فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
21

من حكايات الماء الشعبية وطقوسه حكاية قران العجائز، وطقس أم الغيث

العدد 21 - أدب شعبي
 من حكايات الماء الشعبية وطقوسه حكاية قران العجائز،  وطقس أم الغيث

‭} ‬وجعلنا‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬حي‭ {‬‭ ‬

‭      ‬الأنبياء‭ ‬30

 

يكاد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬اللهو‭ ‬الحديثُ‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالماء؛‭ ‬لأن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬لا‭ ‬يضيف‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة‭ ‬ما‭ ‬تضيفه‭ ‬لحظة‭ ‬عطش،‭ ‬أو‭ ‬شهقة‭ ‬تخمة،‭ ‬لكنّ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬الماء‭ ‬حديث‭ ‬ماتع‭ ‬مفيد،‭ ‬ولو‭ ‬استقصى‭ ‬الباحثون‭ ‬حضور‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬لخرجوا‭ ‬بمدوّنة‭ ‬عظيمة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الماء،‭ ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬ذلك‭ ‬العزيز‭ ‬المفقود،‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الهين‭ ‬الموجود،‭ ‬وسواء‭ ‬أكان‭ ‬ذلك‭ ‬الغامض‭ ‬الغريب،‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الحبيب‭ ‬القريب‭ ‬الذي‭ ‬تتطهّر‭ ‬به‭ ‬الأبدان،‭ ‬والأنفس‭.‬ 

ولسنا‭ ‬ذاهبين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الورقة‭ ‬إلى‭ ‬استقصاء،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬تدليل‭ ‬على‭ ‬المدلّل‭ ‬عليه‭ ‬مع‭ ‬الأنفاس،‭ ‬في‭ ‬حلّها‭ ‬وترحالها،‭ ‬وفي‭ ‬سكونها‭ ‬وغضبها،‭ ‬وإنما‭ ‬نهدف‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬في‭ ‬مفهومين‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي،‭ ‬هما‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬والطقس‭ ‬الشعبي،‭ ‬وهما‭ ‬مفهومان‭ ‬جديران‭ ‬بالتمييز‭ ‬بينهما،‭ ‬مع‭ ‬الإتيان‭ ‬بالأمثلة‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مفهوم‭.‬

 

الحكاية‭ ‬الشعبية

قصة‭ ‬اقران‭ ‬العجايزب‭ ‬نموذجا

مفهوم‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬وعناصرها‭:‬

يمكن‭ ‬القول‭ ‬وفق‭ ‬الموسوعة‭ ‬البريطانية،‭ ‬والموسوعة‭ ‬الألمانية،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الموسوعات‭ ‬التي‭ ‬تطرقت‭ ‬لتعريف‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية،‭ ‬إنها‭ ‬حكاية‭ ‬تخص‭ ‬الماضي،‭ ‬تنقل‭ ‬مشافهة،‭ ‬وتتوارثها‭ ‬الأجيال،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬مؤلف‭ ‬واحد،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مؤلفها‭ ‬الأول‭ ‬غير‭ ‬معروف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الراوي‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بأدائها‭ ‬هامشا‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬التصرف،‭ ‬والتعبير،‭ ‬وإدخال‭ ‬محسّنات‭ ‬تنبيهية‭ ‬أو‭ ‬تشويقية‭ ‬على‭ ‬الحكاية‭ ‬مع‭ ‬حفاظه‭ ‬على‭ ‬القصة‭/ ‬الحكاية‭ ‬الأصلية‭.‬

ويجمع‭ ‬الدارسون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الحكاية‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬الشعب،‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬مصدرها‭ ‬ليس‭ ‬واحدا‭ ‬بعينه،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬سردها‭ ‬ذلك‭ ‬الواحد‭ ‬الفرد،‭ ‬لأنه‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬مؤلفها،‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬شخصا‭ ‬بعينه،‭ ‬فإنما‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬ألفها‭ ‬استجابة‭ ‬لقلق‭ ‬مجتمعي،‭ ‬أو‭ ‬شعبي‭ ‬تجاه‭ ‬ظاهرة‭ ‬ما،‭ ‬أو‭ ‬رغبة‭ ‬شعبية‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬قوانين،‭ ‬أو‭ ‬تدوين‭ ‬معارف‭ ‬خاصة،‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬تجربة‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬اللاحقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬دائما‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الماضي،‭ ‬ولا‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬يحدث‭ ‬الآن،‭ ‬أو‭ ‬سيحدث‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لغتها‭ ‬هي‭ ‬اللغة‭ ‬الدارجة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬تروى‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬تروى‭ ‬في‭ ‬الإقليم‭ ‬الواحد‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة،‭ ‬وقد‭ ‬يرويها‭ ‬راويان‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬بطريقتين‭ ‬مختلفتين‭.‬

