فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
51

الملالية نمط غنائي نسائي أغراضها ومواضيعها

العدد 51 - موسيقى وأداء حركي
الملالية نمط غنائي نسائي أغراضها ومواضيعها
كاتبة من تونس

يزخر الموروث الموسيقي بأشكال فنيّة عديدة تختلف باختلاف المكان والزّمان وتتنوع بتنوع مجالاتها التعبيرية (شعر، حكاية، غناء، رقص، أمثال شعبية...) لتصوّر الوجود الإنساني بكيفيّة تعكس الخصوصيّات الثقافيّة لكلّ شعب فتحمل من داخلها واقعا يعبّر عن الإنسان وعن وجوده وعن فكره وعن نمط عيشه وعن أحاسيسه ومشاعره، كما تجسد مسارا تاريخيّا يترجم نكساته وانتصاراته فتؤسّس بذلك لثقافة شعبيّة تحظى بقيمة نعتبرها مرجعيّة وتمثل مكانة الأرشيف الشعبي الذي يرتبط بالذاكرة الجماعيّة والواقع المعيشي في أبعاده الثقافيّة والاجتماعية والتاريخية والوجوديّة...وأردنا في هذا السياق دراسة شكل تعبيري غنائي وهو «الملالية» كنمط من أنماط الغناء الشعبي بالشمال والوسط الغربيين.

فما هي خصائص هذا النّمط وما هي أهم أغراضه ومضامينه التّعبيريّة ؟

الملالية مصطلح دارج في عديد المناطق التونسيّة الواقعة خاصة في الشمال والوسط الغربي للدّلالة على نمط من الغناء الشّعبي المتداول هناك والذي يندرج في إطار التّقاليد الشعريّة الشعبيّة المتواترة شفاهيّا، وأفرز هذا النّمط الغنائي علاقة وطيدة بين الإبداعي الشّعري ومختلف طرق إلقائه وأدائه1.

تطلق هذه التسمية «ملالية» بجهة الكاف، بينما تطلق لفظة «الملُولية» أو «اللُّولاَية» بجهة القصرين للدّلالة على نفس الشكل الغنائي2. ويحيلنا اختلاف التسميات من جهة إلى أخرى إلى اختلاف الخصائص الفنيّة لهذا الشكل الغنائي الشعبي، ويتأكّد هذا التنوّع والاختلاف بوجود تسميات أخرى بعيدة كل البعد عن هذا الجذر اللّغوي ولا تحيل على المقاطع الثلاثة الأولى «يَا لاَلاَ» وهذه التسمية هي «النسمة، النمّة»، حيث تعرف منطقة الكاف بالنسمة الكافية نسبة للملالية، ويقال في ذلك «نسّم لينا» أي سمّعنا ملالية3.

التعريف اللغوي والاصطلاحي للملالية:
ليس للفظة «ملالية» جذور لغويّة فصيحة، فهي تركيب لغويّ محلّي من اللّهجة العاميّة التونسيّة، والفعل المستعمل في اللهجة الدّارجة التونسيّة «لاَلَى» ومضارعه المذكّر «يُلالي» ومضارعه المؤنث «تُلالي». اشتقت تسميّة هذا النمط الغنائي من المقاطع الصوتيّة الأولى التي يبتدئ بها «ياَلاَلاَ»4.

تنتمي الملالية في تركيبتها الشعرية إلى نوعية من الشعر الشعبي يطلق عليه «المثلّث»، وهو شعر يتكوّن في العموم من ثلاثة أغصان5 أي من بيت وشطر مثل:
يا لا لا هوينو ماشي والرّيح يذرّي على ساقه
ريقه عسل لا من ذاقه

وتُستعمل الملالية في الاصطلاح الشعري الشعبي للدّلالة على أصوات فرديّة تردّدها المرأة غالب الأحيان6.

