فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

الألعاب الشعبية التونسية، مؤشرات التنمية الثقافية والاندماج الاجتماعي التربوي

العدد 24 - عادات وتقاليد
الألعاب الشعبية التونسية،  مؤشرات التنمية الثقافية والاندماج الاجتماعي التربوي
كاتب من تونس

لقد كان للتطور التاريخي للبلاد التونسية أثر بالغ في تأسيس ثقافة متنوعة امتدت لآلاف السنين من العصر البونيقي إلى الروماني والبيزنطي وصولا إلى الحضارة العربية الإسلامية وبناء الدولة التونسية المعاصرة، وعبر هذه العهود المتعاقبة مارس التونسيون في المدن والبوادي ألعابا كثيرة بعضها مختص بالأطفال وبعضها مختص بالكبار، وبعضها يشترك فيها الكبار والصغار، وأغلب هذه الألعاب ممتد في التاريخ العميق لهذه البلاد جلبته القبائل العربية  النازحة من المشرق العربي واندمج وتفاعل مع العناصر الثقافية والفكرية المحلية.

 

وأغلب الألعاب التي يمارسها التونسيون يشترك فيها الذكور والإناث على حد السواء، كما أن هناك ما هو مختص بالإناث وما هو مختص بالذكور، ومرجع ذلك طبيعة كل من الجنسين، فالألعاب التي يحتاج فيها إلى جهد وخشونة لا يمارسها إلا الذكور أما التي لا تستوجب ذلك فتختص بالإناث، أو يشترك فيها الجنسان(1).
إن تطرقنا إلى موضوع اللعبة الشعبية فكرا وممارسة سيكون من زاويتين اثنتين  أولاهما الأهمية الثقافية لهذا الموروث الثقافي المرتبط بالهوية الحضارية للمجتمع التونسي في عالم يعيش هيمنة ثقافية غربية تتجه إلى صهر النماذج الثقافية المتعددة للشعوب في إطار العولمة الثقافية، وثانيهما التأثيرات الاجتماعية والتفاعلات التربوية المرتبطة باللعبة الشعبية.

1 –الأهمية الثقافية للعبة الشعبية التونسية:  
تعتبر الثقافة بكل مكوناتها المرآة الحقيقية التي تعكس عمق الموروث الشعبي لأي مجتمع من المجتمعات وتبين مقدار إسهامها في تطوير الحياة البشرية وبناء تاريخ وحضارة الإنسان.
وفي هذا الإطار تتمثل الأهمية الثقافية للعبة الشعبية التونسية في أن هذه الأخيرة تعرف بأنها نشاط رياضي ذهني ضارب في القدم، تتفاعل مكوناته الثقافية والاجتماعية في ارتباط وثيق بجذور الشخصية الإنسانية والمقومات الحضارية للمجتمع التونسي، فاللعبة الشعبية خليط متفاعل من أرصدة تراثية منفتحة على حياة الناس وشواغلهم، تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل لتمارسها برغبة وصدق من أجل الترفيه والتنشيط وتمضية أوقات الفراغ بصور إيجابية مفيدة.