والأغلب‭ ‬أن‭ ‬عناصرها‭ ‬ثابتة،‭ ‬فهي‭: ‬حدث‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬فيه‭ ‬بطل،‭ ‬هذا‭ ‬البطل‭ ‬يسير‭ ‬نحو‭ ‬غاية،‭ ‬لكنه‭ ‬يتعرض‭ ‬لمعيقات،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الفرج‭ ‬من‭ ‬الطبيعة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬مساعد‭/ ‬منقذ،‭ ‬فيساعده‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الغاية‭.‬

أما‭ ‬حضور‭ ‬الزمان‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية،‭ ‬فهو‭ ‬زمن‭ ‬مطلق،‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمنحها‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الغاية‭ ‬المنشودة‭.‬

وزمن‭ ‬القص‭ ‬فيها‭ ‬تسلسلي،‭ ‬سببي،‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬أي‭ ‬تشويش،‭ ‬وكل‭ ‬حدث‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬يأخذ‭ ‬أهميته‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭ ‬التنبيه‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬أو‭ ‬التحذير‭ ‬منه،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭/ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬بمفهومها‭ ‬الفني‭.‬

الحياة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬ثابتة‭ ‬وقوانينها‭ ‬ثابتة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬كونها‭ ‬ناقلة‭ ‬للتجربة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تحفظها‭ ‬الأجيال،‭ ‬فدائما‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬هناك‭ ‬حل،‭ ‬ودائما‭ ‬ينتصر‭ ‬الخير،‭ ‬ودائما‭ ‬يكون‭ ‬مصير‭ ‬المتسرع‭ ‬الفشل‭.‬

والحياة،‭ ‬أيضا،‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬مقسومة‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬هكذا،‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬لبس،‭ ‬أو‭ ‬منطقة‭ ‬وسطى‭ ‬بينهما‭.‬

هذه‭ ‬الملاحظات‭ ‬نلخّص‭ ‬بها‭ ‬المفهوم،‭ ‬وبناء‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية،‭ ‬مع‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬حكاية‭ ‬وحكاية‭ ‬في‭ ‬التفاصيل،‭ ‬لكنّنا‭ ‬سنقف‭ ‬هنا‭ ‬على‭ ‬حكاية‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬الألسنة،‭ ‬وتأخذ‭ ‬أهميّتها‭ ‬من‭ ‬تكرارها‭ ‬على‭ ‬الألسنة‭ ‬كلّما‭ ‬حان‭ ‬زمنها‭.‬

حكاية‭ ‬قران‭ ‬العجايز

أقول‭: ‬هناك‭ ‬حكايات‭ ‬لا‭ ‬تنطبق‭ ‬عليها‭ ‬الخطاطة‭ ‬الشكلية‭ ‬السابقة،‭ ‬وقد‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬وفق‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬الحكاية،‭ ‬ونأخذ‭ ‬مثلا‭ ‬الحكاية‭ ‬الآتية‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬المجتمع‭ ‬الأردني‭ ‬والعربي‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬فقد‭ ‬قسم‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبي‭ ‬الزمن‭ ‬وفق‭ ‬خبراته‭ ‬معه،‭ ‬وسمى‭ ‬بعض‭ ‬الشهور‭ ‬أو‭ ‬الأيام‭ ‬بتسميات‭ ‬تحفظ‭ ‬له‭ ‬معها‭ ‬الخبرات‭ ‬التي‭ ‬تحصل‭ ‬عليها‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬مفهوم‭ ‬قران‭ ‬العجايز،‭ ‬وهو‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬زمنيا‭ ‬بآخر‭ ‬أربعة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬شباط،‭ ‬وأول‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬آذار‭.‬

