما لها من رواج لدى الأكثرية من العرب، لا تقتصر على عامة الشعب بل على المثقفين الذين يتداولونها بدورهم مع الناس وفي أوساطهم الخاصة(29).. وقد نتج عن ذلك التفكير بأنّ سواد الأمّة هم من الناطقين بالعامية، المعبرين عن أغراضهم بها، وأن فئة قليلة من الناس هم الذين يعبّرون بالفصحى عن بعض تلك الأغراض عند الكتابة بها أو النظم بها، فقد ترتب على كل هاتيك المعطيات أنّ الأدب هو الشعر والنثر الفني، هو أدب الخاصة أو أدب فئة قليلة، وأن الأدب الذي يعبّر عمّا يخالج نفوس السواد الأعظم من الأمة هو شيء آخر غير هذا الأدب الفصيح أو الرسمي(30).. ويجد هؤلاء مسوّغهم في الأمثلة التي يستقونها من واقع اللهجات العربية المتفرّقة، وما أنتجته من أنواع شعرية كالزجل والموالي والمذاهب والأدوار والملحون والنبطي والصحراوي وسواها من أنواع الأدب الشعبي(31)..
وفي الحقيقة، إن الدخول إلى هذا السجال في مسألة الصراع بين العامية والفصحى قد يخرجنا عن النطاق المرسوم لهذا البحث.. وقد كان التقدير أنّه ينبغي على الباحثين التمييز بين هذه الاتجاهات فيما يخدم الأمّة وفيما لا يخدمها في تاريخ إبداعها الطويل، بعيداً من التآمر وقريباً من مجريات الواقع، دون السقوط في المبالغات التي وقعت فيها بعض المداخلات.. ذلك أنّ المختصين في دراسة الأدب الشعبي يميّزون بين الأدب الشعبي وبين الأدب العامي. الأوّل يصدر عن وجدان الجماعة ولا يميّز بين المنشئ وبين المردّد، بل ربما حسبوا الجهل بالمؤلف أو المبدع أحد مقوّماته أو شروطه.. أما الثاني فهو لا يتميّز عن الأدب الفصيح إلاّ باللغة، فهو يعبّر عن وجدان صاحبه، ويمكن دراسته على هذا الأساس من التعبير الذاتي ودراسة المقوّمات الفنية(32)..
إلاّ أن الإمعان في هذه الإشكالية قد يفقد النوعين من هذا الأدب أصالتهما، ويضعهما في قفص الاتهام.. وهو ما نوّهت به في القسم الأول من الدراسة في المفهوم الذي تحدثتُ عنه للتراث الشعبي والثقافة الشعبية.. وهو الذي لأمّة وليس لجزء منها، لأمّة تتقبله ضمن عناصر تجمّعها وليس ابتعادها كلّ قطر على حدة.. ولا يزال الأدب العامي يعبّر عن قطر أو قرية منه أو قبيلة من قبائله.. أدب يقال لفئة ولا يقال للمجموع.. ثمّة كثيرون في العالم العربي، وحتى الدارسين منه، لا يسمعون بالشعر النبطي الذي ينشأ في بعض أقطار الخليج العربي أو شبه الجزيرة العربية.. وثمّة كثيرون من لا يفهم بعض اللهجات العربية الشديدة الخصوصية كما في المغرب العربي والجزائر وموريتانيا.. فكيف يكون ذلك كلّه معبّراً عن تراث الأمّة، لاسيّما الموحد.. وهل فقدت هذه الأمّة عناصرها المشتركة بحيث أصبحنا نطلق، حتى على أدب الفصحى، تسميات قطرية فنقول الأدب المصري أو اللبناني أو البحراني.. مع العلم أنّ هذا النوع من الأدب هو اللسان الناطق باسم الأمّة يقرأه كلّ مواطن وكأنّه كتب في داره..
الأدب العامّي يعبّر إذاً عن قطر وربما عن فئة ضيّقة فيه.. ولا بأس أن يعبّر عن وجدان صاحبه أو عن مجموعة من الناس تستعذب فنّه.. وهو في هذا جزء من تراث شعبي لفئة أو منطقة، وهو من الأمّة لكنّه ليس المعبّر عن جميعها..
أما الأدب الذي يكتب بالفصحى، ولن أجد حرجاً في تسمية قسم كبير منه “الشعبي”، فإنّه المعبّر عن جماع الأمّة.. أدب يكتبه الشعب لنفسه وتاريخه وحضارته وتراثه وقيمه وعاداته وتقاليده وأديانه وجغرافيته وأوضاعه عموماً.. تتقبله الأمّة كما تقبلته في السابق وباهت به وأعطته لسواها من الشعوب ضمن التلاقح الحضاري الإنساني.. وهو إلى الآن، لم يقصّر في تعبيره عن طموحات الأمّة وأوضاعها، فصوّرها في الحقب المختلفة، ونهض بها في بدايات النهضة العربية ورفض أن يكون عامياً ركيكاً ومبتذلاً، لأنّ ذلك لا يلائم وضع الناهضين ولا هو من اللغة المقدّسة ولا صيغ به التراث الذي مثّل هويّة الأمّة عبر القرون الطويلة..
أما ما يطلق على الأدب من أنّه رسمي أو غير رسمي (أي شعبي)، فإنّ هذه التسمية، قد تواجدت فيما عرف من أدب نشأ داخل البلاطات المختلفة أو وافق حاكماً من الحكام أو تحدّث بلسان نخبة من النخب.. فإنّه أيضاً يبقى أدباً عبّر في حقبة من الزمن عن حاجات أو واقع فرض عليه ذلك.. لكنّه أثرى الأدب القومي العربي بالكثير من فنون القول بما حملت من مضامين وما صيغت به من أشكال تعبيرية عدّت من قبيل الأدب الراقي: المتنبي مثلاً..
لذلك نرى الأدب الجمعي، المقبول من الأمّة كلّها، والمعبّر عن هويتها القومية، “ينهض دائماً بالوظيفة الجمعية التي تحافظ على تراث الجماعة من ناحية وعلى مزاياها وأمجادها من ناحية أخرى”(33).

2 -صراع البقاء والأدب الشعبي
على أنّه كان لبعض الدراسات في الأدب الشعبي العامي إسهامات تحاول أن تخرجه من نطاقه الضيّق إلى نطاق أرحب.. وهم يعوّلون في ذلك على بعض اللهجات العربية الأكثر رواجاً في العالم العربي وهي المشرقية.. لا أريد أن أفاضل في هذا المجال بين لهجة وأخرى، فالبدوية تستحوذ على القسم الأكبر من اللهجات العربية.. وإن كانت لهجات المغرب العربي أقلّ ذيوعاً وانتشاراً..
