فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
40

ملامح الثّقافة الشّعبيّة في أشعار بشّار بن برد

العدد 40 - أدب شعبي
ملامح الثّقافة الشّعبيّة  في أشعار بشّار بن برد
كاتبة من تونس

 

 لا شكّ أنّ الشّعر العربي القديم قد عرف تحوّلا واضحا في العصر العبّاسي الأوّل أو شهد «هزّة» عدّها البعض «ثورة» على القديم و دكّا لما اُستقرّ من تقاليد في الشّعر توارثها العرب عن الجاهليّين. لأنّ القصيدة الجاهليّة مثّلت النّموذج الذّي اُتّبعه القدامى و ساروا على منواله وحافظوا بحرص وعناية على أدقّ خصائصه الفنّية.

 و لذلك قوبل الشّعر العبّاسي «المحدث» في العصر العبّاسي الأوّل باُمتعاض غير قليل واُستهجنه الكثير من النقّاد و علماء اللّغة باُعتباره خروجا على «المنوال» وتحليقا خارج السّرب. ولكن عدّه آخرون كذلك إبداعا ونعتوه «بالمولّد» أو «المحدث» واُحتفوا به اِحتفاءهم بكلّ «جديد» متميّز عن شعراء السّابقين ولا شكّ أنّ ظروفا موضوعيّة أدّت إلى نشأة هذا الشّعر وأسهمت أيّما إسهام في تبلوره ونضجه وهي ظروف سياسيّة واُجتماعيّة وثقافيّة واُقتصاديّة ميّزت الحكم العبّاسي عن الحكم الأموي الذّي سبقه إذ شهد العالم العربي الإسلامي جملة من التحوّلات الهامّة إثر سقوط الدّولة الأمويّة سنة 132 هـ تحوّلات طالت كلّ الميادين ولوحظت على كلّ المستويات.

فعلى المستوى السيّاسي كان تحوّل الخلافة من دمشق إلى بغداد على سواعد الجيوش الخرسانيّة إيذانا بغلبة الطّابع الفارسي على نظام الحكم العبّاسي وكان بداية التّعويل المطلق على النّظم السّاسانيّة في كلّ شؤون الحكم بل علامة على ما ستعرفه الدّولة فيما بعد من اعتماد على رجالات من الفرس في تصريف شؤون الحكم وزراء كانوا أو قوّادا أو كتبة دواويين.

وأمّا على المستوى الإجتماعي فقد لاحت الطّبقيّة واضحة في المجتمع العبّاسي في عصوره الثّلاثة(1).

وساد التّرف حياة الخاصّة على نحو لم يعرفه العرب من قبل في حين ظلّت طبقة العامّة محرومة من كلّ أسباب العيش الكريم. كما اُتّسمت الحياة الإجتماعيّة أيضا بكثرة الرّقيق           والجواري لكثرة الأسر والسّبي في الحروب فنشطت تحارة الرّقيق حتّى كان في بغداد شارع خاصّ بها سمّي شارع الرّقيق يديره قيّم الرّقيق.

وورث المجتمع العبّاسي ما كان في المجتمع السّاساني من لهو ومجون وشاع الغناء واُنتشرت ظاهرة القيان والجواري في كلّ الأنحاء. وفي الطّرف المقابل ظهر الزّهد و اُنتشرالوعّاظ في المساجد يحثّون على نبذ الدّنيا ويدعون إلى الآخرة.

واُزدهرت الحياة الثّقافيّة والأدبيّة أيّما اِزدهار لا سيما في العصر العبّاسي الأوّل نظرا لاِحتكاك العرب بالحضارات الوافدة وتطوّر حركة النّقل والتّرجمة وشيوع حلقات العلم والفقه والحديث والفلسفة... في كلّ الأمصار كلّ هذه العوامل أثّرت دون شكّ في الشّعر فظهر ما سمّي بالشّعر المولّد في النّصف الأوّل من القرن الثّاني وفيه ظهرت أغراض مستحدثة جديدة اُستطاعت أن تدّك أحيانا كثيرة ما اُستقرّ في الذّاكرة العربيّة وما تعوّدت عليه الذّائقة منذ الجاهليّة.

