فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
22

الجهجوكة موسيقى الأصول المغربية

العدد 22 - موسيقى وأداء حركي
الجهجوكة موسيقى الأصول المغربية

1 - دور الموسيقيين الجوالين في التعريف بالموسيقى الشعبية :
تنتمي موسيقى الشعوب إلى عائلة واحدة، تجري في شرايينها دماء الإيقاعات التي تتناسل وتتوالد ممتدة إلى أصول واحدة. ربما لهذا السبب كان الغرب دائم الاهتمام بموسيقى الآخرين.

هذا الاهتمام الممزوج بالفضول والافتتان بألوان الموسيقى المختلفة. دفع موسيقيين من عيار موزارت) 1719-1787( أن يتأثر بالموسيقى التركية في سمفونيته» المشية التركية»  وفيما بعد تأثرت الموسيقى الغربية بالموسيقى  العربية  من خلال الوسيط الموسيقي الاسباني الذي نقل التراث العربي إلى مركز أوروبا وظهر ذلك بشكل كبير في سيمفونيات إدوارد لالو)1823-1892 (أو في «كارمن» لجورج   
بيزي) 1838-1875 (وأيضا في «بوليرو» لموريس رافيل) 1875-1937( كما أن هناك عدد من الموسيقيين اهتموا بشكل واضح بالموسيقى الشعبية لبلدانهم الأصلية وهكذا وجدنا الموسيقي الهنغاري زولتان كودايلي) 1882 - 1967( الذي كان عالم موسيقى وصحفيا. كان مصحوبا بزميله الموسيقي بيلا بارتوك) 1881-1945( وهما معا قاما بعمل نادر يتمثل في جمع الموسيقى الشعبية الآيلة للانقراض وإعادة تسجيلها بطريقتهما. وقد شكلا معا ثنائيا فريدا جسد الروح الرومانية والهنغارية والصربية. أما الموسيقي الموسوعي ليوش زنيشيك) 1854-1928 (فقد قضى عمره يجمع المعزوفات الشعبية للأقاليم  مدونا أغلبها مع دليل يشرح الأصوات الطبيعية التي دخلت إلى الموسيقى الشعبية. وكانت كتابته الموسيقية مصبوغة بالفكر والإيقاع والأشكال الموسيقية التشيكية.  


بالتأكيد لم تكن هذه البحوث خالية من النزعة الوطنية التي تطغى عليها أزمة الهوية والانتماء، لكن هذه البحوث رغم ارتدادها نحو الداخل وتقليصها لهدف الموسيقى الجوهري ألا وهو الانفتاح على الآخر، فإنها دونت ذاكرة موسيقية كان يمكن أن تنقرض في خضم دخول أوربا الحرب العالمية الأولى .  


تقريبا على نفس المنوال ألف فانسون دلندي) 1851-1931 ( سيمفونية سيفنول ويمكن أن نجد أمثلة كثيرة في الموسيقى الكلاسيكية التي اختارت المزج بموسيقى قادمة من جغرافيات أخرى موظفة إيقاعات وآلات فلكلورية وقد كان لهذا الانفتاح الموسيقي الأثر الكبير إثراء للموسيقى الأوروبية وتوليدا لأساليب إيقاعية جديدة.


يهتم علماء الموسيقى العرقية بموسيقى الشعوب ويخصصون لها بحوثا مهمة فقد أخذوا على عاتقهم جمع موسيقى الثقافات الأخرى خاصة منها ما هو آيل للانقراض وتعتبر مقارباتهم مرجعا أساسيا للمتخصصين في الأبحاث الموسيقية إذ يجدون تنوعا هائلا من الموسيقى المكتوبة وغير المكتوبة بتنويعاتها الروحية تارة والشعبية تارة أخرى. ومن هنا يتم اكتشاف الفروق الكثيرة ونقط التلاقي والتلاحم بينها.