الحكاية‭ ‬التي‭ ‬تعالج‭ ‬هذا‭ ‬المفوم،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬مكان،‭ ‬لكنه‭ ‬اختلاف‭ ‬لا‭ ‬يمس‭ ‬جوهر‭ ‬القصة‭/ ‬الحكاية،‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬يأتي‭:‬

كانت‭ ‬هناك‭ ‬عجوز‭ ‬قد‭ ‬ابتنت‭ ‬خيمتها‭ ‬كعادة‭ ‬البدو‭ ‬الرحل‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الأودية‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء،‭ ‬وقد‭ ‬ملّت‭ ‬العجوز‭ ‬الشتاء،‭ ‬والأيام‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬تحشر‭ ‬فيها‭ ‬هي‭ ‬وأغنامها‭ ‬في‭ ‬الخيمة،‭ ‬وعندما‭ ‬حلت‭ ‬الأربعة‭ ‬الأواخر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬شباط‭ ‬فرحت‭ ‬العجوز،‭ ‬وراحت‭ ‬تغني‭ ‬غناء‭ ‬تذم‭ ‬فيه‭ ‬شباطا‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬فرحتها‭ ‬فقالت‭:‬

راح‭ ‬شباط‭ ‬وشرّ‭ ‬شباط

ودسّينا‭ ‬في‭ ‬ا‭...‬ب‭ ‬مخاط‭ ‬

والمخاط‭: ‬الإبرة‭ ‬الطويلة‭ ‬التي‭ ‬تخاط‭ ‬بها‭ ‬بيوت‭ ‬الشعر‭....‬

وتقول‭ ‬الحكاية‭ ‬إن‭ ‬شباطا‭ ‬عندما‭ ‬سمع‭ ‬العجوز‭ ‬تغني‭ ‬وتشتمه‭ ‬غضب‭ ‬غضبا‭ ‬شديدا،‭ ‬وانتحى‭ ‬بشهر‭ ‬آذار‭ ‬لكي‭ ‬يعطيه‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬منه‭ ‬ينتقم‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬العجوز‭ ‬على‭ ‬شتمها‭ ‬له‭.‬

وقد‭ ‬غنّى‭ ‬شباط‭:‬

آذار‭ ‬يا‭ ‬بن‭ ‬عمّي‭ ‬ثلاثتك‭ ‬مع‭ ‬أربعي‭ ‬

‭                    ‬خلّي‭ ‬العجيّز‭ ‬مع‭ ‬الوادي‭ ‬تقرعي‭..‬

أي‭: ‬أنه‭ ‬يطلب‭ ‬من‭ ‬آذار‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬يضيفها‭ ‬إلى‭ ‬الأربعة‭ ‬الباقية‭ ‬منه،‭ ‬حتى‭ ‬ينتقم‭ ‬من‭ ‬العجوز‭... ‬فينزل‭ ‬مطر‭ ‬كثير‭ ‬يسيّلها‭ ‬مع‭ ‬الواد‭...‬

وتقول‭ ‬الحكاية‭ ‬إن‭ ‬آذار‭ ‬استجاب‭ ‬لطلب‭ ‬ابن‭ ‬عمه،‭ ‬ونزل‭ ‬مطر‭ ‬كثير‭ ‬فاض‭ ‬معه‭ ‬الوادي‭ ‬وجرف‭ ‬العجوز‭ ‬وأغنامها،‭...‬

وتقول‭ ‬الحكاية‭ ‬إن‭ ‬العجوز‭ ‬عندما‭ ‬جرفها‭ ‬السيل‭ ‬وأغنامها‭ ‬كانت‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬أغنامها‭ ‬وهي‭ ‬منجرفة‭ ‬بالماء‭ ‬وتغني‭ ‬بحسرة‭:‬

درّجهن‭ ‬يا‭ ‬سيل‭ ‬على‭ ‬مهلهن‭   ‬معاشير‭ ‬ولا‭ ‬يرمّن‭ ‬بهمهن

أي‭: ‬ترفق‭ ‬يا‭ ‬سيل‭ ‬بالأغنام‭ ‬لأنها‭ ‬حوامل،‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يطرحن‭ ‬أجنتهن‭...‬