في هذا الإطار ندرس شعر بشّار بن برد وهو أحد أعلام الشّعر المولّد(2) من زاوية دقيقة هي التّحوّل الذّي أحدثه هذا الشّعر من شعر النّخبة إلى شعر الشّعب.

وهي في الواقع فكرة اِنتبه إليها بعض النقّاد ونبّهنا إليها منذ زمن بعيد نجيب محمّد البهبيتي في كتابه المعروف «تاريخ الشّعر العربي حتّى آخر القرن الثّالث الهحريّ» حين جعل أعلام التّوليد في الشّعر العبّاسي وخاصّة مسلم بن الوليد وأبا نواس وبشّار بن برد روّاد حركة شعريّة هامّة حوّلت الشّعر إلى خطاب «شعبيّ» تستسيغه العامّة وتقبل عليه فأخرجوه من المجالس والمحافل والبلاطات وأشاعوه بين النّاس. يقول في هذا الإطار: «الواقع أنّه كان في بشّار شيء جديد ولكنّ هذا الجديد لم يكن اِبتكارا أصيلا لفنّ جديد من فنون الشّعر أو ذهابا في باب من أبوابه مذهبا لم يسبقه إليه أحد وإنّما كان تجديدا في طريقة التّعبير و توسّعا في تحقيق «شعبيّة الشّعر»(3) ويضيف «وقد رأينا من قبل كيف أنّ الشّعر اِتّجه إلى أن يكون شعبيّا يصوّر نفوس النّاس وحياتهم على يد الوليد (يقصد الوليد بن يزيد) ومدرسته «الشعبيّة»... فلم يلبث بشّار أن جاء شعره ليبني هذا الجانب من الشّعر»(4). ونحن في هذا المقال انما نحاول اثبات اهمية ثقافة بشار بن برد الشعبية في وسم شعره بسمة شعبية واضحة ضمنت له السيرورة والانتشار بين الناس. فثقافة شاعر في منزلة بشار بن برد واسعة دون شك متعددة الروافد الفكرية والمعرفية والحضارية. ولكننا سنعتني هاهنا بثقافة بعينها هي الثقافة الشعبية واثرها في شعره دون سائر الثقافات.

 

 

«شعبيّة» أشــعار بشّار بن برد:

 تجلّياتها وأبعادها:

الواقع أنّنا نحتاج إلى تحديد دقيق لمفهوم «الشعبيّة» في الشّعر، فهي تعني بالأساس ضربا من الأشعار لا تخاطب النّخبة و الخاصّة فحسب بل تستجيب لأفق اُنتظار جمهور العامّة من المتلقيّن.

ضربا من الأشعار تشيع بين العوامّ و تتلقّفها قلوبهم و عقولهم وتردّدها ألسنتهم وتلتصق بذاكرتهم فإذا بها شائعة بين النّاس رائجة لأسباب كثيرة توفّرت في هذه الأشعار سنقف عليها لاحقا.

هذه الشعبية في الشعر تحقّقت في شعر التّوليد عامة وفي شعر بشّار بن برد خاصّة «فلم يشأ بشّار أن يكون شاعر الخّاصة، فحسب بل شاعر العامّة أيضا و قد حرص على سيرورة شعره بين القبائل و شيوعه بين النّاس»(5)ولكنّ البهبيتي وغيره من النقّاد ربطوا هذه الشعبيّة أساسا بالمعاني والصّور فبشّار خاصّة وشعراء التّوليد عامّة قد أنزلوا المعاني من عليائها فعبّرت عن مشاغل العامّة و اُستجابت لمشاعرهم كما جاءت الصّور بسيطة لا تعقيد فيها فجرت على الألسن و شاعت بين النّاس.

يقول متغزّلا(6): 

يَا قُرَّةَ العَيْنِ إِنِّي لاَ أُسَمِّيكِ

أُسَمِّي سِوَاكِ أُفَدِّيهَا وَ أَعْنِيكِ

قَدْ زَرْتِنَا زَوْرَةً فِي الدَّهْرِ وَاحِدَةً

ثَنِّي وَ لاَ تَجْعَلِيهَا بَيْضَةَ الدِّيكِ

فبيضة الدّيك في تصوّر العامّة نادرة قد تقع مرّة في الدّهر ولذلك اُستعارها لزيارة نادرة يتطلّع إليها بشوق عاشق متيّم. بل قد يأتي المعنى أبسط بكثير فإذا به أقرب إلى السّذاجة منه إلى الشّعر فيقول(7):

