فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
1

الشعر النبطي في الجزيرة العربية والخليج - من شاعر القبيلة إلى شاعر المليون

العدد 1 - أدب شعبي
الشعر النبطي في الجزيرة العربية والخليج - من شاعر القبيلة إلى شاعر المليون
رئيس التحرير

تعارف الناس في عصرنا الحديث على أن الشعر الشعبي هو الشعر الذي يقوله العامة من بسطاء الناس عفو الخاطر تعبيرا عن لحظة صادقة معاشة، لصيقة بالتكوين النفسي لقائلها، وقريبة من الحس الجمعي للطبقات الدنيا في المجتمع. وقد ينطبق هذا على كل فنون الأدب الشعبي في الخليج إلا على فن واحد متفرد اختلف دارسوه القلائل حتى على نسبته إلى الأدب الشعبي لأنه في معظمه غير مجهول القائل، وهو الشعر النبطي الذي أسهمت في إبداع أحلى وأقوى قصائده كل الطبقات الاجتماعية في بادية شبه الجزيرة العربية وما جاورها دون استثناء، فقاله الفقير والأمير على حد سواء. ولقد تعودنا أن يستنكف علية القوم عن ما يمارسه عامة الناس من تعابير وفنون وعادات.. ترفعا وتمايزا لهم عن الرعاع، إلا في هذا اللون من فنون القول الذي عده الأمراء على مر الأزمان التي تقلب وازدهر فيها مدعاة للتفاخر بقوله والإجادة فيه والتباهي بتبني شعرائه والمبالغة في رعايتهم وإكرامهم وتقريبهم. في ذات الوقت الذي ظل فيه الشعر النبطي متنفس القول العام في البادية الذي يمكن من خلاله دراسة جوانب كثيرة من ظروف البيئة وأحوال الناس.

تلك كانت هي بدايات الشعر النبطي وبداياته الأولى، وقد برز فيه شعراء، واختص بحفظه وروايته حفاظ ورواة عنوا بنشره فكانت له منزلة في القلوب وتأثير على الحياة بلغ الحد الذي يمكن فيه أن تشعل الحرب بين القبائل قصيدة كقصيدة (الخلوج) - وتعني الناقة التي فقدت ابنها - للشاعر محمد بن عبدالله العوني (توفي عام 1342 هـ)، وأن تظل بعض القصائد مرجعا ، لأحداث تاريخية وشاهدا لمواقف بطولية حقيقية.

ويمكن إيجاز مكانة وتأثير الشعر النبطي في هذه المنطقة بأن كانت له نفس مكانة وتأثير الشعر عند العرب في الجاهلية، بل ليكاد أن يقال بأن هذا اللون من الأدب هو الصورة الصادقة لما كان عليه أدب اللغة العربية في العصر الجاهلي " ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنا "1.

وكما هو معروف فقد نشط خلال القرنين الثاني والثالث للهجرة الرواة والرواد الذين أولعوا بتدوين اللغة العربية وآدابها من الأعراب وساهموا في نقل الأدب الفصيح من البادية إلى الحاضرة العربية وأودعوه بطون الكتب وساعد القرآن الكريم وتفاسيره والدراسات والاجتهادات الفقهية في حفظه من الضياع والتغيير الكثير والتبديل الواسع، لكنه في البادية خضع للتطور الطبيعي، على الرغم من انغلاق المجتمع البدوي وصرامته في قبول الجديد الوافد، ففقد الكثير من نقاء لغته التي تحولت إلى لغة أخرى ممسوخة عن الأصل لكنها محتفظة بكل عناصر اللغة الأم.

والمراجع المتوفرة لا تذكر شيئا عما اعترى العربية الفصحى في بادية الجزيرة العربية في فترة انتقالها إلى العامية، ولا تذكر بالتحديد متى بدأ هذا التغير التدريجي، لان اهتمام الرواة وعلماء اللغة ذلك الوقت كان منصبا على الفصيح من الكلام فاعتبروا ما طرأ على لسان الناس من مفردات وتعابير فسادا وتدنيه في القول لا يعتد به ولا يرقى إلى مستوى الرواية والتدوين والدرس. حتى البدو أنفسهم لم يألفوا في البداية هذا الذي طرأ على شعرهم، وقد سموه (نبطيا) لفساد لغته وبعدها عن أصول اللغة الفصحى ومحاكاتها لغة المستعربين من الأنباط التي يضرب بها المثل قديما - في البعد عن الفصاحة.

ويبدو أن اللحن والاشتقاق والصيغ المخالفة لقواعد الفصحى استمرت في التسرب والسريان على ألسنة البدو، ودخلت أشعارهم بشكل تدريجي منذ القرن الخامس الهجري حتى وصلت إلى ما هي عليه في عهد ابن خلدون (732— 808 هـ) الذي يعتبر أقدم من دون نصوصا ٠ من الشعر العامي وذلك في مقدمته الشهيرة. يقول العلامة قبل أكثر من ستة قرون من الآن في الإشارة الوحيدة التي وصلت إلينا في كتب الأقدمين عن هذا اللون من الشعر: " فأما العرب، أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون".

ويضيف ابن خلدون: " فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات، نسبة إلى الأصمعي، راوية العرب في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي. " 3

ويورد نماذج مما ينسب لبني هلال، منها ما قيل في رثاء أمير زناته أبي سعدى البقري:

تقول فتاة الحي سعدى وهاضها             ولها في ظعون الباكيين عويل

أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة             خذ النعت مني لا تكون هبيل

تراه العالي الواردات وفوقه                   من الربط عيساوي بناه طويل

وله يميل الغور من سائر النقا                به الواد شرقا واليراع دليل

أيا لهف كبدي على الزناتي خليفة           قد كان لاعقاب الجياد سليل

قتيل فتى الهيجا ذياب بن غانم               جراحه كأفواه المزاد تسيل4

وهذا الذي دونه العلامة يمثل في تصورنا إحدى مراحل النضج الأولى التي وصل إليها الشعر العامي خلال تطوره من حيث نزوعه إلى الفصحى في لغته وأوزانه وأسلوبه، إذ لا بد أنه قد مر بمراحل سابقة من التطور التدريجي حتى جاء بالصورة التي لقيه فيها ابن خلدون. والملفت للنظر أن من بين ما يتناقله الرواة في من شعر بني هلال نصوص قريبة الشبه بما هو بين أيدينا الآن من شعر المنطقة نبطي. ونورد هنا أبياتا تنسب إلى (عليا) حبيبة أبى زيد الهلالي من قصيدة أرسلتها إليه وهو في المغرب يقاتل البربر :