وهكذا‭ ‬تنتهي‭ ‬القصة‭:‬

وبقراءتنا‭ ‬للقصة‭ ‬نجد‭ ‬أنّها‭ ‬ثبتت‭ ‬في‭ ‬الخيال‭ ‬والثقافة‭ ‬الشعبية‭ ‬خبرة‭ ‬الناس‭ ‬مع‭ ‬أشهر‭ ‬الشتاء،‭ ‬فشهر‭ ‬شباط‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬حتى‭ ‬ينتهي‭ ‬ويدخل‭ ‬آذار،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬نهاية‭ ‬شهر‭ ‬شباط‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تؤتمن،‭ ‬وعلى‭ ‬البدو‭ ‬أن‭ ‬يبتعدوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬عن‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬الأودية‭ ‬والسهول‭... ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬تم‭ ‬اختراع‭ ‬اسم‭ ‬للأربعة‭ ‬الأواخر‭ ‬من‭ ‬شباط‭ ‬والثلاثة‭ ‬الأوائل‭ ‬من‭ ‬آذار،‭ ‬فسميت‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬بـ‭ ‬قران‭ ‬العجايز‭.... ‬والقران‭ ‬يعني‭ ‬الشبك،‭ ‬والاقتران‭ ‬بين‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬شباط‭ ‬وأيام‭ ‬من‭ ‬آذار‭.‬

ومن‭ ‬قراءتنا‭/ ‬سماعنا‭ ‬القصة‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬مطلقا‭ ‬مجيء‭ ‬القصة‭ ‬على‭ ‬وتيرة‭/ ‬شكل‭ ‬وترتيب‭ ‬واحد،‭ ‬فهذه‭ ‬القصة‭ ‬نرى‭ ‬البطل‭ ‬فيها‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬السعادة‭ ‬إلى‭ ‬الشقاء‭ ‬أو‭ ‬الفناء،‭ ‬والبطل‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬شهر‭ ‬شباط‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬للذم،‭ ‬فجاء‭ ‬المساعد‭/ ‬شهر‭ ‬آذار‭ ‬ومنحه‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬يستطيع‭ ‬بها‭ ‬أن‭ ‬يقضي‭ ‬على‭ ‬الخصم‭.‬

ليس‭ ‬في‭ ‬القصة‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬والصراع‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬العلم‭ ‬والجهل،‭ ‬فالعجوز‭ ‬جاهلة،‭ ‬وجهلها‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أوردها‭ ‬التهلكة،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬المواقيت‭ ‬جيدا‭ ‬لما‭ ‬أساءت‭ ‬لشباط‭.‬

قصر‭ ‬الحكاية‭: ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬طويلة،‭ ‬وفيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفاجآت‭ ‬والتعقيدات،‭ ‬لكنّ‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬جاءت‭ ‬قصيرة،‭ ‬وبقليل‭ ‬من‭ ‬التأمل‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬مصدر‭ ‬القصة‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬قصرها،‭ ‬فمصدر‭ ‬القصة‭ ‬بدوي،‭ ‬والبدوي‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬الاختصار،‭ ‬لأن‭ ‬حياته‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الاختصار،‭ ‬فهي‭ ‬حياة‭ ‬تنقل‭ ‬وترحال‭ ‬مستمر‭ ‬في‭ ‬تتبع‭ ‬مناطق‭ ‬الدفء‭ ‬في‭ ‬الشتاء،‭ ‬وأماكن‭ ‬العشب‭ ‬والكلأ‭ ‬والماء‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬الفصول‭.‬

 

الطقس‭ ‬الشعبي

نموذج‭ ‬أم‭ ‬الغيث

 

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬تعني‭ ‬القصة،‭ ‬فإن‭ ‬الطقس‭ ‬الشعبي‭ ‬يعني‭ ‬الممارسة،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الحكاية‭ ‬الشعبية‭ ‬تعنى‭ ‬بتفسير‭ ‬الظاهرة،‭ ‬أو‭ ‬التربية‭ ‬ونقل‭ ‬الخبرات،‭ ‬أو‭ ‬التسلية،‭ ‬فإن‭ ‬الطقس‭ ‬الشعبي‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬تقليد‭ ‬للظاهرة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬أو‭ ‬محاكاة‭ ‬للحلم‭ ‬الجمعي،‭ ‬أو‭ ‬صلاة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حصول‭ ‬شيء،‭ ‬تحدّده‭ ‬الحاجة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الأمر،‭ ‬ثم‭ ‬يتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬تقليد‭ ‬كلّما‭ ‬مرّت‭ ‬الحاجة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تأسس‭ ‬لها‭.‬

