فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
12

الحرف التقليدية أهمية ومنهجية دراستها

العدد 12 - ثقافة مادية
الحرف التقليدية أهمية ومنهجية دراستها
كاتب من لبنان

الحرف التقليدية منظومة عملية وثقافية، إنها طرائق وفنون لصناعات مختلفة، تنشأ عادة عن مثال القديم، ويحور فيها الحرفيون حيناً بعد حين. وقد تنوعت أساليب الأداء عبر العصور تبعاً لما يطرأ على المجتمع بعاداته وتقاليده واحتياجاته من التغير والتحول.

ودراسة الحرف من وجهة نظر انتروبولوجية مع الإطلالة التاريخية على بنية هذه الحرف تسهم في فهم طبيعة الحياة في مجتمعاتنا. ومن هنا تأتي أهمية معرفة طريقة الأداء لهذه الحرفة أو تلك ومدى ازدهارها أو ضمورها وما هي التأثيرات التي تنتابها في المجتمع.

إن تحول أشكال المادة الأولية إلى سلع للاستخدام المنزلي، جاء في سياق الاقتصاد المنزلي القائم على الاكتفاء الذاتي، ثم تحول مع الزمن إلى سلعة للتبادل في مجال السوق. وبرز الحرفي المتخصص، أي حرفي القرية الذي يعمل في مشغل خاص وبأدوات عمل بسيطة لكي يلبي حاجات المجموعة التي ينتمي إليها. وتلا ذلك الحرفي المصنِّع الذي بدأ باستخدام أدوات أكثر تعقيداً أو مكننةً بالاعتماد إلى حد بعيد على الطاقة المتوفرة. وتلا ذلك العامل المتخصص الذي يعمل باستخدام وتسيير آلة في منشآت صناعية، هنا العامل مأجور يعمل داخل مؤسـسة حيث وسائل الأفعال منفصلة عن الفاعلين، يدير آلة فقط إذ يقوم بعمل جزئي أو كلي خارج نطاق الإبداع الشخصي.

مع تتابع المراحل، والتغير التقني الموازي، كان ثمة تحول وتغير ثقافي هي المادة التي تركز عليها الدراسات الانتروبولوجية البحث والتحليل وما موضوعنا إلا أحد الجوانب الذي نركز عليه في ثقافة مجتمعنا.

والحرف التقليدية هي موروثات شعبية يسيطر عليها طابع الإهمال لعدم تدوين عناصرها أو تسجيلها، وندرة الأبحاث التي تتناولها. فهذه الحرف التي لا تزال تختزن موروثاً من الناحية العملية والنظرية، نتيجةً لتصوير الواقع وتدوين ما تبقى في ذاكرة الناس، بالتجميع والتوثيق للمعطيات كافة، أمر جوهري لكي نتلافى الوقوع في أخطاء من سبقنا وإهماله خاصة أننا الآن أمام واقع متغير بشكل مستمر وسريع، فالتدوين حاجة أساسية وضرورية لتأريخ حقبة معينة من حياة الناس وتسجيلها بحيث أنها تحمل في ثناياها جزءاً من هوية مجتمعنا، وهدفنا الأساسي معرفة النقاط الأساسية لواقع هذه الحرف بأبعادها التاريخية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بغية المحافظة عليها بتسجيلها، وتدوين القيم السائدة والتعمق بتحليلها، وإبراز ماهيتها بتوجيه الأنظار إليها، وإعطاء صورة عن الحرفة وحرفييّ اليوم وتجميع معطيات عن الحرفة وحرفيي الأمس، وهذا مجال اكتشاف علمي وبخاصة في مجال الانتروبولوجيا الثقافية. فالتراث واللغة وأشكال التطور في تاريخ الإنسان الذي هو محور الدراسات الانتروبولوجية، وهذه الأطروحة تنضوي في إطار هذه الدراسات، هدفها إعطاء صورة عن الواقع الذي يمدنا بمعطيات تمثل جانباً حضارياً لشعب معين، وتدلنا على تاريخه وذوقه الفني وإبداعه وعاداته وتقاليده ومراحل تطوره ثم تطويره. وعرض واقع الحرف التقليدية حالياً يجب أن يترافق مع إطلالة تاريخية وتعقب الفترات الزمنية التي يمكننا الوصول إليها من خلال ذاكرة الناس ومن خلال ما كتب، والتركيز بالبحث والتحليل لهذه المعطيات كونها تعكس واقعاً اجتماعياً ومادة حية ترمز لمختلف صور هذا الواقع. إذ نجد أحداثاً بارزة كان لها الأثر على مجريات الأمور وانعكاسها على الحرف التي هي موضوع دراستنا.

أريد أولاً أن أسرد رواية رمزية قرأتها منذ فترة طويلة، ومضمون الرواية يقول: أقيمت في السماء وليمة مقدسة على شرف المخترع الأول. بدأ المخترعون بالتوافد، والحارس يسأل كلاّ منهم عن اختراعه: الجاذبية، والكهرباء، والهاتف، والراديو، والآلة البخارية، والدولاب، والنار، والفخار.... ومازال يأمرهم بالوقوف جانباً حتى أتى شخص يكسو جسده الشعر وهو شبيه بإنسان اليوم. سأله عن اختراعه فأجاب: أنا أول من استعمل يده. قال الحارس: تفضل الوليمة على شرفك.

هذا هو الحرفي الأول، الذي بدأ باستعمال يديه ليقطع الأغصان ويشذبها ثم يصقل الحجارة والعظام ليصنع أدوات تسهل عليه سبل العيش. فالإنسان منذ وجوده هو حرفي يحاول دائماً اكتشاف أو صنع أدوات تساعده في حياته.