أحد هؤلاء الرواد ألان لوماكس) 1915-2002( الذي وفر للمكتبة الموسيقية العالمية  بتنقيباته في الموسيقى الأمريكية خاصة منها موسيقى الزنجية  كالبلوز blues مثلا. وأنواع موسيقية لبلدان أخرى مثل موسيقى أوروبا الجنوبية: سردينيا، إسبانيا... بواسطة لوماكس نعرف اليوم موسيقى“ الخارج عن القانون” “Desperados” الامريكية لفترة ما بين الحربين وفترة الخمسينيات، ونعلم أيضا طريقة عيشهم وظروف حياتهم المأساوية ما بين التجوال والسجن. وإلى جانب هذه التسجيلات التي قام بها داخل شاحنته الصغيرة كان أيضا يصور ويدون ملاحظات مهمة. يوجد اليوم أرشيف مهم للوماكس لدى  مؤسسة سميثسونيان التراثية بواشنطن.


كان روبير بالمر )1945-1997( ناقدا لدى النيويورك تايمز وأستاذا للموسيقى. سجل هذا الناقد كما هائلا من موسيقى البلوز وأيضا الموسيقى الكوبية وبعض هذه التسجيلات صدرت في شرائط تحت مسمى أطلنتيك ولواكا بوب وفات بوسوم. أما الانجليزي هيو تريسي)1903-1977 (فقد كان متأثرا بالفكر الاستعماري لبلده ومع ذلك اهتم اهتماما كبيرا بالموسيقى الإفريقية وجال بلدانها جامعا مسجلا موسيقاها. وتعتبر تسجيلاته لموسيقى فترة الخمسينيات من الغنى والثراء بحيث نستغرب كيف تمكن من تجميع هذا الكم الهائل من الإيقاعات والأناشيد الكونغولية والتنزانية والموزمبيقية والزيمبابوية، كما أننا نكتشف من خلالها ظاهرة تهجير القبائل من دولة إلى أخرى من أجل العمل في المناجم الجنوب إفريقية وما ترتب عنه من اختلاط وتنوع. وهنا أيضا نقف على أن موسيقى الشعوب مرتبطة بشكل لصيق بالتاريخ وبظواهر اقتصادية واجتماعية.


كما تحتل تسجيلات ألن دنيلو) 1907-1997 (مكانة متميزة لأنها اشتغلت على الموسيقى الشعبية الهندية وهي مسجلة ضمن انطولوجيا خاصة بالهند. ولا ننسى أيضا الكاتب ومؤسس دار النشر الفرنسية “ أرض الإنسان” جان مالوري 1922 الذي قدم بدوره كتبا عديدة عن رحلاته لدى شعوب الاسكيمو وسجل عددا مهما من المقطوعات الموسيقية الشعبية للمنطقة الشمالية في كندا معتبرا هذه الموسيقى رسائل لنا وللشعوب القادمة.

2 - قرية الجهجوكة قبلة للفنانين العالميين.
خلال القرن العشرين ظهر عدد مهم من علماء الموسيقى والباحثين والمهتمين بموسيقى الشعوب والأقليات العرقية. كانت هذه المبادرات التي في الغالب تكون فردية وتطوعية أو مدعمة في بعض الأحيان من طرف مؤسسات ثقافية وطنية أو دولية تحاول الحفاظ على بعض الأنواع من الموسيقى الشعبية المحملة بثقافة غنية.


في منتصف الستينيات ظهرت موجة من المجموعات الموسيقية المنتمية إلى فن الروك. لم تكن هذه الفرق مثل البيتلز أو الرولينغ ستون أو غيرها في عزلة تامة عن موسيقى الشعوب بل سعت إلى توظيفها باحثة عن دماء جديدة لموسيقاها وأغانيها، فوجدنا البيتلز أول فرقة توظف السيتار الهندي في ألبومها“ مسدس” كذلك الرولينغ ستون وبريان جونس 1942-1969 في ألبومه“ تحت أصابعي” أما في ألبوم “ما بعد العدوان” فقد تأثر تأثرا كبيرا بموسيقى الجهجوكة المغربية التي سنتخذها  في هذا المقال نموذجا لموسيقى الشعوب.
كانت موسيقى “جبالة” مصدر فتنة جامعي موسيقى الشعوب الذين أقاموا في مدينة طنجة ، نذكر منهم  على سبيل المثال بول بولز  1910-1999 أو بريون جيزن 1916-1986.
عندما جاء بول بولز إلى طنجة، كان يعتقد أنه سينجز مهمته العلمية ويعود أدراجه ربما لغير رجعة.


