فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
41

شذرات من عادات وتقاليد المجتمع الصحراوي بجنوب المغرب

العدد 41 - عادات وتقاليد
شذرات من عادات وتقاليد  المجتمع الصحراوي بجنوب المغرب
كاتب من المغرب

 

يعتبر الموروث الثقافي من بين الدعامات الأساسية التي أصبحت العديد من دول العالم تركز عليها وعيا منها بالأهمية القصوى التي يشكلها الموروث الثقافي في تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث أصبح هذا الموروث في صلب اهتمامات هذه الدول التي انخرطت في تأهيل تراثها واستغلاله في تحسين اقتصادها والرفع من مداخيلها وتنشيط سياحتها، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الدول الأوربية التي لعب التراث الثقافي بها دورا كبيرا وخلق رواجا تجاريا وأساسا قويا لبناء اقتصادها مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وتركيا واليونان، هذه الأمثلة تعد خير دليل على أن التراث الثقافي لا يختزل في بعده الجمالي أو الرمزي وإنما في بعده الاقتصادي وهذا هو الأهم. كما أن لكل أمة من المجتمعات عاداتها وتقاليدها، والمجتمع الحساني هو جزء لا يتجزأ من هذه المجتمعات باعتبار أن التراث الحساني الشعبي هو نتاج إنساني عريق يمتد متناميا عبر الزمان والمكان، معبرا عن ذاته ومحافظا على أصالته وخصوصياته، فقد تميز هذا المجتمع بمجموعة من العادات والتقاليد التي ميزته وجعلته محافظا عليها إلى يومنا هذا رغم تغير الزمان.

لقد اعتمد الإنسان الصحراوي البساطة في كل شيء، الأمر الذي يعكس بساطة الصحراء في حد ذاتها. ولعل قدوم الصحراويين من الصحراء واستقرارهم أيضا في الصحراء، جعلهم يتمسكون ببيئتهم بكل ما تحمل هذه البيئة من عادات وتقاليد، تتجلى أساسا في غرابة طقوس الزواج التي تجعل من مكان العرس مسرحا رائعا للفرجة في كل مراحله ابتداء من ليلة العقد ليستمر سبعة أيام بلياليها. 

كما ساهم عامل الترحال والتنقل المستمر للقبائل التكنية في تنوع عناصر ساكنتها وفي تعدد أصولهم، حيث نجد إلى جانب قبائل تكنة والتي تتكلم الحسانية قبائل أمازيغية تتكلم الأمازيغية، هذا الأمر أحدث مزيجا ثقافيا واجتماعيا في المنطقة(1)، وبالتالي أدى إلى تعدد العادات والتقاليد وتنوعها، الأمر الذي أكده مصطفى ناعيمي حيث نجده يقول بأن داخل هذه الاتحادية يتعايش الناطقون بالأمازيغية «أيت بوهو، أيت إبراهيم، أيت حماد» والناطقون بالحسانية (أزوافيط، يكوت، إزركيين)، مستقرين ورحل في نفس الآن. وتتجلى التقاليد أيضا في بساطة زي الإنسان الصحراوي (الملحفة، الدراعة)، بحيث كان اللباس الصحراوي إلى جانب مواد أخرى يعتبر من أهم وسائط التبادل التجاري التي كانت تحكم العلاقة بين الصحراء والسودان الذي يجلب منه الخنط أي الثوب الذي يصنع منه الملحفة والدراعة.

 

 

معتقدات المجتمع الصحراوي

تختلف المعتقدات عن سائر أقسام التراث الشعبي، فإذا كانت العادات والتقاليد والزي المحلي تستمد قيمتها من ممارستها أمام الناس وإظهارها للملأ، فإن المعتقدات باعتبارها هي القوى المحركة لكل الأفعال الاجتماعية التي يأتيها الفرد منفردا بنفسه أو مجتمعا مع الناس على خلاف هذه الأنماط فإنها تظل حبيسة الصدور مختبئة عن الأعين(2)، من هنا كانت أهمية تناولها ودراستها مهمة صعبة وشاقة والمعتقدات موجودة في كل مكان وزمان وعند كل الفئات سواء المتعلمة منها والأمية، فالمتعلم أحيانا قد يتخلى عن زيه التقليدي ويستبدله بزي عصري يواكب متطلبات العصر لكنه في نفس الوقت لا يستطيع الانفصال عن معتقداته الراسخة في أعماق شعوره، فالإنسان الصحراوي كباقي الشعوب حياته غنية بالمعتقدات، فمثلا ما إن يبدأ الإنسان حياته اليومية حتى تصادفه هذه المعتقدات في كل حركاته وسكناته، وسيكون هذا الفصل كنقطة لهذه المعتقدات والطقوس المرتبطة ببعض مناحي حياة الإنسان الصحراوي.

1 - طقوس الميلاد والإنجاب:

إن الإنسان الصحراوي كما عهدنا تزخر حياته بالكثير من المعتقدات وإن كانت هذه الأخيرة متصلة بطقوس الميلاد والإنجاب أوفرها حظا، فهذا الوافد الجديد لم يحظ بعناية زائدة حتى لم يزل بعد نطفة في الأرحام، فعندما تشعر المرأة الصحراوية ببوادر الحمل الأولى تتكتم على الأمر، فمن العار أن تجهر المرأة بحملها ولا تخبر أحدا بأجل وقت وضعها، فعند بلوغها الشهر التاسع وهو موعد اقتراب ولادتها تلجأ إلى إخبار المحيطين بها وذلك بطريقة غير مباشرة، وهذه الطريقة هي تلطيخ يديها بالحناء، فيفهم المحيطون هذه الإشارة الخفية فيستعدون لأمر طارئ، ففي أي لحظة قد يفاجئها المخاض وتميل النساء الصحراويات ذات سن متأخر (70 أو 75 سنة) إلى محاولة التنبؤ بجنس الجنين قبل أن يولد انطلاقا من مراقبة ملامح المرأة الخارجية وما يطرأ على شكل أهدابها وحجم بطنها(3)، وعندما يكون الجنين في الرحم وهو بعد لا زال نطفة ثم علقة تنتاب المرأة حالة صحية تسمى الوحم وتستمر هذه الحالة ثلاثة أشهر من الحمل والمرأة في هذه الفترة تشهد إحدى حالتي الوحم، فإما أن يكون وحمها سهلا وطبيعيا لا يلاحظه أحد وإما العكس حيث تشعر المرأة بالغثيان في الفترة الصباحية وتنفر من رائحة العديد من الأكلات والعطور أو من رؤية شخص معين، وقد تحب أكل وجبة أو فاكهة معينة إلى حد التخمة(4)، كما يظهر بأن وحم المرأة الحامل بالذكر يختلف عن وحم المرأة الحامل بالأنثى، ويعرف جنس الجنين انطلاقا من طريقة الوحم، فوحم المرأة بالأنثى يكون صعبا حيث تتكاثر عليها الأمراض وتكون ضيقة الخلق وعصبية المزاج وتخلق مشاكل مع زوجها على أبسط الأسباب ويختلف الوحم عن الشهوة، فهذا الأخير أي الوحم ينتهي بانتهاء فترة ثلاثة أشهر الأولى للحمل، أما الشهوة فقد تستمر إلى ما بعد الوضع، والمرأة كما جاء على لسان إحدى المسنات قد تشتهي كل شيء غلا ثمنه أو بخس وعلى الزوج تلبية مطالبها مهما كانت غريبة وتافهة أو غالية، وإن لم يكن باستطاعته تلبية كل ما تطلبه فإن الزوجة تحصل لها حالة انتفاخ وورم شامل لكل أجزاء جسدها وتصادفها مشاكل عديدة إبان مرحلة الوضع تعسر عليها عملية الولادة، وحتى بعد الولادة فإن هذه الحالة تصاحبها في مرحلة الرضاعة. 

وحين ميلاد الوليد في اليوم السابع يجتمع الأهل والأقارب ويتم ذبح العقيقة التي يسمى بها المولود وكذلك ذبح مجموعة من رؤوس الماشية وتجتمع عجائز العائلة حول المائدة ليقترحن اسم المولود وهو ما يسمى في المجتمع الصحراوي «بحظ العيدان»، حيث يجلبن ثلاث عيدان من النعناع ولكل عود منها اسم خاص ويتم إخفاؤها والمناداة على صبي صغير أو إحدى النساء الغائبات في المجموعة لتأخذ واحدا من هذه العيدان للمرة الأولى ثم يتم خلطها جميعا وتختار عودا للمرة الثانية وأيضا للمرة الثالثة والأخيرة، والعود المختار في المرة الثالثة يتم بموجبه إطلاق الاسم الذي يحمله على الوليد(5)، وعادة يكون اسم الوليد على اسم أقارب الزوج أو الزوجة، وأحيانا تتدخل الأحلام في فرض اسم قار للوليد، فقد يأتي أحد الأقارب فيقول أنه رأى في حلمه أن فلانة وضعت مولودا واسمه كذا فلا حاجة إلى وضع حظ العيدان فالمولود سيسمى بنفس الاسم الذي عرف به في الحلم، ويعتقد الأهالي أن إطلاق اسم قبيح على الوليد يجنبه إثارة الانتباه والغيرة ويحميه من الحسد والعين الشريرة. وبعد مرور أربعين يوما على ولادة الطفل يتم الاحتفال بإخراجه من منزل والديه إلى منزل أحد أقاربه أو منزل المرأة التي ساعدت في عملية الوضع التي تعتبر بمثابة جدة له، حيث يتم حلق رأسه بطرق مختلفة تبعا لتقاليد الأسرة فهناك من يترك خصلة طويلة من الشعر من بداية الرأس إلى مؤخرته، وكذا خصلتين صغيرتين في الجانبين وهو ما يعرف «بالعرف» مع الاحتفاظ بغرة في مقدمة الرأس وكذا خصلتين بغرة مع الاحتفاظ بغرة في مقدمة الرأس «لگرون»، وهناك من يترك الغرة «الگصة» مع ثلاث «گرون» اثنان منهما على جانبي الرأس وآخر في وسطهما، وهناك من يحتفظ بخصلة دائرية في وسط الرأس «الگطاية» مع تلك الغرة(6)، وبعد حلاقة الوليد بإحدى هذه الطرق المختلفة يتم إطعامه بقليل من دسم الماعز وثمرة ويتم تغيير ملابسه بأخرى جديدة، وعندما يصل الطفل إلى مرحلة السنتين من عمره تتم عملية فطامه بصفة تدريجية وتعمد الأم إلى وضع أشياء عديدة على ثدييها لتجعل الطفل يكره الثدي منها القطران والفلفل وأحيانا تربطهما بخيط، وفي هذا الأثناء تحرص الأم على حمله على ظهرها وتعلق له صرة فيها القليل من الملح والحرمل(6).

وعند بلوغ الطفل السنة الخامسة من عمره إلى حدود السنة السابعة يتم ختانه لكن هذه العملية تم تغييرها، فيتم ختانه إما في الأسبوع الأول من ولادته وهذه العملية تصادف في بعض الأحيان الاحتفال بأحد الأعياد الدينية ويلبس الطفل لهذه المناسبة ملابس تقليدية، كما تحرص الأم على تجميل نفسها بالكحل والحناء والملابس الجديدة ويتم المناداة على الشخص الذي يقوم بعملية الختان، ويتم ختان الطفل بعد أن يفصح عن رغبته في امتلاك أي شيء وتلبى كآخر هذه الطلبات، بعد ذلك تقوم الأم بإطلاق ثلاث زغاريد عند سماعها صراخ الطفل وبكائه طيلة المدة التي يتماثل فيها الطفل للشفاء، كما تحرص الأم والأسرة على عدم إبقائه وحده خصوصا في الفترة المسائية وتوضع له صرة الملح والحرمل لتحفظه من الشياطين والعين الحاسدة.