خصائص الملالية:
تتميز الملالية كنمط غنائي بخصائص شعرية وتعبيرية عديدة ومتنوعة نذكر من بينها:

اولاً. نمط غنائي نسائي:
يعتبر النمط الغنائي «الملالية» من الأنماط الغنائيّة الموقوفة على النّسوة بمناطق الشّمال والوسط الغربيين للبلاد التونسيّة، وعلى ما يبدو، فإنّ تلازم هذا النّمط بالأداء النّسائي يرجع في جانب من جوانبه إلى القيم والتّقاليد الفنيّة المتوارثة في تلك الجهات، والتي تربط التغنّي بعواطف المرأة ورهافة حسّها تجاه مختلف الوضعيّات الأسريّة والقبليّة التي تواجهها في مشوار حياتها. فسجّلت بذلك حضورها كراوية وكصاحبة قضيّة تعبّر بصوتها عن واقع المنطقة وتاريخها ومشاغل أهلها، كما تعبّر عن بعض مظاهر المجتمع الذي تعيش فيه وتخضع إلى قيوده المختلفة7.

ثانياً. مقاطع صوتية طويلة:
تتميّز الملالية بكثرة المقاطع الطويلة المفتوحة يتكرّر خلالها حرف اللاّم عديد المرّات ممّا يسمح للمؤدّي بمدّ صوته بطريقة غير متناهية تبعا للحالات الشعوريّة المصاحبة لمضامين الأبيات المتغنّى بها. كما تُختم الملالية بنفس المقاطع الطويلة المنفتحة، ممّا يعكس صورة على شكل هذا البناء الصوتي المتميّز للملالية، وهو بناء دائري تمثّل نقطة البداية فيه منتهى الصوت وقفلته التي تمثّلها اللاّزمة «ردّوا عليّا»8.

كأن تُغنى هذه الابيات الشعرية للملالية:
يـا لا لا يـا قمـرة ربّـي بجــاه الله برّي غيبي
وخلّي الظلمة لحبيبي ردّوا عليا يا حبابي

بهذه الطريقة وذلك بعد إطالة وتمديد الغنّاي لبعض المقاطع الصوتية للملالية وإضافته لبعض الحروف على نصّها الشّعري لتصبح كالتّالي:
بجاه الله لا يا يا يا يا هلالالا ياوبرّي غيبي
ياو خلّي الظننننـ يالمة لحبيبي أو ردّوا على أ يا يا يا يا يا لالالا يا حبااااايي ردّوا يـا

من جهة أخرى تتّخذ الألفاظ والكلمات المستعملة في الملالية موقعا مميّزا على المستوى الشعري وعلى مستوى البناء الصوتي، ويحرص مؤدّوا الملالية على انتقاء كلمات تتضمّن مقاطع طويلة منفتحة. وقد انعكس هذا على ثراء المعجم اللّغوي الشعبي والذي ما فتئ يتّسع بعبارات عديدة ومتنوّعة معبّرة رغم بساطتها، وهو ما يؤكّد تطوّر هذا الشكل من الناحية الشعرية ومواكبته لمختلف الحقب التاريخية والحضارية التي طبعت الجهة.

ثالثاً. وليدة اللحظة:
تعتبر العفويّة والتّلقائيّة من أهمّ خاصيات إنشاء هذا الشكل التّعبيري الفنّي، فالملالية بهذا المنحى تكون وليدة اللّحظة وصادرة عن إحساس مفعم تتفاعل من خلاله المرأة مع حدث ما متعلّق بذاتها أو بأسرتها (سواء كانت متزوّجة أو عزباء) أو كذلك بقبيلتها، ممّا يضفي على هذا الشكل التعبيري طابع الحوار الذاتي المتراوح بين تعابير الاستفهام والافتراض والتحيّر، وبين السكينة والاطمئنان والتحقّق، أي ما يعبّر عنه بالمونولوج.

رابعاً. التعبيرية:
مثلت الملالية وسيلة فنيّة تعبيريّة اعتمدتها المرأة لتصوير أحاسيسها وتدرّج مزاجها وتطوّره بين ثلاث درجات من التعبير الصوتي والاستكانة إلى التلميح فإلى الجهر.

