فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
11

الإبداع النسوي في الثقافة الشعبـية

العدد 11 - أدب شعبي
الإبداع النسوي في الثقافة الشعبـية
كاتب من مصر

لقيت مسألة «المرأة في المأثور الشعبي» اهتماماً نسبياً بين الكاتبين في المأثورات الشعبية العربية، وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد عزز من هذا الاهتمام تنامي الدعوة إلى تمكين المرأة من المشاركة في مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وتأتي مع هذه الدعوة تنامي إدراك النخبة لمدى تأثير الوعي الاجتماعي والثقافي على عمليات التنمية والنهوض لتحقيق صورة المجتمع الناهض.

ولقد تباينت صور الكتابة عن مسألة «المرأة في المأثور الشعبي». وقد حدث هذا التباين لا بسبب اختلاف وسائط التوصيل (الصحف، الدوريات، الكتب،.... الخ) فحسب، وإنما- أيضاً- بسبب تعدد زوايا مقاربة الموضوع، واختلاف المواقف الفكرية للكاتبين. إذ أن موضوعاً مثل «مسألة المرأة في المأثور الشعبي» يفضي بنا مباشرة إلى منظومة الوعي ومكوناتها من الأفكار والتصورات والرؤى والمعتقدات والقيم والمثل، سواء بالنسبة للجماعة البشرية التي أنتجت هذه المنظومة من الوعي، أو بالنسبة للكاتب أو الدارس الذي يتناول الموضوع بالعرض والتحليل.

وإجمالاً يمكننا أن نقسم اتجاهات من تناولوا مسألة «المرأة في المأثور الشعبي» إلى اتجاهات ثلاثة:-

أولها: أولئك الذين رددوا القول بأن المأثور الشعبي قد مجًّد المرأة، ورفع من مكانتها، سواء داخل الأسرة أو في الحياة الاجتماعية.

وضربوا الأمثلة على علو شأن المرأة «بالجازية» الهلالية، التي كان لها ربع الأصوات، وقيل ثلثها، في ديوان المشورة في شؤون القبيلة؛ وعلى دور المرأة القيادي والفروسي بالأميرة «ذات الهمة» في سيرتها التي تحمل اسمها؛ وعلى تفوق المرأة المعرفي والثقافي «بتودد» الجارية فهي قصة من «ألف ليلة وليلة»؛ وعلى دور المرأة البناء الداعم للرجل «بمريم» ناسجة الزنار في قصة أخرى.

ورأوا تكريماً للمرأة في الصورة التي رسمت عليها «المرأة المحبوبة»، مثل «عبلة» عنترة وقريناتها، التي كان على الرجل أن يبذل النفس والنفيس في سبيل «الحصول عليها»، وأن يعلن على الملأ مظاهر جمالها وفتنتها الأنثوية التي لا تصان إلا «بسترها» في كنفه، وامتداد ذلك من ضروب التصوير التي تجعل من المرأة «قنية»، وإن غالى فى وصف محاسن هذه القنية، التي تسوغ ارتفاع ثمنها أو جعلها «موضوعاً للرغبة» يتنافس حوله الرجال. وحتى بالنسبة للأم والأخت والابنة فإن قيمة أي منهن إنما تأتي من الرجل الذى تنتمي إليه ويلحقها بتبعيته.

وعلى هذا النحو، نجد أن هذا الاتجاه في تناول موضوع المرأة في المأثور الشعبي نكص على عقبيه فكرياً، وانتهى إلى تثبيت قيم تبعية المرأة ولاحقيتها بالرجل، من جهة، ومن جهة ثانية، تثبيت كون المرأة قنية للرجل «وتشييئها». ورغم الخطاب الرومانسي التفخيمي تظل أقوال هذا الاتجاه تسلم بسلبية حال المرأة ودونية وضعها.

ثاني هذه الاتجاهات عمل أصحابه على إبراز معالم الصورة المتدنية للمرأة، سواء على المستوى الاجتماعي أو على المستوى الخلقي واستخدموا شواهد من الأمثال والأشعار والحكايات والممارسات تسم المرأة بسوء الطبع والنقص في العقل وخرق التصرف وضعف القدرة، أو تشنع على خيانتها وشهوانيتها والتواء سلوكها وحيلها الشريرة التي غلبت حيل الشيطان نفسه. وهي سمات تجعل التعامل معها غير قابل للتوقع ولا مأمون، ولذا ليس من مسلك أمام الرجل العاقل للتعامل مع نسائه إلا بسوء الظن والكبح الدائمين وحجبهن وعزلهن عن الحياة الاجتماعية.