والحرف تواجدت منذ القدم؛ ففي لبنان مثلاً، وأيام الفينيقيين كانت صناعة الزجاج، والفخار، والصباغ، والنسيج والسفن... فازدهرت على طول الساحل اللبناني وتطورت واستمرت خلال الحقب التاريخية المتتالية لتتدهور إثر غزو المغول. ليأتي بعد ذلك الحكم العثماني الذي أبقى عليها ولكن بشكل شبه جامد. وفي تلك الفترة برزت المنافسة مع السلع الأجنبية التي بدأت تتزايد وتغزو الأسواق إلى أن أخذت شكل الاحتلال المباشر بعد الحرب العالمية الأولى، التي أثرت سلباً في هذه الحرف ثم استمر التحجيم أثناء فترة الانتداب إلى أن حدثت الأزمة الاقتصادية العالمية، ثم الحرب العالمية الثانية حيث نمت الصناعات المحلية بعد تحول الاهتمامات الغربية إلى أمور تعتبر أكثر أهمية في نطاق الصراع الدولي.

ثم توالت بعض المحطات الأساسية المؤثرة، كالتحولات السياسية والاقتصادية في المنطقة، من احتلال فلسطين في العام 1948 وإقفال الحدود الجنوبية، وتحول التجارة من حيفا إلى بيروت، ثم التحولات السياسية في المنطقة واضطرابها، وبروز عائدات النفط، وإقفال قناة السويس، والاتفاقات التجارية مع سوريا ثم مع الدول العربية والأجنبية، ثم اضطرابات الحكم في المنطقة التي أدت إلى تحول الأموال إلى لبنان. مجمل هذه الأحداث انعكس على لبنان وترك تأثيراته السلبية والإيجابية.

فالمرحلة التي سبقت الستينات تعتبر مرحلة نشوء وتطور الصناعة اللبنانية. هذه الفترة وحتى أواسط السبعينات تميزت بالاستقرار السياسي والاقتصادي الذي أدى إلى انتعاش الاقتصاد اللبناني وهي فترة صعود الصناعة وازدهارها، مع العلم أنها لم تتطور بالشكل الذي تطور فيه قطاعا التجارة والخدمات. ثم تراجعت الصناعة إثر الحرب الأهلية عام 1975 التي تركت بصماتها السيئة على هذا القطاع، وهي الآن بطور لملمة الجراح ومحاولات جاهدة للنهوض.

ولدراسة الحرفة من الأفضل الانطلاق من اعتبارات عدة منها:

الانتشار: تتميز الحرفة  بانتشارها في المكان الجغرافي بحيث نجد تحولاً من حرفي القرية إلى القرية الحرفية. فأي أثر تركه هذا الانتشار في مستوى البناء الاجتماعي؟ حيث ينتمي معظم الأفراد إلى حرفة واحدة، وهنا يتساوى الجميع، وتخف حدة الصراعات المحلية وأبرزها الصراع بين العائلات، فالعلاقات تأخذ طابع الانتماء إلى الحرفة الواحدة، وتنشأ علاقات اجتماعية أساسها اقتصادي وهدفها التعاون والمصالح المشتركة. ويدخل كذلك أثر البيئة الجغرافية من خلال وجود مواد أولية من نبات أو تربة أو حيوان. وكذلك للوسط الاقتصادي أثر، فالإنتاج الحرفي يتمم ويدعم قطاعاً إنتاجياً آخر. فالحرفة تتمم العمل الزراعي أو تنتج حرفا ثانية، كل ذلك في سياق تجاري واندماج تكاملي في بنـاء اقتصادي اجتماعي. فالتطابق بين الحرفة والمكان أمر بارز، وحُصِرَ بحثنا في حرفة متمركزة في موقع جغرافي محدد. والملاحظة التي لابد من إبرازها، أن حصر الحرفة في مجال جغرافي ممكنٌ من زاوية مادية بحتة للتعريف أو الحصر، ولكن من وجهة نظر اجتماعية أو اثنولوجية فإن الموروث الشعبي المتمثل في الحرف كأحد عناصر دراستنا لا يمكن حصره في حيز ضيق، قرية أو بلدة. فكل ما يتعلق بهذا الموروث هو حصيلة تفاعل مع محيط يتسع أو يضيق حسب ظروف متنوعة. وهنا إن الفواصل والحدود ربما تكون مصطنعة، فعندما نقول: «حرفة لبنانية» كالفخار مثلاً والمتواجدة في قرية لبنانية هي راشيا الفخار هذا صحيح جغرافياً ولكن هذه الحرفة تتفاعل مع محيط واسع يتخطى لبنان ليطال جنوب سوريا (منطقة حوران والجولان) وشمال الأردن وشمال فلسطين، وربما تقلص هذا الدور لظروف طارئة، وهذا ما يتوافق مع حرفة الأحذية كذلك.

القـِدَمْ: تتميز الحرفة بالقدم وأحيانا لم نتمكّن من معرفة منشئها. وقد تميزت  إلى جانب القدم بازدهارها في مجال جغرافي واسع طال المناطق المجاورة، كما تحدثنا سابقاً، هذا في الماضي أما حالياً فما هو واقع هذه الحرفة على مختلف الأصعدة؟. وأي واقع ديمغرافي للحرفيين؟ وهذا مؤشر لمعرفة أعمار حرفيي اليوم ومدى الاستمرارية في المستقبل في حال استقطاب العناصر الشابة.