مثل ذلك محاولة الدكتور خليل أحمد خليل في كتابه:«الشعر الشعبي اللبناني: دراسة ومختارات»(34)، فعلى الرغم من تعاطفه مع النوعين من الشعر فإنّه يحاول أن يوجد بطاقة هويّة للعامي بإبراز أهميته تراثياً وشعبياً وإبداعياً.. يقول:”يطمح الشعر عند الشعب إلى أن يكون واحداً متنوّعاً مثله: إلاّ أنّه وهو يغامر بهذا الطموح البعيد، عبر الولادة التجربة-الدائمة، يتبعّض، يتنوّع، يحكى، ينشد، يكتب ويقرأ، ويسقط على الحضارة وفرعها الثقافي الاجتماعي، فيغنّى ويمسرح، ويمثّل في العادات والطقوس والحركات والثورات معاً، بكلمة أقول: إن الشعر الشعبي هو المروي- المكتوب معاً، وهو الفصيح- العامي معاً، والقديم المتجدّد معاً، وهو إلى جانب ذلك الحامل ثقافياً لطموح عام لدى الشعب الناشط في كافة الميادين، شأنه في ذلك شأن شقيقه الفصيح الذي بدأ خاصاً ثم تعمّم، وبدأ خروجاً، ثم تقنّن في شرع الثقافة وصار جزءاً من مشاريعها العامة، والذي عانى جدلية الخلق الإبداعي فكان أداة لنقل الأفصح والأقلّ فصاحة عند الشعب”(35).
يوحي هذا الاستشهاد والمطوّل بالكثير من حسنات الشعر العامّي، وهي حقيقة وواقع في قطر مثل لبنان.. ذلك أنّ الدكتور خليل يتحدّث في كتابه عن لبنان، وهو القطر الذي كان معملاً لكثير من التطورات الثقافية عبر تياراتها المختلفة.. مرّة جديدة أؤكد أن دراسة الدكتور مغرية وموضوعية في آن واحد.. وبنوايا الباحث الطيّبة أظهر جدوى الإفادة من هذا الأدب في صنع التراث اللبناني وطموحه ليكون تراثاً عربياً على مستوى أمّة..
هذا الطموح الذي يزاوج بين الفصيح والعامّي، فيجعل من الثاني لاهثاً لتحسين شروطه الإبداعية كي يلحق بالأول الذي صوّره في انحداره من الأفصح إلى الأقلّ فصاحة، يستلفت النظر ويوحي بأنّ المستقبل سيكون للعامي في معركته لتحسين شروطه..
وهو مستقبل قابل للمناقشة فيما ترسم الأمّة من طموحات نحو التقدم وليس نحو التقهقر.. وكأنّ التعاطف مع العامي أصبح ميزة يسعى إليها من يريد الكتابة والإبداع.. مع العلم أنّ هذا السعي يقف المفكر الدكتور خليل أمامه ليقدّم لوحة عن الإبداع الشعري اللبناني في شبه خلط بين العامي والفصيح، وفي شبه تسابق لإبراز التراث الشعبي، مع الاعتراف أنّه يعدّ الفصيح شعبياً أيضاً:”هذا الشعر الشعبي اللبناني هو مجمل الإبداعات الجمالية الشعرية لدى اللبنانيين بعامة، وهو متميّز عن الشعر الشعبي الآخر، المترسّم تقليداً وتراثاً، المتفصّح وزناً ولغةً، بأنّه موضع صراع ثقافي حاد، يبحث عن مستوى أدبيّ يستلّ به شرعيته، ويبحث عن لغة تعبيرية تحفظه ضمن التراث الشعبي اللبناني، ويبحث أخيراً عن مجتمع جديد يتحاور معه، ويستقبله باسم الآتي إبداعاً”(36).
الإبداع الشعبي الشعري اللبناني يشمل النوعين إذاً وربما متساويين، كما تشير الفقرة السابقة(37)، إلا أنّ العاميّ يظهر قصوره أمام الفصيح، فهو يكافح من أجل إيجاد شرعيته، ولا يزال فاقد لغة التعبير الذي تحفظه كتراث لبناني، وهو لم يجد مجتمعه الجديد الذي يتحاور معه ولم يجد آتيه (مستقبله) حتى اللحظة..
في هذا التصور عدة ملاحظات تؤكد على ما سقناه سابقاً عن ذلك الأدب الشعبي العربي الأصيل والفصيح الذي شقّ طريقه كأدب أمّة مقبول من الجميع.. من هذه الملاحظات:
أنّ هذا الأدب يعيش في الصفوف الخلفية ولم يجرؤ على التقدم أدباً يمثل أمّة وتراثاً يفهمه ويتعامل معه جميع أبنائها: هو لبناني، فكيف بالأقطار الأخرى إذاً..
وهو أدب يكافح من أجل ذاته، من أجل إبراز نفسه، وليس من أجل قضايا أخرى مرتبطة بالهويّة القومية. وهذا تجنّ على الشعر العامي نفسه لأنّه لم يكن في يوم من الأيام في النقيض لأدب الأمّة المعترف به بوجه عام.
أدب لم يجد شرعيته إلى الآن، فكيف يتمّ التحدّث عنه تراثاً شرعياً.. وهو ما يمكن أن يعكر صفو الصورة التي برز عليها هذا الأدب كونه تعبيراً وجدانياً عن حالة من الحالات التي تنتاب المرء.
إنّ المستقبل الذي ينبغي النضال من أجله هو الذي يتماشى مع طموح الأمّة، ولا أجد مسوّغاً للقول “يستقبله بالإسم الآتي إبداعاً”.. لأنّ ذلك يستتبع بسؤال: هل الآتي المبدع للأمة هو في إبداعات كل قطر على حدة أم البحث الجمعي في هذا التراث عن الأصول التي توحد والجواهر التي ينبغي أن تشكّل هذا الآتي (المستقبل).
وقد نقرأ في كتابات أخرى عن التراث الشعبي مقولات أكثر تقدّماً في فهمه ووضعه في نطاقه الصحيح.. من ذلك كتاب محمد حسن عبد المحسن الذي بعنوان “الأدب الشعبي في حلب: دراسة وتحليل”(38)، حيث نجد في مجموعة الدوافع التي دفعت الكاتب إلى الاهتمام بالتراث الشعبي الحلبي رؤية أخرى تنحو بالأدب الشعبي نحواً خاصاً ينطلق من أهمية هذا التراث في مواجهة ما يحصل على الصعيد العالمي من إلغاء للثقافات وتقزيم لجهود الشعوب وهي تبني خصوصياتها.. ويرى الكاتب: أنّ الزحف الحضاري والمدني المعاصر الذي لا يقف عند حد هو الذي دفعه إلى ضرورة إنقاذ التراث من النسيان.. فكثير من هذه المأثورات باتت تحت رحمة عالم متغيّر، والأيدي العابثة ما برحت تحرّف وتبدّل فيها.. ففي حفظها وصونها وتذكير الجيل الراهن بها وبصور الحياة الماضية التي بدأت تتلاشى لاسيّما الخلفية الثقافية الصلبة التي تنطلق منها إلى المستقبل(39).. محاولة للإبقاء على أشياء جميلة في تاريخ الأمة.