تقول فتاة الحي عليا مثايل                    ولا قايل مثلها في الحي قايل

يا الله ان تهيي لي طروش لاجلهم           يسيرون ما بين الضحى والقوايل

يا ركب يا اللي من عقيل تقللوا             على ضمر شروى الحنايا نحايل

قولوا لابا زيد ترى الوادي امتلا           وكل شعيب من مغانيه سايل

قولوا لابا زيد ان عليا مريضة            عليها من الحمى خبيث الملايل

ابا زيد حب الناس حبل وينفتل              وحبي أنا ويتاك زي العمايـل

والله لولا البحر بيني وبينه                   جيته على وضحا من الهجن حايل

قولوا لابا زيد ان بغاني بغيته                وان دور البدلا لقينا البدايل

أبا زيد تنساني وتنسى فعايلي               وتنسى جميلي يا نكور الجمايل

يبيعون لي باعوا ويشرون لي شروا       ولا الغبن إلا بالنضا والحلايلة

 

من المرجح أن يكون هذا النص قد قيل في حدود القرن السابع الهجري مع الأخذ بعين الاعتبار ما يعتور أقوال الرواة من شك وخلط وتحريف. فهل هو بالفعل من مرحلة تلت بقليل ما دونه ابن خلدون من أشعار، حيث اكتلمت ونضجت لغة وأسلوب هذا الفن فاستقر وسار عليهما حتى أيامنا هذه دون تغيير أو تبديل؟ أم أن النص السابق من تأليف الرواة والقصاصين في فترة لاحقة، ضمن القصص الخيالي والحكايات الشعبية المنتشرة في المنطقة حول سيرة بني هلال؟

يقول خالد الفرج عن ا بيات الستة م النص السابق التي أوردها في مقدمة ديوان النبط: " هذا شعر قيل في القرن السابع الهجري وهو لا يختلف عن أشعار هذا الزمان، وفيه من البلاغة والانسجام ما يعد في أعلى درجاتها ولا ريبة عليه من وضع أو انتحال " 6.

من المؤكد أن كمية هائلة من هذا الشعر قد أهملت وضاعت لأنها وقعت بين أدباء الفصحى الذين يحتقرون الشعر النبطي ويرون بأنه دون مرتبة الاهتمام وبين قائليه ومتذوقيه وأغلبهم من الأميين الذين يعتمدون الذاكرة البشرية في الحفظ والرواية، فلم يصلنا من أشعار المتقدمين إلا أقل القليل وأقدم من دونت أشعارهم راشد الخلاوي وابو حمزة العامري من الإحساء وقطن بن قطن من عمان ورميزان وجبر بن سيار من منطقة سدير في نجد فيما بين القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين.

ألحان وأوزان الشعر النبطي

يبدو لي أن قصيدة النبط ظلت في طفولتها الأولى تقال في الغالب على تفاعيل وبحور القصيدة الفصحى مع تمسكها بإلغاء الإعراب، لا لأن شعراء النبط الأوائل أدركوا تفاعيل وبحور الخليل بن أحمد فنظموا على منوالها مما كانوا يقرؤون، ولكن لأن بيئة الفطرة البدوية التي ابتدعت أوزان الشعر العربي وسارت عليها ثم أتى بعد ذلك الخليل واستنبط منها أوزانه هي بشكل أو بآخر نفس البيئة التي ولد وترعرع فيها الشعر النبطي. وتطور هذا الشعر وانتشاره بين الأميين من الأعراب الذين يعتمدون السليقة الفطرية في كل نهج من حياتهم جعل مجال الوزن مفتوحا لظروف الشاعر النفسية طبيعة أغراضه من القول ومدى قدراته العفوية على الابتكار والتنويع، مما أدى إلى صعوبة تحديد بحور شعرية لأوزانه خاضعة لتفعيلات معينة.

لقد جرت محاولة رائدة قبل حوالي نصف قرن من الآن للباحث عبد الله بن خميس لتحديد الأوزان الشعرية التي ينظم عليها الشعر النبطي ، لكنها للأسف لم تصل إلى نتيجة ". . ولقد حاولت عن طريق التتبع والاستقراء حصر أوزان هذا الشعر فلم أصل بعد إلى نتيجة. ثم عمدت إلى مجموعة شعر لأحد شعراء النبط وهو إبراهيم بن جعيثين (1260 - 1362 هـ)، وهو من المكثرين وممن يتلاعبون بأوزان هذا الشعر، ويتفننون في ضروبه، فوصلت إلى ما يقرب من عشرين وزنا، ولما أقارب نهاية الديوان فكيف بجميع الديوان، ثم كيف بجميع شعراء النبط قديمهم وحديثهم؟!" 7

وهذا راجع إلى أن الشعر النبطي يعتمد في أوزانه على المقطع الصوتي وكل قصيدة يشمل البيت الواحد منها عددا محددا من المقاطع الصوتية التي تجري عليه بانتظام بقية الأبيات، ويختلف عدد هذه المقاطع من قصيدة إلى أخرى. . حسب رغبة الشاعر. ولعدم تعارفهم على تحديد عدد معين من هذه المقاطع الصوتية في كل وزن تعددت الأوزان وكثرت أنواعها حتى استعصت على الحصر والعد كما هو حاصل بالنسبة للأزجال.

لقد ارتبط الشعر النبطي في منطقتنا بالغناء، وهو في الغالب شعر قيل لينشد منغوما أو مغنى على ربابة في المجالس والمسامرات وقصور الحكام أو في الساحات استعدادا للحرب أو على ظهور الإبل والخيل. وهذا الارتباط الوثيق بين النبط والغناء أوقع الدارسين في لبس كبير، إذ اعتبروا أنواع هذا الفن الشعري أدوارا وأصواتا وأنغاما غنائية، وخلطوا بين تلك الأنواع الشعرية وبين الألحان الموسيقية التي تؤدى بها. ومن هذه الألحان المشهورة (الصخري)، (الفراقي) ، (السامر) ، (المسحوب) و السامري).