التغيُّر: نجد حراكا وتغييراً وربما ضموراً كلياً للحرف. وهذا يندرج في الهدف الأساسي في تسليط الضوء لمعرفة واقع الحرف التقليدية باندثارها أو انحدارها وضمورها أو تطورها وازدهارها. وأية عوامل أثرت في ذلك؟ فهل من أثر لغياب مؤسـسات الدولة التي ينبغي أن ترعى هذه الحرف بالدعم والمساعدة والإعداد والإنتاج والتوجيه؟ بحيث أننا لا نجد مديرية عامة للشؤون الحرفية كما في معظم الدول. أو دعم الاستيراد وتخفيض الضرائب أو عدم السماح بتصدير مواد أولية يمكن تصنيعها. ثم عدم إنشاء تعاونيات حرفية وعدم إدخال أصحابها في الضمان الاجتماعي أو الصحي. أم أن أفق الحرفة محدودٌ؟ بحيث أنها لم تدخل في المشروع العام على مستوى الوطن أو الخلل في بنية الاقتصاد الوطني ببروز قطاعات إنتاجية على حساب قطاعات أخرى. كقطاع الخدمات والتجارة اللذين تقدما على قطاعي الصناعة والزراعة. والحرف تدخل بشكل هامشي في القطاع الصناعي المهمش. مع العلم أنه إذا تمت المقارنة بالماضي المزدهر لهذه الحرف فإننا نجد التكامل الاقتصادي قائماً وتترابط ضمنه عناصر المجتمع، وظاهرة الأسواق أبرز دليل على ذلك.

وأي فارق أو تغير بين حرفي الأمس وحرفي اليوم؟ هل ما زال الطابع الحرفي لإنتاج سلعةٍ بكاملها من قبل عامل واحد؟. فالحرفي هنا مبدع، يعطي وينتج سلعـاً، لكل واحدة مميزاتها، وإن تشابهت للوهلة الأولى. فهو كالرسام الذي لا يمكنه إنتاج لوحات متشابهة مهما كانت الظروف. فالحرفة تعتمد الإبداع والحركة والتوازن، أي تناغماً بين الجسد والقدرات العقلية. فحرفي اليوم ليس كمثيله بالأمس. فالعمل حاليا انقسم والسلعة تنتج بواسطة عدة أشخاص لكل دوره حسب مقدرته وربما حسب جنسه وعمره. وهذا الأمر يختلف بين الحرف.

وبالمقابل فإن الحالة الاقتصادية والمعيشية للحرفي تؤثر في مدى إبداعه وعطائه وإتقانه للعمل. فالحرفي الذي ينتج سلعة مميزة هي مثار مفاخرة ومباهاة. فهل العوامل المحيطة تجعله أكثر التصاقاً بحرفته وأكثر عناية بها؟ بعض الحرفيين لا يزال يقوم بالأعمال الموروثة نفسها بأدواتها وموادها وطريقة الصنع وإنتاجها القليل، رغم المردود المادي المحدود. يبررون ذلك بعامل الاعتياد وملء الوقت بعمل منتج ولو كان يسيراً. وهذا  مقترن بالمحافظة على الوظيفة والدور الاجتماعي. وبذلك تكون الحرفة هي انتماء ثقافي اجتماعي وليست للكسب وحسب.

وهل حرف اليوم لا تزال بإطارها التقليدي الشعبي كما ورثها الأبناء عن الآباء ومن ثم عن الأجداد؟ وهل هناك إبداع وتصنيع أم تركيب وضع على مثال معين وأي تغير حصل كمياً ونوعياً في إطار المادة والأداة وطريقة الصنع؟ هل تغير الحرفي وهل لديه الاستعداد لتقبل الجديد وتحديث حرفته؟ وهل من تغير حصل من داخل الحرفة؟ وهل للعناصر الوافدة أهمية في تطوير وإغناء الحرفة؟.

التسويق: للسوق أهمية في تواجد الحرف ونموها. فالعلاقة بين السوق والحرفة مهمة. فالحرفي بدأ بإنتاج فردي ليفي بحاجاته الخاصة، ليصبح حرفي القرية وبعدها حرفي المنطقة وهكذا بدأ الاتساع من الخاص إلى العام. والأرجح أن لكل مجموعة سكانية حرفيييها، ثم لاحقاً بدأ الاختصاص في بعض القرى، وهذا ما حصل في راشيا الفخار وغيرها...

مع وجود السوق اتسعت دائرة الاستهلاك، ودائرة التبادل فزاد الإنتاج ثم الخروج عن الدائرة الأولية في الإنتاج بما يعرف «بالتوصاية» أي الطلب المسبق لإنتاج السلعة إلى مبدأ التراكم وبدون طلب مسبق.

والتكامل الاقتصادي القديم القائم على أسواق موزعة طيلة أيام الأسبوع، تتمم بعضها بعض بشكل تكاملي في سلسلة من مجموعة حلقات. وكان للسوق طابع قومي بحيث يجمع اللبناني مع الفلسطيني والسوري والأردني. ويجمع البلدان والقرى التي تتكامل مع مثيلاتها. أدى ذلك إلى الخروج من دائرة القرية إلى نطاق أوسع بحيث تم تشكيل مجموعات يتكامل فيها الإنتاج والتوزيع وهي عبارة عن مجموعة حلقات تشكل دائرة اقتصادية. وقد أدى ذلك إلى تطور الحرف وازدهارها.

ثم مع تغير الطابع القديم للسوق، تعددت الأسواق بعد أن كانت قليلة العدد. وأصبحت معظم القرى تقيم أسواقها الخاصة. ومع سهولة التواصل بين المناطق والمدن، اتسع هامش الاستبدال. وتم استيراد سلع مثيلة للإنتاج المحلي أو سلع تحل محلها وظيفياً.

إثر ذلك بدأت الدائرة  تتسع، والتواصل يسهل. فالسوق تخطى النطاق المحلي ليصبح عالمياً. انعكس ذلك على الحرف وبدأت المادة تتغير وكذلك الأداة وطريقة التصنيع. فبرزت سلعٌ جديدة وطراز جديد، وإنتاج مختلف، وألفاظ، وتعابير، ومفاهيم، وأفكار.

هذا التوسع والانفتاح أدى إلى وفود عائلات جديدة حيث مجال الرزق أوسع. والعلاقات الاجتماعية اختلفت ومثال على ذلك دائرة اختيار الشريك في الزواج تغيرت.