1 - 1 اللعبة الشعبية والتنمية الثقافية:
تؤدي الألعاب الشعبية أدوارا مهمة في تأطير الموروث الشعبي المرتبط بالحركة والإيقاع والأناشيد والأغاني الشعبية، كما تساعد على انتقال العادات والتقاليد التونسية والمعارف الإنسانية بصورة طبيعية وتلقائية من جيل إلى آخر، مكونة بذلك ثقافة شعبية غنية بالمعاني والعبر والدلالات الاجتماعية التي تؤكد أهمية الانتماء إلى الجماعة.
وفي ارتباط الألعاب الشعبية بالممارسة الرياضية في المدن والأرياف التونسية نرى أن هذه الألعاب تتجاوز صفتها كممارسة فردية أو جماعية منظمة أو عفوية لتمثل ظاهرة اجتماعية في حد ذاتها، ذلك أن عديد الباحثين تناولوا الألعاب الرياضية بالبحث والتمحيص، واتفقوا على استنتاج مفاده وجود علاقة متينة بين الرياضة والثقافة، ذلك أن الألعاب الرياضية ارتبطت منذ القدم بحياة المجتمعات وأنشطة الإنسان وممارساته وطقوسه وعاداته اليومية حيث يمثل اللعب ممارسة يمكن أن نحدد من خلالها ثقافة المجتمعات وخصائص الحياة الجماعية للأفراد.
ويمكن أن نفهم دور الألعاب الشعبية في اختلاف الخصوصيات الثقافية بين المجتمعات بالنظر إلى أن كل نظام اجتماعي يفرز بالضرورة نظاما لعبيا خاصا به، يستمد قواعده بالأساس من تركيبة العادات والتقاليد التي تميز الجمهور الذي يمارس الألعاب المختلفة.
إن شكل الترابط بين اللعب والثقافة يتطلب مزيد البحث والملاحظة والتدقيق في سلوك الإنسان أثناء اللعب و داخل المحيط الاجتماعي الذي ينتمي إليه. وقد أدى هذا التقارب بين الثقافة واللعب إلى طرح تساؤلات وفرضيات عديدة تعتبر أن الألعاب الشعبية هي إنتاج ثقافي اجتماعي لبيئة اجتماعية معينة، يمكن من خلالها الكشف عن الخصائص الثقافية والفكرية لمن يمارسها ويعبر من خلالها.
وعلى هذا الأساس يمكن للألعاب الشعبية أن تنخرط بفعالية في التنمية الثقافية والمجتمعية من خلال خلق مناخ للتعلم والترفيه انطلاقا من السجل التذكري للمجتمع وإحياء الأرصدة التراثية المادية وغير المادية التي تبقى مهددة بالتلاشي والذوبان طالما لم تكن مدعمة بذاكرة قادرة على حفظها ونقلها إلى الأجيال الجديدة التي تفرض عليها اليوم وسائط ترفيهية وتربوية مستحدثة في إطار مقتضيات الثقافة الرقمية وتقنيات الواقع الافتراضي، حيث أصبحت اللعبة الإلكترونية مجالا اجتماعيا جديدا للإثارة وممارسة العنف وخلق رغبات تفاعلية ومتع ثقافية  رقمية لا تيسر لجمهور اللاعبين إدراك الدلالات الرمزية والاجتماعية للعب الشعبي(2).

1 - 2 خصائص الألعاب الشعبية:
يتميز اللعب الشعبي بجملة من الخصائص المشتركة رغم اختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية التي تنتمي إليها هذه الألعاب، ومن أهم هذه الخصائص:
-    لا تحتاج الألعاب الشعبية إلى معدات خاصة أو أدوات رياضية معقدة أو ملاعب بمواصفات فنية محددة ويمكن أن يفسح ذلك مجال الابتكار واسعا أمام جمهور الممارسين من الأطفال والشباب الذين يجتهدون في توفير وصنع وسائل اللعب انطلاقا مما هو متاح في محيط اللعبة.
-    الألعاب الشعبية قادرة على جذب اللاعبين من خلال ما توفره لهم من فرص فريدة في إظهار الموهبة والمهارة والقوة وسرعة البديهة.
-    لا يحتاج اللعب الشعبي إلى فرض وإملاء ضوابط تنظيمية ثابتة لأنه يخلق ويربي المهارات في إطار من الحرية المنفتحة على الإضافة والإبداع.
-    تعمل اللعبة الشعبية على التمرن على سرعة رد الفعل وحضور البديهة مما يمنح الأطفال القدرة على النمو الاجتماعي وبناء الشخصية.
-    لا يرتبط اللعب الشعبي بالمكاسب المادية لأن هدفه تحقيق السعادة والترفيه الخالص لذلك هو خلو من مظاهر العنف والصراعات، كما تعتبر الألعاب الشعبية من أهم الوسائل الترفيهية والاتصالية خاصة في الأوساط الريفية، لذلك فهي تحتل مكانة هامة لدى أغلب الشرائح الاجتماعية ومختلف الأعمار والأجناس على اعتبار أنها متاحة في الزمان والمكان ومشوقة وغير مكلفة.
ومن الخصائص المميزة للألعاب الشعبية في علاقة اللعبة بجمهور اللاعبين المشاركين على اختلاف أصنافهم وأدوارهم هي:
-    أن يكون المشارك غير ملتزم بشروط تنظيمية كثيرة، ومعناه أن لا يكون محكوما بقواعد وتراتيب فنية معلومة سلفا.
-    أن يكون حرا مخيرا في كل مرحلة من مراحل اللعب لأن في عملية الإلزام والجبر إلغاء لحرية المشاركة والممارسة، فاللاعب يختار بكل حرية اللعبة التي يريد الاشتراك فيها وكذلك يختار الدور الذي يتماشى مع قدراته البدنية واستعداداته النفسية لذلك نجده يلعب بكل تلقائية وعفوية.   