2 - طقوس ومعتقدات خاصة بعيد الأضحى:

انطلاقا من ذهنية نابعة من فكر خرافي شائع تجري العادة عند أهل الصحراء في مناسبة عيد الأضحى أن يتم الاحتفاظ بدم الأضحية الحار ذي اللون الأحمر القاني داخل إناء منزلي صغير، وتتولى هذه المهمة ربة البيت حيث يسود الإيمان بفعالية هذا الطقس في تقويم التماسك وتعضيده داخل الأسرة إذ يتم تجفيفه لاحقا واستعماله للتبخر لذات الغرض(8)، ورغم شدة غموض هذه الممارسات فقد يربط البعض شكل ولون دم الأضحية ببعض التفسيرات الغيبية والتنبؤات المتصلة بمستقبل أفراد الأسرة، كما قد يستعمل هذا الدم ضمن وصفات سحرية أو طبية في شكل أحجبة لحماية الأطفال الرضع وتحصينهم من أي أذى قد يتعرضون له خلال الأربعين يوما من عمرهم، إذ تتم زخرفة أرجلهم اليمنى بخط أحمر على شاكلة الخلخال الذي تتزين به المرأة من ناحية الساق، إضافة إلى كونه يثير لدى أغلبية الناس الكثير من الحساسية والمشاعر الغامضة. 

ورغم الخصائص والطقوس السحرية المعقدة فإن دم الأضحية بوصفه أداة تطهيرية حسب المعتقد الشعبي الحساني، يمكن أن يلعب دور السحر العلاجي أو الطب المضاد، فبعض النساء يلجأن إلى دق دم الأضحية المجفف وتخليطه مع الحناء لعلاج بعض الأمراض المتصلة بعالم النساء أبرزها تلك التي تصيب الثدي وغير ذلك كثير. 

كما تعبر الطقوس الشعبية بالصحراء عن تجارب كبيرة لحياة الناس خلال تاريخهم الطويل والحافل بالتعدد والتنوع وتترك معتقداتهم أثرا واضحا في سلوك المجتمع وتسميه بعادات وتقاليد شعبية خارقة في التعقيد، ومن خلال هذه الطقوس تبرز مفارقة غريبة بالصحراء هي أن الكثير من القبائل والعشائر الصحراوية يحرمون أكل لحم الأضحية يوم العيد مكتفين فقط بـ «أفشاي» أي الدوارة المكون أساسا من الكبد والرئة والقلب والأمعاء ظنا منهم أن قطع اللحم واستهلاكها (جرح العيد) سيحدث الضرر بالأسرة فيسودها التفكك والاضطراب. فاللحم هو بالتأكيد متوفر ومع ذلك لا يتم طبخه سوى ابتداء من اليوم الثاني للعيد، لذلك يطلق الحسانيون على اليوم الأول منه عبارة «نهار عيدنا نهار جوعنا»(9).

وإلى جانب هذه العادة تمر طقوس شعبية أخرى لا تفسر سوى باعتبارها عمليات تطهر النفس من الهلوسة والتخوف من المستقبل، ومنها الاحتفاظ بالمرارة وتعليقها على حائط البيت وتركها إلى أن تجف مع مرور الوقت، ويربط كثيرون هذه العادة بالرغبة في طرد الشر وإبعاد المرارة عن المناخ الأسري وإضفاء طابعي المودة والوئام على العلاقة بين الأزواج، وفي زعم بعضهم أن المرارة المجففة تستعمل أيضا في الصحراء لمداواة العديد من الأمراض الجلدية. 

ومن العادات المحلية الأخرى التي ترسم الطبيعة الاستثنائية للظواهر الشعبية بالصحراء تحريم أكل الطحال «الطيحان» على الذين لا يزال آباؤهم على قيد الحياة، فمخالفة هذا الطقس يعد ضربا من ضروب القتل الرمزي للأب، هذا بالإضافة إلى العديد من الطقوس الاجتماعية الأخرى التي تجسد أواصر التلاحم والتواصل العائلي ومنها اجتماع الأسر في منزل أكبرهم سنا أو أكثرهم وجاهة في تكريس معاني التآزر والتماسك الاجتماعي(10).

هذه هي المعتقدات الشعبية بالصحراء ممارسات غريبة يختلط فيها الديني والثقافي والأسطوري، مما يجسد ذلك تعاطي المجتمع الحساني لها وتصديقها على نحو ما تعبر عنه بالفال والرغبة في العلاج والمداواة، وتحصين الجسد والدفاع عن ملكيته عبر الاحتماء، وأشياء مستعارة من أدب إثنوغرافي معقد يصعب تفسيره في الكثير من الأحيان، ولعلها لا تخرج عن السائد في باقي المجتمعات الغربية الأخرى. 

 

 

الزواج

1 - مفهوم الزواج:

يعتبر الزواج اقتران أحد الشيئين بالآخر وازدواجهما بعد أن كان كل واحد منهما فردا. يقال زوج الرجل إبله إذا قرن بعضها ببعض، أي قرن كل فرد بقرينه، ويدخل في هذا المعنى اقتران الرجل بالمرأة وارتباطه بها للاستمتاع والتناسل. 

كما يعتبر الزواج داخل المجتمعات التقليدية من ظواهر الارتباط الجنسي بين الرجل والمرأة مع ما يترتب عن هذا الارتباط من حقوق وواجبات وهو ضرورة اجتماعية، فالزواج معناه إضافة قوى بشرية وإنتاجية جديدة إلى عائلة المتزوج عن طريق عمل الزوجة وعما سوف تنتجه في المستقبل من أولاد(11)، وهو واجب ديني تحتمه الشريعة الإسلامية، وهو نقطة التحول الذي تدور حوله كل الحياة في المجتمع التقليدي، وكذلك نقطة الارتكاز التي يقوم عليها البناء الاجتماعي وما يتضمنه من أنساق ونظم وعلاقات اجتماعية فيها. ولقد أصبح الزواج شأنا مجتمعا، بمعنى أن التقاليد تنظر إلى الزواج أنه وسيلة لإنجاب الأولاد واستمرار الجنس البشري، وتمثيل التكامل وتعزيز الروابط بين أعضاء الأسرة وحفظ الملكية الخاصة بالتوارث.