هذا التغير في طبيعة السوق أدى إلى خلل طال الحرف بشكل مباشر وأدى إلى ضمورها. ومع اتساع حلقة التبادل، هل ترافق ذلك مع اتساع أفق الحرفي فكرياً وعملياً ومعرفياً بشكل يترابط ويتوافق مع المستجدات؟. والحرفة ترتبط بالسوق، وحالياً هناك أسواق لها طابع سياحي. كالأسواق الحرفية في المغرب. وخان الخليلي في مصر. وسوق الحميدية والحرف الشعبية في سوريا.  هذه الأشكال تساعد على بقاء الحرف لما لها من دور نقدي في البناء الاقتصادي، وهنا تبدو أهميتها باقترانها بالسياحة.. ولكن هذا الإجراء لا يعيد الأمور إلى نصابها بل يخفف من الخسائر، فهو إجراء يؤدي إلى بقاء الحد الأدنى. لأن وضع الحرف في متحف خاص يجعلها وكأنها من المتحجرات تنقصها الحيوية والتناغم في سياق اقتصادي اجتماعي كما في الماضي. وإحياء هذه الحرف «الأرتيزانا» غالباً ما يكون نوعاً من الفولكلور وهو من طموحات طبقة اجتماعية وهي طبقة البرجوازية وخير دليل على ذلك القيّمون على إحياء هذه المشاريع في لبنان.

وللدعاية أثر في التسويق وذلك بالتركيز على سلع يمكن استخدامهاأو استبدالها، وبعد الناس عنها سببه عدم درايتهم بها أو بأهميتها. ومراقبة إعداد السلع بمواصفات تراعي الجودة والإتقان تسهم في تطوير الحرف وهذا ما تميزت به الطوائف الحرفية في الماضي.

ومع اتساع دائرة السوق وسهولة التواصل، هل انعكس ذلك على الحرفي في علاقته وتبادله؟ هل أخرج من دائرته المحلية حيث يبرز الصراع على المستوى العائلي أو الطائفي أو المناطقي؟ وهل انخرط الحرفي بالعمل العام على مستوى تنظيمات أو أحزاب لها طابع وطني أو قومي أو عالمي؟ أو دخل في النقابات وشارك في المجالس البلدية والاختيارية؟ وهنا تبرز وظيفة السوق بشكل عام، فهو ليس لتبادل السلع والمواشي فقط بل مجال تبادل ثقافي وسياسي واجتماعي وربما هو عرض فولكلوري. وهكذا فقد كانت الأسواق مجالاً مهماً للتواصل.

العلاقة داخل المؤسسة الحرفية: يسود الطابع العائلي  في الحرفة. فقد ارتبطت بالقرابة، وبقيت على طابعها الأسري. هذا الواقع هل هو مصدر قوة أم ضعف للحرفة؟ فالأسرة النواتية متماسكة، تقوم بعملية الإنتاج بشكل جماعي، وهذا مصدر قوة للحرفة، يساعد على بقائها من خلال تضافر الجهود ولكن لأي مدى يمكن تطوير هذا الشكل وتوسيع المؤسـسة في إطار مفهوم اقتصادي يحدد الأمور بجزئياتها إذ يثمن الوقت بحسب استهلاك الآلة. ينظم الإنتاج، ينسق ويهيئ لتراكم مادي من أجل توسيع المؤسـسة. هذا الواقع لم نجده في المؤسـسة الحرفية وفي نطاقها العائلي. فالكل يعمل من أجل استمرار معيشة الأسرة، وبعضهم يعمل أجيراً عند التاجر المسوق أو تاجر المواد الأولية، مع العلم أن الحرفي يعتبر نفسه رب عمل ويعمل لحسابه الخاص.

وهناك اختلاف بين الحرف، فبعضها أكثر قرابـةً من بعضها الآخر. فحرفة الفخار مازالت في نطاقها العائلي أكثر من حرفة الأحذية التي تستعين بالعمل المأجور من خارج الأسرة. هذا مرتبط بالواقع الاقتصادي. فزيادة الطلب تفرض الاستعانة بالغير إذا كانت جهود الأسرة لا تكفي لإنتاج عدد معين من السلع في وقت محدد. هنا ومع تغير الطابع الحرفي هل أدى ذلك إلى تغير عناصر التماسك القرابي؟.

وانطلاقاً من العامل القرابي بانتقال المهنة، نجد اختلافاً بين الحرفي الذي ورث حرفة والده وأتقنها والحرفي الذي يعمل بأجر بحيث أن هذا الأخير يترك هذه الحرفة ويتوجه إلى عمل آخر إذا كان الأجر المادي أعلى. فهو أقل التصاقاً بالحرفة وليس لديه الرغبة لنقلها لأبنائه.

والعلاقات العائلية تنتظم في النشاط الاقتصادي من خلال الموروث والتقليد حيث الثقافة الاتباعية على النسق القديم. ففي نطاق الأسرة تسود قواعد وضوابط وقوانين للتنشئة الاجتماعية. فنجد التماسك الأسري، واحترام الأكبر سناً، وسيطرة الأب. هنا نجد شخصية الأفراد تذوب في نطاق الأسرة. في هذا السياق هل يمكن تطوير الحاضر والنهوض به بالخروج عن الموروث المألوف؟ ربما هنا مكمن الضعف في تطور الحرف.

تقسيم العمل: بدأ الخروج من المألوف بوجود حرفي ينتج سلعة كاملة لوحده. فالآن تعددت الأدوار واختلفت حسب الحرف. فما هي العوامل التي تحكم تقسيم العمل وحجم الحرفة والمشغل؟.

أهمية السلعة الاستهلاكية: تنتج الحرفة  سلعاً تختلف من حيث المنفعة وطريقة الاستخدام.

السلع المنتجة من حرفة الفخار  تستخدم مساعداً للإنسان في قضاء حاجاته. إذ ربما لضرورة السلعة في الاستهلاك أهمية في بقائها وتطورها أو زوالها إذا تلاشت منفعتها وحل محلها عنصر حضاري آخر.