بالنظر في ارتباط الملالية بوجدان الشاعرة المغنيّة وبالنظر كذلك إلى كثرة المقاطع الطويلة التي تنبني عليها الملالية، عادة ما نلاحظ تميّزها بنبرات ذات طابع حزين ينمّ عن توق المرأة إلى كسر قيود المجتمع وتقاليده التي تجعل منها أسيرة الخدمة والعبودية للرجل (الأب، الأخ، الزوج، قائد القبيلة، شيخها..)، والتي تحرمها كذلك من حقّها في إنشاء علاقات إنسانية حرّة ومستقلّة بذاتها. ولهذه الخاصية علاقة متينة بما يميّز الملالية من صبغة جديّة ملتبسة بكثير من الجرأة، حيث تعبّر المرأة في غنائها الملالية عن مقاصدها بطريقة مباشرة وصريحة جدّا دون خشية من أن يلومها لائم أو يردعها رادع9.

خامساً. التنوع النغمي:
لخاصيّتي الحزن والجرأة تأثيرهما المباشر في تقنيات أداء هذا النمط الغنائي، فعادة ما تتميّز الملالية بتنوّعها النغمي من منطقة إلى أخرى ومن عرش إلى آخر داخل المنطقة الواحدة. وهذا ما يجعل كلّ قبيلة من قبائل المنطقة نغمة خاصّة بها تسمّى باسمها وتكتسي صبغة محليّة، فتختصّ بنطق مميّز للحروف شدّة ورخاوة وترقيقا وتفخيما وجهارة. وزيادة على الاختلاف في التقطيع الصوتي للكلمات في كلّ منطقة إضافة إلى تفاوت هذه الكلمات في حدّ ذاتها على مستوى الدلالة والتعبير، لتعكس هذه الاختلافات تنوّعا في طريقة الأداء والزخارف الصوتية والمسار اللّحني10.

وإن تنوّعت الملالية حسب القبائل والعروش، فإنّنا نجد ضمنها بعض النغمات المتقاربة حسب مواقع تلك العروش وقربها من بعضها. كما توجد ضمنها نغمات أخرى مختلفة بعض الشيء بحكم تباعدها عن تلك المواقع، وهو ما يبرز تنوّع النغمات في الملالية. ومن ذلك مثلا «الملالية الركروكي» وهي نغمة تقليدية متواترة في عديد العمادات بالشمال والوسط الغربي. وتعتمد هذه النغمة على قوّة الحنجرة وبالتالي قوّة الأداء الصوتي، وصاحبتها منذ القدم آلة القصبة ثمّ في مراحل أخرى آلة الزكرة.

يتغنّى بهذه النّغمة التقليدية في ربوع ولاية الكاف وخاصّة في تاجروين وساقية سيدي يوسف وقلعة سنان والقلعة الخصبة، وكذلك بجهات من الجزائر كسوق أهراس أين اشتهرت «فطيمة السوقهراسية»، وتبسّة أين اشتهرت بها كلّ من «زليخة» و«ثلنجة التبسيّة». ومن النغمات الأخرى للركروكي نذكر نغمة «سيدي عبيد» بتونس والجزائر ونغمة «اللّمامشة» بالجزائر. وباستثناء الركروكي وفروعه توجد نغمات أخرى تنتسب إلى عدّة عروش بجهة الكاف مثل ملالية أولاد بوغانم، أولاد شارن، الزّغالمة، أولاد سيدي عبيد11.

لا تخلو الخصائص التي ذكرناها والمميّزة للنمط الغنائي الشعبي «الملالية» من دلالات عميقة تدلّ على شدّة اتّصال هذا الشكل الشعري والقالب الغنائي بمجموعة من المشاعر الصادقة النابعة من واقع معيش في منطقة الكاف خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى أواسطه مع بداية حركة التحرّر الوطني بتونس. ولعلّ ما يثير الانتباه أنّ تلك المشاعر النابعة من النسوة بصفة خاصّة ظلّت متداولة حتّى بعد استقلال البلاد وإلى يومنا هذا في دلالة أخرى على مدى أهميّة الدور الذي لعبته المرأة في التراث الشعبي المؤثّر على الأفراد والمجموعات.