إن الأصل في تسمية (الصخري) مشتق من الكلمة الفصحى (سخر) بمعنى قهر وطوع، وقد قلبت السين صادا لطبيعة لهجتنا التي تقلب حرف السين في بعض مواقعه من الكلمة إلى صاد 9، والمقصود هنا من التسمية أن اللحن لفرط رقته وعذوبة ما ينشد معه من أبيات يسخر المحبوب للمحب فيما يريد رغما عنه، وهو لحن يؤدى على الربابة البدوية المعروفة، وتغنى بمصاحبته قصائد النبط الغزلية ذات الأوزان التي غالبا ما تأتي على بحر الوافر أو ما يقاربه، مثل قصيدة الشاعر القطري محمد الفيحاني التي مطلعها:

شبعنا من عناهم وارتوينا

                  وعند رسوم منزلهم بكينا

و(الفراقي) لحن آخر يؤدى على الربابة كذلك وتغنى به الأبيات الخاصة بفراق الأحباب والأهل والديار، ومن هنا جاء الاسم (فراقي). وأغلب القصائد التي تناسب هذا اللحن تأتي على وزن بحر الرجز أو ما يقاربه مثل قول الفيحاني:

قصت حبالك من عقب وصلها مي

                    واستبعدت من عقب ما هي قريبة

أما المسحوب فهو لحن خاص بطريقة من طرق إنشاد قصيدة النبط ، أما تسميته بالمسحوب فيبدو أنها مأخوذة من " طبيعة إنشاد هذا اللون، لأن منشده في تمديده لحروفه وأنينه عند بعض مقاطعه، كانه يسحبه سحبا " و. إن (السامري) حديث أضيف إلى الألحان الأخرى، لحن التي تغنى بها قصيدة النبط ، في فترة لاحقة.

وبالتحديد عند الاستقرار السياسي للجزيرة العربية وبقية أجزاء المنطقة وتوسع صور اختلاط البدو بالحضر وبداية تقبلهم لبعض الفنون والإيقاعات الموسيقية التي تحمل شيئا من طراوة المدينة. فهذا اللون من الألحان يؤدى بتوقيع جماعي منسق على (الطيران)، مفردها (طارة) وهي عبارة عن نوع خاص من الدفوف أكبر حجما » وأكثر ترجيعا بالطبع من الدف العادي، وتعتبر أحد أدوات الإيقاع الموسيقي المهمة والمعروفة في الخليج منذ زمن بعيد. و (السامري) لحن مختلف عن (السامر) الذي تنفرد بتأديته الربابة. وخلاف ما ذكرنا، هناك ألحان محلية لها علاقة وثقى بشعر النبط ، لكن ما ذكر هو أهمها وأكثرها شيوعا.

وفي رأينا أن أنواع الشعر النبطي شيء وألحانه التي يغنى بها شيء آخر، مع التأكيد على ما للحن من تأثير على أوزان الأبيات التي تغنى بمصاحبته وليس أدل من "أن البدوي - أي بدوي - يعرف نوع الشعر بمجرد أن تقرأه عليه قراءة عادية بدون إنشاد"10 وأن اللبس حاصل من أن القصيدة تكتمل عند الشاعر وفي ذهنه لحن معين لإنشادها وربما ينشدها بنفسه لحظة الإبداع على لحن يستهويه، فيطلق عليها اسم ذلك اللحن اذي جاء الإيقاع الوزني للأبيات مطابقا له، في ذات الوقت الذي قد يناسب هذا الإيقاع لحنا أخر يمكن إنشاد القصيدة بمصاحبته، وقد لا يناسب إلا ذلك اللحن الجاهز وحده، والذي كان ماثلا، في حس الشاعر لحظة الخلق.

وفي تصورنا أن مسميات الألحان عند الشاعر النبطي - الذي غالبا ما يكون هو المغني أو المنشد نفسه هي كذلك تسميات لنوع الإيقاع الموسيقي المستخدم في وزن الأبيات، فالنماذج التي أوردناها للتدليل على نوعية الأوزان المناسبة لكل لحن هي أساسا أبيات من قصائد مشهورة تعمدنا أن نوردها لشاعر واحد لم يطرق إلا نوعين فقط من الشعر العامي هما القصيد والموال، ولا يمكن تقسيم قصائده إلى (صخري) و (فراقي) إلا عند فرز الأوزان واختيار الألحان.

أنواع الشعر النبطي

كان النوع الغالب على أشعار النبط هو (القصيد)، وهي لفظة تطلق كذلك على كل أنواع الشعر دون استثناء، لكن عند التخصيص فالمقصود بها الشعر النبطي الذي ينهج الشكل التقليدي المتعارف عليه للقصيدة الفصحى. فما جاء منه بقافية واحدة في نهاية الشطر الثاني (العجز) من كل بيت، بينما بقى آخر الشطر الأول (الصدر) مطلقا سمي قصيدا مهملا أو مطلقا والقافية النهائية التي تبنى عليها أي قصيدة من القافية تسمى (قارعة).

ومثال القصيد المهمل أو المطلق قول الشاعر القطري ماجد بن صالح الخليفي (1290 - 1325 هـ):

يا من رماني وصاب حشماي نشابه

                            يذكر حبيب سعى بالشين لاحبابه

سليت لي من جفونك مرهف صارم

                           لا وا عذابي من الصارم وجذابه

ظنيت بك يا عديل الروح ظن ولا

                           حققت ظني سوى بالهجر وكذابه

شمتوا عدانا وفرح الواشي من هجركم

                          الله لحد يا حبيبي كيف ترضى به

هيهات أنا أصغي إلى العذال في هجرهم

                          كيف أنت تصغي النمام وكذابه

يا ظبية ما رعت عشب ولا أرضعت

                          خشف ولكن مسيل القلب ترعى به11

 

أما ما جاء منه مزدوج القافية يلتزم فيه الشاعر بقافية أخرى تسمى (ناعشة) في صدر كل بيت حتى آخر القصيدة إلى جانب (القارعة) فيسمى قصيد مضموم - و مظموم - ومثال ذلك قصيدة الشاعر بديوي الوقداني، من القرن الثاني عشر الهجري، التي منها هذه الأبيات:

رب السماوات يا مجري كواكبها          يا مجري السفن في لجات الأهوالي

ضاقت بنا الأرض واشتبت شبايبها        والغيث محبوس يا معبود يا والي

يا الله من مزنة هبت هبايبها                رعادها بات له فـي البحر زلزالي

ريح العوالي من المنشا تجاذبها            جذب الدلي من جبا مطوية الجالي

ديمومة أسبلت وأرخت ذوايبهما           وانمهل منها غزير الوبل همالي

تسقي ديار عزيز الوقت حاربها           ما عاد فيها لبعض الناس منزالي12

و(القصيد) هو النوع الذي تتجلى فيه عند البدوي الجزالة اللغوية، وتبرز بالإجادة فيه الموهبة القوية، وتصور به المواقف الإنسانية العصيبة، وقد استحوذ على جميع أغراض الشعر النبطي من غزل ومدح وفخر وحماسة وهجاء ورثاء ومراسلات ونقائض وحربيات. . وغيرها، ويمتاز بمطولاته وبأوزانه الشعرية الطويلة النفس. . الملائمة لتلك الأغراض، وهو النوع الذي يحتل المكانة الرفيعة لدى المبدع والمتلقي وله الصدارة وجميع الأنواع الأخرى ثانوية تأتي بعده في الأهمية.