وهي مداخلة تظهر الحرص على التراث الشعبي وثقافته وتضعه في سياقه الطبيعي الذي ينبغي أن يكون فيه، في زمن غدا فيه التغيير عنوناً لكلّ شيء والاجتياح الثقافي مستنفراً على غير صعيد.. علاوة على أنّ حلب بحدّ ذاتها كانت ولا تزال مركزاً ثقافياً على المستويين الشعبي والرسمي، وأنّ ما أنتجه أدباؤها وشعراؤها يعكس المستوى البلاغي الرفيع والأسلوب الفنيّ لسكان هذه المنطقة، وهو ما يترك تأثيره في النفوس والإبداع..
إلاّ أنّ الأمر المهم في هذه الدوافع هو انطلاق المؤلف للإسهام في الحفاظ على قيم الشعب وتراثه والتعرّف إلى الصلة التي تربط الماضي بالحاضر وتربط حلب ببقية المدن السورية والمدن العربية الأخرى وتبحث عن الثقافة العربية المشتركة(40).. وهي غاية نبيلة تفصح عن الاتجاه نحو توحد الهويّة العربية عبر خصوصياتها المشتركة، وتدفع إلى البحث عن كنوز التراث الفعلية في مدينة مثل حلب كانت مدة طويلة عاصمة الثقافة العربية.. والملفت في هذه الدراسة أنّها تربط الأدب الشعبي بالتطورات الحديثة في الإصرار على دراسة الأدب الشعبي في نطاق التطور والتواصل والاستمرار، حتى تواكب التطور الحضاري التكنولوجي.. “فكلما زادت التقنية العلمية تقدّماً زادت الدراسات التراثية تألقاً”(41)..

3 - في الخصائص والدلالات
عندما نتحدث عن الأدب الشعبي يكون قصدنا نوعيه: الشعر والنثر.. ونوعيّ الشعر الشعبي الفصيح والعامي، كونهما في صميم الثقافة الشعبية التي يصنعها أناس بخصوصيتهم ومحلّياتهم وعموميتهم المنفتحة على كل جديد، وهو كثير على امتداد الوطن العربي.. والملاحظ فيه أنّه يستقي موضوعاته من الحياة نفسها في معظم ما يطرحه من قضايا ويدور حوله من دلالات تقربه من الحياة الواقعية في تناوله مضامين يشعر المجتمع أنّ الحاجة الجمالية والمعرفية تدعوه إليها.. وهو ككل الآداب ينهل من لحظات الزمن الذي يقال فيه أو يطوّر ما كان موجوداً.. وإذا كانت وسائل الإعلام والطباعة ورواج الكتابة لم تكن متوافرة فإنّ جلسات السمر وحكايا المحدّثين وما عرف بالحكائين (الحكواتية) قد كانت تعويضاً وسائلياً لإيصال الحقائق إلى الناس.. وهو ما كان يعطيها الحيويّة والاستجابة والرواج.. علاوة على كونها تمثّل جانباً من جوانب الحياة وإن جاءت مجهولة المؤلف على الأغلب، تنقل حكاية أو خرافة أو سيرة أو مثلاً أو حكمة أو نادرة أو مقطوعة شعرية أو قصيدة طويلة وسوى ذلك من الفنون الأدبية التي كانت رائجة في عصر من العصور..
وأبرز الخصائص التي تلاحظ في هذا الأدب واقعيته والتزامه بموضوعات تهمّ الناس يعرضها بحيوية فائقة تتجسّد بالحادثة واللغة والجديد الذي يحمله ناقلاً جوانب الحياة كلّها بما فيها من مظاهر.. لذلك قابليته على الرواج والديمومة وتجدّده وقدرته على كسب المزيد من الأصدقاء، كلّ يتفاعل مع جانب ويرى نفسه أو شيئاً من ماضيه وبطولاته وأمجاده معروضة شفاهاً أو كتابةً أمامه وكأنّه يغرف من منهل ثرٍ دائم الرفد بدوام وجود الإنسان الذي أجاد الحديث عنه وصوّره في مختلف أوضاعه، لاسيّما ذلك الذي يغدو أنموذجاً بطولياً أو تاريخياً أو اجتماعياً.. ينبثق من بيئة معينة حاملاً سماتها ومميّزاتها المادية والمعنوية.. فهو بذلك يحمل من السمات العامة ما يحمله الأدب عموماً في غوصه في أسرار المجتمع ونوازعه واهتماماته وميوله ورغباته مادة وقيماً.. ولا يقتصر على ذلك بل يستعير من الشعوب بعض ما هو قابل للحياة في بيئة هذا الأدب نفسها..
ويمكن لمتتبع آثار هذا الأدب الشعبي، أن يلمس الجوانب العديدة المكوّنة للشخصية في سياق إيجاد الخصوصية لشعب من الشعوب، وبالتالي رصد المعالم التي تشكّل هويّته على غير صعيد، لاسيّما الاجتماعية والثقافية والمعرفية والسياسية..

4 - الاهتمامات
ومن خلال رصد نماذج من هذا الأدب سواء أكان شعراً أم نثراً يمكن استخراج جملة من الاهتمامات التي يدور حولها.. فنحن أمام كمّ هائل من هذه النماذج، سواء أكانت بالفصحى أم بالعامية، ونحن أمام تصوير للاهتمامات الثقافية والأخرى الحضارية والسياسية والاجتماعية.. كما نحن أمام رسم للنطاق القومي الذي يتجلى فيه عامل الشعب والأرض واللغة والتاريخ المشترك والوحدة الشعبية.. تجدها في ثنايا هذه المأثورات من أنواع أدبية فنّية مختلفة.. كما نحن أمام آثار تفوح منها السمات الإنسانية التي تعدّ وثيقة أساسية تصوّر الهمّ العام للناس في كل مكان.. وهو ما جعل آثاراً مثل «البخلاء» للجاحظ و«كليلة ودمنة» لابن المقفع، و«ألف ليلة وليلة» و«سيف بن ذي يزن» و«الزير سالم» وسيرة «بني هلال» و«عنترة»... والحكايا الأخرى الخاصة تصبح في بواطن كتب الآداب العالمية: نسخاً أو احتذاء أو تقليداً أو تحويراً أو مادة مطوّرة تتحدث عن جانب من جوانب الحياة..