فما هي أهمّ الأغراض الشعرية التي تغنّت بها المرأة في النمط الشعبي «الملالية»؟
المواضيع والأغراض الشعرية للملالية:
تدور أغراض ومواضيع الملالية بين ما هو ذاتي وما هو جماعي، حيث تعبّر المرأة في الملالية عن أحاسيس وانفعالات تعكس حالتها النفسية المرتبطة بظروف اجتماعية دقيقة، كما أنّها تصوّر من جهة أخرى واقع المجتمع على اختلاف أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية.

ارتبطت مواضيع الملالية بأغراض الشعر الشعبي التونسي، والتي وجدناها لا تخرج عن أغراض الشعر القديم، مثل الغزل «الأخضر» والمدح والشعر الديني «المكفر» والهجاء «الأحرش» ووصف الطبيعة والشعر الاجتماعي والشعر السياسي والفخر والرّثاء12.

اولاً. الغزل (الأخضر):
ويعدّ من أهمّ الأغراض الشعرية العربية تستعرض فيه المرأة الصورة المثلى لحبيبها واصفة ملابسه وأسلحته وأنواع الطّيب التي يستعملها، كما تستعرض بعض صفاته الجسدية والخلقية. ويسمّى هذا الغرض عند الشعراء الشعبيين «الأخضر» في إشارة إلى دلالته على العواطف الكامنة في قلب الشاعر لتزهر في حياته ربيعا تغمره الخضرة13.

ومن بين أمثلة الغزل في الملالية نذكر14:
يا لا لا ريحة برانيسو حواني صفاقس محلولة
يا سعد اللّي حازاتو الأولى

كما نذكر في نفس الغرض البيت التالي15:
يا لا لا هوينو ماشي والريح يذرّي على ساقه
ريقه عسل لا من ذاقه

ثانياً. الرثاء:
ومن أهمّ الأغراض التي تتنزّل في هذا الصنف نذكر الرثاء وهو من أغراض الشعر العربي القديم، تعبّر فيه المرأة عن حزنها العميق بشكل من أشكال النّديب للميّت. وتلعب المقاطع الطويلة المستعملة دورا أساسيا في التعبير عن إيقاع الحزن المفرط والبكاء واللّوعة. وهذا الغرض المشترك بين الرجال والنساء ينقسم إلى نوعين: نوع أوّل يقال أثناء وجود الميّت بالمنزل ويعبّر فيه عن التحسّر على فقدان الميّت وذكر مناقبه16.

من ذلك هذا البيت الذي تصرخ فيه المرأة باكية موت حبيبها17:
يا لا لا لو كان يخلّوني نهار الممات نسبل18 خالي
ونعدّد19 ويـجي على بالي

والمقصود بكلمة الخال هنا هو «الخِلّ» يكسر الخاء- وهو الحبيب، وكلمة الخال كثيرة الاستعمال في أشعار وأغاني النساء، مثلما يكثر أيضا استعمال لفظ «الخالة» في أشعار الرّجال أي الحبيبة.
يُعتبر هذا التحريف مقصودا بدافع الحياء وتفاديا لما قد يبعث على اعتقاد السامع أنه اعتراف بعلاقة محرّمة، وذلك بدافع الخوف الذي يعود إلى الظروف الصّعبة والبيئة الاجتماعية الصّارمة20.
ونوع ثان يصاغ بعد دفن الميّت، من ذلك هذا البيت21:
يا لا لا يـا دفّـانـة ردّوا التراب وحده وحده
ما غاضني الزين تحت اللّحدة

