حضور التراث على المسرح-مقدمة في إزاحة الأوهام
العدد 15 - آفاق
تقليب الأوهام
لن يكون دقيقاً أن أعبر عن حضور التراث في النص المسرحي بأنه من قبيل الاستدعاء أو التوظيف ، أو نحو ذلك مما يدل على هامشية أدلة حضور التراث ، سواء في النص أو في العرض. وقد ساد النظر إلى حضور التراث في المسرح على أنه لا يعدو أن يكون تقنية عابرة، أو طريقة، أو أسلوباً يلجأ له الكاتب، أو المخرج حينما يشاء ذلك.. وحقيقة الأمر بخلاف ذلك كما سأبين من خلال العمل على تنحية الأوهام السائدة حول علاقة المسرح بالتراث، أو بأنساق الثقافة الشعبية بصورة كاملة.
أولاً : التراث ليس ماضياً
وأول ما يقلب ذلك النظر السائد إلى حضور التراث هو أن أحداً يصعب عليه الحفر في معنى المسرح دون أن يتمثَّل تلك الخصوصية الغامضة المتصلة بعلاقة المسرح بالتراث.. أو بالماضي. وربما كان هذا الحضور من الهيمنة، ومن التناقض، وربما من اللامحدودية بحيث أنه يشكل الجانب اللامتجانس في معنى المسرح ودلالته، ويحضر خطاب الماضي، أو التراث على المسرح لا كمرجع، ولا كوظيفة، ولا كزخرف، ولا كخلفية، وإنما كحركة يتشكل النص في سياقها، ومن خلال فضائها بأكمله، سواء من خلال الكتابة المباشرة أو التجريب المباشر على مفردات الماضي / التراث.. أو من خلال سلسلة من التقابلات والمشاكلات بين ما نرده إلى المفاهيم والظواهر التي يتيحها لنا الاستنباط من التراث، أو ما نرده إلى الاستعارات البلاغية التي يمنحها لنا استعمال التراث بوصفه خطاباً متماهياً أو متناصاً في خطاب النص (المسرحي).
ومن أجل توضيح هذه الصورة التي ربما بدت معقدة سأعود إلى مقاربة خطيطة وضعتها من أجل التعرّف على اختراقات حضور مستويات الزمن في المسرح، وتوضح لنا هذه الخطيطة أن أي منغمس انغماساً حقيقياً في المسرح يدرك أن لهذا المسرح حدّين قاطعين : أحدهما يغوص في الماضي، والآخر يغوص في الواقع، وأن الحراك المتبادل بينهما هو المؤسس الحقيقي للمعنى الجوهري في المسرح. ولم يكن المسرح في يوم من الأيام حتى مع المسرحيات التاريخية التي تتخذ من التاريخ مجرد خلفية زاهية، أو قطعة زمنية منفصلة، يغوص بأحد الحدين دون الآخر. فإمّا أن يكون بهما ويكون مسرحاً، وإمّا ألاّ يكون بهما فلا يكون مسرحاً.
والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق: هل المعنى أو الدلالة والرؤية تتجرَّد لأحد الحدَّين، وتنحاز له وحده ماضياً أو واقعاً؟.. أم أنها تعيد صياغة العالم بمنظور رؤية قوامها تشابك الأزمنة–الماضي والحاضر والمستقبل فوق أرضية مشتركة، ومنطقة متأججة بالصراع والتناقض وعدم التجانس؟.. وإذا كانت هذه الأرضية أو المنطقة التي تشكل مساحة النص (المسرحي) فإننا في هذه الحالة نستطيع اختزال حدِّ الماضي، وإن كان تاريخاً.. أو حكاية أو أسطورة بعيدة مع حدّ الواقع، فبنية النص المتناقضة اللامتجانسة هي قوام هذا الاختزال، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الماضي يقع في بؤرة منظور صاحب ذلك النص المكتوب (المؤلف)، وتبئير هذا المؤلف للماضي ظاهر وخفيّ، مفصح عنه أو مكنون ومعميّ. ولا يتموضع هذا التبئير إلاّ في الواقع الذي يحقق وجود المؤلف. مما يعني أن المسرح في أي عصر من العصور مهما غاب بعيداً مع الماضي، فإن ما ينجزه ليس للماضي وإنما للحاضر / الواقع (الزمن الذي ينجز النص).