ويكاد يشترك في هذا الرأي كثير من الباحثين في الأدب الشعبي، لاسيّما عندما يحسبون هذا الأدب نوعاً من تصوير حالة الأمة في أدق مراحل تطورها، وتصديها لأعدائها، وانتقالها من وضع إلى آخر.. وهو ما يستهل به شوقي عبد الحكيم كتابه:“السير والملاحم الشعبية العربية”(42)، قائلاً: “الاعتداءات والأخطار الطامعة والمتربصة بأمتنا العربية تاريخياً كانت على الدوام القاسم الرئيسي لمعظم تركتنا الشعبية الفولكلورية العربية، من السير والملاحم والقصص الشعرية المعروفة بالبالادا أو البالاده كما أسماها الكلاسيكيون العرب”(43).
ويمضي شوقي عبد الحكيم في تعداد هذه المظاهر القومية التي وقفها العرب ضدّ أعدائهم ودفاعاً عن نفوسهم، قبل الإسلام وبعده.. ويظهر بجلاء هذا العامل القومي الذي أدّى إلى تجمّع العرب في القديم في حروبهم ضد الفرس والرومان والبيزنطيين، وكيف أن سيرة الأميرة الفلسطينية “ذات الهمّة” التي يصل حجمها إلى ست وعشرين ألف صفحة تحكي بتفصيل وبدقة تاريخ هذه المنطقة (سوريا)(44)..
وهو ما يفصّله تحت عنوان:“القسمات القومية المشتركة لسيرنا وملاحمنا”(45)، راصداً فواصل تاريخية معينة تجلّت في الحروب والهجرات الجماعية المتتالية وردّ الاعتداءات المتكررة على أرض العرب، وأحوال العرب في استقرارهم وتنقلهم، ومواقفهم من الحياة عموماً نشاطاً وسلوكاً وقيماً وأدياناً واجتماعاً وسياسة وثقافة ومأثورات شعرية ونثرية.. الأمر الذي يسجّل هذا التاريخ العربي، ويحفظه ويظهر تراثه جلياً فيه رائحة الأرض ومعاناة الناس وفرحهم وتعايشهم وانطلاقهم في إبداع الجديد ضمن ثقافة شعبية نامية ومتطورة..
أما الدكتورة نبيلة إبراهيم، فإنها تستفيد في معالجتها للقصص الشعبي من المناهج الحديثة الباحثة في التراث الشعبي عموماً، لاسيّما كتاب:“مورفولوجية الحكايات الخرافية” لـ “بروب”.. ولفرط إعجابها بالأدب الشعبي تستنتج: “أن الأدب الشعبي ليس مجرّد تعبير يحتفظ به الشعب لنفسه، بل هو صرخة عالية تدعونا إلى أن نستمع إليها، وأن نتفهمها وأن نتعاطف معها، فإذا فعلنا ذلك أمكننا أن ندّعي أننا نصنع بقدراتنا العلمية شيئاً إيجابياً يسهم في الكشف عن نفسية الشعب وما يختلج بها من آلام وآمال”(46).

5 - الأهداف
ولا ريب في أنّ التراث الشعبي، بما يتضمنه من سمات له أهدافه الواضحة.. وقد تبيّن لنا مما تقدّم جزء يسير من هذه الأهداف..
وإذا حسبنا أنّ الأدب الشعبي يأتي للتعبير عن حاجة جمالية معينة أو سدّ نقص في سياق التطور الفنيّ للموروث، فإنّ الأهداف بهذا المعنى لا تنفصل عن الواقع الذي أبدعه، تراثاً ثقافياً شعبياً ينشد إرضاء الشعب فيعيش في وقائعه، وفنّاً يريد لنفسه الحياة فهو مضطر إلى أن يكون واقعياً في نماذجه وأبطاله وموضوعاته وعلاقاته، عموماً بالوسط الذي أنشأه.. لذلك كانت جوانب الحياة المختلفة تهمّ الناس، ولذلك كانت تترسم في هذا التراث الثقافي..
وهي أهداف ركّزت على الجانب الأخلاقي الواقعي: في إبراز حسناته ومساوئه، وهي هنا تنطلق من البوتقة القيمية للمجتمع التي هي نتاج آلاف السنين مضافاً إليها كل طارق وجديد.

وربما كانت هذه الأهداف في أبرز صورها تتجلى في عكس صورة الواقع الاجتماعي بكل ما يمور بالحياة عبر العلاقات الاجتماعية وأوضاع الناس وفئاتهم وطبقاتهم ومشاغلهم وهمومهم.. وصولاً إلى أسوء، حيث “لا يعيش الإنسان الشعبي منشغلاً بمشكلاته الخاصة أو بمشكلات جماعته فحسب، بل إن أحداث الحياة التي تجري خارج بيئته المحدودة تشغله كذلك إلى حدّ كبير، وحيث أنّ الأدب الشعبي لا ينسب إلى مؤلف بعينه، فإنّه لهذا السبب يتسم بالصراحة والصدق والحرية في التعبير عن مشكلات الحياة التي يعيشها الناس”(47).. لذلك كان المجتمع المحلّي ينتج أبطالاً من صلبه، من داخل عملياته الخاصة، فكان هؤلاء الأبطال: إمّا مميّزين بالقوّة المزدوجة: الجسدية والعقلية أو من الشيوخ والشجعان والمدافعين عن الحقوق إجمالاً..
وربما لجأت الحكايا الشعبية إلى الغيب تستلهمه حلّ المشكلات التي تبرز لديها.. وهو جانب مهم في حياة العربي، يؤكده في نشاطه ويعود إليه دائماً ويعتمد عليه في حلّ مشكلاته.. لذلك كان اعتقاده مصوباً نحو الأعمال الخيّرة التي تدوم ويكافأ عليها.. ومن هذا المأثور الغيبي ما يتعرّض لبعض المعتقدات الشعبية في مسائل مثل الأولياء والأرواح والجنّ وانقسامهم إلى خيّرين وشرّيرين وتأثيرهم في الإنسان وتحكّمهم أحياناً به..
وهي منها ما يدخل في المعتقد الديني أساساً وما هو من خلق الشعب على مرّ الزمن، حيث يصل الخيال به إلى حدّ الخرافة والأسطورة التي ليست من الدين في شيء.. وهي مدخلات بعيدة التصديق وغالباً ما ترافق نوعاً معيناً من الشعوب التي لم يسد فيها الوعي إلى زمن وضع متخيلها هذا..
