فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
37

رحلت النبيلة ذات الهمة

العدد 37 - جديد النشر
رحلت النبيلة ذات الهمة
كاتبة من مصر

فقد الوسط الفولكلوري العربي واحدة من رواد الثقافة الشعبية، والتي أثرت المجال بعشرات الدراسات المهمة في حقل الثقافة الشعبية عامة، والأدب الشعبي خاصة، رحلت الأستاذ الدكتورة نبيلة ابراهيم (1929 – 2017) الشهيرة بذات الهمة، ونبيلة إبراهيم هي أستاذة الأدب الشعبي بجامعة القاهرة، وقد حصلت على درجة الماجستير حول “روميات المتنبي” والتي كانت مدخلاً لدراستها للحصول على الدكتوراه من جامعة جوتنجن بألمانيا عام 1966 حول “سيرة الأميرة ذات الهمة”. وعملت عميدًا للمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بالقاهرة بين عامي 1987 و1989. وقد عاشت حياتها في بحث التراث الشعبي العربي واستخراج مضامينه ورموزه بعقلية الناقد المستنير.. فكانت دراساتها حول أشكال التعبير في الأدب الشعبي، والبطولات العربية، وفنون القص الشعبي، وترجماتها “للفولكلور في العهد القديم”، و“الحكاية الخرافية” من أبرز ما قدمته للثقافة العربية على مدى أكثر من نصف قرن. ونبيلة ابراهيم هي زوجة الناقد الراحل عز الدين إسماعيل. وسوف نعرض في هذا العدد ملفًا حول سيرتها العلمية الرائدة كخطوة في طريق العمل على توثيق تراث رواد تراثنا الشعبي العربي الحديث.

اهتمام نبيلة ابراهيم بقضايا الأدب الشعبي العربي

اهتمت نبيلة ابراهيم - خلال رحلتها العلمية ضمن أبحاثها المنشورة - بالتعريف بالأدب الشعبي العربي، وجمعه وتحليله بالمناهج العلمية الحديثة، إذ يسجل تاريخها في هذا المجال جهدًا واضحًا في بحث القصص الشعبي وخاصة الحكايات الخرافية التي سنجد لها دراسة موسعة ومترجمة في أعمالها المنشورة، وقد ظهر اهتمامها المبكر بقضايا المرأة في التراث الشعبي العربي، منذ دراستها في مرحلة الدكتوراة حول سيرة الأميرة ذات الهمة التي سنعرض لها، غير أنها قدمت لنا أيضًا دراسة مبكرة في هذا الإطار بعنوان «المرأة في الحكايات والخرافات الشعبية (1965)، كما اهتمت بدراسة اللغز في الأدب الشعبي (1965). ثم مقالتها حول سيرة الأميرة ذات الهمة (1969). ثم تتابعت دراساتها حول الحكايات الخرافية فكتبت عام (1969) عن أمنا الغولة، والرجل الذي هبط من السماء، ثم أحلام في النهار: قصص أسطوري عربي(1970)، وفي العام نفسه نشرت مقالاً مهمًا بعنوان «منشد الشعب» (1970). وفي مطلع عقد السبعينيات كتبت حول الفولكلور في التراث العربي (1971)، وشاركت في العام نفسه ضمن حلقة العناصر المشتركة في المأثورات الشعبية في الوطن العربي التي أقيمت بمصر بدراسة حول «المأثورات الشعبية: الفنون القولية الخاصة بتقاليد الأسرة واحتفالاتها في الولادة، الزواج، الوفاة». ثم قدمت دراسة موسعة حول الحكايات الشعبية العربية(1971). والحكايات الشعبية في ضوء التفسير النفسي (1973)، كما اهتمت ببحث المعتقد الشعبي العربي في دراستها المهمة حول اليمين والشمال في التراث العربـي (1977)، والإنسان والزمان في التراث الشعبي (1978). كما قدمت دراسة عن «الأسطورة» ضمن الموسوعة الصغيرة ببغداد (1979). واهتمت بتوثيق الحكايات الشعبية العربية من خلال دراستها حول القصص الشعبي: جمعه وتصنيفه (986). ثم نشرت دراستها حول التحاور الفني مع التراث عام (1994). وتتابعت دراسات نبيلة ابراهيم المهمة فكتبت حول الرمز والأمثولة في التعبير الشعبي (1996)، ثم قدمت دراستها الشهيرة حول المنهج الوظيفي في دراسة حياة الشعوب (2001)، وعرضت لمعجم الفولكلور لعبد الحميد يونس (2010). وقد نُشرت معظم هذه الدراسات بمجلة الفنون الشعبية المصرية. وقد لخصت هذا الاتجاه في كتابها الذي يحمل عنوانًا إبداعيًا «درة الغواص في التعبير الشعبي»، والتي أشارت فيه إلى أن مفهوم الموروث الشعبي يبدو أنه قد استقر فى أذهان كثير من المثقفين، و ربما فى أذهان غيرهم من عامة الناس، بوصفه مجموعة من الممارسات والأقوال التى تسربت على مسار الزمن إلى الرصيد المعرفي لجماعة من الجماعات أو أمة من الأمم معلنة عن انتمائها إلى الزمن القديم، و أنها لذلك يمكن أن يستغنى عنها، دون أن يكون لهذا أثر في المكون الثقافي العام.

أبرز مؤلفات نبيلة ابراهيم

قدمت نبيلة للمكتبة العربية العديد من الكتب التي تعد علامة بارزة في حركة بحث الفولكلور العربي المعاصر، ومنها كتابها الشهير «أشكال التعبير في الأدب الشعبي»، وكتابها حول «البطولات العربية والذاكرة التاريخية»، وكتاب «سيرة الأميرة ذات الهمة»، و«البطولة في القصص الشعبي»، و«الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق»، و«فن القص بين النظرية والتطبيق»، و«قصصنا الشعبي من الرومانسية إلي الواقعية»، و«من نماذج البطولة الشعبية في الوعي العربي»، و«المقومات الجمالية في التعبير الشعبي»، و«نقـد الروايـة من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة». وسنعرض في الجزء التالي لما تيسر لدينا من هذه الدراسات المهمة.

أشكال التعبير في الأدب الشعبي

يعد كتاب أشكال التعبير في الأدب الشعبي من أهم وأشهر الكتب التي قدمتها نبيلة ابراهيم للمكتبة الفولكلورية العربية، وقد صدرت طبعته الثالثة بالقاهرة عام 1981 عن دار المعارف في 286ص، وقد طرحت نبيلة إبراهيم في هذا الكتاب مجموعة من التساؤلات المحورية التي كانت تشغل الوسط الفولكلوري في هذا الوقت منها: لماذا كان هذا التراث شعبيًا؟ وما الفرق بين الشعبي والفردي؟ وهل هناك ضرورة لوجود النوعين لا على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العالمي؟.. وما السبب في تعدد الأشكال في التعبير الشعبي؟. والكتاب على هذا النحو دراسة لأنواع الأدب الشعبي المختلفة (الأسطورة - الحكاية الخرافية - الحكاية الشعبية - المثل - اللغز - النكتة - الأغنية الشعبية) بهدف الكشف عن دوافعها الروحية، ووظيفتها، وتكوينها، وخصائصها. ويتألف من مقدمة وتسعة فصول، حيث تعالج المؤلفة في المقدمة مشكلة تأليف الأدب الشعبي، فعلى الرغم من فردية التأليف الشعبي، فإنه جماعي في الوقت نفسه لأنه عندما يستقبله الشعب يصبح على الفور تراثه الذي يعبر عن خلجاته واهتماماته الروحية. ثم تناقش مشكلة تحديد مفهوم الشعبية التي تعني إحساسًا يصعب تفسيره يربط بين أفراد أية جماعة تشترك في خصائص نفسية ومعيشية معينة لارتباطها بالمكان، وإحساسها العميق بوحدة الكون، وارتباطها بالطبيعة المحيطة بها. ويعالج الفصل الأول الأسطورة Myth ويعرفها بأنها تعني الكلمة المنطوقة التي تختص بالآلهة وأفعالهم ومغامراتهم، ومحاولة تفسير ظواهر الكون عن طريق الخيال. ويفرق هذا الفصل بين الأسطورة والنبوءة عند الإغريق، ويناقش معرفة العرب بالأساطير إذ شغلتهم الظواهر الكونية وكان لديهم مرويات ومعتقدات وتصورات وديانات ولكنها لم تصل إلى الأسطورة الكاملة لسببين أولهما أن العصر الجاهلي المتأخر لا يمثل العصر الأسطورى، وثانيهما أنه قد تكون هناك أساطير عربية قديمة ولكنها مُسخت أو حُرفت أو اندثرت بعد ظهور الإسلام. وتُقسم نبيلة ابراهيم الأساطير إلى خمسة أنواع هى:

1 الأسطورة الطقوسية: التي تتناول الظواهر الكونية كالعلاقة بين الأرض والسماء وخلقهما، وظواهر الجدب والخصب ومن أمثلتها أسطورة إيزيس وأوزوريس المصرية.