ثالثاً. الشكوى:
ومن الأغراض التي تصنّف ضمن الصنف الأوّل للملالية نذكر الشكوى وهي من أغراض الشعر العربي التقليدي، والتي تتوسّط فيها مشاعر المغنيّة بين ذاتها ومجتمعها، وتعبّر من خلالها على مشاعر التردّد والتذبذب بين الرضوخ لمشيئة الأهل والعشيرة وبين الانسياق وراء أهوائها وطموحاتها. ومن بين الأبيات المعبّرة عن هذا الغرض البيت التالي22:
يا لا لا يا مشيت نحطّب23 نلقى الحطّابة فاتـوني
روّحت لدارنا عاركوني

رابعاً. الهجاء (الأحرش):
ومن أغراض الشعر الشعبي التي قيلت فيها الملالية هو غرض «الأحرش»، وهو شعر الهجاء ينصرف فيه الشاعر إلى تحديد عيوب خصمه، ويسمّى أيضا بالأحرش نظرا إلى وقعه السيّئ على المهجو حتّى يقال:«أسمعه كلاما أحرش أي كلاما سيّئا»24.

وتلالي المرأة في هذا الغرض قائلة25:
يا لا لا هيلعن أمّــه يلعن لـمّيمة إل جاباتو
محرمة رويل كاداتو

أو كقولها:
يا لا لا يلعـن أمّــه نا مشني شاتية نلعنها
جابت حرايمي وصّلها

خامساً. الوصف:
تغنّت المرأة أيضا في الملالية بالطبيعة التي هي مصدر إلهام واصفة سماءها وأرضها، ماءها وجفافها وحيواناتها وطيرها. ويعتبر الوصف من أغراض الشعر الشعبي التونسي، ومن الشعراء من لا يعتبره غرضا نظرا لاستعماله في الغزل والهجاء وشعر الأدب والمدح والفخر والرثاء مثلما هو مستعمل في وصف الطبيعة26. ويقال في هذا السياق27:
يا لا لا حشيش الرتبـة والهـوش الكل سرحانـه
كان فرسي البيضة عافاته

سادساً. الفخر:
انصرفت المرأة إلى التغنّي بعشيرتها والافتخار بقبيلتها وبأرضها وحبيبها، ويعدّ غرض الفخر من الأغراض الشعرية المتغلغلة في القدم، حيث افتخر الشاعر العربي منذ العصر الجاهلي بنفسه وعشيرته. ونذكر في هذا الغرض28. ويقال في هذا السياق29:
يا لا لا الكـاف العالي وعالي وزاناته القصبة
أهله كرام وأرضه خصبة
سابعاً. شعر الأدب:

تغنّت الملالية أيضا بغرض «شعر الأدب»، وهو من أغراض الشعر الشعبي ويسمّى أيضا «الثوامر»، يشتمل على الحكمة والموعظة. ويقصد به التوجيه والإرشاد وقد انصرف إليه الشعراء في آخر حياتهم ليسجّلوا فيه خلاصة تجاربهم في الحياة30. ويقال في هذا السياق31:
يا لا لا أمّـه ضربوني والضربة جتني على خدي
عل جالو نحمل وانعدّي

ثامناً. الشعر السياسي والوطني:
كما اقترنت الملالية ايضا بواقع منطقة الكاف عند بداية الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية، خاصّة وأنّ المنطقة كانت المعبر الأوّل للجيوش الاستعمارية من الجزائر لاحتلال البلاد التونسية، فتتوالى المواضيع في الملالية ناقلة تغيّر الوضع الاجتماعي لمجتمع المنطقة إلى الدعوة إلى المقاومة إلى التحسّر على ماضي القبائل إلى الدعوة للحفاظ على الهويّة الوطنية واستقلال البلاد.

تواترت الأغراض في الملالية لتصل إلى درجات قصوى من الحماسة، تعبّر من خلالها المرأة عن ضرورة مقاومة المستعمر المغتصب للبلاد، لا في منطقة الكاف وحدها بل في كلّ مواقعها من الشمال إلى الجنوب. وتدعو المرأة عبر الملالية أفراد الشعب التونسي إلى الثورة المسلّحة عبر غرض من أغراض الشعر الشعبي التونسي «الشعر السياسي والوطني»، لتبعث فيهم أحاسيس الغيرة والدفاع عن الشرف والهويّة الوطنية.