ولا تخلو المأثورات الشعبية من روح الدعابة وخلق أجواء المرح، وهو ما عرف بالجوانب الهزلية في التراث الشعبي للترويح عن النفس والانصراف عن الجدّي إلى ما يدخل البهجة في النفوس.. وهو غالباً ما ينحو مناحي مختلفة أبرزها: إيجاد الهزل من أجل الهزل، أو تغطية أمر من الأمور الجدّية التي لا يستطاع تأديتها بشكل مباشر خوفاً من سلطان جائر أو ابتعاداً عن الأذيّة لشخص مضحك تقال عنه الدعابات بطريقة غير مباشرة..

6 - الاهتمام بالأدب الشعبي
وهذه الجوانب كلّها هي التي حفزت الناس إلى الاهتمام بالأدب الشعبي وجعلت هذا الأدب «يحتفظ بنكهته رغم زوال الأسباب التي اقتضت ظهوره ولازمته، حيث لا يزال قسم كبير منه موضع إقبال القرّاء عليه والاستمتاع به، وموضع التفات الأدباء والفنانين: معاودة الأصل واقتباساً منه أو استلهاماً لبناء جديد يقوم عليه»(48).
ليس هذا فحسب فوراء الأدب أمور لا يستطيع أن يقولها الإنسان كتابة أو شفاهاً، وإنما ينحصر قولها في مجال الشفاه أكثر.. لذلك كانت الحكايا الشعبية تميل إلى المشافهة.. وكما في الشعر كذلك في النثر يستطيع الراوي أن يبدع وهو يروي، أن يضيف كلّ مرّة ما يراه ضرورياً، وقد يضيف ما يضير السلطان خفية وسط أناس يثق بهم، أو يضيف مواقف معينة إلى أبطال السير يراها مناسبة لوضع الأمّة.. هكذا كان في “سيرة عنترة” وسواها من السير، حيث يجد الراوي أجواء من الحرية لا تتوافر في ظروف أخرى، وكلّما كانت إضافته صادقة كان يقترب من الشعور الجمعي والتعبير عن الخصوصية والكشف عن الهويّة الحقيقية لقومه ببساطتها وقرب متناولها وصدقها.
وهذا ما لا يتوافر للكاتب في أيّ زمن.. لاسيّما إذا عرفنا أنّ معظم الأدب الشعبي يصدر عن شخصية موهوبة أو جماعة على قدر واف من الوعي، بحيث يصبح هذا الأدب قادراً على السفر عبر الزمن واختراق الحدود إلى الأمم الأخرى. وبهذا يكون الأدب الشعبي “مرآة الماضي وصورة التاريخ كما فهمه الشعب أو كما أريد له أن يفهمه، تتمازج فيه الحقيقة والوهم، والواقع والخيال والعلم والسحر والغيبيات”(49).

القسم الخامس: الثقافة الشعبية والتجديد
وهذا الاهتمام بالتراث تجلّى في إعادة إحيائه على غير صعيد ابتداء من النهضة، وقد ركّزت الاتجاهات الكبرى على إحياء الخصوصية في هذا الأثر أو ذاك.. ولا ريب في أنّ الأديب رئيف خوري كان من أبرز العاملين في هذا النوع من الثقافة الشعبية، إذ إنّه حاول التجديد وتقديم النصوص التراثية في قوالب فنّية جديدة أبرزها القصصية.. فهو علاوة على إبرازه بعض الشخصيات الأدبية العربية مثل امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وديك الجنّ... فقد أعاد كتابة بعض حكايا التراث الشعبي مثل “مجوسي في الجنّة” التي التقط فيها الخوري بعض الحكايا وصاغها بما يناسب الواقع، لاسيّما عندما كان في فلسطين يكافح ضد الصهيونية في العام 1936، ومثلها “ثورة بيدبا” التي تدور حوادثها حول قضية الشعب الفلسطيني ومؤامرة الإنكليز والصهاينة على فلسطين.. و “مع العرب في التاريخ والأسطورة” حيث يعيد صوغ بعض الحوادث التراثية العربية القديمة بأسلوب قصصي فنّي فكري في آن، عماده فيه قوله:“النظر إلى الوراء جزء من النظر إلى أمام”، و“صحون ملوّنة”، وهي قصص من التراث يستفيد منها القارئ في إذكاء روحه الكفاحية وإثبات هويّته القومية(50).. منطلقاً من القيم المتعارف بها المشتقة من فاعلية الشعب:“إنّ هذه القيم بالنسبة للأديب العربي هي النابعة من الرسالة القومية العربية التحررية، القيم المشتقة من الطموح الشعبي الأصيل إلى العدل والحرية، وإلى الخير والجمال، إلى الحق والسعادة”(51).
وهو في ذلك كلّه يدعو أن يكون الأدب مستمداً من الواقع الشعبي، ومن مشروع الثقافة الشعبية-الوطنية التي تستمد مرجعيتها من “وحدة الشعب والتاريخ وتبتعد من المراجع الذاتية المنغلقة”(52). وكان ديدنه في ذلك قوله:“ينبغي على المثقفين أن ينزلوا إلى الشعب فيعلّموه ويتعلموا منه”(53).. إلى غير ذلك من الآراء والمواقف التي استمدها من التراث العربي مثل تصويره انتصار الضعفاء في قصة النبي صالح (عليه السلام) وثمود. بينما عنترة في السيرة يمثل في نظره قضية السود المضطهدين الذين يحاولون أن يتخلصوا من العبودية والفقر(54). وكما هو الأمر في قصة العبد الزنجي الذي فاق كرمه كرم معن بن زائدة(55)..
وغيرها من الإحياءات التي وضعها رئيف خوري في أحضان العصر وبين أيدي أحفاد التراث الأدبي العربي لينهلوا منها الحكمة والأصالة والقيم والعادات والمواقف القومية، ويتشبثوا بخصوصيتهم ويبرزوا معالم هويّتهم على حقيقتها متمثلة بهذا التراث الهائل على غرار ما فعلت الأمم الأخرى في حكاياها وملاحمها وشعرها. “إنّ السير البطولية الشعبية، كما يقول هاوزر على لسان أندرياس هويسلر، تنتقل أولاً بطريقة مجهولة المصدر من فم إلى فم بوصفها سيراً بطولية شعبية.. وهي تبدأ بوصفها أنشودة أو قصيدة، وتعاد روايتها وتضاف إليها عناصر جديدة بهذا الوصف.. تحلّ محلّ الصيغة الأصلية الأقصر منها، ولكنها لا تختلف عنها اختلافاً أساسياً”(56).
وهي الطريقة نفسها التي ينهجها الأدب الفلسطيني المعاصر في إثبات الشخصية الفلسطينية الضاربة في أعماق التاريخ، والمتوحدة مع الأصول العربية العامة.. ولقد دأب الشاعر توفيق زياد على هذا النهج وكان ديدنه إحياء التراث الشعبي في مجمل أعماله الشعرية(57)..