2 الأسطورة التعليلية: التي تفسر الأشياء باصطناع أسلوب منطقي كتعليل ظهور الشمس دون النجوم وظهور القمر بصحبتها.

3 الأسطورة الحضارية: التي تكشف عن صراع الإنسان مع الحياة ومحاولته تعدي المستويات الحسية إلى المستويات المعنوية في التفكير ومثالها أسطورة أسديوال لدى الهنود التشمانيين الذين درسهم ليفي شتراوس والتي يفسرها بأنها تعكس نظامًا اجتماعيًا أسريًا أموميًا، ومجالاً اقتصاديًا للحياة الرعوية لدى الهنود التشمانيين. ومنها كذلك بقايا لقصة عربية من قبيلة مراد كانت تقدس نسرًا يأتيها كل عام فينبئها بمستقبلها. ولكن رجلاً من قبيلة همدان قتلة فنشبت الحرب بين القبيلتين إلى أن فرق بينهما الإسلام.

4 الأسطورة الرمزية: التي توظف بها الشخوص الأسطورية بدرجة ما على نحو رمزي، ومن أمثلتها أسطورة مينيرفا آلهة الحكمة والفن عند الإغريق وصراعها مع آراضنى الفتاة البارعة في صناعة الغزل.

5 أسطورة البطل المؤله (الخالدة) التي يحاول فيها الإنسان أن ينزع من الآلهـة ما لا يمكن وهو الخلود ونموذجها أسطورة البطل البابلي جلجامش أو ملحمته المشهورة.

ثم تنتقل المؤلفة لدراسة أساطير الأخيار (الأولياء) وأساطير الأشرار التي نتجت عن مرحلة متطورة من التفكير الشعبي بعد ظهور الأديان السماوية، وهي تدور حول إنسان واقعي، لكنه يعيش حياة خاصة مملوءة بعمل الخير وتسانده السماء، ومن ثم تتحقق تصورات الشعب حوله في القدرة على الإتيان بالكرامات والمعجزات مثل على بن أبي طالب الذي تدور حول شخصيته معتقدات كثيرة وبخاصة قصة كرامته في غزوة تبوك. أما أساطير الأشرار فإنها تدور حول شخصية إنسانية يساندها الشيطان فتحل عليها لعنة السماء ومنها أسطورة الحذَّاء الذي لعنه المسيح، وأسطورة أمية بن أبى الصلت الذي ادعى النبوة. وتعالج في الفصل الثالث الحكاية الخرافية من حيث تاريخ الاهتمام بجمعها في أوروبا وظهور مجموعة بوكاشيو المسماة «دي كاميرون»، ثم الوصول إلى ذروة الاهتمام بها في القرن التاسع عشر على يد الأخوين جريم في ألمانيا، إلى أن ألف فريدريش فون ديرلاين مؤلفه عن الحكاية الخرافية ولفت فيه الانتباه إلى أهميتها من الناحية الفنية. ويناقش هذا الفصل المساجلات التي دارت بين الأخوين جريم وفون أرنيم في هذا الصدد. ومن خلال نموذج مصري للحكاية الخرافية «الليمونات الثلاث» تربط المؤلفة مراحل نمو البطل بمراحل الحكاية وهي: مرحلة الاندفاع للمغامرة، ومرحلة معرفة الشيء وعدم معرفة كنهه، وأخيرًا مرحلة معرفة كنه الشيء. وتشرح خصائص الحكاية الخرافية من حيث أن أحداثها تقع في عالم مجهول فيه الجن والغيلان والنساء الساحرات، وأن عالمها تجريدي ذو بعد واحد، وأن شخوصها تميل إلى التسطيح فالبطل تنقصه التجربة وهو شكل بدون جسد تختفي لديه الأبعاد الزمانية والمكانية، وتتمثل في الأبطال خاصية التسامي وأسلوب الانعزال عن الزمان والمكان. وأما عن وظيفتها فهى تحقق للإنسان الشعبي حياة العدالة والحب وتقدم له جوابًا شافيًا لتساؤلاته. والحكاية الخرافية مليئة بالرموز الأدبيـة والنفسية فالكلمة الطيبة تحول الرجل الممسوخ إلى رجل جميل، وهي تعكس تجارب النفس الداخلية في تجارب اللاشعور كما يرى يونج. وللحكاية تأثيرها الكبير في الأدباء سواء عن طريق مباشر أو غير مباشر وبخاصة في أدب اللامعقول عند توفيق الحكيم في مسرحياته «يا طالع الشجرة» و «رحلة صيد».

أما موضوع «الحكاية الشعبية» فتعرفها المؤلفة بأنها «الخبر الذي يتصل بحدث قديم مهم ينتقل عن طريق الرواية الشفوية. وهى نوعان أولهما ينشأ بدافع التمسك بوحدة الأسرة او القبيلة أو الشعب. ومن أمثلتها حكاية الأسكندر الأكبر العربية، وحكاية الملك عمر النعمان التي وردت في ألف ليلة وليلة والتي تعكس أحوال الدولة الإسلامية في علاقتها مع الروم وتركز على الواقع السياسي والاجتماعي حينذاك، ولذا فمحاوراتها واقعية، وتحدد حوادثها بالزمان والمكان وتعبر عن آمال الشعب في عصر من العصور. أما ثانيتها فهو النوع الذي يعالج الأحوال الاجتماعية والأخلاقية مثل حكاية الصياد والثور التي تلخص المغزى الأخلاقى لمن يتحول حاله بعد الغنى «لما يشبع يرفس» وتعقد في نهاية الفصل مقارنة للحكايات الشعبية حول الاسكندر الأكبر في الحكاية الفرعونية، والإغريقية، والعربية.

وتخصص نبيلة ابراهيم الفصل الخامس لميلاد البطل في كل من الأسطورة والحكاية الخرافية والحكاية الشعبية من خلال عرض النماذج الممثلة وفقًا للتفسير النفسي عند يونج وأتو رانكه الذي يربط بين الأحلام والنبوءات التي ترتبط بالطفل (البطل)، وبين عداء الأب للطفل بما يسمى بالإسقاط. فالحقد على الإبن الذي سيصبح بطلاً نوع من هذا الإسقاط. والطفل الذي يوضع في صندوق في الماء رمز للطفل في رحم الأم، ثم يعثر عليه إنسان رحيم يأخذه ويرعاه فيسعى إلى تحقيق ذاته الكاملة فيما يسميه يونج النموذج الأصلي للطفل. وهذا كله جزء حي ضرورى في حصيلتنا النفسية وفي محتوى اللاشعور الجمعي. أما الميلاد المعجز للبطل والمغامرات التي يمر بها منذ إبعاده وحتى انتصاره فتشير إلى الطريق الذي تخوضه النفس كتجربة في سبيل تحقيق ذاتيتها. ويعالج الفصل السادس المثل الشعبي فيورد الاهتمام بالأمثال لدى القدماء مثل الميداني وابن عصمان، وإلى اهتمام المحدثين به مثل أحمد تيمور باشا وأحمد أمين وغيرهم. ويناقش التفريعات العربية للمثل عند محمد رضا وأحمد أمين الذي يعرفه بأنه «نوع من أنواع الأدب يمتاز بإيجاز اللفظ وحسن المعنى ولطف التشبيه، وجودة الكتابة، ولا تكاد تخلو منها أمة من الأمم. ومزية الأمثال أنها تنبع من كل طبقات الشعب». كما يعرض لتعريف زايلر ويناقش رأيه في أن للمثل طابعًا شعبيًا تعليميًا، ويحدد خصائص المثل اللغوية واللفظية مثل: استخدام الألفاظ استخدامًا فنيًا (الجار ولو جار)، والتركيب غير الموحد، والجُمل المتعارضة (فى الوش مراية وفى القفا سلاية)، والتنوع والتعارض والتكرار (حبيب ماله حبيب ماله … عدو ماله عدو مــالـــه)، والحــركــة الاجتــمــاعــية، والتكــويــن المنـطقي، والصورة الواقعية في المثل. ثم يعرض الفصل لمظاهر اختلاف المثل عن الحكم والأقوال السائرة، وقيمة الأمثال في الكشف عن القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تسود في المجتمع مثل النظرة إلى المرأة، والصبر على الجار، والحماة والزوجة، والاستسلام للقضاء والقدر …إلخ.