ومن أقدم الأنواع الكثيرة التداول والقريبة من روح وأوزان (القصيد) ما يسمى بـ (المربوع)، يلتزم فيه الشاعر بتقسيم القصيدة من حيث الشكل إلى وحدات (نتف) كل وحدة تتألف من بيتين، يجعل فيها للأشطر الثلاثة الأول قافية موحدة وللشطر الرابع قافية أخرى هي التي يعتمدها قافية واحدة للشطر الرابع من كل وحدة حتى آخر القصيدة بينما تختلف قافية الأشطر الثلاثة من وحدة إلى أخرى حسب هوى الشاعر. ولاعتماده الرباعية في نظام التقفية جاءت تسمية هذا النوع بـ (المربوع) وتعني الرباعي أو المربع، ويقول ابن خلدون في الإشارة إلى هذا النوع في معرض حديثه عن الشعر البدوي:(ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به مغصنا» على أربعة أجزاء، يخالف آخرها الثلاثة رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة، شبيها بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين)13.

أما الأنواع الأخرى فمنها (الشيلة)، (الهجيني)، (التغرودة) أو (الغرودة)، (الردية) و(الألغاز).

(الشيلة) والجمع (شيلات) عبارة عن مقطوعة شعرية محدودة الطول تأتي عادة في أربعة أو ستة أبيات وإذا طالت فلا تتعدى بالكثير عشرة أبيات من الشعر المزدوج القافية، الذي يرتجله الشاعر أو ينظمه خصيصا ليغنيه المنشدون في رقصة الحرب البدوية المعروفة في المنطقة باسم (العرضة). والتسمية هنا ربما جاءت من كلمة (شال) أي رفع، حيث أن المنشدين يرفعون بالأبيات أصواتهم عاليا، أثناء تأدية الرقص، الذي يتم بمصاحبة ألحان خاصة تؤدى على إيقاع الدفوف (الطيران) والطبول والصاجات. وهي رقصة جماعية الغرض منها عموما استعراض القوة والاستعداد للحرب والاعتداد بالقائد والقبيلة وتعداد المأثر وبث الحماسة واستثارة النخوة والحمية وهي رقصة الملوك والأمراء وعلية القوم يؤدونها باعتزاز شاهرين سيوفهم وبنادقهم قبل خوض المعركة وما زالت هذه الرقصة باقية على ما هي عليه حتى الآن وقد اختصت بتأديتها بعض الفرق الشعبية واقتصرت على أفراح الزواج والاحتفالات الوطنية في الخليج هذه الأيام.

ومن أشهر (شيلات) (العرضه) مجهولة القائل:

وسمعت حس الصايح      ولا هنالي نوم

فزيت من حلو المنام

واللي يبغي المدايح        يسوم عمره سوم

يقلط على زرق الوشام

شفته وسط البرايح         بدر زها بنجوم

جيناك يا بدر التمام

أبو جديل طأيح            فيه الروايح دوم

ويلاه يا ظبي العدام

يومين وانت رايح        لاسري عليه بقوم

لعيون زينات الوشام

 

(الهجيني) و(التغرودة) أو (الغرودة) نوعان آخران استدعتهما ضرورة الحياة في البادية وهما مما ينشد على ظهور الهجن أي الإبل ومن هنا جاءت تسمية (الهجيني)، وطريقة انشاد هذين النوعين رقيقة عذبة تشبه التغريد، يحاول فيها المنشد أن يرفع صوته ويطرب به لذلك سميت الواحدة (غرودة) أي أغرودة. ويقال بأن الإبل تتأثر بهذا الإنشاد تأثراء محسوساء فتأتلف وتنتشي وتندفع في سيرها وتلعب بأعناقها. هذان النوعان في الغالب يأتيان على شكل مقطوعة متوسطة الطول مزدوجة القافية تمتاز بأوزانها القصيرة المجزوءة، كهذه الأبيات من هجينية للشاعر إبراهيم ابن جعيثين (حوالي 1260 - 1362 هـ):

 

أمس الضحى دك بي هوجاس       والقلب كنه على مله

كنه يقلب على محماس              فوحه كما فايح الدله

الله لولا الحيا يا ناس               لا قول يا ويل من بان به خله

من شوفتي كامل الأجناس         يلعب بسيف الهوى سله

عذب النبا زاهي الألباس        مشيه وزينه على حله 14

ولأن حياة البادية مجال للفروسية والاعتداد بالنفس وبالقبيلة وإظهار المهارة فيما يراه البدوي مدعاة للاعتداد والفخر برز التباري بارتجال الشعر كأحد مظاهر التنافس على الفوز والمسامرة، وبالتالي برز أحد أنواع الشعر النبطي المشهور بـ (المحاورة) أو (القلطة) وهي مقطوعة قصيرة جداء لا تتعدى البيتين يرتجلها الشاعر في مقابلة شاعر آخر يرد على أبياته بنفس الوزن والقافية في الحال معارضاء ما ذهب إليه من المعاني أو مبادلا إياه مشاعر الصداقة والود، وغالبه ما تسودها روح المرح والطرافة ويستمر تناوب القول والتنافس في الإجادة إلى أن تأتلف محاورة شعرية في النهاية. وقد راجت هذه المنافسات الاحتفالية العلنية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي في المملكة العربية السعودية ودولة الكويت مع انشار ورواج مجلات الشعر النبطي في الخليج العربي كمجلتي (المختلف) و(فواصل) وغيرهما.

