فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
50

مهارات الفنون الحرفية التقليدية في مواجهة متغيرات الحياة المعاصرة من حرفة نسيج «الضَهَايِر» إلى حرفة نسيج ليف المبردات الهوائية المائية بمنطقة مروي في شمال السودان

العدد 50 - ثقافة مادية
مهارات الفنون الحرفية التقليدية في مواجهة متغيرات الحياة المعاصرة من حرفة نسيج «الضَهَايِر» إلى حرفة نسيج ليف المبردات الهوائية المائية بمنطقة مروي في شمال السودان

إنَّ دراسة الحرف التقليدية القائمة على الانتفاع من النخيل في منطقة مروي من وجهة نظر علم الفولكلور، تسهم في فهم الموروث الثقافي بالمنطقة بكل مكونات مجالاته المختلفة من أدب شعبي وعادات وتقاليد ومعتقدات ومعارف تقليدية وفنون أداء وثقافة مادية، وهذا يقودنا إلى فهم بيئة الموروث الثقافي التي أنتجت هذه الحرف، ومعرفة المتغيرات الثقافية نتيجة للتغير الاقتصادي والاجتماعي بالمنطقة، ورغم هذه التغيرات نجد أنَّ الحرف التقليدية تتكيف وتتواءم مع تلك المتغيرات لتواكب متطلبات العصر، ولابد من توثيقها ومعرفة أبعادها التاريخية والجغرافية والاقتصادية والاجتماعية بغية المحافظة عليها، وإبراز ماهيتها وأهميتها لتوجيه الأنظار إليها، ورسم صورة متكاملة عن هذه الحرف، بهدف معرفة دورها الاقتصادي والاجتماعي، وتوظيفه في التنمية المستدامة.

الحرف التقليدية بمنطقة مروي تمثل نشاطاً اقتصادياً مهماً للمجتمع؛ لأنها وسيلة وعنصر مهم من عناصر الإنتاج، فهي تلبي احتياجات الناس في المجتمع، ووسيلة لكسب العيش، وتوفر الاستقرار لشريحة كبيرة في المجتمع، وتُبعد عنهم شبح البطالة، كما تساعد في تقوية العلاقات الاجتماعية بين الناس، ولهذا نجدها تساعد في استقرار الفرد والمجتمع، كما تسهم في حل مشكلات عديدة تواجه المجتمع؛ مما يؤكد أهميتها الاجتماعية والاقتصادية.

دراسة الحرف التقليدية توضِّح معرفة التطوُّر الذي يحدث لها، نتيجة للتغير الاقتصادي والاجتماعي الذي يحدث في المجتمع، وهذا يتطلَّب من الحرفيين أن ينتجوا أدوات تتوافق مع متطلبات العصر، وهذا لا ينفي عنها صفة التقليدية؛ وذلك لأنها تطوَّرت من حرف تقليدية موغلة في القدم، وما زالت مستمرَّة في الاستخدام. كما استخدمت موادا خاما من البيئة الطبيعية، وهي مواد تلك الأدوات نفسها، وأبدعها الحرفيون أنفسهم مستخدمين أيديهم لإنتاج أدوات يستفيد منها أفراد مجتمعهم لأغراض مختلفة، وهذا يؤكد أنَّ مفهوم تقليد Tradition لا يعني القديم كما ورد في مجال الدراسات الفولكلورية. هذا التقليد له انتشاره الجغرافي وبعده التاريخي، بمعنى أن المعارف المرتبطة بالحرف تنتقل من جيل إلى الجيل الذي يليه، وتنتقل أيضاً من منطقة إلى أخرى. ويعتبر وارن عامل التقليد أهم من عامل الزمن. ويوضح أنه ليس كل منتج حرفي قديم بالضرورة أن يكون حرفة شعبية، وفي الوقت نفسه فإن كثيراً من الصناعات التقليدية لا تزال مزدهرة اليوم، بالرغم من الربط بين القِدَم والحرف الشعبية؛ إلا أنه لا يمكن الزعم بأن كل ما هو قديم هو شعبي، بينما كل ما هو جديد ليس شعبياً1.