وفي إطار تناولها لموضوع اللغز الشعبي تقدم المؤلفة تعريفًا للغز وأسباب نشأته والعلة وراء طرح اللغز وحله في مناسبات بعينها لدى الشعوب المختلفة كمناسبات الزواج، وغرس الزرع، والختان، والوفاة بما يفسر وظيفته في طرد الأرواح الشريرة كما كانت تعتقد بعض هذه الشعوب. وتورد نماذج للألغاز المشهورة مثل لغز بلقيس مع سليمان، ولغز أوديب الشهير أو (لغز أبى الهول)، واللغز الذي طرح على الإسكندر. ثم كيف أصبح اللغز بابًا طريفًا للسمر، من حيث أنه يتطلب سائلاً ومسئولاً يحاول جاهدًا حل اللغز، فإذا نجح في ذلك ارتاحت نفسه. وتعرض لأنواع الألغاز : ألغاز الامتحان، الغاز المغالطة، والألغاز المثلية. وتناقش كذلك التقاء بنية المثل باللغز في خمسة أمور الاستعارة والمجاز، العنصر الثابت، العنصر المتغير، الصورة الكلية، الإجابة والحل. ثم تعرض لتأثر الروايات البوليسية الحديثة باللغز. وفى الفصل الثامن تعرف النكتة بأنها خبر قصير في شكل حكاية أو لفظ يثير الضحك، والباعث على خلقها دافع نفسي جماعي لأنها تعبر عن السخرية من الواقع بإلغاء العلاقة بين الممكن والواقع، وتحاول إيضاح خصائص النكتة في :

1 لها شكلها التعبيري الخاص.

2 لها أثر نفسي وهو المتعة.

3 تسد احتياجات نفسية خفية للإنسان.

4 تخلق جوًا من المرح.

5 تتطلب شخصين على الأقل.

6 تلمح لشيء خفي.

أما أهم أنواع النكتة فتتحدد في نكات المحرمات (الجنسية والسياسية)، وتورد رأي فرويد في الربط بين النكتة والحلم. وفى الفصل الأخير يأتي دور الأغنية الشعبية التي تقسمها وفقًا للوظيفة التي تؤديها إلى:

1 أغنيات المناسبات الاجتماعية.

2 أغاني العمل.

3 الموال.

وتناقش أهمية الأغاني في الكشف عن النظام الواقعي للمجتمع فأغاني الأفراح مثلاً تكشف عن بعض القيم الاجتماعية كالإشارة إلى الأصل الطيب والسمعة الطيبة التي يجب أن تتمتع بهما الفتاة المرغوبة، وتفضيل الزواج من ابن العم، وقيمة المهر…إلخ. أما أغاني العمل فإنها تحث على العمل في إيقاع واحد، وتعين على قتل الوقت مثل أغاني الصيادين. والموال يدور أغلبه عن رصد للحياة، وتمجيد الأصيل وذم الخسيس أو الشكوى من الزمن الغدار الذي يعلي من شأن الأنذال. وأخيرًا يناقش هذا الفصل نموذجًا للموال القصصي.

الأميرة ذات الهمة

رسالتها لنيل درجة الدكتوراة

تعد دراسة نبيلة ابراهيم حول سيرة الأميرة ذات الهمة هي الدراسة العربية الأولى حول هذه السيرة، وهي الأطروحة التي تقدمت بها لنيل درجة الدكتوراه بالألمانية من جامعة جوتنجن عام 1966، ثم نشرتها في كتاب طبع عدة طبعات آخرها الطبعة الخامسة عام 1994 عن المكتبة الأكاديمية بالقاهرة في 229 صفحة. وتعد الدراسة من أوائل الدراسات العربية المقارنة بين الأدب الشعبي العربي والأدب الشعبي البيزنطي، فهي ترصد العلاقة بين العرب والبيزنطيين من خلال السير الشعبية. وتوضح المؤلفة أن هذا الكتاب «لم يهدف إلى أن يقدم للقارئ العربي دراسة عن سيرة من السير العربية التي ربما لم تكن أشهرها وأكثرها ذيوعًا، ولكنه يهدف أولا وأخيرًا إلى أن يبرز قيمة هذه السيرة بوصفها تعبيرًا جمعيًا عن إحساس الشعب العربي بحركة الحياة من حوله سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا. فقد كان الشعب العربي يحس تلقائيًا بأن حضارته، وقت ازدهار رواية هذه السيرة، حسبما توصلنا إليه اجتهاديًا، تسير في طريق وعر، وأن هناك قوى ظاهرة وخفية تتربص بها، ومن هنا كان الانفعال الجمعي، ومن هنا كان التعبير الجمعي». وتمهد المؤلفة للموضوع بمدخل عن الأدب الشعبي ودوره في الحياة الفكرية، وتعدد جمهور العلماء والدارسين في مجال القصص الشعبي بصفة خاصة، كما تعرض لرؤية الشعب في تصويره للبطولة بصور متعددة مما جعل الأدب البطولي ظاهرة علمة عند جميع الشعوب، وأسهم في إفراز كثير من الدراسات المقارنة حول هذا الأدب الذي تتحـدد سماته في أنه يتجـه اتجاهًا موضـوعيًا، كما يتسم بالواقعية، ويستخدم ما يعرف بآلية السرد، وأخيرًا يتوفر فيه التكرار ووفرة التشبيهات النمطية…إلخ.

وتقدم نبيلة ابراهيم ملخصًا لسيـرة الأميرة ذات الهمة الطويلة وهى السيرة التي تدور أحداثها حول هذه البطلة العربية وتحرص السيرة على أن تضرب بجذورها إلى عمق تاريخي، فترجع نسبها إلى الصحصاح بن جندبة ابن الحارث وهم جميعًا أبطال. أنجب الحارث ظالمًا ومظلومًا، وكان ميلاد ذات الهمة يمثل أزمـة لوالدها مظلوم لأن اتفاقًا حصل بينه وبين أخيه ظالم بأن من يرزق الولد الذكر يكون له الملك دون الآخر، وإذا رزقا ولدين تصبح الإمارة مشتركة بينهما. وكان أن ولدت فاطمة (ذات الهمة) لمظلوم. وأغارت قبيلة طيءعلى بني كليب، وأخذت فيمن أخذت من الأسرى ذات الهمة وأخوها في الرضاع مرزوق فنشأت ذات الهمة في طيء. وتذكر السيرة أن سبب لقبها هو أن كثيرين من رجال طيء حاولوا الاعتداء على عفافها لكنها قتلتهم. وقد تزوجت ذات الهمة ابن عمها ظالم (على غير رغبتها) حين وسط الخليفة المنصور الذي قالت له صراحة «إن سيفي جملي والغبار كحلـي والحصان أهلي فما الذي أصنع يا أمير المؤمنين بالحارث وبغيره من العالمين». ولم يستطع الحارث أن يقضي منها وطرًا إلا بعد أن وضع لها البنج في الشراب، فأنجبت طفلهما عبد الوهاب الذي ولد أسود اللون فرفض أبوه بنوته، ودار الصراع بين ذات الهمة والحارث، مما جعلها تترك القبيلة وتقسم أن تحارب أعداء الدين الإسلامي في الثغور. واجتازت بذلك طقسًا من طقوس عبور البطل الشعبى. وتستطيع ذات الهمة أن تلملم جيش المسلمين وتواجه الروم وتنتصر عليهم. ثم تتساءل المؤلفة في فصل عقدته للمقارنة بين السيرة والتاريخ أين ومتى ألفت السيرة ؟ من المحتمل أن السيرة جمعت بين أخبار كانت تروى في زمن الجاهلية والعصر الإسلامي وعصر بني أمية وعصر بنى العباس، وأن القاص استغل تلك المادة المروية في خلق حكاية مكتملة تمثل أصول الدولة الإسلامية، ومن ثم ترجح أنها كانت تروى مكتملة بعد عصر المعتصم. وتسوق لذلك أسبابًا عديدة بالإضافة إلى أن بعض حوادث السيرة تشير إلى الحروب الصليبية، معنى ذلك إنها صدى للحوادث التي عاشتها السيرة في أثناء روايتها. أما المكان الذي يعد منشأ السيرة فربما تكون منطقة الثغور أي بلاد الشام. وأما الشخصيات فمعظمها - إذا استثنينا شخصيتي ذات الهمة وعقبة اللتين لم يستدل على أصلهما التاريخي - تاريخية. فقد كانت هناك علاقة عدائية بين بني كلاب وبنى سليم ترتكز على أصل تاريخي، وكانت هناك علاقة بين بنى كلاب والروم تقوم على العداء. وجل الحوادث تنبع من أحداث تاريخية، لأن الدولة الإسلامية مرت في تلك الحقبة بحوادث داخلية خطيرة من ثورات ضد الاضطهاد الديني. ومن الطبيعي أن تترك هذه الحوادث أثرًا في القصص البطولي في منطقة الثغور، ولذلك فسوف ندرك أثرها الواضح في الملاحم البيزنطية. وليس أدل على ذلك من وصف معركة عمورية. فالسيرة تاريخ شعبي اعتمد على الرواية الشفوية. والسيرة بعد هذا مستوفية لخصائص العمل الروائي من خلال ثلاثة أمور :

1 شخصيات السيرة.