أَسْقَمَتْ لَيْلَةَ الثُّلاَثَاءِ قَلْبِي

وَتَصَدَّتْ فِي السَّبْتِ لِي لِشَقَائِي

وَغَدَاةَ الخَمِيسِ قَدّْمَوَّتَتْنِي

ثُمَّ رَاحَتْ فِي الحُلَّةِ الخَضْرَاءِ

بل إنّ نزول بشّار بن برد بالمعاني من عليائها أدّى به إلى ضرب من الغزل جديد لم تألفه الذّائقة العربيّة. فما عادت المعشوقة من الخاصّة و ما عادت تصوّر مترفة تحيط بها الجواري يخدمنها ويحرسها رجال أشدّاء.

بل تغزّل بشّار بالجارية و بالمرأة من العامّة و لم يجد حرجا في أن يقول

رَبَابَةُ رَبَّةُ الَبْيتِ                  تَصُبُّ الخَلَّ فِي الزَّيْتِ

لَهَا عَشْرُ دَجَاجَاتٍ           وَدِيكٌ حَسَنُ الصَّوْتِ(8)

و قد عاتبه بعضهم على هذا الإسفاف في المعنى و هذه الشعبيّة في التّصوير فيجيبه بشّار:

كلّ شيء في موضعه. و ربابة هذه جارة لي، و أنا لا آكل البيض من السّوق. فربابة هذه لها عشر دجاجات و ديك. فهي تجمع هذا البيض و تحضره لي فكان هذا من قولي لها أحبّ إليها و أحسن عندها من:

«قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل» (9)

وقد أكثر من التّغزّل بـ «عبدة» وهي جارية من جواري المهديّ وقال فيها أغلب أشعاره الغزليّة فكانت بسيطة قريبة المأخذ كأنّها تعكس حرصا منه على مخاطبة المرأة بما تفهم ألم ينسب إليه أنّه ردّ مرّة منتقديه قائلا «إنّما أخاطب كلاّ بما يفهم»(10) ولذا  لا نستغرب منه قوله متغزّلا(11):

إِنَّ سَلْمَى خُلِقَتْ مِنْ قَصَبٍ

قَصَبِ السُكَّرِ لاَ عَظْمَ الجَمَلِ 

وَ إِذَا أَدْنَيْتَ مِنْهَا بَصَلاً

غَلَبَ المِسْكُ عَلَى رِيحِ البَصَلِ

ولكنّ شعبيّة الشّعر لا تكمن في المعاني البسيطة المألوفة السّائرة والشّائعة بين النّاس فحسب بل تراها جليّة في تعويل الشّاعر على «المبتذل» من الكلم و«المألوف» من الصّياغة لأنّ لغة الشّعر هي أهمّ ركن يقوم عليه الإبداع وبفضلها يترقّى في مدارج الشعريّة و يسمو إلى أرفع الدّرجات ليخاطب النّخبة يقول حسين الواد:

«إنّ اللّغة الأساسيّة المصفّاة الخالصة التي جبل بها الإنسان الكون وصاغ الوجود والتي هي ملازمة للخلق والإبداع هي لغة الشّعر ولغة الكلام الفنّي، إنّها ألفاظ أبكار تذكّر بها المعاني الأبكار و الجواهر الخالدة و كلّما كان الكلام أكثر نقاوة و صفاء اِزداد رقيّا في معارج الشعريّة»(12)ولأنّ شاعرنا لا يخاطب النّخبة فقط فقد أعرض عن هذه اللّغة المصفّاة أحيانا كثيرة لا سيما في الغزل أين نجد أبياتا كثيرة صاغها بن برد بلغة أقرب ما تكون إلى العامّة فلا بحث فيها عن ألفاظ جزلة منتقاة ولا جنوح إلى صياغة تحدث في المتلقّي ضربا من الدّهشة والإنفعال وإنّما تكون أقرب إلى التّواصل والإخبار أو الإبلاغ وهذا ما يشدّه إلى الشعبيّة لأنّ الشّعر في معناه الأصيل الرّاقي «وإن حقّق التّواصل لا يشغل لا بالإخبار ولا بالإبلاغ على النّحو الذّي يشغل بهما الكلام العادي. ذلك أنّ غاية الشّعر الأساسيّة إنّما هي تحقيق الإنفعال وإحداث التّأثير وخلق التعجّب واِستثارة الاِندهاش. وهذا إنّما تنهض به الصّياغة بفضل ما تتوفّر عليه من أسرار البيان»(13).