وهناك صورة أخرى للتحاور بالشعر، إذ يرسل الشاعر قصيدة كاملة إلى شاعر مشورته أو مواساته، عندها يتوجب على الشاعر آخر يشكو إليه فيها ما يعانيه طالبا. الآخر أن يرد على القصيدة المرسلة إليه بقصيدة أخرى من نفس الوزن والقافية وربما بنفس عدد الأبيات، يشاطره فيها معاناته مظهراء له كل الاستعداد لنجدته مهوناء عليه وقع الأمور ممتدحاه صبره على الشدائد وهو ما يسمى بالمساجلة.

وتأتي هذه القصائد عادة قوية عميقة لأن فرصة الشاعر أكبر للتأمل والإجادة من لحظة الارتجال، تلك التي يسودها غالبا» شعور التخلص من الحرج - أثناء التحاور - بأي كلام.

تطور الشعر النبطي

لقد ظلت القصيدة النبطية محافظة على لغتها وأوزانها والألحان الموسيقية المرتبطة بها. . تدور في عالم البادية وما جاورها دون تغيير أو تبديل حتى بداية القرن الثاني عشر الهجري حين دخل هذا الميدان شعراء من مثقفي ذلك الزمان ممن لهم اطلاع على أدب الفصحى، ولديهم نزوع إلى التحرر من قيود المجتمع البدوي وصرامة تقاليده. وهم ممن اتصل من البدو بالمدن المتاخمة لمناطقهم وعايشوا بشكل أو بآخر حياة مغايرة لما ألفوه فانعكس كل ذلك في أشعارهم وأثروا تأثيرا بليغا على هذا اللون من الشعر سلبا وإيجابا. ولا يمكن للدارس أن يتناول هذا الفن قبل أن يدرس حياة هؤلاء الشعراء وظروف زمانهم ويستقري من نماذج أشعارهم تلك الهموم الذاتية والاجتماعية التي كانت تؤرقهم.

فلهؤلاء الشعراء صفات ومعاناة مشتركة وإن جاؤا في فترات زمنية متتالية وفي ظروف تزداد تصاعدا» بالنسبة لموقف المجتمع من أشعارهم ومن ممارساتهم الحياتية المتصل جزء كبير منها بفنهم. ويمكن القول بشيء من التجاوز بأنهم خلقوا تياراً تجديدياً متواصلا في شعر النبط وحاولوا كسر طوق عزلته البدوية نطه بالحياة والناس في المدينة. فابتدعوا أوزانا وألحانا جديدة ونوعوا في القافية وادخلوا إلى الشعر النبطي مفردات وتعابير المدن وأضفوا عليه من روح ثقافتهم بذلك الوقت. ومما ساعد في ذلك كون البارزين في هذا الاتجاه فنانين مبدعين في مجال التلحين والعزف والغناء إلى جانب موهبتهم الشعرية ومكانتهم الاجتماعية. وأبرز هؤلاء الشعراء محسن الهزاني ومحمد بن لعبون وعبدالله الفرج.

كل شعراء هذا التيار ممن أجادوا وأكثروا من الغزل، ومارسوا حياة الطرب واللهو لأن الحب واللهو الشعر عندهم كان مزيجا والموسيقى، بوقت كانت فيه دعوة المصلح الديني الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1123 – 1191 هـ) تعم الجزيرة العربية وتنتشر فيما حولها بفعل تبنيها ودعمها السياسي من قبل محمد بن سعود وخلفائه من بعده وذلك من أجل التوحيد والحزم والقضاء على البدع والتخاذل في أمور الدين فكان أن وصف المجتمع بعضهم بالتهتك وإفساد الأخلاق العامة، وتصدى لهم رجال الدين، واستعدوا عليهم سلطة الأمراء وجندوا شعراء للهجوم عليهم وذم خصالهم، مما حدا ببعضهم إلى الانتقال من مناطقهم إلى مدن الخليج الأخرى التي قد تكون أكثر انفتاحا وقبولا لهم وتسامحا مع فنونهم.

فلقد أثار وجود الشاعر محمد بن لعبون في البحرين بعد هربه من الزبير اعتراضات المتشددين من الأهالي لمخالطته النساء في الأفراح بصحبة الفرق النسائية الشعبية لممارسته فنونه المشهورة على (الطار)، وهو رجل يقال بأنه كان وسيمه وحليف مزهر ومزمار 15. فروج المتشددون قولا مثيرا مازال يتردد في بعض الأوساط الشعبية حتى يومنا هذا، من قبيل التندر وتذكر ما كان، وهو (مع ابن لعبون كلهم يلعبون) والمقصود به: أنه بوجود ابن لعبون ترك الناس جدهم ووقارهم وأمور دينهم وبدوا لاهين يلعبون معه. ويقول الأستاذ عبدالله خالد الحاتم بأن أصل هذا القول جملة قالها أحد شعراء الإحساء (غير ابن لعبون كلهم يلعبون) بقصد المبالغة في التدليل على مكانة الشاعر من الشعر النبطي16، ثم استخدمت بعد ذلك من قبل حاسديه بمعنى آخر.

وفي أثناء قدوم الشاعر الكويتي عبدالله الفرج إلى البحرين وإقامته فيها تصدت له مجموعة من الناس على رأسهم شخص يدعى محمد بن فضل ويلقب بـ (بديوي) أنكروا عليه تعاطيه الغناء والعزف على العود ورفعوا بذلك عريضة إلى حاكم البحرين ذلك الوقت يطلبون فيها إخراج الفرج من البلاد حتى لا يفسد أبناء الحكام والرعية، ولم يجب طلبهم فاعتمدوا نظم الشعر في هجوه (لكن أشعارهم لم تشتهر لركاكتها )17، وبقيت ردود عديدة للشاعر على تلك القصائد مثبتة في ديوانه المطبوع، منها:

يا مدع بالطوع ما الطوع بملفاك      الطوع ملفا الصالحين البهاليل

اللي نراهم كلما حل طرياك        سبوك عن نص وعن آي تنزيل18

وعلى الرغم من أن الشاعرين قد أبدعا كثيرا من فنونهما في البحرين وبقية مدن الخليج إلا أن ما تقدم يعطي فكرة للقارئ عن مدى المقاومة التي لقيها هذا التيار في شخص دعاته.