إن هذا المعنى يقلب مفهوم الماضي بمعناه التراتبي، ويجعله مقترناً بالواقع في عمود واحد، لأنه في أبسط معانيه على المسرح أحداث وشخصيات تعكس زمنها التاريخي كما تعكس زمن السارد الواقعي (المؤلف/ المتلقي) إما بواسطة قانون الاستدعاء، أو الاستلهام أو قانون التوظيف، أو قانون الإسقاط الطبيعي أو العكسي.. وهكذا فإنه على المسرح يصاغ الماضي–وقد كان واقعاً قبل التشكّل على المسرح–ليكون تشكيلاً للواقع الذي يحدث الآن، أو المستقبل الذي سيحدث في زمن السارد (المؤلف / المتلقي). وفي كل الأحوال فإن هناك بؤرة ثابتة لا تميل عنها الحساسية المسرحية وهي الواقع. وإذا افترضنا هنا الخطيطة المرسومة لمادة المسرح كبوصلة تضم العديد من مستويات الزمن المتماهية بين ثلاثة فواصل رئيسية هي الماضي والواقع والمستقبل، فإننا سنرى مؤشر هذه البوصلة يتحرك أنَّى كان المصدر الأساسي للمادة الخام المكوّنة لشكل المسرحية ومادتها فقط، لكنه سيثبت دائماً أمام مفصل الواقع، كما يبينه الشكل التالي :
إن المكوّن الأساسي لحساسية النظر إلى الواقع لا يمكن افتراضه فوق حدّ منفصل عن الماضي.. فالزمن مسرح مطلق لتكوين هذه الحساسية دون قيود، أو شروط مسبقة، وهذا يعني أن الماضي لن يكون هامشياً على الإطلاق على خشبة المسرح، ولن يكون مجرد استدعاء أو توظيف، وهو ليس خلفية يتمُّ بها تطريز النظر إلى عالم الواقع، وإنما هو سيرورة، وحركة في التاريخ، وهو بهذا المعنى مكوّن جوهري لسلسلة من الأسباب والعلل والصور والأفكار سواء اتخذناها في نص الرواية، أو نص القصيدة، أو نص المسرحية.. وسواء نظرنا إليها فوق خشبة العرض المسرحي.. أو فوق حركة التاريخ.
ثانياً : التراث ليس أقنعة
يتوهَّم كثيرون بأن التراث من حيث كونه أحداثاً وشخصيات وثيمات ومفردات يشكِّل سلسلة من الأقنعة، يوظفها الكاتب من أجل مراوغة الرقابات المكنونة في المجتمع حول الأفكار وحريات التعبير، وهم لذلك يفسرون انهماك عدد من الكتّاب بموضوعات التراث والتاريخ والأساطير بأنه مؤشر على أزمة الحريات في المجتمعات العربية، وهو مظهر لحضور رقابات السلطة والدين والتقاليد..
وأعتقد أن التفسير السابق لا يرتكز على فهم جوهري للمسرح ولا للتراث، وإنما يعتمد على فهم المسرح بوصفه موضوعات تتقاطع مع المحرمات السائدة في المجتمع.. وقد ساد اعتقاد لفترة طويلة من تاريخ المسرح العربي بأن المسرح هو معالجة موضوعات السياسة والسلطة والمحرَّمات بوجه خاص، سواء اتصلت بالدين أو بالجنس أو بغيرها. وتوسّع هذا الاعتقاد إلى الحدِّ الذي وصل فيه فهم البعض للمسرح بأنه معالجة كل مشاكل المجتمع في آن واحد.