يقول يوسف حسن مدني:
«إن حركة التاريخ المستمر والحياة المتجددة تجدداً يفرضه الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي تفرز في كل مرحلة قيما وأخلاقا وعادات وطرقا للتعبير تتفق مع طبيعة التغيير الذي حدث في المكونات الأساسية للمجتمع؛ إذن فالفولكلور ليس بالبعيد عنَّا زماناً ومكاناً وليس هو المرتبط دائماً بحياة الماضي وبساطة الحياة الريفية ونقائها»2.

من هذا القول يتضح لنا أنَّ أنماط الثقافة المادية بشكل عام، والحرف التقليدية بوجه خاص هي متجددة بتجدد الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ففي كل مرحلة يبدع الحرفيون أدوات تتوافق مع المتغيرات التي تحدث في المجتمع؛ لكن مثل هذه الأدوات التي تتطوَّر وفقاً للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن نطلق عليها أدوات تقليدية مستحدثة يتم إنتاجها من مواد محلية متوفرة في البيئة الطبيعية، وتخدم أغراضاً اجتماعية تتوافق مع الحياة العصرية نتيجة للتغير الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ وليتسق هذا المعنى نعود إلى تعريف يوسف حسن مدني للحرف والصناعات التقليدية حيث يقول:

«هي تلك الصناعات التي تتوارثها المجموعة جيلاً عن جيل، والتي يمارسها الصناع المحليون الذين ينشئون من المواد المحلية منتوجات يستخدمها كل أعضاء المجموعة لخدمة غرض اجتماعي أو اقتصادي معيَّن، ومن ناحية أخرى فإن الصانع اليدوي هو ذلك الفنَّان الذي يستطيع المزج بين الجمال والوظيفة العملية في إنتاجه، ويستخدم الصانع لتلك الغاية يديه مستعيناً بأدوات بسيطة لإنجاز عمله، والصانع اليدوي المزوَّد بذلك الحس الذكي بماهية الجماعة وماهية الوظيفة العملية المرجوة لا يقتصر إنتاجه على الخطوط والمواصفات الموروثة فحسب بل هو أيضاً يستطيع أن يخلق ويجدِّد، مستشعراً في داخله ذلك الأساس الحضاري الموروث الذي يحمله على خلق الجديد»3.

من هذا التعريف نؤكد أنَّ الحرفي هو فنَّان مبدع ومجدد لصناعة أدواته، ويطوِّر في صناعة هذه الأدوات وفقاً لمتطلبات العصر، والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحدث في المجتمع، وهذا الإبداع يقوم على قاعدة حضارية صلبة، وتقاليد موروثة لها بعدها التاريخي، وهذه الأبعاد هي التي تعطي المنتج البعد الجمالي؛ ولذلك نستطيع أن نطلق على الحرفي أنَّه فنَّان مبدع؛ وذلك لأنه ينتج أدوات تخدم مجتمعه، ولها وظائف عملية مواكبة لمتطلبات العصر، ومتسقة مع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتعبر عن الموروث الثقافي، وتقوم على قاعدة صلبة لها بعدها التاريخي.

جاء التغير الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في منطقة مروي نتيجة لإنشاء سد مروي، حيث بدأ التشييد لهذا السد منذ نهاية القرن العشرين وأوائل القرن الواحد وعشرين، وتم إفتتاحه في العام 2010م، ونتيجة لذلك حدث تغير كبير في حياة إنسان منطقة مروي الاقتصادية والاجتماعية في العشرة سنوات الأخيرة، كما حدث تغيُّر بيئي كبير.

بناء على تقارير وحدة تنفيذ خزان مروي فإن مشروع خزان مروي أدَّى إلى تهجير 9500 أسرة أو حوالي 50000 شخص، من أراضيهم الخصبة على مجرى النيل. وينحدر هؤلاء السكان من مجموعات الحماداب، وأمري والمناصير4.

استقر عدد كبير من هؤلاء السكان بمدينتي كريمة ومروي، هذا بالإضافة إلى استقرار أعداد أخرى من الهواوير والحسانية على إمتداد قرى مدينتي كريمة ومروي، وهذه المجموعات كانت تعيش الحياة الرعوية بصحراء بيوضة، وأثرت على الحياة التقليدية بالمنطقة، بالإضافة إلى التغير العمراني نتيجة لموجة المدنية والتحديث التي غزت المنطقة بعد قيام سد مروي، والهجرات السكانية الوافدة على المنطقة من مدن السودان الأخرى، وساعد على ذلك إنشاء عدد من الطرق المعبدة التي تربط مدينة كريمة بمدينة السليم، وهذه الأخيرة تم ربطها بعمل جسر يؤدي إلى مدينة دنقلا، وطريق مروي الذي يصل مدينة عطبرة، ويؤدي إلى مدينة بورتسودان، وطريق كريمة المؤدي إلى مدينة السليم من الناحية الشرقية الموازي لنهر النيل، ويمر بكبري الدَبَّة عند منطقة أَرْقِي، ويلتقي هذا الطريق من الناحية الغربية بطريق أم درمان دنقلا، ويؤدي إلى مدينة الملتقى الحديثة النشأة التي تم فيها توطين أهالي منطقة الحامداب المتأثرين ببحيرة سد مروي،