إن الزواج إذن ظاهرة ذات شأن وبعد كبيرين في حياة الإنسان وتطور المجتمع وهو نظام اجتماعي، يتصف بقدر من الاستقرار والامتثال للمعايير الاجتماعية، سواء في الماضي أو الحاضر، ويفرض الزواج على غالبية أفرادها. والزواج يخضع لقوانين لها أبعاد اجتماعية نفسية واقتصادية تحمل دلالات وقيم ثقافية، تعكس طبيعة كل جماعة إنسانية وخصوصية كل مجتمع، ولهذا كان الاهتمام به لفهم واقع المجتمعات وتفسير آليات تطورها وأساليب حياتها، لذلك أحاطت كل المجتمعات الإنسانية قضية الزواج بعناية خاصة فوضعت له قوانين وشروط خاصة، وجعلت له عادات وقيم ذات أبعاد اجتماعية وثقافية، تختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فهو يختلف في أشكاله والوسائل والطرق التي يتم بها، وفق الأغراض التي يحققها، وفي الحقوق والواجبات المترتبة عنه(12).

2 - طقوس الزواج:

الزواج في ثقافة المجتمع الصحراوي يتسم بسمات تميزه وتطبعه بطابع خاص، وتتجلى تلك السمات في خضوع الزواج لعادات اجتماعية معينة تتضمن قيما خاصة يتمسك بها أهل المنطقة تمسكا شديدا، ويمر عبر مراحل سنحاول قدر الإمكان الغوص فيها وتتبعها عبر تراتبيتها كما يلي:

أ. الخطبة:

حينما ينوي الفتى الزواج بفتاة يصعب عليه أن يصارح والده مباشرة لأنه يستحي منه، ويصارح بذلك أمه وان كانت غير موجودة فانه يبحث عن شخص آخر يكون قريبا من والده، وبعد قبول الأهل تذهب جماعة من أهل الخطيب إلى أهل الفتاة التي يريد خطبتها، وهكذا يتقدم أهل الرجل طالبين يد الفتاة، ويأتي أهل الخطيب محملين بالهدايا وهو ما يسمى بالواجب، وفي مسالة اختيار الخطيبة أو زوجة المستقبل يتم حسب معايير وأسس تعتمد مصالح الجماعة بالدرجة الأولى وتكون المرشحات بنت العم حفاظا على مصالح وممتلكات العائلة، ويبرز هذا الارتباط القرابي في قولهم: «ولد عمي يصلح همي»، ولابد من الإشارة إلى أن سلطة الأب مطلقة في هذا المجال، إذ أنه هو الذي يقرر وقت زواج ابنته ووفق وجهة نظره في الموضوع، وهو نفسه من يختار له شريكة حياته، وغالبا ما يتم الاختيار على أساس نسب الفتاة، إذ أن النسب هو المعيار الرئيسي في الزواج الصحراوي، ويتم الزواج بدون معرفة الزوجين لبعضهما، والمعرفة تكون فقط بين أهلهما، حتى الشاب لا يعلم شيئا عن زوجته، المهم ألا تكون ضعيفة النسب(13). 

وأثناء فترة الخطوبة يمنع على الخطيبين الالتقاء والتعرف على بعضهما، أما بالنسبة للفتاة فإنها تخضع لما يسمى بعملية «البلوح» للسمنة، وبالتالي تصبح مؤهلة جسمانيا للحياة الزوجية(14).

ب. المهر: 

أثناء فترة الخطوبة تبدأ الأسرتان الاستعدادات المادية والمعنوية والترتيبات ليوم الزفاف، ويأتي أهل الفتى بمهر (صداق) العروس المكون حسب العادات من الإبل والأثواب والحلي وأكياس السكر وصناديق الشاي والبخور والعطور حسب القدرة. 

ج. الدفوع: 

خلال الموعد المحدد للزواج يذهب أهل العريس في موكب جماعي إلى «الفريك» (يقصد به مجموعة من الخيام مكونة من 10 خيام أو أكثر) الذي يوجد فيه أهل العروس، وحينما يصلون فأول عمل يقوم به أهل العروس هو استقبال الوافدين ورفع «البند» الذي يتكون من نصف «بيصة» بيضاء ونصف «بيصة» سوداء، والبيصة تقال لثوب تصنع منه «ملحفتين»، وهذا الموكب الجماعي حماسي تسوده الزغاريد والأهازيج الشعبية المتعالية يسمى السلف أو «الدفوع»، وأثناء لحظة وصولهم يرفع أهل العروس ثوبا أبيضا تعبيرا عن الفرح والسعادة، وهم بذلك يدعون أهل العريس للعراك رغبة في الضحك، ينتج عنه «تكاليح البنود» الذي يعني تجاذب شريط الثوب الأبيض(15)، ويكون الصراع مريرا بين الطرفين أيهما يحصل عليه (أي طرف أهل العريس وطرف أهل العروس)، والذي يكسب في الأخير هو الأقوى وهذه دلالة على السلام والرغبة في تلاحم الأسرتين.

د - عقد القران: 

أثناء قدوم أهل العريس وبعد التداول يجتمع الناس على هؤلاء القادمين للترحيب بهم فيقدم الأكل الممثل في «النحاير»، ويجتمع «الشيب» (أي كبار السن) في خيمة لعقد القران الذي لم يكن مكتوبا وإنما يكتفي الصحراويون فقط بقراءة الفاتحة بين نائب العريس ووصي العروس والأعمام وحضور الطالب (الفقيه) وبشهادة شرعية الزواج يتم عقد القران وفق مذهب الإمام مالك وحكمه على أنهم اتفقوا، يقول تعالى: «واتوا النساء صدقاتهن نحلة»، وقوله تعالى: «فانكحوهن بإذن أهلهن وأتوهن أجورهن». 

وتعقد الفتاة الصحراوية على القران بعدد الإبل التي تم الاتفاق عليها في المهر بالتراضي وبعده مباشرة يتم الإعلان عن الزواج.

ز. حفل الزفاف: 

يتميز الزواج في الوسط الصحراوي بصيغتين أساسيتين تتمركزان في الزواج المبكر وزواج الأقارب، فالزواج المبكر يحدد عادة بين عائلتي الزوجين في وقت مبكر جدا بين 9 و13 سنة بالنسبة للفتاة، و14 و16 سنة بالنسبة للفتى، والزواج المبكر في الثقافة الصحراوية يحتل مكانة مرموقة وأهمية لا يستهان بها وذلك نتيجة لأسباب نذكر منها (16):

    دافع ديني: على اعتبار أن الزواج المبكر عصمة للشاب والشابة من الوقوع في الزنا والحرام.