مثل هذه النظرة وضعت المسرح في مواجهة بدون شك أمام المجتمع والسلطة والقوانين والتقاليد، فتحوَّل إلى صفوف السياسة والايديولوجيا، ووقفت منه السياسات الثقافية الرسمية مواقف مضادة، وأصبح–أي المسرح–وسيلة انتهازية في يد المصفوفات السياسية جميعها، ومن ثم قلَّ الإبداع فيه، وكثر الخطاب الايديولوجي المتكىء على التراث.. والمتستر بأقنعته المختلفة من شخصيات وأحداث ورموز اقترنت باستمرار بمعنى السطلة والسلاطين، وما ينضوي في ذلك من دلالات نمطية سائدة ومعروفة في الثقافة العربية.
مثل هذه النظرة «النفعية» «الانتهازية» خلقت أوهاماً مضلّلة حول معنى المسرح أولاً.. وحول كيفية علاقته بالتراث ثانياً.. فالمسرح في سياق هذا الوهم هو المنبر الأوسع للايديولوجيا وللسياسة.. والتراث هو مستودع الأقنعة، وهو المعادل الموضوعي لكل ما يجري بين ظهراني السياسة والسلطة والمواطن والمجتمع من قضايا الاستغلال والظلم وغياب الحريات الخ..
وسط هذا الاعتقاد وتلك الأوهام شاعت مصطلحات «الإسقاط السياسي» و«التوظيف» و«الاستدعاء» و«التثوير» ونحوها مما اقترن باستخدام التراث على المسرح من مصطلحات استهلكها النقد الأدبي لعقود من الزمن.. وهي كلها تشير إلى أن شروط التراث تفرض هيمنتها على كيفية انبناء الخطاب في النص المسرحي.. إنَّ خطاباً بأكمله هو خطاب التراث والثقافة الشعبية وشخصياتها وأقنعتها يراد لها الحضور بشكل مسبق على حضور خطاب أكثر منه تعقيداً ودقة وإشكالية وهو خطاب النص.. وهناك مساحات كبيرة تعمل في خطاب النص المسرحي لم يَنْظُر لها النفعيون السابقون بعين الاعتبار وهي مساحات اللاشعور، والاستيهام، واختراقات العادة والمألوف، واشتغالات اللامنطق في خلق المنطق، واشتراطات أخرى معقدة وغير متجانسة لا حصر لها، تعمل جميعها كمرجع في تكوين خطاب النص بعيداً عن الاستباقات التراثية الجاهزة.
ثالثاً : التراث ليس هوية منغلقة
ارتبط مفهوم المسرح خلال مايزيد عن ثلاثة عقود، وحتى الآن بشعار العودة إلى التراث من أجل خلق مسرح عربي أصيل، أو دراما ذات هوية عربية أو ذات طبيعة درامية عربية. وبينما كان الأوربيون يستلهمون من التراث الشرقي/ والعربي ما يصقل إحساسهم بالمعنى العميق والإنساني للمسرح ومن ثمَّ للحياة، وما يجعلهم أكثر قدرة على امتلاك أدوات وتقنيات ومناهج تجريبية جديدة من أجل تأسيس مفهوم إنساني شامل للمسرح.. أقول بينما ذلك يحدث نجد العكس في المسرح العربي. وما شعار «ربط التراث بخلق مسرح عربي» إلا الصيغة المباشرة المعبرة عن النكوص بالمعنى الإنساني في فن المسرح.. ومن ثمَّ في فهم طبيعة حضور التراث في الحياة العربية.
لقد أصبحت مشكلة المسرح العربي خلال سنوات عديدة تتلخص في الذهاب إلى التراث دون مصاحبات عقلانية، واعتقد الجميع في ذلك نوعاً من التجريبية الجديدة، خاصة أنها توافقت مع إشكالية الأصالة والمعاصرة في الثقافة العربية، وتداعياتها في الفن، والفكر والسياسة والمجتمع والتنمية، وقد كرّست العقود الثلاثة الأخيرة مقولة التراث على المسرح بوصف التراث ممثلاً للأصالة في مقابل القالب المسرحي الأوروبي بوصفه ممثلاً للحداثة أو المعاصرة، وبذا جرى استلهام التراث على هذا النحو التصنيفي المتعسِّف، ووضعت حلقات التراث ومساحاته في سياقات تقابلية مع قوالب مسرحية أوروبية هي في الأصل ذات سياقات تراثية في الثقافة التي تنتمي إليها.. إذ من يستطيع أن يفكّ علاقة المسرح اليوناني بالتراث، أو المسرح الروماني بالتراث، ومن يستطيع أن يجرّد مسرح شكسبير من التراث والتاريخ، أو مسرح أبسن وسترندبيرغ وبرتولد بريخت وموليير وراسين وكورني.. وهل يستطيع أحد أن يفصل اشتغالات المخرجين المسرحيين العظام أمثال ستانسلافسكي ومايرخولد وغيرهم عن تراثهم الثقافي الذي قضوا عمرهم يحفرون فيه، وينقبّون في خلاياه.