فالنظر للنشاط المادي لأي جماعة ومن زوايا مختلفة أنتروبولوجية أو إتنولوجية أو اقتصادية أو اجتماعية، لغوية أو فولكلورية، يسمح بالتقاط أفعال الإنسان وتتبع هذه الأفعال بدءاً بالحاضر وعودة إلى الأطوار السابقة. إن تقاليد وعادات ومثالات صنع وطرائق الحرف التقليدية بدأت تتغير وتتبدل وذلك حسب بنية وأطر المجتمع العامة الذي تعيش فيه، يضاف إلى ذلك التطور التكنولوجي العام والتوسع الحضاري الذي يطال كل شيء، فمع دخول «الأنترنت» أصبح العالم مدينة واحدة يرتبط الفرد من خلال هذه التقنيات المتطورة بالعالم أجمع، ويتواصل بشكل سهل، ويحصل على مبتغاه بطريقة توفر عليه الجهد الكثير.

أمام هذا الاجتياح الحضاري والمنظم والمبرمج بغزو جارف من خلال وسائل وتقنيات حديثة فإن العناصر الحضارية الوافدة في تزايد مستمر وبغزارة الأمر الذي يؤثر فينا بشكل مباشر وفعال. من خلال وسائل الإعلام (الدعاية، والتوسع الثقافي)، والثورة الصناعية الحديثة بإنتاجها المتقن وباعداد وفيرة، والتطور العلمي من خلال أبحاث تركز على أدق التفاصيل والجزئيات بحيث أن أي تحرك ينطلق بشكل علمي ومنظم.

ويضاف إلى ذلك الظروف المحيطة كالحروب العالمية والإقليمية التي كان لها الوقع المباشر والأساسي على مجتمعنا. هذا في النطاق الخارجي. أما الواقع الداخلي وما يسوده من صراع. كالحروب الداخلية الأهلية، ثم أشكال التنظيمات الاجتماعية، والأشكال القديمة التي تتصادم مع ما هو حديث، فأي أثرٍ تركته على واقع الحرف؟.

انطلاقاً من هذه المعطيات تطرح قضية على المستوى النظري بتساؤل يفترض الإجابة. ففي مجتمعنا تطرح الكثير من المشكلات التي تحتاج إلى حلول وربما إلى توضيح. فإن اختيار إحدى الظاهرات الاجتماعية والتركيز عليها بالبحث والدراسة وربطها وتفسيرها بظاهرات اجتماعية أخرى، على حد تعبير دركهايم، أمر أساسي في الأبحاث الأنتروبولوجية. والحرف التقليدية، التي هي جزء من كل، عامل من العوامل المتعددة التي تؤثر وتتأثر في السياق الاجتماعي العام. فإن إثارة مسألة الحرف والتركيز عليها كظاهرة أثارت اهتمامنا، وأدت إلى دراستها والتحقق منها. ففي حياتنا اليومية وفي إطار الموروث الشعبي تعترضنا تساؤلات تواجه عقلنا، إثر ذلك نصدر فروضاً لحل المواقف والمشكلات. انطلاقاً من ذلك يمكننا التوصل إلى نتائج معينة. وإن وضع الافتراضات التي ربما تكون صحيحة أو غير ذلك بحاجة إلى توضيح. فالحرف التقليدية تعيش ظروفاً خاصة، في هذا الخضم المتطور والمتغير بشكل سريع ومستمر. وأي واقع لها وبمختلف الأبعاد إن في المرحلة الحالية أو مع إطلالة تاريخية على الواقع القديم من أجل عمل مقارن بين مختلف المراحل الزمنية.

فأمام هذا الواقع الجديد والمتجدد كيف تعمل الحرفة، هل لديها إمكانيات البقاء أم هي معرضة للزوال والاندثار؟!

ما هي إمكانيات الصمود أو إمكانيات التطور؟

وهل مجتمعنا يتجه لأن تمحى هويته، من خلال بناه التقليدية للانتقال إلى تقليد غيره والاتكال عليه بمتطلباته كلها؟.

وهل المشكلة داخلية ضمن البنى بسماتها التقليدية بحيث لا يمكنها التطور والنهوض؟ وأي واقع داخلي يتصدى للوافد المنافس، بشكل المؤسـسة الحرفية ووظيفتها من خلال واقعها الداخلي (رأس مال، ملكية، عائلة، أدوات، مواد، الإرث، مفاهيم، عادات، تقاليد، سلطة)، إذ أن مختلف تقنيات الحرفة يجب أن تتلاءم مع حالات اقتصادية اجتماعية، فالحرفة الشعبية التقليدية تحتوي على خبرات معرفية محددة. وهي تصرفات مرحلة ما قبل التصنيع والانتقال إلى العمل في المصنع حيث تنتج مادة يرافقها إعادة إنشاء تصرفات اجتماعية في عالم العمل مختلف عن واقع الحرف التقليدية والتصاقها في اقتصاد جماعي مميز. فأي واقع لحرفنا اليوم؟ وأي تغير حصل في بنيتها؟ هل انعكست آثار التطور التكنولوجي العام على الحرف بالانتقال من استخدام اليد إلى أدوات ميكانيكية مساعدة للإنسان؟ ناهيك بالجانب الاجتماعي إذ من خلال لقاء الحرفيين نجد منهم من يتباهى بحرفته وبإنتاجه وبنسبه الذي يقترن بمزاولة الحرفة إذ يعرض التواصل مع الأجداد. هذا الالتصاق مدعـاة تفاخـر وهـو وجــه اجتماعــي وثقافـي، وجـه رمزي متصـل بصيرورة المجتمع ككل. وبالمقابل نجد الصانع اللامبالي، ينظر إلى حرفته بعدم الثقة بالنفس، ويشعر بشيء من الدونية بالنسبة إلى غيره(1) حيث يعمل لتمضية الوقت أو لسد حاجاته الاقتصادية هرباً من العوز تيمناً بالمثل القائل -«صنعة في اليد أمان من الفقر»- ولا يريد أن تنتقل الحرفة إلى أبنائه من بعده.