والواقع إن إلحاح هذا الاتجاه على معالم هذه الصورة المتدنية للمرأة هو فرع من موقفهم من الثقافة الشعبية في مجموعها. إذ يرون أن الثقافة الشعبية تتسم بالتقليدية والمحافظة، ومن ثم أصبحت موئلاً لكل ما هو متخلف ومعوق للتحديث والتنمية المجتمعية والفردية. ولذا دعوا إلى نبذ ما تبثه الثقافة الشعبية من قيم وتصورات ومظاهر سلوك وممارسات تعوق بناء المجتمع الجديد المنشود.

غير أن واقع الحال في الثقافة الشعبية، رغم ما تحويه من مقومات العراقة والطوابع التقليدية، فإن قوانين الصيرورة وصراع المتناقضات والوحدة من خلال التنوع تعمل فيها. كما أن الثقافة الشعبية هي التجلي الثقافي لمناشط الحياة ومواقفها بكل اتساعها وتعدد مناحيها، ولهذا لا غرابة أن تحوي الثقافة الشعبية مظاهر هذا الزخم والاتساع والتعدد، وأن تكون تعبيرات الثقافة الشعبية جامعة لما يعبر عن الموقف ونقيضه، وما يحض على قيم ومثل، وفي الوقت نفسه ما يحض على ضدها، وأن يتجاور فيها القديم والجديد والعام والخاص (تنويعات حكاية «أبو السبع بنات» وحكاية «كيد النسا»). ولهذا يجب أن يوضع في الاعتبار عند التعامل مع مكونات الثقافة الشعبية طبيعتها الجامعة الحاوية لمكنوز الخبرة المتراكمة للجماعة الشعبية. ومن الوارد إذن أن يكون في مكونات الثقافة الشعبية وتعبيراتها ما يشير إلى تدني وضع المرأة، مثل وجود ما يعبر عن إعلاء لمكانتها، وأن يكون هناك ما يؤكد سوء طبعها، مثل وجود ما يمجد تميزها الأخلاقي والخلقي.

أما ثالث اتجاهات من تناولوا مسألة «المرأة في المأثور الشعبي» فهم من أصحاب الدعوة الدينية «السلفية». وقد جهد هؤلاء في فرز ما تعرفوا عليه من مكونات الثقافة الشعبية إلى مكونات تتوافق مع ما يأخذون به من مبادىء حول وضع المرأة ومكانتها وظاهر السلوك والعادات والتقاليد المتصلة بالتعامل معها. واستخدموا المكونات المتوافقة معهم «مرجعية» للحوار مع جمهور الثقافة الشعبية ومنطلقاً لخطابهم الدعوي. وفي الآن ذاته شنوا حملة على مكونات أخرى باعتبار أنها تشكل انحرافات وبدعاً لا يجب الكف عنها فقط، بل يجب العمل على القضاء عليها. وعموماً، فأصحاب الدعوة السلفية –على المدى الطويل- يسحبون موقفهم من هذه المكونات المرفوضة منهم ليغطي الثقافة الشعبية بأجمعها، تأسيساً على أنه يجب التخلص من تراث البدع، من جهة، ومن جهة أخرى، أنه لا ثقافة أخرى إلى جوار التفقه فى أحكام الشرع الشريف التي يفترضونها.

على أي الأحوال، فإن تقسيمنا اتجاهات تناول مسألة «المرأة في المأثور الشعبي» إلى هذه الاتجاهات الثلاثة هو تقسيم يقصد توضيح المواقف وتمايز الأفكار بينها. غير أن واقع الحال أن هناك تناولات بينية مزجت ما بين أفكار اتجاهين أو أكثر، أو حاولت التوفيق بين تصور وآخر. ولكن يبقى عدد من القواسم المشتركة بين هذه الاتجاهات:

1- أول هذه القواسم هو صدور كل منها عن أيديولوجية بعينها هي التي أفضت إلى توجه أي منها إلى هذا الاتجاه أو سواه.