2 السيرة بوصفها عملاً أدبيًا فنيًا.

3 السيرة بوصفها فنًا شعبيًا.

فبعد أن تستعرض المؤلفة أهم شخصيات السيرة وهى ذات الهمة، وعبد الوهاب، والسيد البطال، وعتبة السليمى، وبعد أن تذكر المحاور التي تدور حولها حوادث السيرة تنتقل إلى شخصية الخليفة التي تقف السيرة عند كل منهم فتصور أهم أحداث عصره السياسية من ناحية، وعلاقته بأسرة بنى كلاب من ناحية أخرى. وتبلور السيرة دور الراهب الإيجابي في الحروب العربية البيزنطية. والسيرة تصل إلى هدفها الفني في البحث عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وإبراز مشكلات الدولة ممثلة في عقبة، وفى العدو الخارجي المهدد لكيان الدولة الإسلامية. وقد حاولت السيرة رغم طولها البالغ أن تؤكد على المشكلة الجمعية للعرب والمسلمين من خلال تمركزها حول هدفها الأصلي بأسلوب البسط واللم.

وإذا كانت السيرة تشترك مع سائر أشكال التعبير الشعبي في خصائص عامة، فإن لها سماتها الخاصة بها. فأما العامة فتتمثل في احتوائها على تصورات الشعب ومعتقداته كالاعتقاد في الأحلام، وفى قوة الكلمة، وبالسحر. وهى تعبر عن اللاشعوري الجمعي، الذي يتمثل في صور البطل منذ ان يولد حتى يبلغ مرحلة النضج والكمال. وأما الخصائص الخاصة، فإنها تمثل مرحلة من التفكير الشعبي، وأنها تتصل بموضوعها وهو بطولة الفرد الممثل للمجموع أي البطولة الشعبية. ومثل سيرة ذات الهمة كانت حكاية عمر النعمان وهى إحدى حكايات ألف ليلة، لأنها تتخذ من الصراع العربي البيزنطي موضوعًا لها. فهناك علاقة تشابه قوية بينهما لأنهما يتفقان في هدفهما كل الاتفاق. وكلاهما يرتكز على موضوع الحرب بين العرب والروم. وتتحدث السيرة عن أسرة بنى كلاب، وبالمثل تتحدث حكاية عمر النعمان عن أسرة الملك النعمان.

وعندما تستعرض المؤلفة ملحمة وايجنيس من الأدب الشعبي البيزنطي، ترجع الملحمة نسبة بطلها إلى أمير عربـي هجر أصله وترك دينه وتزوج من أميرة رومية كان قد سباها فانجب منها ديجينيس الذي نشأ مغامرًا شجاعًا سواء في الحب أو الفروسية. وقام ديجينيس بنفس الدور الذي لعبته ذات الهمة، فهو يقيم في الثغور البيزنطية ليدافع عن الدولة، وهو يتزوج من فتاة عربية. وقد حقق ديجينيس أملاً عريضًا كان يراوده أبدا وهو نشر الهـدوء والطمأنينة في سوريا والفرات. وهذه الملحمة التي عثر لها على ما يزيد عن ست مخطوطات بدأت عليها الدراسات التي بحثت في أصلها الأول، وفى نسب ديجينيس وفتاته التي ورد ذكرها في الملحمة. وقد لفت نظر الباحثين في الملحمة أنها تتضمن أسماء وحوادث تاريخية موثوق في أكثرها، بالإضافة إلى بلدان يقع أكثرها في الثغور في سوريا، ومن هؤلاء الدارسين من يجعل كاتب الملحمة مؤرخًا، ومنهم من يقف على الطرف المقابل الذي يذهب إلى أن مؤلف الملحمة كان قاصًا رومانتيكيًا

وبعد أن تفرغ المؤلفة من مناقشة الآراء حول الملحمة تنتقل إلى نقد الباحثين الذين يغفلون الروح الإسلامي العربي في ملحمة ديجينيس لحرصهم على النظر إليها من زاوية بيزنطية صرف، وتدلل على أن الملحمة جزء واحد لا جزأين كما ادعى بعض الدارسين من أن أحد أجزائها عربي يمجد بطولة عمر بن عبيد الله وولده، وآخر بيزنطي يمجد بطولة ديجينيس. ثم تورد بعض الأغنيات الشعبية البيزنطية وأهمها أنشودة عمورية التي فتحها المعتصم وضربها سنة 838، وأنشودة خرزانيس التي لا تخل من نفحة من نفحات المشرق وتتفق مع حكاية عمر النعمان العربية من عدة وجوه. وتفرد نبيلة ابراهيم بابًا كاملاً للمقارنات بين سيرة ذات الهمة، وملحمة ديجينيس فتؤكد على العلاقة القوية بينهما، ومن ثم بين الأدبين الشعبيين العربي والبيزنطي وتداخلهما. وتستدل بما جاء في كتب التراث العربي كنهاية الأرب للنويرى، وبآراء بعض الباحثين الأجانب على العلاقة القوية بين الأثار الأدبية للشعبين العربي والبيزنطي، ويتضح ذلك من خلال الأفكار الأساسية إذ كانت كلتا الدولتين العربية والبيزنطية تعانيان تفككًا في الداخل نتيجة الثورات وصراعًا من الخارج. كما أن صورة البطل طبيعي أن تتشابه في كل من الأدبين، فشخصية ذات الهمة شديدة الشبه بديجينيس. أما الموضوعات العامة فتتمثل في اتفاقهما في موضوع القتال، وفى مواقف الشخصيات كما هو واضح في حكاية عمر النعمان وديجينيس. وهكذا تكشف المقارنة عن العلاقة بين الأدبين العربي والبيزنطي، وعن العلاقة بين الشعبين التي وان اتخـذت شكلاً عدائيًا، فإنها لا يمـكن أن تفهـم من وجهـة نظر التاريخ وحـده، ولذا فـإن دراسـة التاريخ بعيدًا عن الأثـار الأدبية دراسة ناقصة.

البطولات العربية والذاكرة التاريخية

يعد هذا الكتاب من الدراسات العربية المهمة التي تبرز تاريخ المنطقة العربية من خلال البطولات التي سجلها المؤرخون والمبدعون العرب على مدى التاريخ، والكتاب نشرته المكتبة الأكاديمية بالقاهرة عام 1995 في 307 صفحة. ويبرز الكتاب مدى انشغال الوعى العربي بالبطولات العربية الممتدة منذ بطولة الرسول (صلعم) الذي يمثل النموذج الأعلى للبطولة الإسلامية، ثم سيرة على بن أبى طالب بوصفها المثال الذي نسجت على منواله بطولات الأولياء، إذ لم يتوقف انشغاله عند سيرة الرسول الكريم، وإنما كان الوعى قويًا بأهمية استمرارية البطولة المثالية، فخلد بطولات عربية أخرى في سيرة عنترة، والملك سيف بن ذي يزن، وذات الهمة، والظاهر بيبرس، وغيرهم. وقد كان ذلك كله تعبيرًا عن الظروف التاريخية التي كان فيها الإسلام مهددًا بأخطار خارجية، وكانت الدولة الإسلامية مهددة من الداخل أو من الخارج. ويبدأ الكتاب ببحث السيرة النبوية والوعى العربي بالتاريخ، ويشير إلى دور ابن اسحق في تدوين السيرة النبوية، ثم دور ابن هشام المتوفى 213 هـ في تدوينها كاملة بأمر الخليفة أبى جعفر المنصور الذي طلب من ابن هشام أن يصنف كتابًا في التاريخ، فكان تدوينه للسيرة النبوية، وذلك بوصف الرسالة المحمدية حدثًا فصل بين عصرين، عصر الجاهلية وعصر الإسلام. وقد كانت أهمية السيرة النبوية في أنها أتت بثلاثة أنواع من الأخبار:

بعض جوانب الحياة القبلية كالصراع بين عبد مناف وعبد الدار في بئر زمزم.

أخبار تكشف القناع عن الأديان السماوية.

أخبار النبوءات المبشرة بالدعوة المحمدية.

ولكن السيرة بعد هبوط الوحي تفسح المجال للتاريخ فمع أن النبي يصور بطلاً منذ ولادته، فقد كانت أهميتها في ظهور قصص الأنبياء مثل قصة إبراهيم، وقصص المعجزات المدونة التي تتحدث عن الحياة الدينية والولادة المعجزة، والصراع مع قوى الشر، وبما يدفع إلى القول أن الرواة اعتمدوا على خيالهم كثيرًا.