وسميت بالملتقى لأنها تعتبر نقطة إلتقاء طريقي أم درمان دنقلا، ومروي، وجميع هذه الطرق والكباري على نهر النيل، أدت إلى حدوث تغييرات واضحة على الحياة التقليدية بمنطقة مروي، حيث تعرضت الأشكال التقليدية من مهارات الفنون الحرفية لتحديات كبيرة؛ لأن تلك الطرق التي تربط مدينة مروي بالمدن الأخرى أدت إلى سهولة ورود البضائع الضرورية للحياة اليومية بالمنطقة وبتكلفة أقل، من حيث المال والوقت، بالمقارنة بالإنتاج اليدوي، ويؤدي ذلك إلى ترك بعض الحرفيين لمزاولة حرفهم، نتيجة للمنافسة بين المنتجات التقليدية، والبضائع المصنعة، وانعكس ذلك على الحرف التقليدية بالمنطقة باختفاء بعض أدوات الثقافة المادية، كما أنَّ هنالك بعض الحرف التقليدية اختفت إلى حين وعاودت الظهور مرة أخرى، وهنالك بعض الحرف التقليدية تمَّ استحداثها لتواكب التغير الذي حدث بالمنطقة وهذا ما سنناقشه لاحقاً.

هنالك أدوات مستحدثة، أي حديثة الصنع، ينتجها حرفيون مبدعون، وتعتبر من الإبداع الشعبي، وذلك لأنها تتوائم مع الحياة العصرية ومتطلباتها، وفي الوقت نفسه هي تقليدية الصنع، حيث يستخدمون مواداً من البيئة الطبيعية المحيطة بهم، ويستخدمون أيديهم بمساعدة أدوات بسيطة لإنتاجها، وتخدم أغراضاً تتوافق مع الحياة العصرية، وتلبي احتياجات جديدة، من هذه الأدوات نسيج لِيْف النخيل ليستخدم في المبردات الهوائية (المُكَيِّفَات) المائية، بدلاً عن ما يعرف بـ (القَشْ الأمريكي) الباهظ الثمن، وله ميزات عديدة، حيث نجد مادته متوفرة في بيئة المنطقة، ويمكن الحصول عليها بسهولة، وبدون تكلفة مادية، وطريقة النسيج غير معقدة، ولا تحتاج إلى أيِّ مواد أخرى، ولها وظائف عملية للغاية، حيث إن مادة الليف تحتفظ بالماء لفترات طويلة، وتقاوم أشعة الشمس، وتبعث رائحة ذكية داخل الغرف أثناء تشغيل المبرد، وتكون منعشة لمستنشقيها، فهذه المزايا تعد من الإبداع الشعبي للحرفي التقليدي، الذي وظف مادة ليف النخيل لإنتاج هذا النسيج الذي يؤدي وظيفة عصرية وعملية، مثل هذه المنتجات يجب تبنيها من قبل الدولة، بتوظيفها وتطويرها بإدخال الآلة الحديثة؛ لإنتاج كميات كبيرة يراعى فيها الجودة، بحيث يمكن تصديرها للخارج، وتدر بذلك عملات صعبة يمكن أن تسهم في الاقتصاد القومي، بالإضافة إلى تحسين دخل منتجيها، ورفع مستوياتهم المعيشية، كما يمكن أن توفر وظائف عمل للكثيرين، وبالتالي تحد من البطالة، هذا بجانب أبعادها الثقافية التي تعبر عن طبيعة الثقافة التقليدية المحلية، أي الهوية الثقافية.