وليس‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المبالغة‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬المحاكي‭ ‬الأول،‭ ‬وصانع‭ ‬الطقس،‭ ‬قد‭ ‬اجتهد،‭ ‬حتى‭ ‬يخرج‭ ‬الطقس‭ ‬بشكله‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه‭ ‬الجماعة،‭ ‬لكنّ‭ ‬اجتهاده‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ليخرج‭ ‬عن‭ ‬المحاكاة،‭ ‬محاكاة‭ ‬الطبيعة‭ ‬نفسها،‭ ‬أو‭ ‬المحاكاة‭ ‬المعاكسة،‭ ‬أي‭ ‬نقل‭ ‬المعرفة‭ ‬البشرية،‭ ‬والطقس‭ ‬البشري‭ ‬لتطبيقه‭ ‬على‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وفي‭ ‬الأول‭ ‬نستشهد‭ ‬بطقوس‭ ‬الماء،‭ ‬أو‭ ‬طلب‭ ‬الماء،‭ ‬حيث‭ ‬تشير‭ ‬عادات‭ ‬الشعوب‭ ‬وطقوسهم‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬تقليد‭ ‬نزول‭ ‬المطر‭ ‬عند‭ ‬أغلب‭ ‬الشعوب،‭ ‬يضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التقليد‭ ‬بعض‭ ‬الممارسات‭ ‬التي‭ ‬تجسّر‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والبشر‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الثانية،‭ ‬المحاكاة‭ ‬المعاكسة،‭ ‬فتقوم‭ ‬على‭ ‬خلع‭ ‬الطقوس‭ ‬والمعارف‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ومثاله‭ ‬فتاة‭ ‬النيل،‭ ‬أو‭ ‬عروس‭ ‬النيل،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقذف‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬موكب‭ ‬مهيب،‭ ‬يكون‭ ‬فيه‭ ‬النيل‭ ‬غاضبا،‭ ‬فيقوم‭ ‬الناس‭ ‬بإرضائه‭ ‬بعروس‭ ‬تزفّ‭ ‬إليه‭ ‬لكي‭ ‬يهدأ،‭ ‬أو‭ ‬يفيض،‭ ‬كما‭ ‬أورد‭ ‬ابن‭ ‬عبدالحكم‭ ‬في‭ ‬فتوح‭ ‬مصر،‭ ‬وأيّا‭ ‬كان‭ ‬رأي‭ ‬المحقّقين‭ ‬والعلماء‭ ‬برواية‭ ‬ابن‭ ‬عبدالحكم،‭ ‬فإن‭ ‬نفي‭ ‬الحكاية،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬نفي‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬اختراعها،‭ ‬وقد‭ ‬أشار‭ ‬غير‭ ‬باحث،‭ ‬وعالم،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حكاية‭ ‬ابن‭ ‬عبدالحكم‭ ‬خرافة،‭ ‬لكنّهم‭ ‬لم‭ ‬ينفوا‭ ‬طقسية‭ ‬الاحتفال‭ ‬بالفيضان،‭ ‬وتقديم‭ ‬الهديّة‭ ‬للنيل،‭ ‬وسواء‭ ‬أكان‭ ‬النيل‭ ‬زوجا،‭ ‬والأرض‭ ‬زوجة،‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬النيل‭ ‬عريسا‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬عروسه‭ ‬أو‭ ‬فتاته،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يهمّنا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬التقليد‭ ‬المعاكس‭ ‬في‭ ‬طقسية‭ ‬الماء،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬ثمّة‭ ‬هدية،‭ ‬وثمة‭ ‬إيحاء‭ ‬بالعرس،‭ ‬وثمة‭ ‬زفاف،‭ ‬وزينة‭ ‬واحتفال‭...‬

ولا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الطقوس‭ ‬تتغيّر‭ ‬مع‭ ‬الزمن،‭ ‬ويشوبها‭ ‬تحوير‭ ‬وفق‭ ‬التطورات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬التي‭ ‬تتأثر‭ ‬بدورها‭ ‬بالمؤثرات‭ ‬الطبيعية‭ ‬نفسها،‭ ‬كالطبيعة‭ ‬الجغرافية،‭ ‬ووسائل‭ ‬الإنتاج‭.‬