وهناك صانع يتفاخر بإنتاجه المتقن والمميز، أو أنه ينجز سلعة أكثر تعقيداً رغم قلة الإنتاج. وصانع آخر يتباهى بكثرة إنتاجه أو كثرة الزبائن ونوعيتهم، والبعض الآخر يتباهى بأنه أحسن تربية أولاده وقد نجح في تعليمهم وهم الآن أحسن حالاً منه بارتباطهم بأعمال تدر أموالاً تفوق الإنتاج الحرفي وسهولة أكثر في العمل.

أمام هذا التباين بالموقف من الحرفة، ما هي المرتكزات الأساسية لهذه المواقف وما مدى انعكاسها وتأثيرها؟ ثم هل الحرفة عمل أساسي أم ثانوي للحرفي؟ وما هي الحرف الرديفة في الحالتين؟ وأي علاقة تربط الحرفة بالزراعة؟ وهل الزراعة عمل رديف للحرفيين في الريف؟ أم أن ضيق الأراضي الزراعية مع عدم المردود في الإنتاج أدى إلى التحول إلى الحرف. أم أن ذلك موسمي في فترة التوقف عن العمل الزراعي. أم أن المجهود في الحرفة أقل من الزراعة بحيث يسود الآن نوع من الابتعاد عن أي نشاط يتطلب جهداً(2) بالتوجه للكسب الأسهل.

وأي أثر للبنية الاجتماعية على صعيد الوطن قد انعكس على الواقع الحرفي بحيث أدى إلى عدم وجود تنظيمات نقابية أو تعاونيات أو تشريعات وأطر تنظيمية. وأي أثر للمعتقد الشعبي في الحرف. إذ يقال إن العمل بالجلد لا يخلو من النجاسة. وما هو الموقف من ذلك؟ وما هي الظروف التي تتخطى هذه المقولة. حروب، أزمات، خلل اقتصادي، تزايد سكاني، مع العلم أن السائد الآن بروز قيم معينة تميز الأشخاص من خلال نوعية الحذاء. وهنا ربما طال ذلك تفضيل المستورد وعدم الاهتمام بالمحلي. كل هذه الأمور تنعكس على الحرف. وما هو تأثر الصناعة الحديثة وقدرة الحرفي على مواكبة التطور التكنولوجي؟ هل أدى ذلك إلى تحسين الأداء كماً ونوعاً؟ وإلى التصدي للإنتاج المثيل؟ أو أن الحرفي بدأ يبتعد عن الإنتاج التصنيعي ويعيش على هامش الصناعة في الصيانة أو القيام بخدمات ملحقة بعد بيع السلع. وهنا فإن حرفاً قد تلاشت وبرزت حرف جديدة. فالحرف عرفت أوج مجدها قبيل الرأسمالية الصناعية، وهذا في سياق التطور لبعض المجتمعات وبخاصة المصنعة.

والآن أي علاقة بين الحرفة والواقع الاجتماعي؟ انطلاقاً من مسكن الحرفي وهو عنصر أساسي: أي حجم له؟ وما هو تاريخ بنائه؟ وما هي العلاقة بين عمر الحرفي وتاريخ البناء أو فترة البدء بمزاولة العمل؟ وما هي تجهيزاته؟ ذلك كله مؤشرات تكشف واقعاً. ثم الزواج ودائرة اختيار الشريك. والعلاقات الاجتماعية التي تربط الحرفي بأقرانه وباقي أفراد المجتمع. ثم التوجهات والانتماء السياسي وحجم الأسرة وشكلها. والواقع الديمغرافي وانتقال الحرفة للحرفيين الجدد. ذلك كله تساؤلات تطرح لا بد من الإجابة عليها، وهي مؤشرات متنوعة تكشف واقع هذه الحرف بأبعادها المختلفة ثم الدخول بالتفاصيل وحتى الجزئيات لتوضيح الفكرة والإجابة على التساؤل.

انطلاقاً من هذه الفرضيات التي توجه الدراسة ونستطيع من خلالها إقامة منهج وطريقة لكل تصرف من تصرفاتنا. لأن هذه الأفكار العلمية تنطلق لتوجه البحث التجريبي منذ بدايته لأن إجراء التجارب لا يتم عشوائياً بل بدءاً بفرض نظري نحاول في ضوئه أن نتوصل إلى الصحة واليقين والوصول إلى نتائج تبين الظاهرة وتبرزها وتزيدها إيضاحاً. فالتجربة هي التي تؤدي إلى الحقيقة. ولا بد من التذكير بأنه من السهولة إيجاد الفرضية، ولكن العمل الشاق في تحقيقها، وهي التي توجه الدراسة الميدانية منذ البداية. والفرضية في البداية مثل من يرى الأشياء وهو في سيارة مسرعة فإنه يرى البيوت، الأشجار، الأشخاص، الرجال، الأولاد... فالصورة الأولية سريعة ولكن الحياة ضمنها متشابكة ولكي نفهم ما يحدث داخلها يجب التعمق في دراستها. والتعمق في الدراسة هو نتيجة جهلنا لما في الداخل من جهة ولموقف مندهش يثير تفسيراً من جهة ثانية. فإن اكتشاف العلاقة الثنائية التي تؤكد الرابط بين حادثين يزيل الدهشة التي كانت حافزاً للعمل. وإقامة العلاقة بين الظواهر هي الوظيفة الأساسية للعلم.