2 - مجالات التأثير الاجتماعي والتفاعل التربوي في الألعاب الشعبية:
إن الدارس للألعاب الشعبية يلاحظ مستويات مختلفة من التنافس الجماعي لأن السمة الغالبة على هذه الألعاب هي حركية التفاعلات وتعدد العلاقات في إطار الجماعات المتنافسة، وهي ممارسات يمكن أن يكون لها عميق الأثر في العلاقات الاجتماعية في ما بعد، فهي تساعد الأفراد على تنمية ثقافة المشاركة الجماعية وبناء القدرة على الاندماج وربط العلاقات مع الآخرين، فأثناء ممارسة هذه الألعاب يتقمص اللاعب أدوارا مختلفة تفتح أمامه مجالات التفاعل مع الآخرين سواء من خلال علاقات منافسة وصراع أو علاقات تعاون وتكامل.

2 - 1 أهداف اللعبة الشعبية ووظائفها:
  يهتم كثير من منظمي المهرجانات الفلكلورية في تونس باللعبة الشعبية كعنصر رئيسي من عناصر الفرجة على غرار مهرجان الصحراء الدولي بدوز بالجنوب التونسي ومهرجان الجواد العربي الأصيل بمدينة المكناسي بوسط البلاد وذلك لأن هذه الألعاب تتناول بصورة مباشرة عادات المجتمع وقيمه وتقاليده ضمن مقاربة مشهدية تتجه إلى حفظ عناصر هذا التراث من خلال تنويع المحامل البيداغوجية للعب وتطوير أدواته في علاقتها بمكونات الموروث الشعبي.
  إن اللعبة الشعبية قد تحولت ضمن هذا السياق إلى فرصة للتحرر من قيود الواقع الرتيب وضغوط الحياة اليومية عبر التعرف المتواصل على المخزون اللغوي الأصيل لمفردات الألعاب وحقولها الدلالية في إطار البيئة الاجتماعية الحاضنة.
  إن اللعب الشعبي على غرار الأنشطة اللعبية الأخرى يبني الأدوار وينظم ردود الأفعال خاصة في علاقة الأطفال بالكهول حيث يتمكن الطفل بانخراطه في اللعبة من تطوير قدراته وصقل مواهبه وتأكيد ذاته لأنه لا يرتاد فقط عالم الأشياء في زمن اللعب وإنما يتعرف في ذات الوقت على ردود أفعال الآخرين نحوه، وبذلك يكتشف الأسلوب المناسب لبناء المواقف وبناء العلاقات الاجتماعية(3).
  إن محلية هذه الألعاب وأصالتها تدفع الناشئة نحو اكتشاف المحيط قصد التحكم في عناصره، فيصبح التفوق في لعبة ما تفوقا في إبراز الاستقلالية والتفرد في البحث عميقا في الجذور الحضارية لوجود الذات وما يمثله ذلك من تحقيق للتواصل الثقافي بين أجيال المجتمع الواحد رغم عناصر الاختلاف بينهم، وقد أدرك «جون بياجيه» «J.Piaget » في هذا السياق الوظيفة الاجتماعية للعب عندما لاحظ أن الأطفال يتعلمون قواعد السلوك والتعامل الاجتماعي من خلال التزامهم العفوي بقواعد الألعاب وقوانينها باختلاف أصولها ومصادرها(4).