إن أول من نبغ من هؤلاء الشعراء الشاعر الغزلي محسن بن عثمان الهزاني (حوالي 1185— 1240 هـ) من قبيلة الهزازنة أمراء مقاطعة الحريق في جنوب نجد، له اطلاع على الأدب العربي» ولي إمارة قومه فوجدها قيدا على فنه وعلى حياته فتركها غير آسف، فعاش طربا لاهيا وينسب إليه إدخال أوزان شعرية جديدة ذات قافيتين قريبة الشبه ببحر المجتث ومجزؤ الرجز، ولقد شاع هذا اللون الذي تعارف على تسميته بـ (سامري) أو (فن) وطغى على الشكل العام لقصيدة النبط وأشهر من برع فيه بعد ذلك الشاعر الكويتي فهد بورسلي (1338 - 1380 هـ). وأدخل الهزاني إلى القصيد (المروبع) استخدام الجناس اللفظي بدلاء من القافية فابتدع بذلك اسلوبا جديدا سرى بين شعراء النبط بسرعة فائقة فنظموا على منواله، وبرزت في أيامه (الألفية) وهي ما ينظم على ترتيب حروف الهجاء، كأحد فنون (المربوع). هذا من ناحية الشكل أما المضمون فقد استخدم في غزلياته اسلوب الحكاية والحوار بين اثنين، وبرع فيهما بشكل ملفت قياسه بما كانت عليه قصيدة النبط وبما كان ذلك الوقت من فنون الأدب. يقول الهزاني:

مريت بخشيفات ريم يخوضون

                   سيل وللقلب المشقا يريفون

من حين ما شافني ارهاف الثنايا

             قامن لي باطراف الأردان يومون

رديت راسي عقب ماني معيي

             قالن: دعونا له إلى جانحيي

قالن: حيه. قلت حي المحيي

            قالن: علامك تلتفت قلت: مشطون

قالن: ترانا ثبت الله مقامك

            ننذر على شوفك ونفرح بلامك

واليوم يا عذب السجايا علامك

            مسمور في ذا الدار؟ انا قلت: مفتون

مسمور في ذا الدار؟ انا قلت: مفتون والقصيدة تستمر على هذا المنوال على مدى اثنين وأربعين بيتا ء وبعد الهزاني جاء الشاعر النجدي محمد بن حمد بن لعبون المدلجي الوائلي المولود عام 1200 هـ في تويم من نجد والمتوفي بالكويت عام 1246 هـ، وكان أكثر من سابقه اطلاعا على أدب اللغة الفصحى، فنسج على منواله وأدخل إلى الشعر النبطي أوزان التوقيع الغنائي على (الطار) وهي نفس أوزان السامري مع شيء من التهذيب، فبرع في أدائه، واشتهرت هذه الألحان في كل المنطقة باسم (اللعبونيات) نسبة إلى مبتدعها. وما تزال باقية، ولها مكانة خاصة في موسيقى الخليج الشعبية، يقول ابن لعبون19:

حي المنازل جنوب السيف

                     ممتدة الطول مصفوفة

أمشي على زينها وأقيف

                    في حبها الروح مشفوفة

دار الخدم والكرم والضيف

                    دار المناعير معروفة

دار العجب والطرب والكيف

                    والأنس والفن ودفوفة

علمي بها من ليالي الصيف

                   يوم البخت ناشر نموفه20

أيام حظي يقص السيف

                  يشرب من الماي بكفوفه

 

كما قام ابن لعبون باقتباسات كثيرة من معاني شعراء الفصحى ووظفها بشكل رائع في أبيات قصائده، من ذلك قوله:

ضحكتي بينهم وأنا رضيع

                       ما سوت بكيتي يوم الوداع

أمي وأبوي اللي رموني بالأسباب

                       يا ليتها بعد الحمال أسقطت به21

 

وقد أخذ ذلك من قول أبي العلاء المعري :

إن حزنا في ساعة الموت أضعا

                       ف سرور في ساعة الميلاد

هذا جناه أبي علي

                 وما جنيت على أحد

 

أما الشاعر الكويتي عبدالله بن محمد الفرج من قبيلة الدواسر المشهورة (1252 – 1319هـ) فقد كان على جانب كبير من العلم والأدب وله أشعار بالفصحى يقول المرحوم خالد الفرج في مقدمته لديوان الشاعر الذي تولى طباعته في الهند عام 1338 بأنها جيدة لكنها فقدت.

وقد أتاحت له الثروة الضخمة التي ورثها عن أبيه وإقامته منذ الصغر في الهند أن يدرس اللغة الهندية والموسيقى والرسم والتصوير، وأن يحتك بشتى الثقافات والفنون واللغات الأخرى، وأن يعود إلى المنطقة ليمزج كل ذلك شعرا وتلحينا وعزفا، وليترك على الشعر والموسيقى تأثيراء باقياء حتى هذا اليوم.

ولقد برع الفرج في أغلب أشعاره وامتاز على غيره بإجادة فن (الموال) الزهيري (السباعي) المستعمل في أغاني البحر، وأدخل إلى الشعر النبطي ألفاظا وتعابير جديدة:

لولاه أنا ما طحت طول بطول     في منهج العشاق للتالي

ولا شربت من الغرام بطول     خمر مذاقه كالعسل حالية22

ما عن في طرفه يطل طلول     إلا لتعذيبي وغربالي

ولا رفل في خمارة إسطنبول     إلا لقتلي حسبه الوالي

بالغي يا خود تطق طبول     واعزتا للمغرم البالي23

كما ابتدع أوزانا اقتبسها من الشعر الهندي25، ونتيجة لإتقانه قواعد الموسيقى فقد استخلص مزيجا من الألحان الحضرمية المشوبة بالألحان الأفريقية ومزجها بالأنغام الهندية وغنى بها على العود والكمان والمرواسة2، فأدخل بذلك بعض التطوير إلى ألحان (الصوت) الخليجي المشهور الذي برع في أدائه بعد ذلك من البحرين الفنانان محمد بن فارس (1890 1947 م) وضاحي بن وليد (1896 - 1947 ) كما أن الشاعر عبدالله الفرج قام ببعض التعديلات على ألحان (اللعبونيات) فهذبها ولطف من إيقاعاتها.