وينتقل الكتاب إلى بطولة علي ابن ابى طالب والذاكرة التاريخية فيرى أن الباعث على تأليف القصة الشعبية لعلي بن أبى طالب مختلفة عن التاريخ، وكان الهدف من السيرة إبراز بطولته النموذجية، مما يظهر دور حلقات القص، ويظهر كذلك دور عدد كبير من الشخصيات التي اهتمت بتدوين القصص مثل وهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبيد بن شريه الجرهمي. أما عن تأخر زمن تأليف هذه القصص، فكان بسبب الهجوم الذي أعلنه بعض الفقهاء مثل ابن تيمية وابن الجوزي والحملة التي شنوها على القصاصين. ومن اللافت للانتباه أن تسمية علي بالأسد، ثم شعيرة الشرب أو البصاق الذي مسح به النبي على شفتي علي وقت ميلاده، ولفه بالعمامة وإعطائه السيف كلها شعائر استمرت حتى الآن في الطرق الصوفية بين الشيخ ومريده مما يعزز تأثير سيرة علي بن أبى طالب في قصص كرامات الأولياء. ونموذج البطل في النهاية بلورة لقيم الجماعة ورصيدها الحضاري، وتجسيد لموقفها من التاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل. وتأتي خصوصية البطل العربي من خلال عدة محاور هي المحور الديني، والتاريخي، والحضاري، واللغوي. فالمتتبع لسيرة عنترة كنموذج للبطل القومـي والوعي بحركـة التاريخ يجد أنها مرت بعدة مراحل، أولها مرحلة الحضور الكامل لعنترة متمثلاً في شعره، وثانيتها المرحلة التي يحكى فيها عن عنترة في التراث العربي في شكل إخباري، وأخيرًا المرحلة التي ترتبط بصنعة القص بصفة عامة لدى الشعب العربي. والبطل ينسج في التراث الجماعي بصفة عامة على نحو معقد ومكثف بما يمثل القيم الجماعية والرموز التي ترتكز على أساس معرفي، والنماذج معيارية بما يجعل في البطل مرونة ليقبل التشكيل والتغير، ويكتسب دلالات جديدة وطموحات جديدة في العصور المختلفة. فالعربى استدعى نماذج من البطولات العربية القديمة، ولكنه انتظمها في مجريات الأحداث الإسلامية دون مراعاة لتسلسل في الأزمنة التاريخية. ومن الملاحظ أن النماذج الأولى للبطولات العربية تسير نحو سيادة الأمة الإسلامية (عنترة وسيف بن ذى يزن)، وأما الثانية فكانت معول هدم للطرفين المتحاربين (الزير سالم والهلالية).

وتخصص نبيلة ابراهيم الفصل الرابع للبطل القومى وقضية المصير، وتلفت النظر إلى أهمية دراسة السير العربية؛ لأنها بلا شك تساعد مكتملة على الكشف عن روح الحياة العربية الإسلامية. وتختار سيرة سيف بن ذى يزن نموذجًا للبطل القومى وتبرر ذلك بأن السيرة كانت استجابة لرغبات الشعب العربي آنذاك، فاليمن كانت مسرحًا للنزاع بين الفرس والروم وبين اليهودية والمسيحية (روم وأحباش) في القرن السادس الميلادى، بما يتشابه مع الحال في القرن الرابع عشر الميلادي وتعرض العالم الإسلامي للهجمات الصليبية والمغولية. فإذا كان المماليك ليسو عربًا ولا يمثلون الأصل العربي، فكان أولى بالعربى أن يلتمس البطولة في شخصيات الماضي الراسخة في الذاكرة التاريخية. وسيرة سيف في ظاهرها صدى لمشكلات سياسية عاشها الشعب العربي وفي تصوير الواقع الذي عاشه الشعب العربي في حقبة تاريخية تهدد فيها الحبشة مصر وهي البلد الإسلامي بأنها ستمنع ماء النيل عنها. ومهما تكن التصورات الخيالية في هذه السيرة، فإن الفكر الجمعي لم يكن ليفرزها، أو يهتم بروايتها لو لم تكن ترتكز على أحداث تاريخية حقيقية انشغل بها الناس. أما الفصل الأخير فقد خصص للمرأة البطل من خلال أربعة نماذج في السير الشعبية العربية هى:

1 القناصة أو البطلة التي تغوي الأبطال وتسلبهم قدراتهم وتقتلهم في النهاية (المعادل الأنثوى لشهريار).

2 المرأة التي تتقن فن القتال وتمارسه من أجل المصلحة التي تحددها الجماعة مثل الملكة زنانير ملكة الروم في سيرة ذات الهمة.

3 المرأة قوية الشخصية صاحبة الكلمة مثل الجازية في السيرة الهلالية التي كانت لها ثلث المشورة.

4 المرأة البطلة الكاملة التي تجمع بين النماذج السابقة ففيها البطولة القتالية وقوة الشخصية وحسن المشورة، بل وتتميز فوق هذا كله بترفعها وعزوفها عن معاشرة الرجال ونموذجها الأميرة ذات الهمة.

والملاحظ أن النماذج الثلاثة الأولى تخدم بناء السيرة على المستوى الجزئي، أما النموذج الرابع فهو بعينه بناء السيرة ذاتها، فلقد كسرت ذات الهمة القيد الاجتماعي والقيد النفسي معًا وأصبحت بطلة مهيأة لفعل الخير للمصلحة العامة، ولهذا كانت صالحة أن تكون البطل الأول في السيرة التي تحمل اسمها.

الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق

صدر كتاب «الدراسات الشعبية بين النظرية والتطبيق» عن دار المريخ بالقاهرة عام 1999 في 318 صفحة، ويقدم الكتاب خلاصة ما يجري في بلاد العالم المتحضرة، من اهتمام بالدراسات الشعبية، وتشير نبيلة ابراهيم أن الهدف من تقديمها لهذا الكتاب هو اطلاع القارئ عما يجري حولنا في بلاد العالم أجمع من اهتمام بالغ بالدراسات الشعبية القومية، ذلك الاهتمام الذي يتمثل في الأبحاث النظرية والتطبيقية الواسعة. ولم تتمخض أبحاث هذا الكتاب عن قراءات واسعة في الدراسات الشعبية فحسب، بل إنها كانت معايشة صادقة لجوانب اجتهاد الشعوب في هذا الفرع المهم من الدراسات الإنسانية. ويشمل الباب الأول من الكتاب على عرض مفصل لنشاط الدراسات الشعبية في كل من فرنسا وانجلترا وأيرلندا وفنلندا ورومانيا وألمانيا، ويشتمل على الظروف التاريخية التي نهضت فيها هذه الدراسات في هذه البلاد، وعلى طريقة تنظيم هذه الدراسات في المراكز أو المعاهد أو المتاحف، ثم على برنامج الدراسة الأكاديمية التي تقدمه بعض هذه البلاد للدارسين. كما قدمت نبيلة ابراهيم فصلًا عن الدراسات الشعبية في أمريكا لترصد وجهة نظر الباحثين الأمريكيين في هذه الدراسات في إطار عام مع الدراسات الشعبية في أوروبا. وفي الباب الثاني، تقوم المؤلفة بعرض تاريخي لوجوه الاهتمام بالتراث الشعبي العربي منذ القدم حتى اليوم، عبر ثلاثة فصول، وهذا الباب يلقي همًا بالغًا على الباحثين والمتخصصين العرب اليوم، ذلك أن تراثنا الشعبي مبعثر بين ثنايا كتب تراثنا الهائلة، ما ينبغي لبذل الجهد المخلص في تتبعه وجمعه وإخضاعه للدراسة العلمية الجادة. ويتضمن الباب الثالث دراسة تطبيقية لأهم المناهج التي تُتبع في الدراسات الشعبية الأدبية، فكتبت عن المنهج الوظيفي في حياة الشعوب، والمنهج الاجتماعي، ثم المنهج الجغرافي التاريخي، ثم المنهج النفسي، وأخيرًا المنهج البنائي. ثم اختتمت الكتاب بعرض لمشكلات العمل الميداني في البحث الفولكلوري.