2 - 2 اللعبة الشعبية نموذج حقيقي للاندماج الاجتماعي:
تعتبر الألعاب الشعبية مظهرا ثقافيا يعتمد على الرغبة الحرة في الاندماج والمشاركة الاجتماعية الواسعة رغم أن الحوافز والهدايا المادية بسيطة أو تكاد تكون معدومة  في كثير من المجتمعات المحلية، حيث ترتكز ممارسة هذه الألعاب في أغلب الأحيان على الثناء والتحفيز المعنوي الذي يقيم مستوى الأداء والتفوق بصور تلقائية رمزية احتفالية تفتح المجال أمام الأطفال والشباب للإبداع والابتكار من خلال بذل الجهد في تصميم ألعابهم وتطوير أشكال ممارستهم لها انطلاقا مما يتوفر لهم من خامات ووسائل في البيئة الاجتماعية المحيطة، فاستخدموا على سبيل المثال الأقمشة القديمة والصوف والجلود والعظام والخشب وأغصان الأشجار وقطع الفحم والنحاس والعاج.
وفي هذا الإطار تختلف الدلالات الثقافية والاجتماعية للألعاب الشعبية التونسية بين المجتمعات الساحلية والمجتمعات الداخلية وكذلك بين الألعاب التي تمارس في شمال البلاد وتلك التي تمارس في البيئات الجنوبية ذات الطبيعة الصحراوية القاسية، كما يمكن أن نحلل مدى قدرة الأطفال على ابتكار ألعابهم الخاصة بين الماضي والحاضر، حيث يعجز هؤلاء في الزمن الحالي على تقديم إضافاتهم ومبتكراتهم الشخصية فيما يتعلق بالألعاب وممارساتها في ظل الانتشار السريع للعبة الإلكترونية التي غزت عقولهم وعطلت الكثير من مظاهر اندماجهم الاجتماعي وفتحت أمامهم إمكانيات التماثل والتشابه مع أبطال وهميين وشخصيات افتراضية قوية ومنتصرة، أصبحت بالنسبة للكثيرين من ممارسي هذه الألعاب وجهة مغرية للتقمص والتوحد الجسدي من أجل بلوغ حالات جديدة من الاندماج والذوبان في عالم اللعبة المركب من ثنائية انتماء جسدي وفكري لوجود واقعي مستقر أمام الشاشة، ووجود آخر متخيل يتجاوز حدود الشاشة ليمتد إلى عالم رقمي يلفه نسيج من الشبكات(5).
تعتبر الألعاب الشعبية مجالا واسعا للتفاعلات التربوية والنفسية خاصة بالنسبة لممارسيها من الأطفال والشباب حيث تتطور تبعا لتطور قدراتهم البدنية والنفسية وخصائصهم الثقافية والاجتماعية من خلال ترغيبهم في اكتشافها وتنظيم ممارستهم لها.
ويتم هذا التنظيم في العادة بصورة تلقائية من خلال تفاعل اللاعب مع اللعبة ثم مع رفاقه بعد ذلك، لأن اللعب على اختلاف أشكاله وأجناسه الفردية والجماعية وتعدد فضاءاته الداخلية والخارجية يتيح للاعبين فرص التعلم وتنمية الذاكرة والتفكير والإدراك والتخيل والكلام وتنظيم الانفعالات والسلوكيات وتحقيق الإقتدارات المعرفية والعلائقية، فعندما يتسلق الطفل شجرة ويصل إلى أعلاها يكون قد تمكن من السيطرة على الخوف، وفي نفس الوقت تمكن من تقدير المواقع وتقييم مستوى علوها والحصول في نفس الوقت على زوايا نظر مختلفة للأماكن المحيطة.
إن الألعاب الشعبية عبر أنواعها وخصائصها العديدة، يمكن اعتبارها نموذجا ناجحا للتفاعلات التربوية التي تعتبر إحدى السمات والعوامل المؤثرة في نمو ونضج الجماعة الأولية فالسلوكيات المسجلة أثناء اللعب سواء كانت لفظية أو غير لفظية تعبر بالضرورة عن صورة معينة للتفاعل الدائر بين الأفراد، هذا التفاعل الذي يمتد من التجاذب إلى التنافر مرورا بسلوكيات التجاهل أو الجفاء في علاقات هؤلاء الأفراد بعضهم ببعض بالإضافة إلى أن هذه الألعاب يمكن أن تكون وسائل علاجية لمواقف الإحباط وحالات الاكتئاب في حياة الطفل حيث تنطلق وتتحرر الطاقات العصبية الكامنة في شخصية الطفل أثناء تفاعلات اللعب فتبعده عن التهيج النفسي والتوتر العصبي،(6) وفي هذا الإطار يمكن اعتبار اللعب الدرامي أو لعبة «العكفة» (7) مجالا واسعا للتفاعل إذ تلتقي هذه الأنشطة الرياضية في تحريك السواكن والطاقات الكامنة لدى اللاعبين للتعبير عن أحاسيسهم وانفعالاتهم في مواجهة الآخر فردا كان أم جماعة.
إن تحليل مظاهر التفاعل في اللعبة الشعبية يقتضي تسجيل وتبويب جملة المواقف والسلوكيات الصادرة عن جماعة المشاركين في اللعبة مثل درجة التعاون وتبادل الأفكار والآراء وسبل تصحيح الأخطاء وتبادل الأدوار والتجارب في ما بينهم بشكل يعكس قدرتهم على استيعاب معايير السلوك الاجتماعي المنشودة، لذلك نشير إلى أهمية التفاعل في دراسة جماعات اللعب الصغيرة والتعرف إلى مدى حيويتها أو جمودها وأشكال التواصل بين أعضائها مما يتيح فرص تقييم هؤلاء بين إيجابية بعضهم ودورهم في خلق ديناميكية داخل الجماعة وسلبية البعض الآخر.
ويرى «كورت لوين»«kurt lewine» أن التفاعل هو بالدرجة الأولى تبادل وهو شرط أساسي للحديث عن الجماعة الأولية الصغيرة التي من الضروري أن يتشابه أعضاؤها في الأهداف والاتجاهات(9).