إن بروز هؤلاء الشعراء ومن سار على طريقهم أكسب القصيدة النبطية طراوة في ألفاظها وتكرست لها قواعد جديدة بعض الشيء - بتنويع القافية وتوسع مجال تلقيها فعم المدينة بعد أن كانت خاصة بأهل البادية، لكن ذلك أوقفها على مفترق، فشعراء البدو المقيمون في الصحراء لم يعجبهم هذا التوجه الذي سارع إلى القبول بدخول الألفاظ والتعابير اللينة القادمة من المدينة وهذا التهافت على استعمال الجناس والبديع اللفظي الذي يجافي طبيعة الأعرابي البسيطة والخالية من أي اصطناع، فأصبح هناك ما يسمى بشعر نبط بدوي وشعر نبط حضري تفريقاه لكلا النوعين.

لقد كان عصر هؤلاء الشعراء المجددين عصر الانغماس في البديع والتزويق اللفظي والاستعارات والتكلف وصناعة الكلام في الأدب العربي، وبحكم اتصالهم بهذا الأدب فلقد اعتبروا أنه من المهارة الفنية إدخال كل ذلك إلى الشعر النبطي فقلدوا أدباء الفصحى فيما هم فيه من ترف لفظي فظهر التكلف واضحا «على بعض نتاجهم فأفسدوا بذلك روعة القصيدة النبطية التي كانت تنثال عن سجية وعفوية صافية، ولقد جنوا من بعد على من قلدهم من بسطاء الشعراء ممن لم تكن لهم مقدرة لغوية فصحى، وأصبحت القصيدة الجيدة تلك التي تحكم فيها الصناعة كقول الفرج يمتدح قصيدة صديقه الشاعر الكويتي الفوزان:

يا محمد الفوزان فزنا بمرسال

                     أحكمت فيه من البديع الصناعة26

ولقد بالغ ابن لعبون في استخدام الجناس والاستعارات البديعية حتى أنه قلد الحريري في نظم المهملات من النقط والمعجمات:

أحمد المحمود ما دمع همل

                   أو عدد ما حال واد له وسال

أو عدد ما ورد وارد الدحل

                أو رمى دلوه وما صدر ومال

أو حداه حاد لسلمى أو رحل

                سار هاك الدار أو داس المحال

احمده دوم على حلو العمل

               سامع الدعوى ومعط للسؤال27

أما عبدالله الفرج فقد : أكثر من البديع في الشعر النبطي حتى كاد يفسده وله قصيدة يحاول فيها أن يجعل قواعد للشعر النبطي مستنبطة من قواعد العروض والنحو والصرف، مع أن متانة هذا الشعر وبلاغته عائدتان للبساطة28. كما أن الفرج استخدم ألفاظا وتعابير سوقية في هجائه لها مدلول جنسي، مثل ما ورد في قصيدته التي أرسلها إلى الشاعر محمد الفوزان والتي مطلعها:

كثر الحكي ما هو لنا بالعوايد

                        لا وأنت تدري يا محمد فلا أزيد

ولم يخل شعر ابن لعبون من غزل مكشوف مثل ما ورد في قصيدته التي مطلعها :

حي المنازل تحية عين

                  لمصافح النوم سهرانة

لكن بالرغم من كل شيء فسيظل الشعر النبطي مدينا لهؤلاء الثلاثة بوصوله ورواجه في حاضرة المنطقة، فالفترة الزمنية التي عايشوها وأبدعوا فيها هي مرحلة التفتح والطراوة والتجدد، كما ظل ذكرهم حاضرا في ذاكرة الشعر النبطي وشعرائه إلى يومنا هذا كأنموذج رفيع للشعراء المغنين العشاق، كما يقول الشاعر الأحسائي سليم بن عبدالحي (حوالي 1230 - 1320) :

وين محسن؟ وين عبدالله الفرج؟

                            وين ابن لعبون بيطار المثيل

شوف وش سوى لهم غض الشباب

                             كل منهم مات مغلول عليل

 

ولا يمكن اغفال دور الغناء بزماننا هذا في تطور ورواج الشعر النبطي، فلقد تواصلت القصيدة النبطية مع فنون التلحين والأداء الغنائي الرفيع وبرز على الساحة الشعرية الأميرين خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن وغيرهما من كبار المبدعين في الخليج، من خلال النصوص التي أبدع في تلحينها وأدائها الفنان محمد عبده وغيره من الأصوات ذات الحضور والتألق، مما أكسب النص الغنائي شعبية قربت القصيدة النبطية إلى ذائقة قطاع واسع من أبناء هذا الجيل.

ويعزى إلى النخبة الممتازة من شعراء العامية بهذه المنطقة دور بارز في استلهام روح القصيدة النبطية شكلا ومضمونا لتطوير إبداعاتهم الجديدة والخروج على معمار القصيدة النبطية لكتابة نص شعري جديد يعتمد التفعيلة والشطر الشعري بديلا عن وحدة البيت الوزني، محملين نتاجهم هموم عصرهم التي لم تتمكن غالبية شعراء النبط بحكم الانتماء القبلي أو الطبقي من طرحها أو حتى مجرد الاقتراب منها. وقد أسهموا بشكل أو بآخر في وصل النص الشعري العامي اللغة بثقافاتهم التجديدية مما ساعد في تواصله بمفردات الفصحى وتضييق الشقة فيما بين عامية القصيدة النبطية ولغة الشعر الفصيح فجاءت قصائدهم لتلتقي بالنصوص النبطية الجديدة لتكون نصوص أغان ذات شحنة عاطفية قوية في لغة شفافة غنية أنزلت القصيدة العامية منزلا فنيا رفيعا وجعلت منها أنموذجا لما يمكن أن يطمح إليه شعر العامية في هذا الزمان.

تدوين وطبع ونشر الشعر النبطي وآفاق تلقيه

ذاكرة الراوي ظلت لفترة متأخرة هي المرجع الأول والأخير في حفظ الشعر النبطي، ونتيجة لطبيعة الذاكرة البشرية فقد ضاعت قصائد كثيرة ودخل أغلبها كثير من النقص والتحريف، ولم يهتم أحد بجمعه وتدوينه إلا في السنوات الأخيرة مع تزايد الاهتمام بالفلكلور في البلاد العربية وعندما عرفت المنطقة شيئا » يسمى بـ (التراث الشعبى).

ولقد كانت البدايات في غاية التواضع عندما عنى نفر من المهتمين بتدوين ما يقع نح أيديهم والاحتفاظ به في دفاتر خاصة حيث لم تكن لديهم القدرة على تحمل نفقات طبعه.