  دافع اقتصادي: إذ أن الشباب الصحراوي يصل إلى مرحلة النضج الاقتصادي في سن مبكرة، لأنه ونظرا لبساطة الحياة المعتمدة على الترحال فإن ما يكتسبه الشاب من مهنة يكفي لسد حاجيات أسرة.

     دافع عصبي قبلي: يتوخى من ورائه تكثير القبيلة وتقوية العصبية، كما أنهم يهدفون إلى إنجاب الذكور الذين يثبتون كيان القبيلة من غيرهم، كما أنهم يستقبلون ولادة الذكور بالزغاريد ونحر الإبل.

وبعد الانتهاء من المراسيم المتصلة بعقد القران، تبنى للعروسين خيمة الزفاف المعروفة باسم «خيمة الرك» مصنوعة من شعر الماعز، بعيدا نسبيا عن لفريك، أي مجموعة من الخيام احتراما لكبار السن الذين لا يحضرون الاحتفال، ويبدأ الاحتفال الذي يستمر سبعة أيام متتالية في حالة الفتاة البكر وثلاث أيام بالنسبة للفتاة المطلقة، ولا يتعدى يوما واحدا بالنسبة لعريس وعروس سبق لهما الزواج من قبل، ثم يحضر الضيوف والمدعوون إلى خيمة الرڭ، وبعد تجهيزها بالزرابي يوضع «الرحل» في جانبها الغربي، حيث أن هذا المكان هو الذي ستختبئ فيه العروس تحته، ويضع أمامه ستار عبارة عن ثوب غليظ، ثم ينطلق حفل غنائي شعبي ساهر ويلزم العريس قبل دخول الخيمة أن يطوف بها ثلاث مرات اعتقادا في ذلك ببداية حياة زوجية سعيدة، وبعد ذلك يدخل الخيمة في جو احتفالي كبير ويستمر هذا الاحتفال بحضور العريس لدقائق حتى تقف إحدى الوصيفات أو الخادمات (معلمة) تابعة لأهل العروس وفي يدها حلية أو مجوهر (فرد مجوهرات) وتقول «هذه هي حوصة العروس»(17)، أي على العريس أن يعطي قدرا من المال فدية لفك ذلك المجوهر أو حلية من حلي العروس المحتجزة كتعبير رمزي عن حبه لها. 

أما العروس فتبدأ معركتها مع النساء فتجمع كل قوتها لمنعهن من تغيير ملابسها، ولباسها أرقى أنواع الملاحف، ويظفر شعرها بالكامل ويوضع فيه الخرز للتزيين، وكل هاته المراحل التي تمر بها العروس لتهيئتها تمر بجملة من المتاعب (قرص وصراخ وضرب وبكاء)، لخوفها مما هو مجهول بالنسبة إليها، وفي صبيحة اليوم الأول أي «يوم إبراز العريس» يذهب كل من استيقظ إلى خيمة «الرك» ويطالب بـ «العادة»، والعادة عبارة عن بعض التمر و«كرتة» أي الكاوكاو، ويقدمه العريس لكل من يهنئه صباح هذا اليوم، وبعد مرور سبعة أيام من الاحتفال يتم تقديم هدية للعروس وبعدها ترسل أم العروس لأهل العريس هدية خاصة قد تتكون من نصف الأمتعة التي أحضرها العريس خلال «الدفوع».

ر. الرحيل: 

يستأذن العريس أهل عروسه بعد مرور وقت طويل في الرحيل وهي من أقسى المراحل التي تمر بها العروس، إذ فيها تفترق عن أهلها وعن عالمها الذي عاشته المفعم بذكريات الطفولة والبراءة الجميلة، فهم يحددون أجلا للرحيل كي يتمكن أهل العروس من تحضير جهازها الذي سترحل به، ويتكون هذا الجهاز للرحيل من (خيمة تزياتن) مصنوع من (جلد البقر) وزرابي وفرو (مصنوع من الجلد المدبوغ)، و«صرامة» أي وسائد مصنوعة من الجلد مهذبة، ودباليج، وهي أنواع الحلي، و«مشقب» كاملة (أي الهودج)(18)، بالإضافة إلي الإبل، وتكون حسب إمكانيات أهل العروس وما قدمه العريس إليها أثناء العرس، وتتزين العروس وتركب هودجها على ظهر الجمل الذي يقوده زوجها، عندما يصل «الرحيل» إلى «الفريك» أهل الزوج، تقوم أم الرجل ببناء خيمة للعريسين وراء الخيام وتعمل علي تزيينها، إلا أن الزوجة تقيم أولا مع عائلة زوجها أياما طويلة رغم وجود خيمة جاهزة للعريسين، إذا أنه من غير اللائق في أعراف الصحراء أن يتوجه العريسان إلي خيمتهما مباشرة، لكن مع مرور الوقت تعتاد الذهاب إلى خيمتها ويعتاد الأهل ذلك أيضا، وبالتالي يسلم الكل بوجود عائلة جديدة داخل الفريك. 

مما لا شك فيه أن طقوس الزواج الصحراوي تتسع لتفسيرات كثيرة تتعدى ما ذكرناه آنفا، لكن الأهمية الكبرى للطقوس تتمثل في وظيفتها الأساسية وهي استعادة التقاليد، مما ينشأ عنه إعادة إنتاج البنية الذهنية والوجدانية التقليدية.

فالزواج في الصحراء من الأمور التي تخضع لقواميس معقدة نظرا لحتمية حياة البداوة، والعيش في أسرة ممتدة وانصهار ما هو شخصي في ما هو جماعي للحفاظ على الترابط والتماسك القبلي، الذين تفرضهما مواجهة الأخطار المحدقة بالقبيلة واستمراريتها بين العشائر الأخرى، وتأثير المصاهرة على مستقبل الأسرة والقبيلة، كما أن الزواج في زمن الترحال لا يختلف بين قبائل الصحراء إلا في بعض الطقوس الجزئية، غير أننا اليوم ومع حياة الاستقرار والمدنية شهد المجتمع في مختلف الميادين عدة تغيرات وتحولات أثرت بشكل كبير على تغير تصورات الناس وبالأخص في أقدم مؤسسة اجتماعية أي الزواج. 