2-  ثانى هذه القواسم أنها انطلقت من بديهية- اعتبرتها مُسلمة مُنتهى منها- وهي أن الإبداع الشعبي هو إبداع الرجل، ومن ثم جرى بحث كل منها عن كيفية تصوير هذا الإبداع للمرأة.

3-  ثالث هذه القواسم، ويخص المنهج. ذلك أنها تتشارك جميعاً في خلل منهجي جامع. حيث تقيم معظم الكتابات معالجتها على أساس مادة منتقاة. ويتم انتقاء هذه المادة على أساس مسايرتها لوجهة النظر المسبقة للكاتب. وهذه المادة ليست انتقائية فحسب، وإنما مبتسرة أيضاً. وهذا لأنها منتزعة من سياقها الثقافي الذى تؤدى فيه وتكتسب وظيفتها ودلالتها. كما أن هذه المادة ليست عينة ناتجة عن تقص ورصد ميداني يكشف عن مدى سيرورتها وعلاقتها بمنتجيها.

ومن ثم، فإن معالم الصورة التى رآها أي من هذه الاتجاهات هي معالم مجتزأة، تجعل التصور القائم عليها مجافياً للواقع إلى حد كبير. وهو بذلك –وإن كان مقصده طيباً- يُسهم في تزييف الوعي الاجتماعي، إن بمسألة المرأة، أو بالمأثور الشعبي.

والحال، أن الأمر يتطلب مقاربة مختلفة ترتكز على منهجية منضبطة ومعاينة ميدانية مدققة، بما يقودنا إلى معرفة أفضل تمكننا من إحسان فهم وضع المرأة في الثقافة الشعبية. واستطرادا لهذا يحسن توضيح أننا نستخدم تعبير «الثقافة الشعبية» بوصفه مصطلحاً علمياً يدل على البناء الثقافي الذي تنتجه الجماعات الشعبية وتتواتر مكوناته وتتبناها باعتبارها مأثوراً مشتركاً وإرثاً مشاعاً. ومكونات هذا البناء تتفاعل فيما بينها وتتكامل لتصوغ أسلوب هذه الجماعات الشعبية في الحياة وطريقتها في العيش وتعبيرها عن رؤيتها للكون (الطبيعي والبشري). وتضم مكونات الثقافة الشعبية حصيلة خبرات الجماعة الشعبية، التي تمتد من التعبيرات القولية والأدبية، إلى التعبيرات الفنية الأخرى الموسيقية والتشكيلية والحركية والدرامية، إلى العادات والتقاليد والمواضعات العرفية التي تنظم سلوك أبناء الجماعة إزاء بعضهم البعض أو فيما بينهم وبين الجماعات الأخرى. كما تضم مجموع المعارف والتصورات والأفكار والمعتقدات، وكذا المهارات الحرفية والتقنية التي تستخدمها هذه الجماعات في إنتاج معاشها وتيسير مناحي حياتها.

ولقد نوهنا من قبل إلى أن الثقافة الشعبية بناء ثقافي موحد، ولكن الوحدة لا تعني الواحدية أو أنها كيان مفرد متجانس المكونات أو متطابقها. وإنما هي كيان مركب، وحدته تتم من خلال تفاعل مكوناته الفرعية وتكامل بناه الداخلية المتعددة والمتنوعة.

وفي إطار هذا البناء الثقافي المركب للثقافة الشعبية، لنا أن نتوقع وضعاً مركباً لحال المرأة في الثقافة الشعبية، كما هو حادث بالفعل، ولذا لا يجوز اجتزاؤه إلى ما ورد من تصوير في أغنية أو مثل أو حكاية،... الخ. وإنما سنجد تعدداً في التصوير وتبايناً في المواقف وتنوعاً في الرؤى. كما سنجد أثراً بارزاً لفعل المرأة نفسها في إنتاج مكونات من الثقافة الشعبية وتداولها. وبالتالي تمايز القول النسوي عن الخطاب الذكوري الذى يتحدث عن المرأة.