الحرف التقليدية، والصناعات المستحدثة، يمكن أن تساهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ونجد أنَّ الحرف المستحدثة في منطقة مروي، تم استحداثها من داخل واقع ثقافة المنطقة الشعبية نفسها، وهي تحتاج فقط إلى رعاية من قبل الدولة، بتضمينها في وضع الخطط والبرامج في استراتيجيات التنمية الشاملة بالبلاد؛ لتوفير الدعم المادي؛ لإحيائها وضمان استمراريتها؛ وذلك لأنها تعتبر من الصناعات المواكبة لمتطلبات العصر في ظل التغييرات التي طرأت على الواقع الثقافي بالمنطقة.

حرفة الْضَّهَاْيِرْ:
الضَّهَايِر هي عبارة عن شبكة تُنْسج من الحبال المَفْتُولَة من بقايا الأقمشة، ويتم حَشْوُها بـليف نَخِيْلْ تَمْرْ الْبَرَكَاوِيْ، أي (الآشْميْق)، وتستخدم كوِسَادَة، على ظهر ما يعرف بـ (جَمَلْ الشّيْلْ)، و يُوضع من فوقها ما يعرف بـ (الْحَوِيَّة)، أي سرج الجمل، تمهيداً لوضع الأحمال الثقيلة على الحَوِيَّة؛ لترحيلها، وحتى لا تضرُّ هذه الأحمال بظهر الجمل؛ لذا أطلق عليها اسم (الضَّهَايِرْ)، «انظر الصورة رقم (1)».

تستخدم أداة الضَّهَايِر كُلْ المَجموعات التي ترعى الإبل بمنطقة مروي، ومن أكبر تلك المجموعات والتي استقرَّت في المنطقة، ونجدها بَرَعَت في صناعة الضَّهاير هي قبيلة الهَوَاوِير، وتُعد هذه الحرفة من ضمن الحرف التي يوظَّفْ فيها ليف النَّخِيْلْ.

ويقول الرَّاوي عثمان عبد الله محمد علي عن كيفيَّة عمل الضَّهَايِرْ:
«أَوَّلْ حَاْجَهْ بَلِمْ لَيْ دِلُوْقْ وُبَفْتِلَاْ حَبِلْ طَوِيْلْ بَبَيِّعْ مِنُّوْ زَيْ عَشَرَهْ بَاْعْ وُ بَنْسِجْ مِنَّهَاْ فَرْدَةْ الْمَشَدْ هِنْ فَرْدَتيْنْ طُوْلَاْ تَلَاْتَهْ أَشْبَاْرْ وُقيْرَاطيْنْ وُبَعْمَلْ سَبْعَهْ مُرَبَّعَاتْ كَدِيْ تَلَاْتَهْ صِفُوْفْ وُبَجِيْ تَاْنِيْ بَفْتِلْ حَبِلْ رِقَيِّقْ كَدِيْ وبَخَيِّتْ بَطْنْ الْفَرْدَهْ بالْمَسَلَّهْ بيْ عَدَدْ الْمُرَبَّعَاتْ ديْلْ وُ بَجِيْ بَحْشِيْهَا بالآشْميْقْ الِّيْلْ تَمْرْ الْبَرَكَاوِيْ تَمَامْ وُ بَجَكِّنَاْ وُبَعَمْلْ الْفَرْدَهْ الْتَّاْنْيَه وُبِنْسَمِّيْهَا الْمَشَدْ وُبِنْخُتَّهَا ليْ الجَّمَلْ وُبِنْخُتْ فِيْهَا الْحَوِيَّه ليْ الشّيْل»5.

من قول الرَّاوي نستنتج أن حرفة الضَّهَايِرْ تبدأ بجمع الحرفي لمجموعة من قطع القماش القديمة والتي تسمَّى بـ (الدِّلُوْقْ)، وتكون ذات ألوان مختلفة منها، الأبيض، والأحمر، والأزرق، ويقوم بتشقيقها إلى شرائط، باستخدام أداة السِّكِّيْنْ، ثمَّ بعد ذلك يقوم بِفَتْلْ هذه الشَّرائط لعمل حبل طويل يصل طوله إلى (12 باع)، وعمليَّة الفَتِلْ تكون بطريقة فَتْلْ حبل (الآشْميْقْ) نفسها، «انظر الصورة رقم (2)».

تبدأ عمليَّة النَّسيج بلف طرفي الحبل بالتساوي، لعمل لفَّتَين تمهيداً لعمليَّة النَّسيج، «انظر الصورة رقم (3)».