ويهتمّ هذا الغرض بالأحداث الوطنية والعالمية وقد اهتمّ به الشعراء الشعبيون اهتماما بالغا خاصّة إبّان الاستعمار الفرنسي وما عاشته البلاد من سلب للموارد والحقوق32.

ونذكر على سبيل المثال:
يا لا لا يا قـولو للزهر
يلبس كوستيم أصفر كيكي
راهو تونسي مشّو أمريكي33

وفي مقال آخر في نفس الغرض الشعري، تصرخ المرأة معبّرة عن أحاسيس الضّيق بتحكّم الأجنبي والتذمّر من تصرّفات الإيطاليين في موارد المنطقة وثرواتها، حيث تقول34:
يا لا لا يا قـولو للزهر لوّح المرا شوف المينة
راهو الطليان يحكم فينا

تاسعاً. الشعر الإجتماعي:
ارتبطت الملالية أيضا بـ«الشعر الاجتماعي» وهو غرض يتفاعل من خلاله الشاعر مع بيئته35. وتغنّت المرأة في هذا الغرض متحسّرة على انقلاب حال بعض العروش وتدهور أوضاعها وتغيّر وضعية رجال المنطقة وشجعانها الذين طالما حافظوا على أنفتهم وكبريائهم واستقلالهم بفضل فروسيّتهم وإقدامهم إبّان الحروب والمواجهات التقليدية في ما بين القبائل أو في مواجهة الصعاليك المغتصبين. وهو ما يصوّره البيت التالي36:
يا لا لا يا ولاد ثليجان كنتو صيّادة وتهفّو37
ولّيتو قلالة وتشفّوا38

تشير الملالية في أبياتها إلى الممارسات الجديدة التي كرّسها المستعمر لدى شباب المنطقة لإبعاده عن المشاغل الحقيقية وعن طموحاته، وهو ما يندرج في إطار «شعر العكس» حيث يتّجه فيه الشاعر إلى نقد المجتمع وبعض الظواهر الاجتماعية39. فتذكر المرأة في الملالية لعب الورق قائلة40:
يا لا لا يا العمّة طلّـي
حطّي القرداش وتعالي شوفي
ذراري الخلا عبدو النّوفي41

عاشراً. الشعر الديني (المكفر):
وردت الملالية أيضا في غرض «الشعر الشعبي» الذي يسمى ايضا بـ«المكفر»، وهو من أغراض الشعر الشعبي التونسي، ينظم فيه الشعراء قصائدهم في مدح الرّسول والصحابة والأولياء الصالحين وفي هذا الغرض نذكر42:
يا لا لا سيدي بـوغانـم وراس القبّة إلّي واتاتك
سامحنا رانا وليداتك

ومن أهمّ الموضيع المتدوالة في الملالية نجد:

اولاً. الفراق:
وهو موضوع يعبّر عمّا يختلج في نفس المرأة وأعماق ذاتها من مشاعر الالتياع والحيرة على الشخص المفارق سواء كان حبيبا مثلما هو الحال في الأغاني الغزلية أو كان قريبا أو زوجا أو ابنا أو أخا. ويعدّ من المواضيع المتعلّقة بشدّة بذات الشاعر أو المرأة المؤلّفة لأغاني الملالية، لهذا السبب بالذّات فإنّه يرتبط بالأشخاص كما يرتبط بالأرض (القبيلة، العشيرة..) ممّا يجعله مساندا لعديد الأغراض الأخرى كالغزل والرثاء وشعر الطريق. كما يعتبر من المواضيع التي ضربت بجذورها في قلوب الشعراء حتّى كاد أن يكون غرضا من أغراض الشعر في العصر الجاهلي43.