 

 

التنشئة الاجتماعية للطفل

تعتبر الأسرة بنية اجتماعية لها تأثير في نوعية واستمرارية ودينامية البناء الاجتماعي للمجتمعات الرعوية، فهي لا تؤثر في نماذج التنشئة الاجتماعية التي تعتمدها هي ذاتها في أطرها الفكرية، السلوكية والأخلاقية فقط، بل تؤثر أيضا في تنظيم العلائق الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، وتحدد معالم الشخصية النموذجية التي يتم بها الفرد والمجتمع وترسم طبيعة العلاقة الكمية والنوعية بين السكان والموارد الطبيعية التي يمتلكها المجتمع(19). 

بالنسبة لتربية الطفل نلاحظ أن الأسرة في مرحلة الترحال لم تعر اهتماما بتربية الطفل لأنه لا يوجد هناك تحكم أو تدخل في تربية الابن، هناك سلطة خارجية عن الإنسان مكلفة لتربية الطفل، ومن هنا يكون عرضة للشارع، وبالتالي يكون الشارع هو محيطه وهو المكلف بتربيته، فما هو دور الآباء؟ هو فقط شراء الحاجيات، فالطفل كان محصورا في المدرسة العتيقة (الجامع) وبين الرعي، وجلب الماء من الآبار وجمع الحطب، وحتى إذا مارس اللعب يمارسه بشكل خشن، إما اللعب بالحجارة والعصي مع صيد الزواحف وتعلم القنص، أما البنت فما أن تبلغ سن التمييز حتى توضع أمامها قيود صعبة ومعقدة تستهدف أن تكبر وهي متمسكة بأهداب الأخلاق الفاضلة ومتماشية مع ما يفرضه الدين الإسلامي الحنيف من صيانة وعفاف مع المشاركة الفعالة للرجال وتدبير شؤون الحياة. 

وهكذا عندما تتعدى السابعة تصبح خاضعة لمراقبة أمها بحيث يمنع عليها ألا تصل سوى أقربائها ومع من يتولى تكوينها التربوي بصفة فطرية ولا تخضع في كثير من الأحيان لقواعد محددة ولكنها تتسم بالفضيلة وحسن السلوك(20)، ولا يمكن أن تبلغ العاشرة من عمرها في كثير من الأحوال إلا إذا كانت حافظة لقواعد دينها مع بعض السور القرآنية، وفي بعض الأسر ما أن تبلغ سن البلوغ حتى تكون حافظة للقرآن والعلوم الإسلامية. وعندما تصل الأنثى سن التمييز يصبح من المحتم عليها أن ترتدي الزي التقليدي الصحراوي، الذي يعرف «بالملحفة» حسب اللهجة الحسانية.

 

 

الشاي عند المجتمع الصحراوي

1 - تاريخ الشاي:

يعتقد بعض المؤرخين أن أول من عرف الشاي هم الصينيون قبل مولد المسيح، وقيل إن أحد أباطرة القدماء كان يشاهد إبريقا من الماء يغلي تحت إحدى الأشجار، وكانت فوهة الإبريق مفتوحة، وإذا ببعض الأوراق تسقط في الإبريق وتفوح منه رائحة طيبة ويتغير لون الماء. وما إن تذوق الإمبراطور شيئا من هذا السائل حتى استطاب مذاقه، فأوصى المقربين استعمال هذه «العملية» حتى شاع الصين بشرب الشاي. وقيل إن أحد الكهنة البوذيين في الهند هو الذي اكتشفه وأخذ يستخدمه باستمرار، ليبقى يقظا على الدوام، لأن الإكثار منه يحول دون النوم. ودخل الشاي إلى أوربا في القرن السابع عشر عندما حمله الهولنديون إلى بريطانيا، ومنها إلى فرنسا، وقد عرفه العرب منذ القرن التاسع، وحمل أخباره إلى أوربا تاجر عربي، وأحب العرب هذا المشروب، ووجدوا أنه يطفئ عطش الصحراء وأدخلوه في تقاليد الضيافة عندهم. 

وحين وصل العرب في غزوهم إلى بلاد الفرس تعرفوا على «السماور»(21) الذي كان وصل الفرس عن طريق روسيا، ومن خلال اتصال البشر بعضهم ببعض عن طريق الرحلات والسفارات انتشر استعمال الشاي في جميع أنحاء العالم، وأخذت بلدان عديدة تزرعه مثل إيران والهند، فتعددت أنواعه وأدواته، وظلت الصين البلد المنتج الأساسي له في العالم. 

2 - الشاي في المغرب:

اتفق جل المؤرخين أن المغرب عرف الشاي في القرن الثامن عشر، وبدأ انتشاره عبر المغرب في منتصف القرن التاسع عشر لما صار المغرب يتعاطى التجارة مع أوروبا. وهكذا يبدو أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عصر السلطان إسماعيل، حيث تلقى السلطان «أكياسا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوروبيين للسلطان العلوي»، تمهيدا لإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين، مما يدل على ندرته في البلاد المغربية. وكان دخول مشروب الشاي إلى المغرب على يد التجار الإنجليز من جبل طارق، ومنه انتشر بالمناطق الصحراوية والسودان الغربي، ووصل تمبكتو(22).

واحتل الشاي منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبح له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصناع حرفة جديدة أبدع أصحابها في أدوات تحضير الشاي من «صينية» و«براد» و«إبريق» و«بابور» و«ربايع»، والتصق الشاي بحياة المجتمع المغربي، وفرضت جلساته حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاته، وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون.

3 - نبذة عن الشاي الصحراوي:

يعتبر الشاي أحد المشروبات المنتشرة في جميع أنحاء العالم وخاصة في العالم العربي، وتختلف أنواعه وطرق تحضيره، ولكن في منطقة شمال إفريقيا وبالأخص في الجنوب المغربي، نجد نوعا مميزا من الشاي ألا وهو الشاي الأخضر أو ما يصطلح عليه في المنطقة بـ «أتاي»، وله مكانة خاصة عند الصحراويين، حيث يعتبر رمزا للترحاب وحسن الضيافة، ويتميز بطريقة خاصة في التحضير والتقديم. 