2-4 فوائد الألعاب الشعبية ومجالات تأثيرها:
تمثل الألعاب الشعبية كجزء من الألعاب التي يمارسها الأطفال، رافدا من روافد النمو ووسيلة تطور ونماء، فعلى غرار الأدوار والتأثيرات المختلفة للعب بصورة عامة على الجوانب العقلية والبدنية والاجتماعية للفرد، فإن الألعاب الشعبية لا تخرج عن هذا الإطار، لأنها تساهم في تكوين وبناء شخصية الإنسان في مختلف الجوانب المذكورة.
 
2-4-1 تأثير الألعاب على الجانب الجسمي:
تعتبر الألعاب الشعبية متنفسا حقيقيا للفرد، وطريقة ناجعة لبذل الجهد وتصريف الطاقات الزائدة، فأغلب الألعاب الشعبية إن لم تكن كلها تعتمد على الحركة والمهارات البدنية لأنها فرصة يتمكن من خلالها الفرد من تطوير حركاته في اتجاه اكتساب ردود أفعال دقيقة وثابتة وذلك من خلال أداء ألعاب التسديد واللقف وتقمص الأدوار فاللعبة الشعبية على اختلاف أشكالها وتعدد طرق ممارستها وبساطة أدواتها ووسائلها تعتمد كثيرا على المهارات البدنية مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية ونمو أجهزة الجسم نموا سليما.
 
2-4-2 تأثير الألعاب الشعبية على الجانب العقلي:
تمكن الألعاب الشعبية ممارسيها من الأطفال والشباب من إدراك المبادئ المعرفية الأولى كالوعي بالمكان والزمان والتموقع في الفضاء حيث تساهم العديد من الألعاب الفكرية التي تعتمد على الذكاء وإعمال العقل مثل لعبة «الخربقة»(10) في تنمية معارف الفرد ومعلوماته وتمده بمجموعة من الخبرات الفكرية والعقلية الضرورية لاكتساب الفطنة واليقظة والقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
 
3 -نماذج من الألعاب الشعبية التونسية:  
نعمل في هذا الجانب من البحث على استعراض نماذج من الألعاب الشعبية التونسية التي نرى فيها أكثر من غيرها وضوحا لمؤشرات التفاعل الثقافي والاجتماعي والتربوي وقدرة على التأثير في تكوين شخصية اللاعبين من خلال اكتساب المعارف الجديدة وترسيخ العادات والقيم الاجتماعية السائدة، لذلك نعتمد في هذه الألعاب على الوظيفة الاجتماعية والتربوية للعبة أكثر من اعتمادنا على نوع اللعبة والأطر المكانية والزمنية لممارستها.
 