ونذكر هذين البيتين في الفراق44:
يا لا لا يمّة تدقديقي تدقديق الناقة يحطبها
صغيرة وا مفارقة صاحبها

كما نذكر أيضا45:
يا لا لا اصبحنا مرضى واصفارت وجوهنا وذبلنا
ربّي إلّي فرقنا يجملنا

أو46:
يا لا لا طريق العقلـة حصحاصك ماضي وامليّم
فرقة الأحباب راهي تشيّب

ثانياً. خرق المعتاد:
يعد من المواضيع التي تناولتها الملالية حيث تعبر عن تمرّد المرأة على الواقع المعيش سواء كان ذلك الواقع في الحدود الضيّقة (البيت والأسرة) أو في الحدود الأوسع (المجتمع، البلاد التونسية خاصّة أثناء الاستعمار الفرنسي)، فتختلط في هذه الأغاني المعاني الدالّة على تجاوز المرأة لعادات المجتمع الريفي بالمنطقة بالمعاني الدالّة على الحماسة والمشاعر الوطنية والرغبة الملحّة في المقاومة وبلوغ التحرّر الوطني.

وفي السياق الأوّل تعبّر الملالية على خرق للضوابط الاجتماعية والقوانين العائلية، وتبيح المرأة لنفسها السعي للقاء حبيبها منفردين إمّا بالتعبير المباشر عن هذا القصد، ومن ذلك هذا البيت الذي تحلّق خلاله المرأة في تخيّلات متجاوزة بها واقعها المتأزّم حيث يمنعها مجتمعها لقاء حبيبها، فتعبّر عن اختراقها لنواميس المجتمع ومحرّماته كالتعبير عن الرغبة في الانتقال للخدمة العسكرية (التي كانت حكرا على الرجال)، حتّى تتمكّن من رؤية حبيبها47:
يا لا لا هاتولـي نشرب نشرب دبّوزة ونسكر
نلحق خالي في العسكر

وفي هذا السياق أيضا، أي خرق المعتاد، تعبّر المرأة عن رفضها وتجاوزها لتقاليد مجتمعها بصيغة الذكريات ، وهو ما يذكّرنا بالوقوف على الأطلال في الشعر العربي التقليدي، فترفع المرأة صوتها بالملالية قائلة48:
يا لا لا يا مشيت لدارو نلقى الحمام مريّشها
دار بلا خالي ما أوحشها

ثالثاً. رفض الواقع:
ومن المواضيع التي تتواتر بين المشاعر الذاتية والمواقف تجاه المجتمع «رفض الواقع»، وهو موضوع كثيرا ما تتداوله الملالية في جهة الكاف حيث تتغنّى المرأة معبّرة عن رفضها لقيود المجتمع وقراراته وأوامر عشيرتها وأسرتها خاصّة عند زواجها مكرهة، فتقول في هذه الحالة متشكّية49:
يا لا لا يـمّـه تـدلـويحي50
تدلويح سلاسل الريحانه51
عزوبة ولا زواج الهانة

تظلّ الملالية صورة للوجدان وللنّفس وصدى لمشاعر المرأة بما يساورها من مواقف وأحاسيس مختلفة. كما تظلّ سجلاّ حافلا بمظاهر متعدّدة من الحياة وتفصيلاتها ولمشاغل المجتمع وعاداته وتقاليده وأخلاقه السائدة، تستجيب لمعطيات العصور وما حفلت به المجتمعات وما أفرزته الأحداث الفكرية والثقافية والحضارية ومرآة عاكسة لصورة المجتمع ونتاج تجربة حياة من تجارب النّاس.