والمعاينة الميدانية المستقصية تُبين أن إسهام المرأة في الثقافة الشعبية يمتد من المشاركة في العمل والإنتاج وإقامة الحياة داخل عالمها الأسري أو في محيط المجتمع الشعبي المحلي، إلى الإسهام في عمليات صون منتجات الثقافة الشعبية وحفظها مما يتهددها من عوامل الإبدال والإحلال، والعمل على رعايتها واستحضارها مع مراعاة سننها الملزمة. وإسهامها هذا لم يأت من قيامها بدورها كحاضنة للأجيال الجديدة تقوم بتنشئتهم الاجتماعية والثقافية، فقط، وإنما –أيضاً- بوصفها عمود الأسرة وراعية الشؤون الاجتماعية العامة، وخاصة ما يتعلق بشعائر العبور في دور حياة الأفراد وفي انتقالات دورة مواسم الجماعة.

فصون المرأة للمأثور الشعبي وحفظها له لا يتم –إذن- بمنطق تخزينه أو إيداعه حاويات مغلقة، حتى ولو كانت الذاكرة؛ وإنما يتأتى هذا الصون للمأثور الشعبي من خلال استحضاره وتداول مكوناته وإتاحته للتفاعل مع الواقع المعيش. غير أن هذا الواقع المعيش للجماعات الشعبية تتطلب، بالإضافة على بعض المكونات المأثورة التي تتطلب تجويداً وتوفراً عليها أو إمكانات بعينها لا تمتلكها عامة النساء. وبهذا أصبحت هناك مكونات بعينها لا يتحقق وجودها إلا بواسطة طائفة بعينها من النساء. وفي الآن ذاته، أفادت بعض هذه المكونات من إمكانيات المرأة الطبيعية والثقافية فربطت نفسها بجماعات من النساء انفردن بأدائها. وقد تميزت بعض  النساء فى أداء هذه المكونات المتخصصة بحيث كوًّنت«مدارس» متمايزة في الأداء، وبحيث أصبحن أداة في نشر الأنواع التي يؤدينها، ووسيلة من وسائل المحافظة على هذه الأنواع وصونها من التبدد، في الآن ذاته.

والنسوة المتخصصات في أداء أنواع من المأثور الشعبي يمثلن نقلة ما بين المرأة حاملة المأثور الشعبي، التي تحفظه وتنقله وتتداوله، والمرأة المبدعة في المأثور الشعبي، التي تسهم في بث وتجويد أداء المكونات ذات السمات الخلاقة والمتميزة، من جهة، ومن جهة أخرى، تكون لها مبادراتها الخلاقة في إطار التقاليد الجمعية المرعية. على أن الدور الإبداعي للمرأة غير مقتصر على إنتاج الأنواع والمكونات المتخصصة وأدائها، وإنما تمتد إلى نشاطها الفعال في ممارسة الثقافة الشعبية في الحياة العامة لمجتمعها، ومشاركتها في إنتاج وإعادة إنتاج مكونات الثقافة الشعبية.

وهذا الإسهام للمرأة يُنبهنا إلى خصيصة رئيسية، ربما تفردت بها الثقافة الشعبية، ألا وهي تمايز أشكال الإبداع الشعبي وأجناسه إلى أنواع نسوية وأخرى رجالية. وهذا التمايز يطول كل ضروب الإبداع الشعبي وفروعه، إذ نجد هذا التمايز في التعبيرات الموسيقية والغنائية وما يرتبط بها من أشعار ومنظومات، كما ستلقاه في فروع التشكيل الشعبي، وفي صيغ التعبير الحركي الجسدي، كما نجده في المنظومة المعنوية التي تحوي الأفكار والقيم والمعارف والتصورات والاعتقادات، وما يتجلى عنها من أشكال الممارسات والشعائر، وما ينتج عنها من مظاهر السلوك والأفعال.

وهذا التمايز إلى أنواع نسوية وأخرى رجالية يترافق مع أنواع مشتركة تتواترها النساء وتؤديها، كما يتواترها الرجال ويؤدونها. كما سنجد إنتاجات شعبية تتداخل فيها المقومات النسوية مع المقومات الرجالية. ويبدو أن هذا التداخل حدث نتيجة للموقف الصراعي الذي تشهده الإبداعات الشعبية حول فرض المنظور الذكوري لهيمنته على المنظور النسوي.