3-1 لعبة «بل وخناب»:(11) أي (الإبل واللصوص)
   وهي لعبة يمارسها الأطفال الذكور تتعلق بالإغارة على الإبل في القبائل لأن الإبل سهلة الاندفاع وسريعة التنقل وأوفر فائدة من الغنم وغيرها، لذلك تسمى الإبل عند شعراء الجنوب التونسي بـ»الشومة» أي المشؤومة لأنها الأكثر عرضة للسرقة والنهب.
وتصور اللعبة عملية نهب الإبل ومحاولة ردها من قبل أصحابها حيث يمثل فريق أول من الأطفال دور الإبل ترقد في مكان معين يرقد بجانبها فريق ثان يمثل أصحاب الإبل، في حين يؤدي الفريق الثالث دور اللصوص الذين يأتون من بعيد مستترين بالظلام، فيسرقون الإبل ويسوقونها إلى مكان مخفي، يجتهد أصحاب الإبل في إيجاده، وأثناء عملية البحث قد تدور بعض المعارك بينهم وبين اللصوص باستعمال سيوف خشبية الهدف منها رد الخاطفين والاهتداء إلى مكان الإبل لتحريرها وتحقيق الغلبة على الخصوم(12).
3-2 لعبة الخربقة:  
   وهي لعبة لها شهرة عظيمة بين سكان البادية التونسية ولها لاعبون مشهورون، وتشبه إلى حد بعيد لعبة الشطرنج ولا تختلف عنها إلا في اختلاط حجارة الخصمين وأسمائها وتنقلاتها، ولا تزال إلى اليوم ملتقى كثير من الأطفال والشباب والكهول في الأسواق والشوارع والساحات العامة والمناسبات الثقافية.
وصفة هذه اللعبة أن يحفر اللاعبان حفرا معروفة العدد في الأرض أو على بساط من الرمل بعدد خمسة وعشرين حفرة بالنسبة إلى الأطفال وتسعة وأربعين حفرة بالنسبة للرجال، والحفرة تسمى دارا، وتغلق المتوسطة منها بالتراب لتكون هي الباب الذي يخرج منه اللاعب المبادر باللعب، وتسمى هذه الحفرة الوسطى «دار المالح»، أما بقية الحفر فتعمر ب»الكلاب» وهي الحجارة التي يحركها اللاعبان ويقتسمان عددها بحساب أربعة وعشرين «كلبا» لكل منهما، وينفرد أحدهما بالحجارة البيضاء والآخر بالحجارة السوداء، فإذا لم يوجد هذا اللون تعوض ببعر الإبل أو نوى التمر.
وطريقة اللعب أن يتبادل اللاعبان إنزال الحجارة في «الديار» أو الحفر الخاصة بها ثم يمران إلى تحريك كلابهما واحدا بعد الآخر وكل «كلب» أبيض وقع بين أسودين يقتل أو يخرج من اللعبة والعكس بالعكس وعندها يقول اللاعب: «مات» وهكذا حتى نهاية اللعبة وانتصار أحد اللاعبين الذي يتمكن من إقصاء أكثر ما يمكن من «كلاب » خصمه.
وتجدر الإشارة أن لعبة «الخربقة « لا تقتصر فقط على لاعبين في مواجهة بعضهما البعض بل تسجل في كثير من الأحيان انضمام أفراد آخرين ينحازون إلى هذا اللاعب أو ذاك من خلال مساعدته بالإيماءات والإشارات إلى مواضع الخطر وطرق تحقيق النصر.

3-3 كرة المعقاف:  
وهي لعبة خاصة بالذكور تشبه لعبة «القولف» تجمع بين فريقين بعدد غير محدد من اللاعبين يمكن أن يبلغ عشرين لاعبا بالنسبة لكل فريق، وصورتها أن يتقابل الفريقان عند نصف المسافة بين المرميين لاختطاف الكرة ودفعها باتجاه المرمى.
ولكرة «المعقاف» جملة من الخصائص نفصلها كما يلي:
-    كرة المعقاف يفوق حجمها حجم كرة القولف وتتكون من نسيج الشعر أو الصوف، تخاط بخيط رفيع متين حتى تصبح صلبة.
-    المعقاف وتنطق بتفخيم القاف، وهو عصا من جريد النخل مستقيمة في طرفها الأعلى المخصص لدفع الكرة انعطاف في شكل نصف قوس.
-    عدد اللاعبين بالنسبة للفريقين غير محدد.
-    مسافة الملعب غير محددة كذلك بدقة، لأنها ساحة ممتدة بين مرميين.
-    يمكن أن يكون المرمى حفرة أو مكانا مرتفعا من الأرض تدخله الكرة أو تتجاوزه فيعتبر ذلك هدفا.
-    لا وجود لحارس مرمى بعينه والسبب في ذلك غياب التحديد الأفقي والعمودي لهذا المرمى الذي يشترك في حمايته مجموعة من اللاعبين.
-    يعتمد الهجوم على سرعة اللاعبين وقوتهم البدنية وتدافعهم وتجمعهم قصد الحصول على الكرة والتحكم في اتجاهها، لذلك يمكن أن نسجل في هذه اللعبة بعض التدافع والإصابات.
-    لا وجود لقوانين دقيقة في كيفية تمرير الكرة بين اللاعبين إذ يمكن للاعب أن يقذف الكرة بالعصا أو برجله أو يديه شريطة أن لا يمسكها بيده أو يهرب بها.
-    لكرة المعقاف لغة ومصطلحات خاصة، فالازدحام حول الكرة يسمى «القحار» أو «التقحويش»، فيقال أن اللاعبين «يتقاحروا ويتقاحشوا » حول الكرة، بينما يسمى ضرب الكرة وهي على الأرض بـ«الطب» بفتح الطاء، وضربها وهي في الفضاء يسمى «التطريز»، إلى آخر هذه الكلمات والمصطلحات الخاصة(13).