فلغة الشّعر كماهو معلوم لغة مخصوصة تهدف إلى إحداث تأثير مخصوص بأسلوب مخصوص. و ذلك باُنتقاء متأنّ للألفاظ والصّيغ والتّراكيب وهي لغة اِستعاريّة بالأساس لأنّ الشّعر لا يكون تقريرا لواقع وتصريحا به وإنّما يأتي في جوهره تلميحا وإشارة فلا تمنح المعاني أنفسها للمتلقّي وإنّما تدعوه إلى كشفها ورفع الحجب عنها بما يتيحه له النّصّ من قرائن وما تتيحه له اللّغة من منافذ منها ينفذ إلى العمق الغائر فيه لأنّ «غائيّة الحدث الأدبي تكمن في تجاوز الإبلاغ إلى الإثارة»(14).

ولكنّ شعر بشّار لا يبحث عن اللّغة الصذافية المصفّاة لا سيما في الغزل كما قلنا وهو الغرض الغالب على الدّيوان بل يجنح إلى لغة بسيطة متداولة لا تثير دهشة ولا عجبا ولكنّها تسحر النّاس وتشيع بينهم لقرب مأخذها وعذوبتها وحسن صياغتها على نحو قوله في اِستهلال إحدى قصائده المدحيّة(15): 

 حَيِّيَا صَاحِبَيَّ أُمُّ العَلاَء

وَ اُحْذَرَا طَرَفَ عَيْنِهَا الحَوْرَاء

إِنَّ فِي عَيْنِهَا دَوَاءٌ وَ دَاء

لِمُلِّم وَ الدَّاءُ قَبْلَ الدَّوَاء

فهي ألفاظ لا تثير الدّهشة ولكنّها بسيطة قريبة المأخذ كما هو بيّن وفي ذلك سرّ إثارتها وسبب سيرورتها واُنتشارها بين النّاس وهو ما نقف عليه في مقطع غزليّ يعتذر فيه للمعشوقة لأنّ الخليفة المهديّ نهاه عن ذكر النّساء والتّغزّل بهنّ يقول(16):

يَا سَلْمَ طَابَ لَكِ الفُـــؤا

د وَ عَزَّ سَخطك فَاُحْتَمَيْتُهْ

وَ الله رَبّ محمّد مَا

إِنْ غَدَرْتُ وَ لاَ نَوَيْتُهْ

أَمْسَكُتُ عَنْكِ وَ رُبَّمَا

    اُعتَرَضَ البَلاَءُ وَ مَا بَغَيْتُهْ

إِنَّ الخَلِيفَةَ قَدْ أَبَى

وَ إِذَا أَبَى شَيْئًا أَبَيْتُهْ

فشعر التوليد على هذا النّحو شعر في ظاهره كسر للبنية التّقليديّة للقصيدة بأقسامها الثّلاثة ودكّ لسنّة الوقوف على الأطلال بل و سخريّة منها ومن الشّعراء الواقفين على الدّيار باكين مستبكين وهو في ظاهره أيضا اِستحداث لأغراض جديدة و توليد لمعان و صور مبتدعة لا عهد للعرب بها ... وهو في ظاهره أيضا تكريس لظاهرة الشّعوبيّة و اُنخراط فيها بدليل أبيات كثيرة قالها بشّار بن برد وأبو نواس في مدح أصلهما الفارسي وفي السّخرية من العرب وبداوتهم و طرق عيشهم.

ولكنّ شعر التّوليد متى أمعنّا فيه النّظر وقلّبنا فيه الفكر نزول بالشّعر من أبراجه العالية إلى أحضان الشّعب الواسع بكلّ فئاته ولا سيّما العامّة المحرومة من أسباب التّرف والمفقرة أيضا لنعم المعارف و العلوم.

فإذا بنا أمام شعراء لا يخاطبون النّخبة بل العامّة ولا يقصرون أشعارهم على الخاصّة وأرباب الحكم و إن مدحوهم و تقرّبوا إليهم بل توجّهوا بها إلى المتلقّي البسيط الذّي وجد في هذه الأشعار ما يفهمه و ما يتأثّر به و ما يطرب إليه.