وهو توظيف للتراث الشعبي، أو قل هو عامل قوي من عوامل الصمود والتصدي والتمسّك بالأرض والهويّة والخصوصية العربية.. وهو ما ذهب إليه الدكتور حسين مروّة عندما دعا إلى استخراج السمات الشعبية الوطنية في التراث الأدبي العربي من خلال نظرة علمية تحليلية تقيم وزناً للذي يجب أن يحيا ويمدّ الحاضر بالطاقة الثقافية التغييرية، لاسيّما البطولة والقيم والعلم والمعرفة والمظاهر الموحدة لمجموع الأمّة(58).. فبهذا التراكم المكشوف عنه في التراث يستمد الحاضر ألقه من الماضي في ضوء الخصوصية والهوية.

الخاتمة :
 استنتاج واقتراح
في الأقسام الأربعة من هذا البحث: التراث الشعبي والهوية وعلاقتهما والأدب الشعبي وأنموذجه، والتي جاءت لتعرض إشكالية الحياة والتراث، تبين أن العلاقة بينها جميعها تقارب التوحد لتعطي الأمة مساراً خاصاً في بناء مجتمعها على أسس منطلقة من واقع التطور والتاريخ والحاضر والصيرورة.. وهو بناء متغير في زمن متغيّر، والتغيّر لا يكون من الخارج بل من الداخل.. ذلك حال الأمة العربية في عصر الإرباك وفقدان المنهج في النظرة إلى مجمل ما تعانيه من مشكلات وقضايا تأتي مشكلة الأصالة والمعاصرة في طليعتها..
وقد تبيّن أن التراث الشعبي والثقافة لدى شعب من الشعوب أمران متلازمان، فإذا كانت الثقافة “هي كل ما أنتجه البشر من أفكار وتصورات وعادات ونظم اجتماعية وسياسية ومدلولات اقتصادية وفعاليات أدبية وفنية وثقافية عبر التاريخ”(59) فإن الثقافة الشعبية بالتالي التراث الشعبي الجزء الأهم منها لأنها المنبع الصحيح للقيم الثقافية فيها تتجمع الخبرات الإبداعية والاجتهادات الشديدة المحلية المنطلقة إلى العموم بفضل ما تحويه من إثراءات للعقل والوجدان والسلوك لمجموع المنتجين والذين يرثونهم مع إضافة المستجدات.. وهي ثقافة أنتجت الأمور التي ارتضاها الناس جماعياً، وهي انفتاحية وانسانية ومتفاعلة مع الإنتاج الانساني للثقافة، على أساس أن الإنسان ينتج خيره وقلما ينتج الشر لأن هذا الأخير يبقى حالة خاصة لا يمتد تأثيرها كثيراً.. وهو ما تواجهه الثقافة العربية، من ضمن ما تواجهه في المدة الأخيرة من تاريخها وتاريخ العالم.. تواجه ثقافة كونية هائلة تدخل في جميع الميادين ولديها القوة اللازمة للاختراق من إعلام واقتصاد ومال واحتكارات على غير صعيد، مع أنها تحتفظ بالكثير من الوجوه المعرفية والعلمية والتقنية التي فرضت نفسها على التطور الإنساني وغدت من مكونات التقدم(60)..وهذا يقتضي كما يذهب الدكتور سمير أمين العمل على التفاعل مع هذه العولمة المستجدة، لأن التحرر من التبعية-الهيمنة يتم من خلال العمل على تغيير قواعد اللعبة داخل نظام العولمة لا التصدي الشامل لها وانتظار انهيارها القادم(61)..
أمام هذا الواقع تطرح مسألة التراث الشعبي والهوية في الزمن الحاضر.. وهو ما كان مدار بحثنا في الصفحات السابقة، وكان السؤال الذي حاولنا الإجابة عنه: التراث الشعبي والهوية: إهمال أم تبعية؟ يلقى من الأهمية بحيث يقتضي:
أولاً: الاعتماد على منهج واضح في التعامل مع الموروث الشعبي، دراسته بإمعان وإحياء ما ينبغي إحياؤه ضمن تواصل يرصد حركته التاريخية يستظهر عناصره بما فيها من خصوصية تتلاءم مع المعاصرة بهدف التفاعل والتطوير والانفتاح وتسنم المكان الطبيعي في سياق النظام الكوني الجديد.
ثانياً: هذا المنهج يجب أن يرافقه النقد البناء لهذا التراث الشعبي بغية إيجاد الانسجام في الجوهر والشكل وتلاؤمها مع حركة الزمن بحالاته الثلاث ووضعها في مكانها الطبيعي من الملاءمة.
ثالثاً: إن حالة القلق والتردد وعدم الاستقرار.. وغيرها من الأوضاع المضطربة التي يعيشها الوطن العربي تخلق إرباكاً في التحديدات الضرورية لبعض الأمور الخصوصية لدى العرب، ومنها موضوع الهوية.. وفي هذا المجال يمكن القول: إن التراث الشعبي الواضح يخلق هوية واضحة والعكس صحيح.. فإذا كانت جملة من الإرباكات تسود النظام العربي الحالي، فهذا ينعكس حتماً على معظم الأمور الأخرى: هناك إرباك في تحديد جملة من الأمور التي تحدد الهوية الحالية والتي هي استمرار للهوية العربية المشكلة عبر الزمن في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والتعاطي مع موضوع العولمة... أعني أنّ تواصل الهوية العربية الحالية  مع الهوية الأساس يسوده الخلل في غير مجال. فالهوية تعني تجدّد الحياة في آفاق وطنية وقومية وإنسانية، وتعني التواصل في جوهر هذه الهوية ليتميز عن الغير وتعني الاستجابة للمتطلبات الحديثة والسرعة في إنجازها كي لا تضيع ويضيع معها المجتمع..وهذه السمة اليوم هي الغالبة في النظام العربي، وهو الأمر الذي يجعلنا نقول أصبحت مشكلة الهوية في العالم العربي مصدر قلق وانفصام في الشخصية العربية دون إيجاد مخرج لها، يؤمّن استقرار المجتمعات وتضامن الأقطار، ويؤمن بالتالي احترام النظام الدولي للكيان العربي ومصالحه المشروعة.
رابعاً: ينبغي النظر إلى أوضاعنا الراهنة التي يرين عليها الإهمال والتقصير وعدم الجدية في شؤون كثيرة.. وهو أمر أثر ويؤثر في موضوع التراث عموماً والشعبي خصوصاً والهوية تأكيداً.. وهو إهمال ناتج عن عدم الاستجابة للتطورات الحديثة وعن عدم تفعيل المؤسسات العربية المشتركة وتجديدها وسيادة القطرية وانغماس هذه الأخيرة في مشكلات عديدة.. علاوة على وضع الثقافة العربية التي وضعت نفسها في مأزق متأتٍ عن الأوضاع العربية نفسها..