ومرة أخرى ينحرف النظر إلى التراث لأسباب غير عقلانية فوق خشبة المسرح، فوسط الخطاب المنغلق على الايديولوجيا القومية الذي سيطر على الثقافة العربية منذ الستينات انهمكت التطبيقات العملية في هذه الثقافة مع مقولة التراث.. فالمشروع القومي لم ينتقل إلى حيّز الواقع في أية تجربة عملية (عقلانية وديمقراطية) وإنما بدأت سلسلة إخفاقاته تتوالى.. وبدأت سلسلة من دعاوى الاشتراكية تتحوَّل إلى سلسلة من دعاوى الليبرالية، وفي هذا السياق وجدت مقولة التراث تربتها بحثاً في الماضي التقليدي، وإثباتاً لإمكانيات الذات القومية والايديولوجية المتراجعة.إن المسرح العربي–إذن–لا يذهب إلى التراث مبرءاً من الاستباقات التاريخية المندمجة في سياقات الظروف الطارئة التي مرت بها الأمة العربية، وإنما انغمست فكرة التراث في هذه الظروف وأصبحت إحدى شروطه.. بينما هي على المسرح تخترقها شروط مغايرة، ومختلفة تماماً عن شروط كونها ظرفاً تاريخياً طارئاً..
أما مسألة الشغف بإثبات الهوية العربية عبر التراث على المسرح فهي تتناقض مع عقلانية التجريب الذي خرجت في أوساطه أولاً.. وهي لا تنسجم مع خطاب النص الذي يتأسس عبر شروط متسقة ومتعارضة، منسجمة وغير منسجمة، وذلك لأن الهوية فعلٌ نشحذ به قراءتنا للنص، إنها شحنة ثقافية نملأ بها ما يسميه رولان بارت بالمساحة الفارغة الموجودة في النص. وهي لذلك طارئة.. ومتداخلة مع نشاط التأويل والقراءة المعاكسة–ربما–للنص. ومن ناحية ثانية فإن شعارات الهوية المطروحة تتعارض مع عقل التجريب الذي يفترض إلغاء حواجز الهوية، وحواجز المصفوفات الاجتماعية التي تصنعها رواسب وأنساق المجتمع الثقافية. ومن أجل ذلك أستطيع القول أن الكمّ الكبير من نصوص المسرح العربي التي ذهبت إلى التراث لم تؤصل مسرحاً عربياً، وإنما استعادت تقنيات أصَّلتها كشوف المسرح الأوروبي الحديث، وخاصة عند بريخت وغيره، والجانب الذي أصَّلته حقاً لا يتمثل في ابتكار تقنيات ووسائل وصور وأشكال، وإنما يتمثل في وضع كمٍّ مسرحي عُني بتفسير وقراءة التراث لا غير. ينطبق ذلك على مسرح توفيق الحكيم وسعد الله ونوس وألفريد فرج ومحفوظ عبدالرحمن وعزالدين المدني وصلاح عبدالصبور وغيرهم.