فشاع هذا الشّعر وراج رواجا مذهلا حتّي جاء في الأغاني للأصفهاني عن نجم بن النطّاح أنّه قال «عهدي بالبصرة و ليس فيها غزل و لا غزلة إلاّ يروي من شعر بشّار و لا نائحة ولا مغنيّة إلاّ تتكسّب به، ولا ذو شرف إلاّ وهو يهابه، ويخاف معرّة لسانه»(17) و«شعبيّة» أشعار بشّار تكمن أيضا في غلبة الخلاعة والمجون عليه. فأغلب أشعار الدّيوان كما ذكرنا سابقا في الغزل وذلك حسب ما يبيّنه الجدول التّالي:

أجزاء الدّيوان الغزل المدح الهجاء الرّثاء الفـخر
1 48 14 14 03 04
2 57 10 09 00 00
3 38 18 23 01 04
المجـــموع 143 42 36 04 08

فالغزل هو الغرض الغالب على الدّيوان وهو إضافة إلى ذلك يفوق الغرض الذّي يليه من حيث الحضور في الدّيوان بأكثر من مائة قصيدة وهذا الغزل يجنح في أغلبه إلى ضرب من التّصريح دون التّلميح فيأتي المعنى سافرا والغرائز فاضحة دون تستّر أو خفاء على نحوه أباح للنقّاد اِتّهامه بالفحش في القول و السّفه. 

وبعيدا عن المعايير الأخلاقيّة التّي نرفض أن نقيس بها جودة الأشعار ونؤكّد أنّها لا تصلح أداة لتقويم الأشعار نرى أنّ سيرورة شعر بشّار قد تعود أيضا إلى ما فيه من فحش ومجون وهنا نقترب من موقف طه حسين دون أن نتبنّاه في كليّته ونقصد قوله في حديث الأربعاء «وأنا أشكّ في قيمة هذا الإجماع الذّي اُنعقد على تقديم بشّار وإيثاره بالإجادة والتفوّق وأزعم أنّ شيئا من هذا الإجماع يعود إلى سفه بشّار»(18) فسفه بشّار ليس سببا في إجماع النقّاد على تقديمه لأنّنا لا نشكّك في مكانة شعره و جودة أشعاره ولكنّه سبب في ذيوعه واِنتشاره وقوّة تأثيره وسيرورته تلك أدّت بشكل أو بآخر إلى تقديمه على شعراء عصره.

وهذا السّفه في أشعاره وتلك الخلاعة السّافرة في أبيات كثيرة من الدّيوان يعدّان ملمحا آخر من ملامح الشعبيّة في تلك التّجربة الشعريّة، شعبيّة بدت أيضا واضحة في الاِختيارات الموسيقيّة الشّاعر فقد اِختار بشّار في غرض الغزل البحور الخفيفة والأوزان القصيرة ووشّى أبياته بموسيقى داخليّة أخّاذة فكان شعره جاهزا للتّلحين معدّا للغناء وهذا ما يسرّ شيوعه بين النّاس لا سيّما وأنّ بشّارا قد أكثر من الرّجز حتّى عرف به وحتّى تفوّق فيه على من عرفوا به ونقصد عائلة رؤبة بن العجّاج والرّجز قريب من العامّة سهل التّلحين خاصّة وأنّ بشّار بن برد قد نقله «إلى طراوة الحضارة واِنحاز به إلى جانب السّهولة» (19).

الخاتمة

ما ينبغي الوقوف عنده في خاتمة هذا البحث نتائج ثلاث هامّة أفضى إليها النّظر في «شعبيّة» أشعار بشّار بن برد.