يقوم الحرفي بإمساك اللَّفَتَيْن بكلتا يديه، ويكون جالساً وفارداً رجله اليمنى، ويضع إحدى اللَّفَتَيْن تحت فخذ رجله اليمنى، واللَّفة الأخرى يمسك بها بيده اليمنى، ويشد الحبل بين اللَّفَّتين براحة رجله اليمنى، «انظر الصورة رقم (4)».
ثمَّ يقوم بإمساك وسط الحبل لعمليَّة ما يعرف بـ (كَسْرْ) الحبل، بين اللَّفَّتَين بمقدار (ثلاثة أَشْبَارْ وقِيْرَاطَيْنْ). وهذا هو طول فردة الضَّهاير. ويكون الحبل مشدوداً براحة رجله اليمنى، ويثبِّت اللَّفة التي كانت بيده بساق رجله اليمنى أيضاً، « انظر الصورة رقم (5)».

بعد ذلك يبدأ الحرفي بعمل أول مربع فى شبكة فردة الضَّهاير، باستخدام لفَّة الحبل التي كان يمسك بها بساق رجله اليمنى، وذلك بطي الحبل المَكْسُوْر في مكان إلتقاء الحبلين، ليعطي ثلاثة أضلاع من المربَّع، ومن ثمَّ يكمل الضِّلع الرابع بكسر الحبل باستخدام اللَّفَّة التي بيد الحرفي، وبذلك يكون المربَّع قد اكتمل، «انظر الصورة رقم (6)».

يستمر الحرفي في كسر الضلع الرَّابع من المربَّع، حتَّى يلتقي الحبلان مرَّة أخرى، ويقوم بكسرهما مع بعضهما البعض، ويشد الحبل المكسور، ليكون موازيا للحبل الذي قام بكسره أوَّلاً، ويمسك بأحد الحبلين، ويعقده مع الحبل المكسور الأول، ويقوم بطيِّه عليه وكسره معه، مكوِّنَاً شكل المربَّع الثَّاني، ويستمر الحرفي في عمله هكذا بتكرار العمليَّة مكوِّناً بذلك صفا يتكوَّن من سبعة مربَّعات، ثمَّ يقوم بعمل صفَّين آخرين مكوِّناً
بذلك ثلاثة صفوف من المربَّعات المتوازية، ويكون عدد المربَّعات الكُلِّي (21 مربع)، «انظر الصورة رقم (7)».

بعد عمل شبكة المربَّعات التي تسمَّى الشبكة الخارجيَّة، يقوم الحرفي بعمل الشبكة الدَّاخليَّة، ويقوم بحياكتها على الشبكة الخارجيَّة باستخدام ما يعرف بـ (المَسَلَّة)، وهي عبارة عن مَسَلَّة خشبية يقوم بصنعها الحرفي نفسه من خشب نبات الطُرْفَة، وينحتها باستخدام أداة السِّكِّين، «انظر الصورة رقم (8)».

يتم إدخال الحبل الرفيع في فتحة المَسَلَّة، ويقوم الحرفي بإدخالها في إحدى زوايا الشبكة الخارجيَّة، ثمَّ يقوم بعمل حبل موازي لعرض الشبكة الخارجيَّة، ويقوم بحياكة الحبال العرضيَّة، «انظر الصورة رقم (9)».

يستمر الحرفي في الخياطة بعمل شبكة داخليَّة مصغرة، وموازية للشبكة الخارجيَّة، والغرض منها حشو ليف الآشْميْق، وتمثَّل بطن فردة الضَّهَايِر، وتكون ناعمة على ظهر الجمل، «انظر الصورة رقم (10)».

بعد ذلك يقوم الصانع بعمل فردة الضَّهاير الأخرى، ليكونا اثنين، ويسمَّيان بـ (الْمَشَدْ)، وبعد ذلك تأتي مرحلة حَشو فردتي الضَّهَايِرْ بالآشْميْقْ، ويستخدم آشْميْق تَمْرْ نَخِيْلْ البَرَكَاوِيْ؛ وذلك لأنَّه يمتاز بقوَّته ومتانته، «انظر الصُّورة رقم (11)».