خامساً: ضرورة تجديد التعاطي العربي في كل شيء لاسيما تجديد العقل وإشاعة المعرفة وحماية العلماء وحثهم على الإنتاج.. والحفاظ على اللغة العربية وجعلها في المركز من الاهتمام وهذا التجديد لا يأتي أكله إلا ضمن الأرض والقيم والموروث كله.. وفي ذلك إنجاح لمشروع الهوية وليس إخفاقها، ورفع لوتيرة العمل القومي وليس حصاره وتقزيمه.. وحل إشكالية الديمقراطية والارتفاع بمستوى الخطاب العربي عموماً في جميع المجالات لا سيما الثقافية والانتهاء من مسألة الهجنة والازدواج في الثقافة والممارسة والسلوك والتبعية والاقتراب من المفاهيم العصرية لتقويم التجارب والانطلاق إلى الجديد في الحياة الكلية العربية وليس المجزءة.
سادساً: الاهتمام بالتعليم العالي وتفعيل دوره ونقله من حيث تلقي المعرفة فقط إلى حيز الإنتاج والاستثمار وتوسيعه بما يخلق قاعدة معرفية تشكل البنية الثقافية للمجتمع ضمن تنوع الاختصاصات.
سابعاً: إعادة النظر في النظام الإعلامي العربي مجموعاً ومنفرداً لما للإعلام من دور خطير في هذا الزمن يسهم إلى حدّ كبير في بث المعرفة، حيث يبرز في سمائنا الإعلامية عدة أنواع من الإعلام المحلي (الشديد المحلية والفئوية) والقطري والعربي العام والعولمي، وهو الأكثر تأثيراً وفيه مكمن الخطورة.
ثامناً: يمثّل الأدب الشعبي العنصر الأكثر أهمية في دائرة التعاطي التراثي وحفظ الهوية.. ذلك أنّه يختزن عناصر مهمة من تكوينات الشخصية العربية تتركّز فيه جملة من الإبداعات الخصوصية للشعب وهو يجمع “العراقة والواقعية والجماعية والتداخل مع فروع المعارف والفنون الشعبية الأخرى”(62).. فيه يكمن التواصل والقدرة على الحياة والاستمرار في الإشعاع وإمداد الفئات الشعبية بالمزيد من الصور الخلاّقة.. وفيه مرآة الأمّة في التعبير عن هويّتها القومية والإنسانية، يختزن حضارتها وثقافتها وأساليب حياتها العامة ويحتفظ بحرارة لغتها وحيويتها ويعكس مجالات تعاطيها وتميّزها عن الغير إيجاباً وسلباً وتقدماً وتخلفاً ويعبّر عن أذواقها على مختلف مستوياتها وعن حكمها وأمثالها وتجاربها في الفرح والحزن وعن مواقفها في ساحات الكفاح والدفاع عن القيم، وهو ديوان الغناء والفروسية والجدّ والهزل والواقع والخرافة، وفيه التعبير عن كوامن النفس في عبادتها وانحرافها وفيه الصورة الدينية المتغلغلة في ثنايا المجتمع والمتأصلة فيه، وفيه من النزوع الوطني والقومي والإنساني والعلمي والمعرفي الشيء الكثير.. وهو الطريق الممهدة للقاء العربي الموحد..
لذلك ينبغي الاتفاق على منهج لدراسة هذا الأدب، منهج يساعد على جمعه وتصنيفه ودراسته بحسب اتجاهاته ويستخلص خصائصه ويخرجها إلى النور، فينهي بذلك الإشكالية القائمة حوله من حيث علاقته بالعامي والفصيح، أي إيجاد تحديد واضح له وإبعاد شبح العامّية المتقصّدة إلى التآمر على اللغة العربية وتقريب مصابيح النور إلى تلك العامية العفوية البسيطة ببساطة الشعب وابتعاده من النوايا التي درج عليها البعض لإضعاف العربية الفصحى والقضاء عليها بحجج  مختلفة.
ينبغي النظر إلى هذا الأدب الشعبي على أنّه بداية طفولية لشعب من الشعوب، هو تعبير عن مرحلة لا بدّ من حضورها الدائم كي نعرف البدايات الحضارية والثقافية وإن شئنا النهايات أو المحطات الأخيرة..
إشكالية التراث الشعبي والهوية إذاً تسكن في الوجدان ولا تكاد تفارقه. هي من الحياة وإليها، وفقدانها يعني فقدان الحياة.. والأمّة العربية أحوج ما تكون في هذه الظروف الخطيرة من تاريخها وتاريخ العالم بحلّ هذه الإشكالية والتمسّك بتراثها وهويتها التي تميّزها في عالم يضجّ بالسمات الجديدة ويزدحم بالمتغيّرات التي تدخل في صميم الحياة.. والأمة القادرة هي التي تمتشق سلاحها الحقيقي، سلاح خصوصيتها وهويتها، وهو أمضى سلاح في عصرنا الراهن من أجل الانطلاق إلى إعادة المجد لأمّة ما عرفت إلاّ أن تعيش في القمم وتمنح العالم من خيرها ما لم يزل على مرّ الزمن.

الهوامش

1 - راجع مقال الدكتور وليد غلمية: التراث والثقافة الشعبية، ص43، ضمن المؤتمر الأول للثقافة الشعبية في لبنان: الثقافة الشعبية من مقوّمات الشعب والوطن، حلقة الحوار الثقافي، بتاريخ 9-11/12/1993، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1999.
2 - المرجع نفسه، المقال لفرحان صالح، ص13.
3 - الاعترافات، عبد الرحمن شكري، ص5-6، الإسكندرية 1916.
4 - من مقدمة العقاد لديوان المازني، ج1، ص ك وما بعدها، القاهرة 1921.
5 - ملحق السياسة الأسبوعي، عبد الوهاب عزّام، عدد خاص بمؤتمر الطلبة الشرقيين، تشرين الأول، 1932.
6 - في لقاء أجراه معه الأستاذ فرحان صالح بتاريخ 9/12/1993، نشرت ضمن موضوعات المؤتمر الأول للثقافة الشعبية الذي عقد في بيروت.
7 - من توصيات مؤتمر اليونسكو العام المنعقد في المكسيك سنة 1982.
8 - الفكر العربي بين الخصوصية والكونية، محمود أمين العالم، ص15، دار المستقبل العربي، بيروت 1998.