أّوّلها : أنّ هذه الشعبيّة تعني بالأساس توسيع جمهور «المتلقّين» فالخطاب الشّعري ما عاد يوجّه إلى النّخبة من المثقّفين العارفين بالأدب وأحواله فحسب وما عاد يوجّه إلى الحكّام والسّادة الذين يحتضنون الأدب والأدباء ومن لهم يهم صلة كاللّغوييّن والنقّاد والفلاسفة في بلاطاتهم ومجالسهم وإنّما غدا عند بشّار وغيره من شعراء التّوليد موجّها إلى الجمهور الواسع من عامّة الشّعب بكلّ فئاته وأجناسه وطبقاته ولمّا كان الأمر كذلك أصبح تأثير هذا الشّعر خطيرا وشاملا إذ يشمل قاعدة واسعة من المتلقّين الذّين يقبلون على حفظه والاِستشهاد به فيدعمون سيرورته ويضمنون شيوعه بين النّاس ومن هنا نفهم خوف النّاس من لسان بشّار ومن هجائه اللاّذع لأنّ هذا الهجاء سرعان ما ينتشر بين النّاس فيفتضح أمر من هجاهم، حقّا كان هذا الهجاء أو باطلا(20).

أما النتيجة الثانية التي أفضى إليها هذا البحث فمفادها أنّ شعبيّة الشّعر عنده تجلّت في نواح عديدة  منه، فبدت ملامحها واضحة على مستوى الألفاظ والتّراكيب والأساليب والصّور. كما بدت جليّة من حيث غلبة الغزل على الشّعر وبروز معاني الخلاعة والمجون فيه فضلا عن التطرّق إلى معاني متداولة بين العامّة وذلك في كلّ الأغراض تقريبا. فلا جري وراء المعاني الفخمة الرّصينة والأساليب الأنيقة البديعة ولا الصّور المعقّدة المركّبة بل يسير الكلام في شعر بشّار على نحو بسيط سلس معنى ولغة وأسلوبا يفهمه الجميع دون استثناء. بل قد يسقط في الإسفاف والسّذاجة أحيانا اضافة الى ركوب البحور الخفيفة والأوزان السّريعة والتّعويل على «الرّجز» تعويلا كبيرا.

أما النتيجة الثّالثة والتي علينا أن نؤكّدها في ختام هذا البحث فمفادها أنّ «شعبيّة» أشعار بشّار لم تنل يوما من قيمة صاحبها الشعريّة ولا من مكانته بين الشّعراء سواء عند النقّاد المتقدّمين أو المتأخّرين فقدّم على شعراء عصره ولاسيّما من المولّدين إذ «يجمع الروّاة والنقّاد على أنّه زعيم الشّعراء المحدّثين وهي زعامة تردّ إلى أنّه استطاع أن ينهج له في قوّة السّبيل التي ترسّمها الشّعراء من حوله ومن بعده وهي سبيل تقوم على التمسّك بالأصول التّقليديّة للشّعر العربي من جهة ومن جهة ثانية تفسح الطريق لتجديد الشّاعر العبّاسي بحكم رقيّه العقليّ ومعيشته الحضاريّة»(21). 

وحتّى ما قيل في ذمّ شعره قديما فإنّما نراه متنزّلا في نطاق الصّدمة التي أحدثها هذا الشّعر المستحدث في النّفوس ولا يبرّر إلاّ بتمّسك بالقديم و تعصّب شديد للنّموذج الذّي سنّه الجاهليّون وثبّته من جاء بعدهم من الشّعراء فهو نقد يعكس أزمته الداخليّة حين ظلّ متردّدا بين اِحتفاء بهذا الشّعر المولّد والإعجاب به، والرّفض لما جاء به من جديد لأنّه لا يوافق النّموذج ولا يستجيب للذّائقة. وحسب بشّار أنّه نزل بالشّعر من عليائه وأجراه على ألسنة النّاس ونشره بينهم فكان شعره رمزا من رموز «الشعبيّة» في الشّعر بنية وأسلوبا ومعنى.

 

الهوامش

 

1. يصطلح المؤرّخون على تقسيم العصر العبّاسي إلى ثلاثة عصور وهي: 

* العصر العبّاسي الأوّل و يمتدّ من قيام الخلافة العبّاسيّة إلى أوّل خلافة المتوكّل (من 132 هـ إلى 232 هـ)

* العصر العبّاسي الثّاني من 232 هـ إلى 334 هـ أي من خلافة المتوكّل إلى اِستقرار الدّولة البويهيّة

* العصر العبّاسي الثّتاث من 334 هـ إلى 945 هـ من اُستفرار الدّولة البويهيّة إلى سقوط بغداد على أيدي ألتّتار.