وهكذا فإننا ننطلق من ظاهرة معينة، ثم نحاول أن نجزئها إلى عناوين ومحطات أساسية. ثم إلى متغيرات ثانوية، فمؤشرات، ثم جزئيات محاولين ربط أي جزء مع باقي الأجزاء انطلاقاً من مبدأ وظيفي تتساند ضمنه كل الأعضاء لتأكيد وبناء معين وبترابط يؤكد  تلاحم الكل وأي خلل في جزء لا بد من تأثيره في باقي الأجزاء. والمقاربة تعالج من عدة أوجه.

أولاً: الواقع التاريخي: الموروث الشعبي هو عبارة عن تراكمات ترجع إلى عصور ماضية. بعضها موغل في القدم لا نستطيع أن نقيم الدليل على حدوده. وبعضها يمكن معرفة تفاصيله وخطوطه العامة. وقسم يعود إلى فترة تاريخية قريبة تستطيع لملمة شتاته. والتركيز على الثقافات الإنسانية يجب ألا يدرك على نحو ساكن وهذا ما عبر عنه ليفي ستروس لأن التنوع الثقافي ليس عينة جامدة والمجتمعات ليست وحيدة، والمنطق التاريخي يجب رؤيته من عدة اتجاهات، لأن طريق الإنسانية لا تشبه من يصعد سلماً، بل هناك احتمالات متعددة، وليست باتجاه واحد. ومن خلال المنهج التاريخي نستطيع أن نبين أثر الثقافات في هذه الحرفة كتغير المادة، الأداة، طريقة الصنع، التسميات... فمجتمعنا استطاع أن يهضمها ويعيد صياغتها ويخلق شيئاً جديداً. وباعتماد المنهج التاريخي لا بد من التنويه بأهمية الابتعاد عن التاريخ الظني أو التخميني لأن ذلك قد أعاب إنجاز الدراسات الأنتروبولوجية في مراحلها الأولى. وقد تمت معالجة الموضوع بالتركيز على المحطات التاريخية المؤثرة على المستوى الوطني بشكل عام ثم إعطاء لمحة تاريخية عن تمركز هذه الحرف وتعقب المراحل التي مرت بها والنظرة التاريخية لعناصر الحرفة يجب دعمها بالواقع الجغرافي أي الربط بين عنصري الزمان والمكان.

ثانياَ: الواقع الجغرافي: لتبيان مدى ارتباط الحرفة بالظروف الجغرافية، الموقع، طبيعة الأرض، المناخ، التضاريس، ظروف البيئة، المسكن، كل ذلك يحدد عمل الحرفة. فالأحوال المناخية وتعاقب الفصول يحدد نوعية الإنتاج الذي يتأثر بمواسم معينة. ثم الهجرة بشكليها المغادر أو الوافد وأثر الاحتكاك الثقافي الناتج عنها. وهنا لا بد من التوضيح بأن العنصر الجغرافي أو عنصر البيئة ما هو إلا أحد العناصر المؤثرة ولا نغالي كما هو منطق البيئيين الذين يركزون بشكل أساسي على أثر البيئة في حياة الناس.

ثالثا: الواقع الاقتصادي: وهنا تتشعب الأمور ويتم تناول عدة متغيرات.

محاولة تبيان مميزات المؤسسة الحرفية من خلال حجمها. إن على مستوى المكان أو عدد العاملين الدائمين منهم والمساعدين أو العمل المأجور وما هو دور العائلة ككتلة بشرية في العمل. وما هي العلاقة بين الحرفة والعائلة. وكذلك تخصص الإنتاج. وهل من حرف ثانوية يحترفها الحرفي. وما هي خصائص المشغل ثم الطاقة المستعملة.

أي مواد يستعملها الحرفي؟ هل هي موجودة في بيئته، أم مستوردة؟ وهل لوجودها أثر في تمركز الحرفة؟ وكيف يحصل الحرفي على المواد، وما هو مصدرها؟ ثم هل تغير نوع المادة؟ وهل المستورد منها يختلف كماً ونوعاً عن المادة المستخرجة محلياً؟

الآلات وهي الوسيط بين المادة والإنسان. هنا تم تحديد الأدوات وكيفية استعمالها، والمادة المصنعة فيها. وتاريخ دخولها إلى الحرفة. وهل هي من إنتاج الحرفي نفسه أم من إنتاج حرفي آخر تخصص في إعدادها وهنا مبدأ التواصل بين مختلف الحرف. ثم التفريق بين الأداة المنتجة محليا والمستوردة. وتحديد مسار تطوّر الأدوات. وهل من إبداع من قبل الحرفي نفسه بحيث ينتج ويطور آلة توفر عليه من أعباء العمل أو تزيد الإنتاج؟ هنا تعقب مسار تطور الآلة أمر أساسي. فالصانع الذي بدأ عمله يدوياً ثم استخدمت الآلة المساعدة التي بدأت بسيطة لتساعد اليدين ثم تطورت لتصبح أكثر تعقيداً. وهل آلات اليوم هي نفسها آلات الأمس بما ورث عن الآباء؟ أم تطورت شكلاً ومادة؟ ثم ما مدى الاستفادة من التطور التكنولوجي؟.

طرق التصنيع واعتماد شرح مفصل لطريقتي التصنيع القديمة والحديثة.

الإنتاج، تحديد أنواع السلع المنتجة من قبل الحرفي. ثم مواصفاتها وتكاليف إنتاجها وكمية الإنتاج ومن ثم تسويقه وإدارته.

الدخل، تم تحديد دخل الحرفي شهرياً ومن ثم سنوياً.

فالتطور الاقتصادي العام عامل رئيسي في تحديد مسار الحرفة.

رابعا: الواقع الاجتماعي: وهنا التركيز على النقاط التالية:

ديمغرافيا الحرفيين وذلك باعداد هرم سكاني للحرفيين وتحديد أعمارهم، ثم العمر عند بدء مزاولتهم الحرفة. والعمر عند افتتاح المشغل لأرباب العمل.