ونقف‭ ‬هنا‭ ‬عند‭ ‬طقسية‭ ‬الاستسقاء،‭ ‬ليس‭ ‬الاستسقاء‭ ‬المعروف‭ ‬وفق‭ ‬الشريعة،‭ ‬وإنما‭ ‬الاستسقاء‭ ‬وفق‭ ‬الطقوس‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬الشريعة،‭ ‬والتي‭ ‬شابها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬الشريعة،‭ ‬والمترسّب‭ ‬الجمعي‭ ‬للعادات‭ ‬التي‭ ‬سبقت‭ ‬الديانات‭ ‬السماوية‭.‬

ونموذجنا‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬وفق‭ ‬طقوس‭ ‬الاستسقاء‭ ‬بـ‭ (( ‬أم‭ ‬الغيث‭)).‬

 

النسخة‭ ‬الهندية،‭ ‬والنسخة‭ ‬العربية

يرتبط‭ ‬الاستسقاء‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬بالمرأة‭ ‬والطفل،‭ ‬ويشكل‭ ‬المسير‭ ‬في‭ ‬طرق‭ ‬القرية‭ ‬أحد‭ ‬الطقوس‭ ‬المشتركة‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬يقول‭ ‬فريزر‭ ‬في‭ ‬الغصن‭ ‬الذهبي‭: ‬

‭((‬وحين‭ ‬تشتد‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المطر‭ ‬في‭ ‬بونا‭  ‬في‭ ‬الهند‭ ‬يغطي‭ ‬الصبية‭ ‬أحدهم‭ ‬بأوراق‭ ‬الشجر‭ ‬ويطلقون‭ ‬عليه‭ ‬اسمسملك‭ ‬المطرس‭ ‬ويسيرون‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬موكب‭ ‬يمر‭ ‬بكل‭ ‬بيوت‭ ‬القرية‭ ‬حيث‭ ‬يرش‭ ‬صاحب‭ ‬الدار‭ ‬أو‭ ‬زوجته‭ ‬املك‭ ‬المطرس‭ ‬بالماء‭ ‬ويقدم‭ ‬لهم‭ ‬بعض‭ ‬أصناف‭ ‬الطعام‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬الموكب‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬كل‭ ‬بيوت‭ ‬القرية‭ ‬يجرّدون‭ ‬املك‭ ‬المطرس‭ ‬من‭ ‬ردائه‭ ‬النباتي‭ ‬الأخضر‭ ‬ويستمتعون‭ ‬بتناول‭ ‬الطعام‭ ‬الذي‭ ‬جمعوه‭))‬

ويتكرر‭ ‬هذا‭ ‬الموكب‭ ‬الاستسقائي‭ ‬عند‭ ‬مختلف‭ ‬الشعوب،‭ ‬وفق‭ ‬فريزر،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كلّ‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬عن‭ ‬الاستسقاء‭ ‬الشعبي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النهضة‭ ‬الحديثة‭ ‬ذكروا‭ ‬هذا‭ ‬الموكب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بطرق‭ ‬مختلفة،‭ ‬وقد‭ ‬فصل‭ ‬الباحث‭ ‬أحمد‭ ‬الحسين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة،‭ ‬وأجاد‭ ‬إذ‭ ‬ربطها‭ ‬بفضائها‭ ‬الأسطوري،‭ ‬ومتحققها‭ ‬الواقعي،‭ ‬يقول‭:‬

اوبداية‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬أن‭ ‬الرجال‭ ‬يطلبون‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬إقامة‭ ‬طقس‭ ‬أم‭ ‬الغيث،‭ ‬عندما‭ ‬يطول‭ ‬انقطاع‭ ‬المطر‭. ‬فتقوم‭ ‬الفتيات‭ ‬بتجهيز‭ ‬هيكل‭ ‬أم‭ ‬الغيث،‭ ‬وهو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مغرفة‭ ‬طعام‭ ‬من‭ ‬خشب،‭ ‬تثبّت‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الأعلى‭ ‬قطعة‭ ‬خشبية‭ ‬بمثابة‭ ‬الكتف‭ ‬واليدين‭. ‬ثم‭ ‬يكسى‭ ‬هذا‭ ‬الهيكل‭ ‬بثياب‭ ‬الفتيات،‭ ‬ويزيّن‭ ‬بالحلي‭ ‬الذهبية،‭ ‬والفضية‭. ‬ويغطى‭ ‬الوجه‭ ‬بقطعة‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬تسمى‭ ‬اهبريةس‭ ‬فتبدو‭ ‬أم‭ ‬الغيث‭ ‬عندئذ‭ ‬في‭ ‬فتاة،‭ ‬بكامل‭ ‬لباسها،‭ ‬وزينتها‭.‬