وفي عام 1328 هـ طبع أول ديوان شعر نبطي للمرحوم الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر (1239— 1331 هـ)، وبعد حوالي أحد عشر عاما طبع (ديوان عبدالله الفرج) من تحقيق وشرح الأستاذ خالد محمد الفرج، وبعده صدر في المملكة العربية السعودية ديوان الشيخ محمد بن بليهد أحد أدباء نجد المعروفين وفي البحرين تولى الديوان الأميري في عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين الأسبق طبع كتاب (روضة الشعر) عام 1956 ليحوي مختارات من الشعر النبطي. وبعد ذالك توالى صدور الدواوين والمختارات الشعرية في كل دول المنطقة، كان من ضمنها (من تراثنا) وهو مجلد يحوي قصائد نبطية لشعراء متفرقين بذلت في إخراجه وتبويبه والعناية بمضمونه جهود كبيرة تليق بمكانة هذا الشعر، أصدرته وزارة الإعلام بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وعند أوائل التسعينيات صدرت في الكويت مجلة (المختلف) كمجلة شهرية تعنى بنشر القصائد النبطية الحديثة تلتها مجلة (فواصل) في المملكة العربية السعودية ومجلة (قطوف) وغيرها من المجلات التي عنيت بهذا اللون من الشعر وروجت لأخبار شعرائه ونشرت صورهم على أغلفتها كنجوم إلى جانب إعلانات ملونة لمكاتب تبيع أشعار المناسبات مفصلة حسب رغبات من يدفع من الجمهور.

ومع رواج الخدمات الإلكترونية واتساع نطاق استخدامات الانترنت أنشا المثقفون من أبناء القبائل العربية في هذه المنطقة مواقع خاصة على شبكة الإنترنت لشعراء القبيلة أمثال الشاعر محسن الهزاني ومحمد بن لعبون وعبدالله والفرج وغيرهم من أشهر نجوم هذا اللون من الشعر، كما راجت مواقع الكترونية أخرى متخصصة فتحت فضاءاتها لعرض واستقبال القصائد النبطية المقروءة والمسموعة وتعددت المنتديات الشعرية وتطورت تقنياتها إلى الحد الذي باتت فيه لا تحصى ولا تعد.

وفي السنوات الخمس الأخيرة برزت ظاهرة جديدة أخرى وظفت الشعر النبطي في مجال الاستثمارات الإعلامية وهي ظاهرة انتشار الفضائيات الشعرية وبرامج ومسابقات الشعر النبطي، ودخل هذا الفن ميدان الاعلان التجاري وتم استغلاله وتوظيف شعرائه على نطاق واسع بمنطقة الخليج والجزيرة العربية إلى الحد الذي صار يعرف بالشعراء حسب قيمة كسبهم المادي في المسابقات ك (شاعر المليون) درهم، على سبيل المثال.

ومع هذا التغير الطارئ على وظيفة القصيدة النبطية بهذه المنطقة الزاخرة بالجديد من المتغيرات، برزت المرأة الشاعرة بروزا لافتا على ساحة الشعر النبطي، واحتلت مكانة مرموقة في ساحته، أصدرت من خلالها الدواوين الشعرية وشاركت الرجل في الأمسيات والمنتديات كند منافس.

وفي الوقت الذي تحضر فيه البدو وهجروا الصحراء إلى المدينة، وتوسعت المدن فشملت أجزاء كبيرة من البادية ظل هذا اللون من الشعر حيا متجددا يقدم إلى الجيل المعاصر، الحضري، المتعلم، البعيد عن لغة البدو، من خلال أجهزة الإعلام الحديثة في كل المنطقة فيجد رواجا وتفاعلا وتجد القصيدة النبطية مداخل تقبتل وتطور جديدة وأفق تتلتق يليق بتاريخها الطويل.

المراجع:

1 الحياة الأدبية في جزيرة العرب ، د طه حسين ، مكتبة النشر العربي ، دمشق – 1935 ص : 24

2 الشعر عند البدو، شفيق الكمالي ـ 1964 ص 66.

3 مقدمة ابن خلدون ، دار الكتب العلمية بيروت 1971، ص 676.

4 المصدر نفسه ، ص 678.

5 أورد الأستذ خالد الفرج ستة أبيات فقط من هذا النص في مقدمة ديوان النبط.

6 ديوان النبط خالد بن محمد الفرج، l - 2 ، المكتبة الأهلية- الرياض، ص 7

7 الأنب الشعبي في جزيرة العرب - عبدالله بن خميس صر60 1378 ه

8 مثل : (صلطان، مصطرة، صاخن، صبخ، صروال) بدلالا من سلطان، مسطرة، ساخن، سبخ، سروال.

9 الأدب الشعبي في جزيرة العرب - عبدالله بن خميس ص 303

10 الشعر عند البدو - شفيق الكملي- ص 79 .

11 من الشعر القطري، دار الكتب القطرية، الدوحة 1969، ص 171

12 خيار ما يلتقط من شعر النبط ، عبدالله الحاتم، الجزء الأول ، 1968، ص 203 .

13 مقدمة ابن خلدون، دار الكتب العلمية - بيروت ، 1971 ص 676.

14 الأزهار النادية من أشعار البادية - الجزء الثامن - مكتبة المعارف بالطائف ، بدون تاريخ .

15 الأزهار النادية من أشعار البادية - الجزء العاشر، مقدمة ديوان ابن لعبون - محمد سعيد كمال - ص 4

16 خيار ما يلتقط من شعر النبط ص 256

17 ديوان عبدالله الفرج - هامش ص 119

18 ديوان عبدالله الفرج ـ ص 118

19 خيار ما يلتقط من شعر النبط عبدالله الحاتم - ص 278 ، 288

20 نوفه : يقصد هنا أعلامه وراياته. والنوف هو العلم الذي يستعمله البحارة عند حدوث وفاة بينهم أو خطر ما.

21 أسقطت به: أجهضت

22 بطول، جمع بطل : مأخوذة عن الكلمة الإنجليزية bottle وتستخدم بمعنى قنينة الخمر.

23 ديوان عبدالله الفرج - ص 114

24 المصدر السابق نفسه.

25 المرواس : طبل صغير ، يستخدم لضبط الإيقاع في فن (الصوت)، يصنع هيكله الخشبي في الهند

26 ديوان عبدالله الفرج ص 81

27 الأزهار النادية من أشعار البادية ، الجزء العاشر ـ ص lOl

28 ديوان النبط، خالد الفرج - ص 9 ، 10

أعداد المجلة