المقومات الجمالية للتعبير الشعبي

وفي إطار دراساتها النقدية للنص الشعبي صدر لنبيلة ابراهيم أيضًا كتاب «المقومات الجمالية في التعبير الشعبي» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 1996 في 215 صفحة، ضمن سلسلة مكتبة الدراسات الشعبية رقم 6. وتشير فيه إلى أن المستمع للحكاية الشعبية أو المثل يتلقاها مشافهة فلا مجال لديه للتأويل، بخلاف النص المكتوب الذي يحتمل أكثر من تأويل عند إعادة قراءته، ولذلك يضيف الراوي أو يحذف بما لا يخل بأصل الحكاية المروية. كما أن الجماعة الشعبية من قديم الزمان قد اتفقت علي الرمز الذي اختارته لظاهرة كونية ما عجزت عن تفسيرها، وبالتالي لا تحتاج إلي جهد لفك رموزه لأنها متفقة عليه والرمز نشأ عندما وجد الإنسان نفسه في بدء حياته محاط بمظاهر طبيعية غير مفهومة، فكان لابد له لكي يقتنع بسر وجوده في الحياة من أن يخلق بفكره وشعوره عالمًا تقترب فيه الأشياء المعلومة من الأشياء المجهولة، مهما تعارضت أو تناقضت يجمعها في نسيج من العلاقات الذهنية والروحية متصنع بفكره الإنساني رموز يفسر بها طبيعة الوجود الخفي وعلاقته بالوجود المرئي، واستطاع أن يخلق تكوينا تصوريا لرمز ما، علوي أو سفلي في الفضاء والسماء وفي أعماق البحار أو في بطن الأرض، لأن الإنسان يعيش بفكره مع المكان ويتعايش مع أحداث معلومة ومجهولة، واستقر على تصوير يريحه من دواعي القلق، واطمئن إليه، فاختار من الطبيعة أشياء حسية وحولها إلى مغزى روحي بعد أن سماها بمسمياتها الرمزية وجعلها تقوم بوظيفة وسائطية بين المعرفي والكوني أي بين داخل الإنسان وخارجه. ويستخدم الرمز في الإبداع الشعبي بلا استثناء موال، أمثال، ألغاز، طقوس، العادات، حكاية شعبية، أغاني شعبية..الخ فمثلاً : «فاستخدام رمز الجمل، الجمَّال» في الموال يعطي معنى سماويا في الحس الشعبي عن الصبر وقوة التحمل من ناحية والقهروالثورة من ناحية أخرى:

جمل حداه ألم تحت الحِملْ مدَّاري

لا الجمل يقول آه ولا الجمَّال به داري

داري علي بلوتك يا اللِّي ابتليت داري

ويشمل الفصل الأول من الكتاب موضوع «الرمز والأمثولة في التعبير الشعبي»، ثم انتقلت لبحث خصوصيات الإبداع الشعبي، ثم عالمية التعبير الشعبي، ثم انتقلت لدراسة موضوع «الزمان والإنسان في التراث الشعبي». وأنهت كتابها بفصل حول مفهوم أشمل للشعبية، حيث تناولت شعبية شوقي وحافظ في أعمالهما الشعرية والنثرية والمسرحية.

مجموعة كتب حول فن القص الشعبي

اهتمت نبيلة ابراهيم بدراسة فن القص والحكاية الشعبية عبر العديد من كتاباتها كما أسلفنا، وفي إطار الإصدارات المنشورة صدر لها عدة كتب مهمة أولها بعنوان «قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية» والذي صدر عن دار غريب عام 1995 في 216 صفحة. والكتاب عرض متعمق لمناهج تحليل النص الشعبي وهي المناهج التي أفرزتها التطورات التي طرأت على الدراسات اللغوية الحديثة ومناهج النقد الحديث، ويتناول الكتاب المناهج المعاصرة في تصنيف القصص الشعبي من خلال رصد الاتجاه نحو المنهج البنائي، ومنهج بروب والتحليل المورفولوجي من خلال بحث الحكايات الخرافية والحكايات الشعبية، ثم رصدت في ثلاثة فصول أولها للشخوص الواقعية والشخوص الخرافية والثاني للحكاية الخرافية في ضوء التفسير النفسي والثالث للحكاية الشعبية والتحول إلي الواقعية. وتشير نبيلة ابراهيم إلى أنها استعارت اصطلاح «الرومانسية»، فيما يختص بالحكايات الخرافية من الأدب الذاتي، رغم علمها - كما تشير في المقدمة - بأن هذا الاصطلاح يعني اتجاهًا في التعبير الفني والأدبي يعيد صدى مباشرًا لعلاقة الفنان والأديب بظروف المجتمع التي عاشها في فترة من فترات تطوره. إذ ترى أن الحكايات الخرافية تعبير رومانسي عن آمال الشعب الذي كان يرتاح إلى هذا التعبير لأنه يصور العالم الجميل الذي يصبو إليه. أما الكتاب الثاني في إطار القص الشعبي فجاء بعنوان «فن القص بين النظرية والتطبيق» والذي صدر عن دار غريب أيضًا بالقاهرة عام 1995 في 256 صفحة. وقد حرصت المؤلفة في هذا الكتاب على تناول فن القص من خلال تطبيق المنهج البنيوى في دراسة القص، وقدمت قراءة نقدية مهمة ضمنتها هذا الكتاب لرواية نجيب محفوظ «ليالى ألف ليلة»، التي استلهم محفوظ بنائها القصصي من حكايات ألف ليلة وليلة. ما يزال فن القص على الرغم ما كُتب عنه في لغتنا العربية في حاجة ماسة إلي عملية تأصيل تأخذ في الحسبان التطور الهائل الذي حدث في مجال هذا الفن في العصر الحديث. ويقدم هذا الكتاب على المستويين النظري والتطبيقي نموذجًا للتفاعل الخصب بين الثقافة العربية والثقافات الأجنبية الحديثة، فهو يمثل جهدًا بناء علي طريق تأسيس فكرنا الأدبي. والكتاب الثالث في هذا المقام هو كتاب مختصر للقارئ العام صدر عن سلسلة دار المعارف المصرية رقم 14 عام 1977 في 64 صفحة بعنوان «البطولة في القصص الشعبية»، والذي بدأت فيه ببحث أقدم الأشكال القصصية وهي الأسطورة، ثم تتبعت أثر أنماط القصصية الأخرى لترى إلى أي حد يرتبط النمط القصصي المحدد وتكوين الإنسان الحضاري، وإلى أي حد يلبي كل نمط في عصره احتياجات الإنسان الشعبي من الناحيتين النفسية والاجتماعية. وقد ركزت في كل نمط على الأشكال التالية: البناء القصصي للنمط أي شكله الفني، ثم صورة البطل ووظيفته، ثم الكشف عن دلالة الرموز وأبعادها الحضارية. وفي هذا الإطار أيضًا صدر لها كتابها المهم «من نماذج البطولة الشعبية في الوعي العربي» عام 1993 عن الدار نفسها. وفي إطار دراسات نبيلة ابراهيم التطبيقية على فن القص والرواية باستخدام المناهج النقدية الحديثة صدر لها عام 1992 كتاب «الروايـة من وجهه نظر الدراسات اللغوية الحديثة»، وهي دراسة نظرية حول وظيفة اللغة الأدبية في التواصل من خلال التشكيل الفني والجمالي، كما يقدم نموذجًا تحليليًا للغة التأليف القصصي بدءًا من الكلمة بوصفها إشارة، والعبارة بوصفها تركيبًا وانتهاء إلى العمل كله بوصفه بناء مكتملاً. كما صدر لها كتاب «الكون والإنسان في التعبير الشعبي» الذي قدمت خلاله بعض الدراسات التي نُشرت لها في دراسات سابقة منها: الرمز والأمثولة في التعبير الشعبي، والإنسان والزمان والمكان في التعبير الشعبي..إلخ