وقد حافظ الإنسان الصحراوي على أدبيات وطقوس إعداد الشاي القديمة كغيره من القبائل الصحراوية، ومن أبرز هذه العادات ما يصطلح عليه بـ «جيمات أتاي الثلاثة»(23) وهي الجماعة، إذ من الأفضل أن يتم تناول الشاي مع الجماعة ومهما كثر عددها كان ذلك أفضل، و«الجر» كناية عن استحسان إطالة المدة الزمنية لتحضير الشاي وهو شرط يتيح للجماعة فرصة تناول أمورها بروية وتأن، والجمر، إذ من الأفضل إعداد الشاي على الفحم .كما يعتبر الشاي من الأولويات التي يجب أن تقدم للضيف. 

لذا حرص الإنسان بهذه المنطقة منذ القدم أن لا يخلو بيته من هذه المادة بالغة الأهمية، والتي يسعى إلى جلبها من البلاد البعيدة، وقد كان يضطر أحيانا إلى شراء الشاي بمبالغ باهضة جدا، وقد حدثت مقايضة كيلوغرام واحد من الشاي، أو قالب واحد من السكر بناقة أو جمل أو برؤوس عدة من الغنم.  

4 - مكونات الطبلة (صينية الشاي):

يستلزم تحضير الشاي الصحراوي (أتاي) وجود مجموعة من الأواني والمكونات هي: 

  الطبلة الصينية: وهي مستديرة الشكل ولها ثلاث أرجل، وغالبا ما تكون من الفضة أو النحاس.

  الكؤوس: وهناك نوع خاص من الكؤوس في الصحراء ويسمى «كيسان الواخ»(24)، وهي كؤوس صغيرة الحجم.

  البراد (إبريق الشاي): ويصنع من مادة تسمى « تسميمت» ويوضع على الجمر فقط.

  الربايع: وهي مكونة من ثلاث عناصر  مختلفة الحجم، وفي القديم كانوا يستعملون آنيتين فقط، الكبيرة وتسمى «الربيعة» تستعمل لوضع السكر، والصغيرة تسمى «الزنبيل» وتستعمل لوضع الشاي «الورگة».  

  المغرج والمجمر: الأول على شكل إبريق كبير يستعمل لغلي الماء، والثاني مصنوع من الطين يوضع فوقه إبريق الشاي.

5 - طريقة تحضير الشاي:

للشاي بالمنطقة طقوس خاصة وأوقات معينة يتم تحضيره فيها، فهو ضروري بالنسبة للصحراويين ولا يعقد مجلس أو يحيى سمر بدون إعداد الشاي، وحول «الطبلة» يتم تداول الأخبار ومناقشة أمور الحياة عامة. 

كما يطلق على معد الشاي «القيام»، ويتم اختياره من بين أفراد الجماعة وفق مواصفات معينة من بينها: بلاغة الحديث، إتقان الشعر، دماثة الخلق، وحسن الصورة، ويعتبر إسناد مهمة إعداد الشاي إلى أحد أفراد الجماعة من باب التشريف لا التكليف. ولتحضير الشاي يجب توفر: الورگة «الشاي»، الماء، السكر، بعض الأعشاب. فالورگة هي «حبيبات الشاي» وهي مادة بالغة الأهمية بالنسبة للصحراويين(25)، حيث يتم وضع كمية منها في البراد «الإبريق»، بعد ذلك يتم سكب القليل من الماء المغلي عليها، ويسمى هذا الماء بـ «الغدير» أي ماء المطر، ثم يوضع على الجمر حتى يغلي قليلا ويتم سكبه في كأس يسمى كأس «تشليلا»، وتسمى هذه العملية بـ «تشلال أتاي»، بعدها تضاف كمية أكثر من الماء ويترك يغلي، بعد ذلك يضاف السكر، وتضاف مادة أخرى تسمى «العلك» أي «الصمغ العربي»(26) في أحد الكؤوس ويتم القيام بتقليب الشاي بينها لتعطينا «الرغوة»، بعدها يسكب الشاي في الكؤوس، وتسمى هذه العملية بالكأس الأول، وتعاد نفس العملية في البراد الثاني والثالث، وبذلك تكون قد تمت عملية إعداد الشاي. 

6 - فوائد الشاي الصحية:

من فوائد الشاي الصحية المساعدة على الهضم، لذا حرص سكان المنطقة على تناول الشاي بعد وجبات اللحم الدسمة، ومن فوائده أيضا أنه يقي من الأمراض السرطانية، ويزيل آلام الرأس، وعموما لا يعتبر الشاي في الصحراء مشروبا تقليديا فحسب، بل سمة من سمات الكرم الصحراوي وعلامة من علامات الحفاوة وحسن الاستقبال. وفي الأخير يبقى الشاي الصحراوي من المكونات الأساسية للمجتمع الحساني رغم تطور الزمن(27).

7 - معتقدات عند شرب الشاي الصحراوي:

هناك العديد من المعتقدات الصحراوية الشائعة عند شرب الشاي الصحراوي من أهمها نذكر على سبيل المثال لا الحصر(28):

  إذا تحرك كأس في صينية الشاي فإن هذه الحركة تدل على قدوم ضيف في أقرب وقت.

  إذا كانت جماعة تحتسي الشاي فإنه لا يستطيع أحد أفرادها المغادرة دون أن يكمل الشاي، أي أن يشرب ثلاث أبراريد أي ثلاث كؤوس، وإذا جاء أحد ووجد الجماعة تشرب الشاي فهو لا يذهب عنها حتى يتم معهم شربه، وذلك لتجنب الفأل السيئ، حيث يقال له «أمحالي أتعاگب أتاي» أو يقال «أتاي ما يعاگب» أي أنه ليس من صالحك أن تذهب دون أن تأخذ الفال من الشاي، وإن كان على عجل من أمره، وهذا لا يحدث إلا إذا كان هناك أمر مستعجل لا يمكن تأجيله، فإنه قبل ذهابه يتناول قطعة من السكر.