3-4 لعبة الشارة:  
 وهي الشارة أو التمرن على إصابة الهدف، يمارسه الصغار والكبار، وصورتها بالنسبة للكبار أن يوضع عود أو علامة في حجر على مسافة متفق عليها، يصوب باتجاهها اللاعبون بنادقهم واحدا بعد الآخر، وقد يجعلون مكافأة بينهم غير النقود لمن يصيب الهدف أولا. أما بالنسبة للأطفال فإن سلاحهم في هذه اللعبة إما عصا يرميها اللاعب من مسافة معينة وإما حجرا يرمى بواسطة «المقلاع»(14)، وهو خيط من شعر غالبا، يربط طرفه في الوسطى من اليد اليمنى وفي وسطه «بيت الحجر»، ويتكون من ثلاثة خيوط وطرفه الأخير مطلق لا شيء فيه. يضع الطفل الحجر في بيت الوسط، ويمسك بأصابعه الطرف الأخير ويدير الخيط في الهواء بسرعة وقوة ثم يرمي الحجر بإطلاق الطرف المطلق من أصابعه، فيصيب أو يخطئ.

الهوامش

1 -  محمد المرزوقي، مع البدو في حلهم وترحالهم، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، تونس 1984، ص 45.
2 -  علي محمد رحومة، الأنترنيت والمنظومة التكنو- اجتماعية، بحث تحليلي في الآلية التقنية للأنترنيت ونمذجة منظومتها الاجتماعية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2005.
3 -  هوغيت هاغلار، علم النفس المدرسي، ترجمة فؤاد شاهين، موسوعة زدني علما، بيروت، 1999، ص64.
4 -  المرجع السابق، ص67.
5 -  يحي اليحياوي، أوراق في التكنولوجيا والإعلام والديمقراطية، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2004، ص 43-44.
6 -  أشرف سعد نخلة، المشكلات النفسية للأطفال وكيفية علاجها، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، 2011، ص49.
7 -  لعبة العكفة: لعبة شعبية تونسية تسمى كذلك المعقاف تشبه لعبة القولف ولكنها تتميز بكثير من الخصائص التي تجعل منها لعبة تراثية حرة لا تخضع ممارستها لكثير من القوانين.
8 -  مليكة لويس كامل، سيكولوجية الجماعات والقيادة، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989.
9 -  Pierre Kaufmann: Kurt Lewin. Une Théorie du champ dans les sciences de Lhomme. Paris, 1968, p 132.
10 -  لعبة الخربقة: لعبة مشهورة في الأرياف والبوادي التونسية، تشبه إلى حد بعيد لعبة الشطرنج وصورتها أن يتقابل لاعبان يضعان بينهما على وجه الأرض حفرا صغيرة في الرمل مقسمة إلى سبعة سطور، كل سطر به سبعة حفر، تطمس الحفرة الوسطى وتعمر الحفر الباقية بالتساوي بالأحجار البيضاء لأحدهما وبنوى التمر الأسود أو غيره بالنسبة للآخر، ويتباريان في سرعة أكل كل منهما لكلاب منافسه أولا.
11 -  الخناب: جمع خانب، وهو اللص في لهجة الجنوب التونسي.
12 -  محمد المرزوقي، مرجع سابق، ص 46.
13 -  محمد المرزوقي، مرجع سابق، ص 58.
14 -  المقلاع: كلمة عربية فصيحة جمعها «مقاليع» ويسمى أيضا «محذفة « من الحذف أي الرمي، وهو سلاح قديم كان مستعملا عند العرب في الحروب منذ العهد الجاهلي إلى جانب النشاب، تم الاستغناء عنه بعد اختراع البندقية فأصبح استعماله مقتصرا على الأطفال لصيد الطيور أو التمرن على إصابة الهدف «الشارة»

أعداد المجلة