كان قد كلفته مؤسسة روكفيل التابعة لمكتبة الكونغرس الأمريكي كي يسجل الموسيقى الشعبية لمنطقة شمال المغرب. وخلال تجواله بين قرى جبال الريف سجل بولز مئاتين وخمسا من المقطوعات الجبلية. كانت تسجيلاته في مناطق عدة منها كتامة وتاهلة والحسيمة والناظور وتازة والقصر الكبير وبركان...
تتميز هذه القبائل بغنى موسيقاها الضاربة الجذور في تاريخ وأساطير الانسان المغربي.


اهتم بول بولز اهتماما كبيرا بهذا الامتداد الموسيقي العريق فقرر بعد الانتهاء من مهمته البقاء في طنجة بشكل نهائي حتى وفاته. وتجربته لم تتوقف عند الموسيقى بل امتدت إلى الأدب فكتب القصة والرواية مستلهما فضاءات الريف وطنجة مستعينا بحكائين شعبيين مغاربة.


ومن الملاحظات الهامة التي خرج بها بولز أن الموسيقى الشعبية في منطقة الريف وجبالة هي “موسيقى متوأمة”  يشترك فيها الغناء بالرقص. وهذه الايقاعات الشعبية تعتمد آلات النقر على الطبل والبندير وآلات النفخ على المزمار والغيطة. لكن بو بولز عندما وصل إلى قرية الجهجوكة تضاعف افتتانه بشيوخها وموسيقاها، فكان السبب الرئيسي للتعريف بهذه الموسيقى الشعبية الروحية التي كانت مطمورة بين الجبال. نال فن الجهجوكة حظا كبيرا من الشهرة والاهتمام الفني والاعلامي العالمي بفضل هؤلاء الباحثين والجامعين للموسيقى الشعبية والعرقية التي أصبحت اليوم يطلق عليها مصطلح “موسيقى الشعوب”.

3 - فرقة الجهجوكة من المحلية إلى العالمية
يبلغ عدد سكان قرية الجهجوكة حوالي خمسمائة نسمة وتقع على أطراف مدينة القصر الكبير شمال المغرب. بيوتها مطلية باللون الأبيض الناصع أما نوافذها وأبوابها فباللون الأزرق. يكثر حواليها نبات الصبار وأشجار الزيتون ونتوءات صخرية بارزة. هذه القرية العريقة بتاريخها القديم تمثل عينة نموذجية لعلماء الانتربولوجيا بدءا من موسيقاها وصولا إلى لغتها وعاداتها السحيقة. وما دمنا في مقام الموسيقى أليست الموسيقى صورة عن التنوع القبلي والإثني للمغرب القديم؟ فهي تشكل الهيكل الأساس للثقافة الشعبية المغربية والإفريقية، كما أنها تقدم علامات وصدى للتاريخ الأسطوري للسكان الأصليين.


يربط بعض المؤرخين ظهور موسيقى الجهجوكة بالولي الصالح سيدي أحمد الشيخ  الذي ينسب إليه تأسيس هذه القرية وهو أيضا من جاء بالإسلام إليها. ليس هذا فحسب،ويعتبر من كبار الفلاسفة والشعراء الموهوبين أيضاً. فكان أول من مزج الموسيقى في فنه الشعري وأدخلها إلى القرية.


وفن العزف عند فرقة جهجوكة مرتبط بالصوفية والوثنية. وكانوا يعزفون على الطبول والرق والناي والمزمار والقيثارة. وعلى مدى ساعات من الترنيمات المتتالية تتحول الموسيقى إلى غناء، ويصبح المغني والجمهور في حالة غيبوبة. ويشهد سكان القرية وعشاق الموسيقى بالقدرة السحرية والأثر العلاجى لهذه الموسيقى.