 

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تبدأ‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية،‭ ‬حيث‭ ‬ترفع‭ ‬فتاة‭ ‬هيكل‭ ‬أم‭ ‬الغيث،‭ ‬وتطوف‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ومن‭ ‬ورائها‭ ‬موكب‭ ‬الفتيات،‭ ‬والأطفال‭ ‬الصغار،‭ ‬وهم‭ ‬يردّدون‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬أنشودة‭ ‬أم‭ ‬الغيث‭ ‬بحركات‭ ‬راقصة‭.‬

 

ويقف‭ ‬الموكب‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬بيت،‭ ‬فترش‭ ‬ربة‭ ‬البيت‭ ‬الماء‭ ‬على‭ ‬المحتفلات‭ ‬ثم‭ ‬تعطيهنّ‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬القمح‭ ‬أو‭ ‬العدس‭. ‬وهكذا‭ ‬ينطلق‭ ‬الموكب‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬زيارة‭ ‬البيوت‭ ‬كافة‭.‬

 

وهنا‭ ‬يدخل‭ ‬الطقس‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثالثة،‭ ‬حين‭ ‬يجتمع‭ ‬الموكب‭ ‬في‭ ‬ساحة،‭ ‬وتظل‭ ‬أم‭ ‬الغيث‭ ‬مرفوعة،‭ ‬وتطبخ‭ ‬الحبوب‭ ‬في‭ ‬قدر،‭ ‬ثم‭ ‬توزع،‭ ‬وتؤكل‭ ‬كصدقة‭ ‬أو‭ ‬قربان،‭ ‬ويسود‭ ‬عندئذ‭ ‬جو‭ ‬من‭ ‬الاستبشار،‭ ‬ولا‭ ‬يغادر‭ ‬الحاضرون‭ ‬المكان‭ ‬إلى‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬انتظاراً‭ ‬للمطر‭. ‬فإن‭ ‬هطل‭ ‬الغيث‭ ‬انصرفوا‭ ‬إلى‭ ‬منازلهم،‭ ‬وإلا‭ ‬ّ‭ ‬جرت‭ ‬إعادة‭ ‬مشهد‭ ‬أم‭ ‬الغيث‭ ‬مرة،‭ ‬ومرات‭ ‬حتى‭ ‬يستجيب‭ ‬الله‭ ‬لدعوات‭ ‬الصغار‭ ‬وتوسلاتهم‭.‬س

 

وإلى‭ ‬عهد‭ ‬قريب‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن،‭ ‬قبل‭ ‬النهضة‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬أعادت‭ ‬الاستسقاء‭ ‬إلى‭ ‬قواعده‭ ‬الشرعية‭ ‬التي‭ ‬أقرّها‭ ‬الإسلام‭ ‬كان‭ ‬الاستسقاء‭ ‬يشبه‭ ‬تلك‭ ‬المسيرة‭ ‬المشار‭ ‬إليها‭ ‬أعلاه‭.‬

لقد‭ ‬شهدت‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬طقس‭ ‬استسقاء‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬المزار‭ ‬الجنوبي،‭ ‬في‭ ‬الأرن،‭ ‬ورأيت،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أذكر،‭ ‬النسوة‭ ‬قد‭ ‬تجمّعن،‭ ‬يحملن‭ ‬رداءً‭ ‬باليا،‭ ‬ويسرن‭ ‬في‭ ‬موكب‭ ‬مع‭ ‬الغناء‭:‬