رابعاً : التراث ليس إسقاطاً
حين نقلِّب أكثر في تلك الأوهام السائدة، ونعيد النظر في تجاربنا المسرحية، بعيداً عن سلطتها ستبدو فكرة المسرح نقية، من النقاء بحيث لا توصف.. عميقة من العمق بحيث لن تدرك.. معقدة وغير منسجمة من التعقيد وعدم الانسجام بحيث أنها لن تجعلنا نفرغ تماماً من قراءتها وتأويلها.. بل إنها لن تتسع لها نصوص تجربة مسرحية محددة في مجتمع مّا، أو محيط مّا.. أما التراث في النص المسرحي فلا يمكن أن أنظر إليه إلاّ بوصفه حركة في نسيج ذلك النقاء والعمق والتعقيد، وهو حركة في نسيج الفضاء الذي يسرده النص. وسواء كان هذا التراث موجوداً أو متناصّاً أو متخيّلاً فإنه عرضة للتناقض والتعارض مع تشكيلات نسيجية موازية لا حصر لها.
سيخضع التراث–إذن–إلى عمليات تحويلية صعبة، وشائكة، استعارات، وتمثلات، وتعارضات لا حصر لها، ستجعله يقوم بالتمثيل.. تماماً كما ستقوم أية مادة مستعارة بمثل هذا التمثيل، سواء جاءت على لسان هذه الشخصية أو تلك.. فالتراث لحمة داخلية من صور وأفكار، وليس شحنة خارجية من إسقاطات التأويل والقراءة، كما افترضت ذلك الكثير من النصوص المسرحية الايديولوجية.. ولذا لا أتمثله إلاّ بوصفه حركة ذهنية تجري داخل النص، وتكوِّن بنيته مع جملة حركات ذهنية أخرى لا حصر لها، لكنَّه لن يكون حركة هامشية، إنه حركة تتصف بالحضور المركزي، والحضور الذي أعنيه أعمق وأشمل من مصطلحات الاستدعاء والتوظيف والإسقاط والتأثير ونحوها.. الحضور هنا يعبر عن هيمنة نسقية لها من القوة بحيث لا يمكن وصفها بأي مصطلح يُقصي درجات حضورها ولو بشكل جزئي، أو يختزلها في سياقات وتجليات هامشية.. إن الحضور الذي أعنيه طاقة متخفّية، وقوة مهيمنة وموجّهة للمفاهيم والتصوّرات. والقوة أو الهيمنة أو الطاقة.. تقرِّب مفهوم الحضور الذي أعنيه من الصيغة النسقية التي تتحوّل فيها مادة التراث إلى أفعال ومواقف وأفكار نفسّر بها الواقع وكأننا ابتعدنا عن التراث، بينما النسقية تنخرط بنا في الحضور الشامل للتراث. وأرى بأن تصوّر علاقة «الحضور» بين التراث والمسرح هذه ستُعين على إعادة تقييم أدبية نصوص المسرح، كما أنها ستُنحِّي الكثير من التصورات أو الأوهام غير الدقيقة في علاقة التراث بالمسرح.
لقد خلّفت تلك الأوهام التي حاولنا إزاحتها–عبر الشكوك، وأسئلة النفي العقلاني–سلسلة من التناقضات المهيمنة في النقد للمسرح من جهة، وفي التنظير للتراث على المسرح من جهة أخرى، فقد ساد النظر إلى التراث بأسلوب توظيفي، أو استدعائي أو استلهامي، أو إسقاطي، وهذه أدوات تنظير لا قبل لها بتشخيص حالة الحضور النسقي للتراث على المسرح، لأنها–في اعتقادي–تتشابك جميعها في تشخيص حالة الحضور «النسقي للتراث».
إن مصطلح «الحضور» يصف لنا بشكل بنيوي/ أفقي ظاهرة العلاقة بين المسرح والتراث، وفي نفس الوقت يهيىء لهذا المصطلح الاستجابة النقدية والفكرية لمحايثة الحضور العمودي للتراث أيضاً، خاصة عندما تصطنع المئات من النصوص المسرحية حضوراً بازغاً (مباشراً) أو تتقنّع بحضور خفي يعيد إنتاج مفاهيم التراث وثيماته، دونما حاجة إلى استخدام حكاياته ومفرداته المباشرة.. وفي كلتا الحالتين فإنّ الذهاب إلى كشف التجليات العميقة لبنية الحضور لابدّ أن يراود نصوصاً عملية بالتحليل والنقد وهو ما أرجو أن أفسح له مقالة أخرى.