وقد شاعت قدرة الموسيقى على العلاج في القرى المجاورة، لدرجة أن كثيرا من الناس يحّجون إلى جهجوكة سواء كانوا يعانون من شلل أو مرض نفسي أو عقم، ويأملون في الشفاء العاجل بالايقاعات الصوفية وبـ“بركة” سيدي أحمد شيخ.


ليست الألحان الروحية والعلاجية هي من خصائص موسيقى الجهجوكة فقط، بل نجد أن للموسيقيين أهمية كبرى في العادات الريفية والوثنية والرقصات الصاخبة. وأهم شخصية هنا هي الراقص الذي يرتدي جلد الماعز ويلقب ب:“بوجلود” ويرمز للخصوبة والإنجاب عند أهل القرية. إذ تصبح النساء قادرة على الإنجاب إذا ما لمسها بوجلود بغصن الزيتون خلال الرقص.


أصبحت قرية الجهجوكة بفضل فرقتها العالمية “the masters musicians of jajouka” التي أسسها البشير العطار بناء على فكرة صديقه “ميك جاكر” مغني الرولين ستونز.ولد العطار سنة 1964 بمنطقة جهجوكة، هو فنان موسيقي عالمي استطاع الظفر بالشهرة الدولية لا سيما في كندا وأمريكا لعلاقته الحميمية مع مشاهير موسيقى الروك أمثال “Rolling stones” وآخرين، حطمت مبيعات ألبوماته أرقاما قياسية في الأسواق الأمريكية و نظم سهرات في شتى أنحاء المعمورة مع فرقته التقليدية التي تعتمد أساسا على الطبل والغيطة ، وأصبح سفيرا لجهجوكة ، كما أن كبار مخرجي أفلام هوليوود تبنوا موسيقى البشير العطار و مجموعته.


ورغم الشهرة التي حققها البشير العطار والمال الذي كسبه إلا أنه خرج عن السياق الموسيقي التقليدي لفرقة الجهجوكة كما أنه لم يساعد القرية ماديا كما كان يفعل والده أو منافسه الحمري في الفرقة، فأصبح موسيقيوالجهجوكة غير راضين على طريقة البشير العطار في الإتجار بالموسيقى الدينية والروحية.
فقاموا بمعارضةالبشير العطار وتأسيس فرقة تقليدية تحافظ على تراث الأجداد.


وبهذا أصبح الصراع علنيا بين فرقتين لموسيقى الجهجوكة الأولى انفتحت على الأسواق العالمية موظفة إيقاعات غربية وتجارب فنانين عالميين في تسجيلات تجارية. والثانية محلية تغرف من إيقاعات جبالة محافظة على الآلات الموسيقية الأصيلة “الطبل والغيطة”. بطبيعة الحال،كان تأثيرهذا الانقسام كبيرا على التعايش بين العائلات الجهجوكية لأن القرية مكونة من الإخوة وأبناء العمومة. ويمكن أن نتخيل تأثير الصراع القبلي على موسيقى الجهجوكة في المستقبل.

المصادر

الموقع الرسمي للفرقة
http://www.jajouka.com/
- Alaoui, Mehdi Sekkouri. “Souvenirs. Sur les traces des Rolling Stones”. Telquel Online. Retrieved Jan. 14, 2007.
- Demeuldre, Michel, Approche génétique des processus musico-sociaux, L’étude de la création d’un style collectif, in : Musique et sociologie, Enjeux méthodologiques et approches empiriques, sous la direction de Ann-Marie Green, L’Harmattan, Paris, 2000.
- Monique Brandily : «Introduction aux musiques africaines», Cité de la Musique / Actes Sud, 1997
- Ouvrage collectif sous la direction de François Bensignor : «Les Musiques du monde»,
Larousse, 2002
Ouvrage collectif : «Les musiques du monde en question», Internationale de l›Imaginaire, n° 11.
Editions Babel - Actes Sud / Maison des Cultures du Monde, 1999

أعداد المجلة