 

 

خاتمة

إن الثقافة الصحراوية ثرية وغنية جدا ومتنوعة وشاسعة ارتوت من مورد العروبة العذب ومعين الإسلام الذي لا ينضب، فمجتمع البيظان مجتمع مسلم عربي لم يعرف الأقليات الدينية فشكل ذلك لديه ثقافة موحدة لا يزال يتمسك بها تمسكا شديدا، وتتمثل في الموروث الاجتماعي والثقافي للأجداد من خلال العادات والتقاليد والتعاليم الدينية الإسلامية واللباس والحرف التقليدية والعلاقات الاجتماعية واللهجة الخاصة والعرف وغيرها من مميزات هذا المجتمع التي تراكمت عبر التطور الذي رافق مراحل وجوده، ودونته الذاكرة الصحراوية بلسانها الحساني الملون بالفنون الأدبية الشعبية المعروفة من شعر ونثر ومثل وحكمة أو عن طريق الحكايات والقصص والأحاجي الشعبية أو العادات والمظاهر التقليدية المحافظ عليها حتى اليوم.

 

الهوامش

1 ـ الجراري (عباس)، ثقافة الصحراء، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1978، ص. 23.

2 ـ شرايمي (محمد)، تنسيق، أبحاث ودراسات حول الصحراء، مجموعة البحث والدراسات حول ساحل الصحراء، الطبعة الأولى، الرباط، 2009، ص. 35.

3 ـ كروم (مبارك)، القرابة والمعتقد الشعبي داخل المجتمع الصحراوي: أسا نموذجا، بحث لنيل الإجازة في علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2004 ـ 2005، ص. 84.

4 ـ كروم (مبارك)، م. س، ص. 88.

5 ـ الرباب (علي)، المرجع السابق، ص. 56.

6 ـ نفسه، ص. 58.

7 ـ نفسه، ص. 66.

8 ـ كروم (مبارك)، م. س، ص. 89.

9 ـ الرباب (علي)، م. س، ص. 71.

10 ـ الجراري (عباس)، المرجع السابق، ص. 26.

11 ـ الحيسن (إبراهيم)، التراث الشعبي الحساني: العناصر والمكونات، المكتبة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، مراكش، 2004، ص. 65.

12 ـ مسيريب (نعيمة)، المرجع السابق، ص. 39.

13 ـ بطاح (الحسين)، المرجع السابق، ص. 42.

14 ـ نفسه، ص. 46.

15 ـ بطاح (الحسين)، م. س، ص. 55.

16 ـ بوخار (عالي)، المرجع السابق، ص. 81.

17 ـ الحيسن (إبراهيم)، المرجع السابق، ص. 72.

18 ـ إعيش (الحسان)، المرجع السابق، ص. 49.

19 ـ الحيسن (إبراهيم)، الثقافة والهوية بالصحراء: رؤية أنثروبولوجية حول المجتمع الحساني، مطبعة بني يسي، الداخلة، 2007، ص. 62.

20 ـ كروم (مبارك)، م. س، ص. 57.

21 ـ السبتي (عبد الأحد)، الخصاصي (عبد الرحمان)، من الشاي إلى الأتاي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال، سلسلة بحوث ودراسات رقم 50، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الثانية، 2012، ص. 73.

22 ـ نفسه، ص. 75.

23 ـ الحيسن (إبراهيم)، ثقافة الصحراء: الحياة وطقوس العبور عند مجتمع البيضان، الرباط، 2011، ص. 73.

24 ـ الحيسن (إبراهيم)، المرجع السابق، ص. 76.

25 ـ الكشاط (محمد سعيد)، عرب الصحراء الكبرى: التوارق، الدار العربية للموسوعات، الطبعة الرابعة، لبنان، 2008، ص. 123.

26 ـ الجراري (عباس)، المرجع السابق، ص. 56.

27 ـ الكشاط (محمد سعيد)، المرجع السابق، ص. 126.

28 ـ الحيسن (إبراهيم)، م. س، ص. 114.

المصادر والمراجع

* الجراري (عباس)، ثقافة الصحراء، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1978.

* إعيش (الحسان)، محاولة التعريف بقبائل تكنة، بحث لنيل الإجازة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال، الرباط، 1985 ـ 1986.

* الحيسن (إبراهيم)، التراث الشعبي الحساني: العناصر والمكونات، المكتبة والوراقة الوطنية، الطبعة الأولى، مراكش، 2004.

* الحيسن (إبراهيم)، الثقافة والهوية بالصحراء: رؤية أنثروبولوجية حول المجتمع الحساني، مطبعة بني يسي، الداخلة، 2007.

* الحيسن (إبراهيم)، ثقافة الصحراء: الحياة وطقوس العبور عند مجتمع البيضان، الرباط، 2011، ص. 73.

* الرباب (علي)، جوانب من التاريخ الديني والثقافي لمنطقة واد نون: قبيلة أزوافيط نموذجا، بحث لنيل الإجازة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، 2001 ـ 2002.

* السبتي (عبد الأحد)، الخصاصي (عبد الرحمان)، من الشاي إلى الأتاي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال، سلسلة بحوث ودراسات رقم 50، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الثانية، 2012.

* الكشاط (محمد سعيد)، عرب الصحراء الكبرى: التوارق، الدار العربية للموسوعات، الطبعة الرابعة، لبنان، 2008.

* بطاح (الحسين)، جوانب من تاريخ قبيلة أيت ياسين، بحث لنيل الإجازة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، 2000 ـ 2001.

* بوخار (عالي)، دراسة لبعض جوانب البنية الاقتصادية لقبائل وادي نون: نموذج أزوافيط خلال نهاية القرن 19 وبداية القرن 20م، بحث لنيل الإجازة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، 1996 ـ 1997.

* شرايمي (محمد)، تنسيق، أبحاث ودراسات حول الصحراء، مجموعة البحث والدراسات حول ساحل الصحراء، الطبعة الأولى، الرباط، 2009.

* كروم (مبارك)، القرابة والمعتقد الشعبي داخل المجتمع الصحراوي: أسا نموذجا، بحث لنيل الإجازة في علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض، مراكش، 2004 ـ 2005.

* مسيريب (نعيمة)، وثائق من منطقة تغمرت: تخريج وتصنيف وتعليق، بحث لنيل الإجازة في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير، 2003 ـ 2004.

الصور

* الصور من الكاتب.

أعداد المجلة