9 - الهوية السودانية عبر التاريخ، بروفيسور أحمد ابراهيم دياب، ص57، منشورات جامعة أم درمان الإسلامية، معهد بحوث ودراسات العالم الإسلامي، دوريات المعهد، دورية رقم 3، السودان، حزيران 2002.
10 - في ندوة بعنوان :»مستقبل الثقافة العربية»، عقدت في القاهرة عام 1997.
11 - أثر العولمة في الثقافة العربية، د. حسن عبد الله العايد، ص115، دار النهضة العربية، بيروت، 2004.
12 - الهوية الحضارية، د. محمد عمارة، مجلة «رسالة الجهاد»، عدد 65، السنة 6، نيسان 1988، ص37.
13 - دور التعليم في تأكيد الأصالة الثقافية الأفريقية، د. عمر التومي الشيباني، ص 20-25، سبها، ليبيا، 1988.
14 - أفول الثقافة، إبراهيم بدران، ص 118، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2002.
15 - المرجع نفسه، ص119.
16 - مخاطر الهيمنة الثقافية، د. سالم المعوش، ص64.
17 - راجع في هذا المجال كتاب:»التحليل النفسي للذات العربية» للدكتور علي زيعور، دار الطليعة، بيروت 1978.
18 - المجتمع الأردني ما بعد العولمة، د. حسن عبد الله العايد، ص75، دار وائل للنشر والتوزيع، عمان،2002.
19 - معاصرة في سجن المقاربة الأنثربولوجية، أديب نعمة، ص48، ضمن كتاب «المؤتمر الأول للثقافة الشعبية في لبنان»، المنعقد بتاريخ 9-11/12/1993، في بيروت.
20 - التوظيف ومستقبل التراث الشعبي، د. صبري مسلم، ص243، ضمن كتاب أبحاث في التراث الشعبين دار الحرية للطباعة، 1986.
21 - الزمن العربي والمستقبل العالمي، السيد يسين، ص67، دار المستقبل العربي، القاهرة، 1998.
22 - قضايا في الفكر المعاصر، د. محمد عابد الجابري: العولمة، ص144، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988.
23 - قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية، د. نبيلة إبراهيم، ص9 وما بعدها، دار العودة، بيروت 1974.
24 - العولمة تفاعلات وتناقضات التحديات الدولية، د. أحمد ثابت، ص25، مركز البحوث والدراسات السياسية، جامعة القاهرة، 1998.
25 - العولمة ودورها في تهميش النظام الإقليمي العربي، د. منعم العمارة، مجلة قضايا استراتيجية، العدد2، بتاريخ 8/6/2000، ص18.
26 - صنع المستقبل العربي، د. محمد عبد العزيز ربيع، ص48، مؤسسة بحسون الثقافية، بيروت، 2000.
27 - راجع في هذا المجال كتاب: مخاطر الهيمنة الثقافية: ثقافة القوة أم قوة الثقافة، د. سالم المعوش، ص90، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت 2003.
28 - وهو الاقتراح الذي قدّمه عبد العزيز فهمي إلى مؤتمر اللغويين في مجمع اللغة العربية في مصر بتاريخ 24 يناير 1944، وهو الاقتراح الذي تبنّاه سعيد عقل في لبنان.
29 - أدبنا القومي، مجموعة مقالات نشرت في مجلة «الباحث»، مجلة المجتمع العلمي العربي بدمشق، المجلد 11، العام 1931، ص87.
30 - الأدب الشعبي، أحمد رشدي صالح، ص31، مكتبة النهضة 1981- وانظر «الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث»، ج2، د. محمد الكتاني، ص694، دار الثقافة ، الدار البيضاء 1982.
31 - المرجع نفسه، ص694.
32 - دفاع عن الفولكلور، عبد الحميد يونس، ص104، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973.
33 - دفاع عن الفولكلور، عبد الحميد يونس، ص111.
34 - صدر عن دار الطليعة، بيروت، من دون تاريخ طبع.
35 - الشعر الشعبي اللبناني، د. خليل أحمد خليل، ص5.
36 - الشعر الشعبي اللبناني، د. خليل أحمد خليل، ص6.
37 - المرجع نفسه، ص6.
38 - منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 1994.
39 - المرجع نفسه، ص9.
40 - المرجع نفسه، ص10.
41 - المرجع نفسه، ص16.
42 - صدر الكتاب عن دار الحداثة، بيروت 1984.
43 - المرجع نفسه، ص5، والبالادا أو قصة الحب والعشق الشعرية الملحمية وأمثالها: «حسن ونعيمة» و»عزيزة ويونس» و «يوسف وزليخة» و «شفيقة ومتولي» و «سارة وهاجر» و «عالية وأبو زيد الهلالي»...
44 - المرجع نفسه، من صفحة 5 إلى صفحة 12.
45 - المرجع نفسه، ص13.
46 - قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية، د. نبيلة إبراهيم، ص 7-8، دار العودة، بيروت، 1974.
47 - قصصنا الشعبي، د. نبيلة إبراهيم، ص160-170.
48 - الثنائية في ألف ليلة وليلة، إحسان سركيس، ص ، دار الطليعة، بيروت 1979.
49 - المرجع نفسه، ص7.
50 - راجع في هذا المجال كتاب الأدب العربي الحديث: نماذج ونصوص، د. سالم المعوش، ص 238-264.
51 - من مقال له بعنوان:»الأدب والرسالة القومية»، نشر في مجلة الآداب عدد أيار/مايو، بيروت 1959.
52 - رئيف خوري وإشكالية النقد الشامل. د. فيصل دراج، مجلة «الطريق»، عدد شباط، بيروت 1989، ص48.
53 - أعمال مختارة، رئيف خوري، ص 165.
54 - مع العرب في التاريخ والأسطورة، ناقة الفقراء، ص 127، دار المكشوف، ط2، بيروت، 1963.
55 - المرجع نفسه، ص 174.
56 - الفن والمجتمع عبر التاريخ، أرنولد هاوزر، ص 43، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981.
57 - عن الأدب والأدب الشعبي الفلسطيني، توفيق زياد شاعر الأرض المحتلة، ص 6، دار العودة، بيروت 1970.
58 - تراثنا كيف نعرفه، د. حسين مروّة، ص327، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1985.
59 - تقرير التنمية الإنسانية العربية(2003)، نحو إقامة مجتمع المعرفة، ص123.
60 - المرجع نفسه، ص130.
61 - حوارات القرن الجديد: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. سمير أمين ود. برهان غليون، دار الفكر ، دمشق 2004، ص173.
62 - الأدب الشعبي، د. أحمد رشدي صالح، ص10، مكتبة النهضة بالقاهرة، ط2، 1955.

أعداد المجلة