• الهوامش

1. حوار مع محمّد صالح الشارني، غنّاي تونسي من جهة الكاف، وذلك يوم 15 نوفمبر 2011 بمدينة أريانة.
2. خضراوي، عثمان، قالب الملّوليّة في ولاية القصرين دراسة ميدانية تحليلة، تونس، رسالة ختم الدروس الجامعية، المعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، 2008-2009، ص. 25.
3. حوار مع محمّد صالح الشارني، الحوار السابق.
4. الخصخوصي، أحمد، "أغاني الملالية"، مجلّة الحياة الثقافيّة، تونس، تصفيف وطباعة أوربيس، جوان، 2006، ص. 65.
5. خريّف، محي الدّين، الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأنواعه، تونس، الدار العربية للكتاب، 1991، ص. 132.
6. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 65.
7. المرجع السابق، ص. 64.
8. خريّف، محي الدّين، المرجع السابق، ص. 132.
9. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 66.
10. حوار مع محمّد صالح الشارني، الحوار السّابق.
11. حوار مع محمّد صالح الشارني، الحوار السابق.
12. خريّف، محي الدّين، المرجع السابق، ص. 50.
13. مبارك، حسن، المختصر في الشعر الشعبي، تونس، ط. 1، مدرسة المهن حيّ ابن خلدون، 2001، ص. 62.
14. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 66.
15. حوار مع محمّد صالح الشارني يوم 12 جانفي 2012 بالمعهد العالي للموسيقى بتونس.
16. خريّف، محي الدّين، المرجع السابق، ص. 239-240.
17. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 68.
18. نسبل: سبل، يسبل، مدّد الميّت.
19. نعدّد: عدّد، أي ذكر خصال الميّت ومناقبه أثناء النوّاح.
20. اللّطيفي، محمّد الطاهر، "ملامح الشعر الشعبي بالوسط الغربي التونسي"، الحياة الثقافية، تونس، وزارة الثقافة، عدد 104، أفريل 1999، ص. 60.
21. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 68.
22. المرجع السابق، ص. 66.
23. عملية جمع الحطب من أهمّ الأدوار التي تقوم بها المرأة والفتاة، إذ تسمح التقاليد الجهوية بخروج الفتاة بمفردها للقيام بجمع الحطب، وذلك يمثّل فرصة للفتاة للقاء بعيدا عن الرقابة.
24. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 63.
25. حوار مع محمّد صالح الشارني يوم 12 جانفي 2012 بالمعهد العالي للموسيقى بتونس.
26. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 63.
27. حوار مع محمّد صالح الشارني يوم 12 جانفي 2012 بالمعهد العالي للموسيقى بتونس.
28. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 71.
29. الحوار السابق.
30. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 84.
31. الحوار السّابق.
32. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 89.
33. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 70.
34. المرجع السابق.
35. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 95-96.
36. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 69.
37. تهفّو: من هفّ، يهفّ، هفيفا أي أسرع في السير (لسان العرب مادّة هفف).
38. تشفّو: حالتهم تبعث على الشفقة (لسان العرب مادّة شفف).
39. مبارك، حسن، المرجع السابق، ص. 94.
40. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 69.
41. من أنواع لعب الورق، يستعمل غالبا في القمار. والمصلح فرنسي "neuf" أي أنّ الرابح هو الذي يكون بيده تسعة نقاط دون اعتبار الأوراق المصوّرة.
42. حوار مع محمّد صالح الشارني يوم 12 جانفي 2012 بالمعهد العالي للموسيقى بتونس.
43. خريّف، محي الدّين، المرجع السابق، ص. 107.
44. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 66.
45. المقري، حنان، قالب الملّوليّة الغنائي بجهة الكاف، تونس، رسالة ختم الدروس الجامعية، المعهد العالي للموسيقى والمسرح بالكاف، 2008-2009، ص. 24.
46. حوار مع محمّد صالح الشارني يوم 12 جانفي 2012 بالمعهد العالي للموسيقى بتونس.
47. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 68.
48. الخصخوصي، أحمد، المرجع السابق، ص. 66.
49. المرجع السابق، ص. 66-67.
50. تدلويح: عبارة عاميّة تفيد حركة التأرجح والتدلّي.
51. الريحانة: نوع من الحلى التقليدي تضعه الفتاة أو المرأة كقلادة على الصدر.

• الصور
1. https://i.pinimg.com/originals/d0/cb/c2/d0cbc2b972959fb5907811231ed217d1.jpg
2. https://i.pinimg.com/474x/1c/83/fc/1c83fcd25f571d486ca816c5fbd766be--traditional-dresses-young-women.jpg

أعداد المجلة