يام‭ ‬الغـــيث‭ ‬غيثـينا‭           ‬بلي‭ ‬زريــع‭ ‬راعينا

يا‭ ‬ام‭ ‬الغيث‭ ‬يا‭ ‬دايم‭          ‬بلي‭ ‬زريعنا‭ ‬النايم

‭... ‬

إلى‭ ‬أن‭ ‬يصلن‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬المعروفين‭ ‬ببساطتهم،‭ ‬وصفاء‭ ‬نواياهم،‭ ‬فيلقين‭ ‬الرداء‭ ‬البالي‭ ‬على‭ ‬البيت‭ ‬ثم‭ ‬يعدن‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬بيتها‭.‬

ونستشف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المقارنة،‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

حضور‭ ‬المرأة‭ ‬وارتباطها‭ ‬بطقس‭ ‬الاستسقاء‭.‬

نداء‭ ‬اأم‭ ‬الغيثس‭ ‬وهو‭ ‬نداء‭ ‬قادم‭ ‬ربّما‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬المرحلة‭ ‬الأمومية‭ ‬في‭ ‬العبادات‭ ‬الوثنية‭.‬

حضور‭ ‬الترتيل،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬يرتبط‭ ‬بالمطلق،‭ ‬الإله‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬والله‭.. ‬إذ‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الاستسقاء‭ ‬التي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬المزار‭ ‬الجنوبي‭ ‬مزيجا‭ ‬من‭ ‬التأنيث‭ ‬والتذكير،‭ ‬فالنداء‭ ‬بأم‭ ‬الغيث،‭ ‬فيه‭ ‬تأنيث،‭ ‬وربّي‭ ‬فيه‭ ‬تذكير،‭ ‬إذ‭ ‬امتزجت‭ ‬الأنوثة‭ ‬بالذكورة‭ ‬في‭ ‬الغناء‭ ‬المصاحب‭ ‬لطقس‭ ‬الاستسقاء،‭ ‬ويفسر‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الأمومة،‭ ‬وما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬الإسلام‭ ‬بعد‭ ‬تغييب‭ ‬طويل‭ ‬للوعي‭ ‬الأصولي‭ ‬الإسلامي‭.‬

إن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬جديرة‭ ‬بدراسة‭ ‬خاصة،‭ ‬تتناول‭ ‬قوّة‭ ‬وضعف‭ ‬العقائد،‭ ‬وقدرة‭ ‬المخيال‭ ‬الشعبي‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬عقائده،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالطبيعة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنظر‭ ‬في‭ ‬تأنيث‭ ‬الطبيعة‭ ‬وغرائبها‭ ‬كلما‭ ‬خفتت‭ ‬قوّة‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية،‭ ‬أو‭ ‬ضعفت‭ ‬العقائد‭ ‬الفكرية،‭ ‬كأن‭ ‬الإنسان،‭ ‬في‭ ‬المطلق،‭ ‬يمتلك‭ ‬حنينا‭ ‬أزليا‭ ‬إلى‭ ‬أمّ‭ ‬كونية،‭ ‬منها‭ ‬تتفرع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬ومنها‭ ‬تتفرّع‭ ‬الأم‭.‬

 

المصادر‭ ‬والمراجع‭:‬

‭-‬1‭ ‬ابن‭ ‬عبدالحكم،‭ ‬فتوح‭ ‬مصر،‭ ‬تحقيق‭ ‬عبدالمنعم‭ ‬عامر،‭ ‬الهيئة‭ ‬المصرية‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة،‭ ‬ص‭ ‬205

‭-‬2‭ ‬انظر‭ ‬قراءة‭ ‬نقدية‭ ‬للحكاية‭/ ‬الخرافة‭ ‬في‭ : ‬نعمات‭ ‬أحمد‭ ‬فؤاد،‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي،‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬لقصور‭ ‬الثقافة،‭ ‬1997،‭ ‬ط1،‭ ‬ص‭ ‬169‭ ‬ذ‭ ‬180‭.‬

‭-‬3‭ ‬جميس‭ ‬فريزر،‭ ‬الغصن‭ ‬الذهبي،‭ ‬ص‭ ‬268

‭-‬4‭ ‬مجلة‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭-‬مجلة‭ ‬فصلية‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬اتحاد‭ ‬الكتاب‭ ‬العرب‭-‬دمشق‭ ‬العدد‭ ‬66‭ - ‬السنة‭ ‬17‭ - ‬كانون‭ ‬الثاني‭ ‬اينايرب‭ ‬1997‭ - ‬شعبان‭ ‬1417

أعداد المجلة