2. نعوّل في ترجمته على الأصفهاني في كتابه الأغاني ط بيروت دت ج 3: فهو بشّار بن برد بن يرجوخ بن أزدكرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهرزاد بن نبوط بن يستاسب. و كان يرجوخ من طخارستان، سباه المهلّببن أبي صفرة و جاء به إلى البصرة و جعله من قنّ اِمرأته خيرة القشيريّة فولد عندها اِبنه بردا. فلمّا كبر برد زوّجته خيرة و وهبته لاُمرأة من بني عقيل. من قيس عيلان كانت متّصلة بها فولدت له اِمرأته بشّارا (91 هـ) فأعتقته العقيليّة لأنّه ولد ضريرا فاُنتسب إلى بني عقيل بالولاء، و لقّب بالمرعّث و كنّي بأبي معاذ.

*  نشأ بشّار في بني عقيل نشأة عربيّة خالصة. فأخذ من بداوة العرب ما به صحّ لسانه و فصح كلامه لا تشوبه لكنة. و قال الشّعر في سنّ مبّكرة. جاء في الأغاني أيضا نقلا عن الأصمعي أنّ بشّارا «كان من أشدّ النّاس تبرّما بالنّاس و كان يقول «الحمد الله الذّي ذهب ببصري لئلاّ أرى من أبغض» و كان فاسقا شديد التعهّر. قتله الخليفة المهدي بتهمة الزّندقة (167 هـ).

3. محمّد نجيب البهبيتي، تاريخ الشّعر العربيّ، حتّي آخر القرن الثالث الهجري، نشر دار الثّقافة، الدّار البيضاء المغرب 1982 ص 352.

4. المرجع السّابق ص 352 – 353.

5. هاشم منّاع بشّار بن برد حياته و شعره، نشر دار الفكر العربي ط،1، 1994 ص 97.

6. بشّار بن برد، الدّيوان، جمعه و شرحه و كمّله و علّق عليه الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور، نشر الشركة التونسيّة للنّشر والتّوزيع تونس والشركة الوطنيّة للنّشر والتّوزيع – الجزائر، جانفي 1976 ج 3 ص 142.

7. المصدر نفسه، ج1، ص 132

8. بشّار بن برد، الدّيوان، ج 2 ص 15

9. أبو عبيد الله محمّد بن عمران المرزباني، الموشّح في مآخذ العلماء على الشّعراء تحقيق النّهضة، مصر، 1965، ص 248.

10. المصدر السّابق، ص 249.

11 . بشّار بن برد، الدّيوان، ج 3 ص 147.

12. حسين الواد، اللّغة الشّعر في ديوان أبي تمّام، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 2005، ص 41.

13. المرجع السّابق ص 161 – 162.

14. عبد السلام المسدّي، الأسلوبيّة و الأسلوب، الدّار العربيّة للكتاب، ط 3 1982 ص 42.

15. بشّار بن برد، الدّيوان، ج 1 ص 132

16. المصدر السّابق، ج 2 ص 19

17. أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، ج 3 ص 21

18. طه حسين، حديث الأربعاء، الشّركة العالميّة للكتاب ط1، 1980، ص 195.

19.مصطفى الشّكعة، الشّعر و الشّعراء في العصر العبّاسي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 3، 1979، ص 15.

20. جاء في الأغاني أنّ النّاس كانوا يخافون لسان بشّار فيشكونه إلى برد أبيه فيضربه ضربا شديدا فكانت أمّه تقول: «كم تضرب هذا الصبيّ الضّرير، أما ترحمه ! فيقول «ويلي و الله إنّي لأرحمه و لكنّه يتعرّض النّاس فيشكونه إليّ» فسمعه بشّار فقال له:يا أبت إنّ هذا الذّي يشكونه منّي إليك هو قول الشّعراء و إنّي إن ألممت عليه أغنيتك و سائر أهلي و إن شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول: «ليس على الأعمى حرج» فلمّا عاودوا شكوه، قال لهم برد ما قاله بشّار فاُنصرفوا وهو يقولون « فقه برد أغيظ لنا من شعر بشّار». الأصفهاني، الأغاني، ج 3، ص 208.

21. شوقي ضيف، العصر العبّاسي الأوّل، دار المعارف، الطّبيعة 9، ص 207.

 

الصور

*  من الكاتبة.

أعداد المجلة