القرابة وهنا محاولة لإبراز العلاقة بين الحرفة والقرابة. تحديد العائلات ثم انتماؤها للعمل الحرفي ومن ثم حجم الأسرة وتقسيم العمل داخلها.

انتقال المهنة حيث تتمحور الأمور ضمن عاملين. عامل الوراثة وهنا تقترن المهنة بعامل القربى ثم بالتعلم أي انتقال الإبن إلى مهنة تختلف عن عمل والده.

السكن: في هذاالمجال تحديد الواقع السكني للحرفيين. إن من حيث امتلاك المسكن وتاريخ بنائه وعلاقة ذلك بعمر الحرفي وبتاريخ دخوله للحرفة وحجم المسكن والمشاركة بالمسكن. ثم العلاقة بين المسكن ومكان العمل وهناك محاولة للتعرف إلى أثاث المنزل من خلال امتلاك بعض التجهيزات.

الزواج، من خلال البحث عن الحالة الزواجية للحرفيين، ثم دائرة اختيار الشريك من حيث روابط القرابة أو الجوار أو الانتماء إلى المهنة نفسها، فما هو موقع الشريك المهني أو الاجتماعي وحتى تحصيله المدرسي؟.

موقع الحرفي الاجتماعي: في هذا الفصل عرض لمراتب الحرفيين بالمقارنة مع بعض الدراسات لتحديد الموقع الاجتماعي للحرفة.

خامساً: الواقع الثقافي والسياسي: هنا المفضل التركيز على ما يلي:

الحرفة والتراث: أي علاقة الحرفة بـبنية المجتمع، والتركيز على التراث الحرفي وموقع العمل داخل المجتمع من خلال الحث عليه والموروث من معتقدات وعادات وأمثال وما شابه.

التحصيل المدرسي للحرفيين: من المهم  استعراض التحصيل المدرسي لمعرفة المستوى الأكاديمي الذي يمكن أن يرفع من مهارة الحرفي التقنية ويطور ما تعلمه عن آبائه أو معلميه في الحرفة.

العمل السياسي والنقابي: هل ينخرط الحرفي في العمل النقابي؟ وهل هناك من طوائف حرفية وهو التنظيم الشائع قديماً؟ ثم ما هو دور الحرفي في محيطه وفي علاقته مع الناس من خلال التحرك في المؤسـسات السياسية والاجتماعية المحلية منها أو الوطنية كالانتماء إلى الأحزاب أو التنظيمات.

الثقافة الشعبية: وهي الموروثات المتمثلة بالمعطيات التي تواكب الحرفة من أمثال ومعتقدات وحكايات وأغانٍ وتسميات وطريقة في العد والزي والمميزات الخاصة للحرفي ثم اللغة الخاصة المحكية، كل هذه الأمور هي إرث مهم جداً يمثل حضارة شعب إذ لا بد من تدوينه وتسجيله ومن ثم تحليله لأنه يشكل القاعدة الأساسية لفهم هذا الإنسان الذي هو من صلب الدراسات الأنتروبولوجية وأساسها.

سادسا:  الواقع المعرفي العام: إن دراسة الحرف الشعبية بمجال عملي واستناداً إلى عمل حقلي يهدف لمعرفة كافة التفاصيل المعرفية للوصول إلى مجال نظري. والواقع المعرفي الذي تتسلسل وتترابط مواده. فانطلاقاً من المخترع الأول الذي بدأ باستخدام يده كما مر معنا سابقاً، لنتوصل حالياً إلى الصاروخ، وكيف أن وعي الفكر البشري عرف أشكالاً ونماذج مختلفة وكلها مرتبطة وتنخرط في البناء الاجتماعي على كافة المستويات، فالتطور المعرفي يترافق في مراحله المختلفة مع إطار اجتماعي هو الحقل الذي يمده بالمعطيات وهو العامل المؤثر في أي تغير في المنحى الإيجابي أو السلبي.

والحرفة هي إحدى القضايا المعرفية في مجتمعنا. وانطلاقاً من دراستها الميدانية الواقعية بأبعاد مختلفة اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وسياسية للوصول لإطار نظري. والنظرية المرتكزة لتجارب ميدانية تكون أكثر صدقاً وتعبيراً للواقع. وهذا ما توصل إليه المفكر ومؤسـس علم الإجتماع إبن خلدون وإطلاق نظريته الاجتماعية المرتكزة على أسـس عملية من الحقل ومراقبة صيرورة المجتمع وتطوره.

من خلال الدراسة الميدانية بتفاصيلها وخصوصياتها التي توضح إطاراً معرفياً يحكم ذهنية الناس في بناء اجتماعي بأبعـاد مختلفة، سياسية، واجتماعية، اقتصادية، وثقافية، ودينية ‎... تشكل ترابطاً فيما بينها ضمن متغيرات ومؤشرات وجزئيات مع اعتقادنا المسبق بأن محاولاتنا مهما كانت جادة تبقى ضمن حدود معينة للإحاطة بكل المعطيات لكثرة العوامل والتداخل فيما بينها.

ومجتمعنا بأمس الحاجة لدراسات ميدانية تطال مختلف الأمور، وما دراسة الحرف سوى جزء بسيط جداً من حياة هذا المجتمع، بتضافر مثل هذه الدراسات نتوصل لمعرفة ذاتنا على حقيقتها لأنها بداية المعرفة والأساس لأي تطور مستقبلي.

 

الهوامش

1 -  هنا نذكر بأن بعض الحرف تعتبر وضيعة كدباغة الجلد أو صنع الغرابيل التي يختص بها النّوَرْ وهنا تبرز القيمة الاجتماعية للحرف.

2 - تيمناً بالمثل الشعبي القائل «قِّلة الرزق» «رياحة» أو «نياحة» حيث تقلب الراء نوناً أي القليل من الرزق يريح الفرد من عناء التعب والجهد.

أعداد المجلة