تتم طريقة الحشو بقطع طرف ليف الآشْميق القوي، وطي اللِّيف بحشوه داخل الشَّبكة حتى تنتفخ، وبعد ذلك يقوم الحرفي بالطلوع عليها برجليه، ويضغط عليها حتى تكون مستوية، وممتلئة، وتعرف هذه العمليَّة بـ (الجِّكَّيْن)، «انظر الصورة رقم (12)».

بهذه المرحلة تكون فردة الضَّهايِر قد اكتملت، ومن ثمَّ يبدأ الحرفي بعمل الفردة الأخرى، ويتم ربطهما مع بعضهما البعض، وتسمَّى الفردتان بـ (الْمَشَدْ)، ويوضع على ظهر الجمل أسفل الحويَّة، «انظر الصُّورة رقم (13)».
الزمن الذي يستغرقه حرفي الضَّهاير، لإنتاج المَشَدْ الواحد، يوماً كاملاً، ويقوم بتسويق إنتاجه بسوق، تَنْقَاسِيْ، يوم الثلاثاء، وسوق القرير، يوم الأربعاء.

حرفة نسيج ليف المُبَرِّدات الهوائيَّة (المُكَيِّفَاتْ):
يَالله عَلَىْ اللِّيْفْ حَقْ الْتَكْيِيْفْ
يَالله عَلَىْ الْمُلَيِّفْ حَقْ الْمُكَيِّفْ
هذا هو نداء بائع نسيج ليف المُبَرِّدَاتْ الهوائيَّة (المُكَيِّفَاتْ)، (عثمان عبد الله محمد علي ود النيَّل)، في سوق تَنْقَاسِيْ، والذي شرح للباحث طريقة إنتاجها.

تبدأ بِفَتْل حبال من ما يعرف بـ (الْدِلُوْقْ)، وهي بقايا قطع الأقمشة القديمة، وذلك بتشقيقها إلى شَرَائط، ويقوم المُنتج بفتلها بطريقة فتل الحبال من مادة ليف النَّخِيْلْ (الآشْميْقْ)، حيث يقوم الحرفي بربط طرف الشريط في أصبع رجله اليمنى، ويكون بجانبه إناء به ماء عبارة عن (كوْرَة من الأَلَموْنيومْ)، ويبدأ بتبليل يديه بالماء، ويمسك برأس الشريط في الطرف الآخر، بحيث يكون فارداً راحتي يديه، ويقوم ببرم الشريط ضاغطاً عليه بيديه، ويحركهما حركة عكسيَّة، ويمسك بالشريط بيده اليسرى مع كل حركة، ويكرِّر هذه العمليَّة، مع الاستمرار في تبليل يديه، وتبليل الشريط، وهذه الحركة تؤدِّي إلى فَتلْ الحبل، الذي يكون طوله (3 بَاعْ)، ما يعادل (9 أمتار)، ويقوم بفتل ستة حبال، «انظر الصورة رقم (14)».

بعد ذلك يقوم الحرفي بقطع ونجر أربعة أوتاد من شجرة السُّنُطْ، طول الوتد (30 سم)، ويقوم أيضاً بقطع جَرِيْدَتَيْن من النَّخِيْلْ، ونظافتهما من النتوءات بإستخدام أداة السِّكِّيْنْ، طول الواحدة (75 سم)، ثمَّ بعد ذلك يُثَبِّت الحرفي الأوتاد على الأرض، لتكوِّن شكلا مستطيلا طوله، (3 أشبار و8 قيراط)، ما يعادل (90 سم)، وعرضه، (3 أشبار)، ما يعادل (75 سم)، ثم يضع كل جَرِيْدَة على ضلع من الضلعين العرضيين، لتكونا ملتصقتين على الأوتاد من الخارج، بحيث تكونان متوازيتين، «انظر الصورة رقم (15)».

ثمَّ يقوم الحرفي بربط حبل ليصل بين الجَرِيْدَتَيْن، في الوسط، ويقوم بشَدَّه؛ والغرض منه تثبيت الجَرِيْدَتَيْن على الأوتاد، وهذا الحبل طوله (3 بَاعْ)، ما يعادل (9 أمتار)، حيث يربط طرفه على إحدى الجَرِيْدَتَيْنْ، ويَشِدْ الحبل، ويقوم بعقده على الجَرِيْدَة الأخرى في مكان إلتقاءه بالجَرِيْدَة، بحيث يكون باقي الحبل مفروداً، وتكون عُقْدَة الحبل بطريقة يسهل فكّها بجر طرف الحبل، «انظر الصورة رقم (16)».