اهتمام نبيلة ابراهيم بالدراسات الغربية وترجمتها

قدمت نبيلة ابراهيم في وقت مبكر جدًا - منذ عقد الستينات من القرن الماضي - مجموعة من الدراسات التي عالجت التطور الحادث في علم الفولكلور من ناحية، والاتجاهات العلمية لدراسات الفولكلور في أوروبا من ناحية أخرى، فصدر لها عام 1967 دراستها حول «التراث الشعبي وعصر التكنولوجيا»، وفي العام التالي نشرت مقالها حول التراث الشعبي المتناقل: نشرة فرتز هاركورت، كاريل بيترز، روبرت فيلد هابر «جوتنجن 1968» (1969). ثم عرضت لأهم الاتجاهات العلمية في بحث الفولكلور الفنلندي من خلال دراستها «الدراسات الشعبية في فنلندا» (1968)، وفي العام نفسه عرضت نبيلة ابراهيم لمراكز ومعاهد الفولكلور في أوروبا، وفي العام التالي كتبت حول هيلما «جرانكفست والتراث الشعبي الفلسطينى» (1969). إذ تشير نبيلة إبراهيم إلى منهجها الاجتماعي في هذا الإطار عند حديثها حول زيارتها لفنلندا في أغسطس عام 1967، حيث تعرفت هناك على الباحثة هيلما جرانكفست التي اختارت فلسطين لدراسة المرأة هناك دراسة مقارنة لتوضيح صورة المرأة في هذا العصر وصورتها في العهد القديم. وقد استطاعت هيلما جرانكفست معرفة الظروف التاريخية التي تشهدها المنطقة فجمعت تاريخ القبائل وعاداتهم ودرست نظام الزواج وأنواعه ومنه زواج (عطية الجورة) و(عطية القبر) و(زواج البدل). كما قدمت دراسة حول الفولكلور الأمريكي من خلال عرضها لكتاب «الدراسات الشعبية الأمريكية بين القوى التقدمية والقوى الرجعية(1970). وأخيرًا دراستها التي قدمتها في العام نفسه حول مالينوفسكي وأثره في دراسة حياة الشعوب (1970). وقد نُشرت معظم هذه الدراسات بمجلة الفنون الشعبية المصرية أيضًا. كما قدمت نبيلة ابراهيم للمكتبة العربية مجموعة من الدراسات العالمية المترجمة في مجال علم الفولكلور كانت جميعها علامات مؤثرة في حركة البحث الفولكلوري العربي، وقد عرض ابراهيم عبد الحافظ لهذه الدراسات ضمن مجموعة الفولكلور العربي بحوث ودراسات، والتي سنستعين بها في هذا الإطار، وكان أول هذه الدراسات ترجمتها لكتاب جيمس فريزر الشهير «الفولكلور في العهد القديم» عام 1972، ثم كتاب الألماني فردريش فون ديرلاين بعنوان «الحكاية الخرافية» عام 1987، وأخيرًا كتاب أ. ل. رانيلا المعنون «الماضى المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية عام 1999. وفي مجال الإبداع الفردي ترجمت نبيلة ابراهيم مسرحية «ترانديت»، للكاتب الألماني الشهير شيللر، التي اتخذت من حكاية شعبية أساسًا لبنيتها.

ترجمتها كتاب

«الفولكلور في العهد القديم»

صدرت الطبعة الأولى لترجمة كتاب جيمس فريزر «الفولكلور في العهد القديم» بالقاهرة عن دار المعارف عام 1972 في جزءين، وطبعته الثانية عام 1982، والثالثة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997 في ثلاثة أجزاء. وقد تُرجم هذا الكتاب بتوصية من سهير القلماوي للأنثروبولوجي جيمس فريزير، الذي قام بتفكيك قصص التوراة ليثبت من خلال مقارنتها بمثيلاتها بالعناصر الفولكلورية التي تمثل مكونًا أساسيًا في قصصها، والتي تشاركها فيه الكثير من شعوب العالم. فالمصدر واحد وهو الطبيعة الإنسانية المشتركة بين شعوب العالم، ولهذا تبطل مقولة «إن اليهود شعب الله المختار» لأنه خصَّهم بكتابهم المقدس التوراة. وهذه الترجمة هي طبعة مختصرة من كتاب «الفولكلور في العهد القديم»، الذى استهدف مؤلفه السير جيمس فريزر تعقب بعض معتقدات الإسرائيليين القدماء وأنماط سلوكهم الفكرية والعملية في المراحل الأكثر قدمًا وفجاجة تلك التي تشبه ما نجده لدى القبائل البدائية التي تعيش حتى اليوم من معتقدات وعادات، حتى يمكن النظر إلى تاريخ بني إسرائيل في ضوء أكثر صدقًا، وإن يكن أقل رومانسية، بوصفهم شعبًا لا يميزه الوحى الإلهي عن غيره من الشعوب الأخرى ذلك التمييز العجيب، بل شعبًا تطور كبقية الشعوب من مرحلة بدائية يسودها الجهل والهمجية، وذلك عن طريق عملية انتخاب طبيعى». ويتبع فريزر وهو رائد من رواد «النظرية التطورية» في الدراسات الفولكلورية والأنثروبولوجية منهجًا يستلهم الدراسات المقارنة في سبيل فهم التراث الإغريقي واللاتيني والشرقي القديم. وعن طريق المنهج المقارن، بمعنى عقد المقارنات للمادة الميدانية التي جمعت من أنحاء العالم المختلفة للممارسات والمعتقدات والطقوس والشعائر لدى الشعوب البدائية، يحاول تفسير أوجه التشابه بين هذه الممارسات ونظائرها في العهد القديم.

ولقد نجح فريزر إلى حد كبير في تحقيق هدفه - على حد قول نبيلة ابراهيم - فكان يضع يده على طقوس وعادات قديمة ترد في ثنايا العهد القديم، ومنها على سبيل المثال ما ورد في سفر التكوين بصدد مقتل هابيل بيد أخيه قابيل، وتعليم الرب له بعلامة فيتساءل فريزر عن كنه هذه العلامة، وعن سبب تعليم الرب لقابيل بها… وهكذا في كثير من النصوص. وقد قسم كتابه إلى أربعة أبواب كبيرة في ثلاثة أجزاء يندرج تحت كل قسم عدة فصول هى: عصر الحياة الأولى عصر الآباء والشيوخ، عصر الملوك والقضاة، القانون. ويبدأ بأول قصة في العهد القديم وهى قصة الخلق.

وقد استلفت نظر فريزر في قصة الخلق في التوراة مشكلات ثلاث هى: خلق الإنسان الأول من الطين، والدور الذي لعبته الحية في صراع حواء، ثم حرمان الإنسان من الخلود. أما العنصر الأول فتكاد تتفق حكايات جميع شعوب العالم أن الإنسان الأول قد شكل من طين. وأما عن إقحام الحية نفسها في حياة أول رجل وأول امرأة خلقهما الرب، فهو يرجع في نظره إلى اعتقاد الإنسان البدائي في أن الحية كانت سببًا في حرمان الإنسان من الخلود بعد أن سلبت منه هذه المنحة الجليلة. وعن حكاية الخلود فإنها تعد رواية محرفة لرواية أخرى أصلية حكت عن شجرتين في الجنة حرمت إحداهما على الإنسان وهما شجرة الفناء وشجرة الحياة، ولكن الحية هى التي أضلت الإنسان حتى يأكل من شجرة الفناء. وعندما قرأ فريزر قصة هابيل وقابيل لاحظ ما يلى:

1 على الرغم من أن قابيل قتل أخاه هابيل، فإن الرب حكم بأن من يقتل قابيل ينتقم منه سبعة أضعاف.

2 أنه يبدو أن الأرض كانت تعج بالناس بحيث أن قابيل كان يخشى ممن يتعقبه ويأخذ منه بالثأر.

3 تساءل عن العلاقة بين الأرض وفعل الإثم.

4 أن الرب جعل لقابيل علامة ما لكي لا يقتله كل من يجده.

ثم وقف فريزر ليحل رموزها ويستدل بما كان عند الشعوب الأخرى من نفي القاتل وتحريم وطئه أرض بلده إلا بعد القيام بإجراء طقوس وشعائر. ويؤيد هذا قصة «آخاميون» الإغريقية فقد ظل «الخاميون» القاتل لأمه، شريدًا هائمًا على وجهه حتى لجأ إلى نبوءة دلفى فأخبرته بأن المكان الذي يقبله هي الأرض التي لم يكن البحر قد انحسر عنها وقت ارتكاب جريمته فظل يبحث عنها حتى نهاية حياته. ولم يشأ فريزر أن ينتهى من هذا الفصل قبل أن يبدي سخريته مما تضمنته التوراة من حكايات. لقد روت كل شعوب العالم على وجه التقريب قصصًا عن الطوفان الكبير الذي أغرق الأرض ومن عليها فيما عدا رجلاً واحدًا، وأقدمها القصة البابلية التي وردت في لوح من ألواح ملحمة جلجامش الشهيرة. وتكاد تتفق جميعًا مع القصة الدينية وهى حدوث الطوفان ونجاة رجل واحد، أو رجل واحد وزوجته، وأنه جمع معه صنوفًا شتى من الطيور والحيوانات، وحاول هذا الشخص اكتشاف أحوال الأرض بعد انتهاء الطوفان. كما كانت قصة برج بابل من المسائل الشائكة التي تتصل بالبحث في أصل الجنس البشرى ومسألة اللغة أو بالأحرى اللغات المختلفة التي تحدثت بها أجناس البشر منذ الأزل. وقد ناقشها فريزر في نهاية مجلده الأول.

وفى بداية المجلد الثانى (عصر الشيوخ والآباء) يناقش قصة عهد إبراهيم مع الرب. وينتهي بعد استقصاء شعائر البدائيين أنها تفسر من خلال نظريتين : الأولى نظرية الجزاء، والثانية نظرية التطهير أو الوفاء. أما إرث يعقوب أو نظام وراثة الإبن الأصغر، فإنه يركز فيها على حادثتين في حياة يعقوب لم يتردد فيهما في استخدام كل أساليب المكر والخداع وهى :

1 خداعه لأخيه الأكبر عيسو لكى يسلب منه حقه في الإرث وفى تركة أبيه (إسحق).