وفي كل حال، فإن التمايز بين الأنواع النسائية والأخرى الرجالية يصل في الحالات القصوى إلى حد أن أبناء المجتمع الشعبي المحلي يقومون بتصنيفها ونسبتها إلى النساء فور سماعها، حتى وإن تم سماعها من مسافة بعيدة لا تتيح رؤية المؤديات. ويصل تمايز مثل هذه الحالات إلى درجة انتقاص الرجل إذا أدى أيا من هذه الأنواع النسوية، وخاصة إذا رددها بطريقة تتطابق مع أداء النساء المعهود لهن.

وفي دراسة سابقة قمتُ بها للأغاني الشعبية النسوية في بعض الأقاليم المصرية والعربية قدمت نموذجاً يصور مدى سعة تمايز الأنواع النسوية بالقائمة التالية في مجال الأغنية وحدها: أغاني الحمل والوضع، أغاني تنويم الأطفال وهدهدتهم، أغاني ملاعبة الأطفال وترقيصهم، أغاني حث الأطفال على المشي والأخرى على الفطام، أغاني اجتياز الأطفال مراحل التعليم التقليدية، أغاني الختان، الأغاني المصاحبة لألعاب البنات، أغاني العرس، أغاني الموت (الندب، العديد، النواح) أغاني الحج، أغاني زيارة الأولياء والقديسين (الحنون، النجريح، السومير)، أغاني التجنيد، الأغاني المصاحبة للرقى، المنظومات العلاجية، أغاني العمل المتنوعة (الطحن بالرحى، دق الأرز (البورة)، أغانى المشتل والمسطاح... الخ)، أغاني الملاقاة (الحفان).

غير أنه من الملاحظ أنه: رغم هذا التمايز للأنواع النسوية، وأن معظمها تنتجه النساء  ويتداولنه ويؤدينه، فإن مضمون الخطاب الذي ثبته مفردات هذه الأنواع ملتبس يتداخل فيه الصوت الرجالي الذكوري مع الصوت النسوي، بل أن الصوت الرجالي يهيمن مخفتا الصوت النسوي في كثير من الأحيان.

وهكذا سنجد أن فحوى الخطاب المهيمن ومادته وتمثيلاته تتبنى مثل الجماعة الذكورية وتعيد إنتاجها، وتعرض صوراً وتمثيلات تشيع فيها قيما ومواضعات ذكورية على أنها بديهيات وحقائق منتهى منها. وتبسط هذه القيم والمواصفات على أنها تكون «الحس العام المشترك».

ولكنا سنجد صوتا آخر، وإن كان أكثر خفوتاً وتوارياً، تتباين مادته وفحواه مع الصوت الأول المهيمن. وهو يعبر عن مستوى من مستويات وعي المرأة المخالف للوعى السائد. وهو يتخذ فى كثير من الحالات حيلاً ووسائل أسلوبية، كأدوات للتنفيس والنقد أو للتعبير عن المكنون والمضمر. وفي هذا تختلف الأنواع، حيث لكل نوع بلاغته ووسائله فى التعبير.

لعل ما أوجزته السطور السابقة يكون قد وضح جوانب الأطروحة التي تلح على مقاربة منهجية بديلة  تمكننا من فحص مدقق لصور الوعي بمسألة «المرأة في المأثور الشعبي» وتمثيلاتها وتشكلاتها في الواقع المعيش للثقافة الشعبية. ولقد نوهنا بالدور المركزي الذي تلعبه الثقافة الشعبية في صناعة الوعي الاجتماعي، ومن هنا وجوب الوقوف على ما تنتجه الثقافة الشعبية بخصوص المرأة.

على أن نتقبل بفكر شجاع مسؤول ما يكشف عنه الفحص، وإن لم يكن على هوانا؛ وأن نُحسن تفهمه بإدراك السياق الذي تم إنتاجه فيه. وهذا الموقف المسؤول هو الذى يمكننا من التعامل مع «الوعي القائم» بدون تغطية أو تزييف، حتى ولو توسل بالتمجيد والتفخيم، فالإدراك الرشيد هو الذي يمكننا من تجاوز الوضع القائم، ويفتح الآفاق لصياغة البديل الأرقى والأرحب إنسانيا.

أعداد المجلة