ثمَّ يقوم الحرفي بربط خمسة حبال أخرى بالطول نفسه، وبطريقة الرَّبطة نفسها، ويوزعها الحرفي بمسافات شبه متساوية، على طول الجَرَيْدَتَيْن، ليكون عدد الحبال ستة حبال، «انظر الصورة رقم (17)».

يبدأ الحرفي بعد ذلك في نسيج ليف النَّخيل (الآشْميْقْ)، ويستخدم ليف نَخِيْلْ البَرَكَاوِيْ، الذي يكون في النَّخْلَة أسفل الجَرِيْدْ الأخضر؛ وذلك لأنَّه يمتاز بالقوَّة والمتانة، ويقوم الحرفي بمعالجته بقطع أطرافه القويَّة، ويَشُق كل قطعة منه إلى نصفين، ويجمع مجموعة من قطع اللِّيْف ويقوم بطَيِّهَا في شكل لفافة طويلة بطول الجريدة العرضيَّة، ويضعها على الحبال المشدود، من جانبها المعقود والمفرود، ويقوم بشد طرف كل حبل معقود على الجريدة، ويربط به لفافة اللَّيف على الحبل المشدود من أسفل، على التوالي، بحيث يقوم بشد الحبل بيده اليمنى، وتثبيت الحبل المشدود من أسفل بيده اليسرى، «انظر الصورة رقم (18)».

يستمر الحرفي بربط لُفَافَات اللِّيْفْ، حتَّى يغطي كل المساحة من مستطيل الأوتاد، بتغطية الحبال المشدودة، وعند تلاقي الحبال المشدودة، يقوم الحرفي بِفَكْ كل حبل مشدود على الجَرِيْدَة على التَّوالي وربط رأسي كل حبل مع بعضهما، ثمَّ يقوم بسحب الجريدة، وبذلك يكون نسيج اللِّيف قد انتهى، «انظر الصور رقم: (19)، (20)، على التَّوالي».

بعد هذه المرحلة يقوم الحرفي بحياكة أطراف النسيج بعد طيِّها باستخدام إبرة مسلَّة خشبيَّة يقوم الحرفي بصناعتها، ويستخدم في الحياكة شرائط رقيقة يقوم بتشقيقها من (الْدِلُوْقْ)، أي قطع القماش القديمة، باستخدام أداة السِّكِّين، والحياكة تكون بجوانب النسيج الأربعة، «انظر الصورة رقم (21)».

ووظيفة هذه الحياكة؛ لتثبيت خيوط اللِّيف في النسيج في جميع الأطراف، وبهذا يكون النسيج قد اكتمل لقطعة واحدة من جنبات المُكَيِّف، ويقوم الحرفي بالطرق عليها بإحدى الجَرِيْدَتَيْن؛ لتكون مستوية، كما يطلع عليها بكلتا رجليه ، وتسمَّى هذه العمليَّة بـ (الجِكّينْ)، وذلك للضغط على قطعة النَّسيج؛ حتَّى تكون عبارة عن كُتْلة واحدة ومتماسكة، وبذلك تكون القطعة مكتملة الإعداد. «انظر الصور رقم: (22)، (23)، (24)، على التوالي».

ثمَّ بعد ذلك يقوم الحرفي بنسيج قطعتين أخريين ليكون العدد ثلاثة قطع، لجنبات المُبَرِّد الهوائي الثلاثة، ويستغرق هذا العمل يوم ونصف، ويسوِّق الحرفي إنتاجه بسوق تَنْقَاسِيْ، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وبسوق القُريْرْ أيضاً، في يوم الأربعاء من كل أسبوع.

الهوامش

1. Warren E . Roberts, in Folklore and Folk life, ed; Richard M. Dorson, The University of Chicago press, Chicago and London , 1975, P 23.
2. يوسف حسن مدني، "الأسس الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للتغير الثقافي دراسة حالة حرفة شعبية سودانية"، مجلة دراسات إفريقية، العدد (28)، السنة الثامنة عشر، مركز البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم، ديسمبر 2002م، ص، 166.
3. يوسف حسن مدني، نفسه، ص، 167.
4. مشروع خزان الحمداب، مروي، الموقع الإلكتروني:
5. www.alseriha.com/vb/archive/index.php/t-5467.html .

الصور
- من تصوير الكاتب.

أعداد المجلة