2 خداعه لخاله لابان بعد أن تزوج من ابنتيه.

وينتهى إلى أن حكاية الخديعة التي ارتكبها يعقوب مع أبيه إسحق تتضمن بقايا احتفال شرعي هو احتفال الميلاد الجديد من عنزة الذي كان الناس يرون ضرورة اتباعه أو يرغبون في اتباعه عندما يفضل الابن الأصغر في الحقوق على حساب أخيه الأكبر الذي ما زال على قيد الحياة، تمامًا كما يتظاهر الرجل الهندي في أيامنا هذه بأنه يولد من جديد من بقرة، وذلك إذا شاء أن يسمو إلى مستوى اجتماعي أعلى من مستواه، أو أن يعود إلى قومه الذين خسرهم إما نتيجة حظه العاثر، أو بسبب سوء سلوكه. وفى قصة يعقوب مع خاله تتمثل في أنهما تعاهدا على ركام أحجار صغيرة على ألا يحنث أحدهما بعهد الصلح الذي قطعاه على نفسيهما. وعند مخاضة نهر البيرق ظهر رجل أخذ يعقوب يناضل معه طوال الليل، ولكن يعقوب تشبث له ولم يطلقه حتى قال له الرجل «لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت». ويعلق فريزر على هذه القصة بأنه من المحتمل أن مؤلفى سفر التكوين قد أغفلوا بعض ملامحها الأساسية عندما اشتموا بها رائحة الوثنية، فهى ترتبط بالأساطير الشبيهة. ويفترض فريزر أن هذا الغريم الغامض الذي تصارع معه يعقوب ما هو إلا روح النهر أو شيطانه، وأن صراع يعقوب معه كان من أجل انتزاع البركة.

وينتهى عصر الشيوخ والآباء عند بنى إسرائيل بموت يوسف، ويبدأ عصر القضاة والملوك فتبدأ مرحلة من تاريخ بنى إسرائيل في مصر، حيث يرأسهم موسى بشخصيته القوية. وقد تشكك فريزر فيما إذا كانت قصة طرح موسى في الماء بعد وضعه في صندوق من القش تعتمد على أصل تاريخى أم أنها مجرد صورة لحكايات أخرى من هذا القبيل لإثبات شرعية بنوة الطفل أو عدم شرعيته. وأما شمشون فإنه من بين قضاة بنى إسرائيل المشهورين وقصته مع دليلة معروفة بوصفها تراثًا شعبيًا روائيًا. وفى قصة داوود وأبيجال يشير إلى اعتقاد آخر شديد الصلة وهو أن أرواح الأحياء يمكن أن ترتبط في حزمة ضمانًا لسلامتها. أما في حالة أرواح الأعداء فإن الحزمة تحل وتبعثر فتتبعثر أرواحهم منها وتذروها الرياح. ويربط فريزر بين هذا الاعتقاد والاعتقاد في تحضير الأرواح أو حبسها بقصد إيذائها. كما يورد بعض المعتقدات العبرية القديمة في جريمة عد السكان التي تجلب عليهم الشر، وعبادة شجرة البلوط التي اعتقدوا بأنها مأوى الجن والأرواح.

وفى الفصل الأخير وعنوانه «القانون» يميز النقاد في مجموعة القوانين المعقدة التي تكون الجزء الأكبر من أسفار موسى الخمسة ثلاث مجموعات أو تكوينات قانونية تختلف عن بعضها في تاريخها وطابعها وهى كتاب العهد، وقانون سفر التكوين، وقانون السفر الكهنوتى. فإذا كانت هذه القوانين في العادة ترتكز على أصل قديم من التشريع الشعبي، فإن قارئ التوراة إذن لن يفاجأ إذا ما صادف بين نصوصه عادات وشعائر ترتكز على تشريعات وثنية قديمة. ومن ثم فإن القارئ لن يفاجأ عندما يقرأ وصية من بين الوصايا العشر تنص على عدم طبخ الجدي مع لبن أمه، وأغلب الظن أن هذا التحريم كان موجهًا ضد بعض الشعائر السحرية أو الوثنية التي يرفضها المشرع وسعى في القضاء عليها. وأساس هذه الشعيرة أنها تقوم على سحر المشاركة. ومن تلك القوانين التشريع القائل «إذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات، يرجم الثور ولا يؤكل لحمه». وقد كان من عادة القبائل الهمجية تنفيذ قانون الأخذ بالثأر من الحيوان كما هو الحال مع الإنسان، بل إن هذا كان متبعًا في أوروبا في العصور الوسطى. ومن هذه التشريعات تعليق الأجراس في جبهة الكاهن عند دخوله المعبد، وإلا أصيب بضرر قد يفضى به إلى الموت بما يقارن بصليل الأجراس في المناسبات التي تكون فيها الأرواح مهددة بمطاردة الأشباح الشريرة لها.

ونقف على فحوى هذا الكتاب في الإجابة عن التساؤل الذي طرحته المترجمة في مقدمتها عن أسباب احتفاظ الدين اليهودى بهذه الكثرة اللافتة من المعتقدات والطقوس القديمة، على الرغم من أن الأديان السماوية تهدف إلى القضاء على عبادة الأوثان والسمو بمرتبة الأنبياء؟ فالإجابة نجدها فيما أوضحه فريزر في ثنايا الدراسة عن أن الدين اليهودى تكتنفه بعض مظاهر عبادة الأوثان. فقد قدس أنبياؤهم بعض الأشجار (البلوط)، ونصب يعقوب حجرًا وصب فوقه الزيت وعده مقدسًا بعد رؤيا رآها، ولم يثق إبراهيم بعهد الرب في أرض المعاد إلا بعد أن أدى الطقوس القديمة التي كان الناس يتبعونها عندما يتعاهد طرفان على أمر من الأمور. والتوراه تصور الأنبياء بصورة عجيبة، فشخصية يعقوب تنم عن الخداع والغش والحيلة والمكر، ولم يكن صموئيل أقل حيلة ومكرًا من يعقوب. وأما تشخيص الرب وتصويره على هيئة إنسانية فكانت بسبب المعتقدات والتصورات القديمة من ناحية، وبسبب عدم قدرة اليهودي على السمو بالخالق وتنزيهه عن الصفات البشرية.

ترجمتها كتاب «الحكاية الخرافية»

أما الكتاب الثاني لنبيلة ابراهيم والذي نقلته للغة العربية فكان للألماني فردريش فون ديرلاين بعنوان «الحكاية الخرافية - نشأتها - مناهج دراستها - فنيتها» والذي صدر بالقاهرة عن مكتبة غريب عام 1987 في 258ص. ويبدأ الكتاب بعرض شامل لأهم الأبحاث الخاصة بالحكاية الخرافية والمشكلات التي تعرضت لها هذه الأبحاث، مشيرًا إلى دور المدرسة التاريخية الجغرافية والمدرسة الأنثروبولوجية والمدرسة النفسية في دراسة الحكاية الخرافية. ويمهد لذلك بالإشارة إلى المجموعات الكبيرة للحكايات الخرافية التي بدأت في الظهور في أوروبا بدءًا من القرن الثالث عشر مثل «أعمال الرومان» و«الأساطير المذهبة» ومجموعة «دى كاميرون» لبوكاشيو، ثم مجموعة سترابارولا وبازيل عام 1634. وفى القرن الثامن عشر ظهرت مجموعات فيلاند وموزويس، وظهر اهتمام هردر وجوته وغيرهم بالحكاية الخرافية لشعوبهم.. كل هذه المجموعات مهدت السبيل إلى اهتمام الأخوين جريم في القرن التاسع عشر والبدء في نشر مجموعتهما المشهورة من «حكايات الأطفال والبيت» من عام 1812 - 1814. ولم تكن أبحاث الأخوين النظرية تقل أهمية عن تلك المجموعة، فقد حاولا فهم الحكايات الخرافية في صورتها الإجمالية. ثم يشير المؤلف إلى أبحاث المدرسة الفنلندية بزعامة تيودور بنفى التي تمثلت في البحث في أصل الحكاية وانتشارها، وذهبت إلى أن الهند هى الموطن الأصلى للحكاية الخرافية، وأنها نشأت عن طريق البوذيين لأغراض تعليمية. وينتقل إلى إبراز جهود المدرسة الأنثروبولوجية بزعامة كل من تيلور وأندرولانج وجيمس فريزر الذين أكدوا أن الحكاية الخرافية تصدر عن تصورات دينية من الممكن أن تنشأ منفصلة بعضها عن بعض. وأما جهود آنتى آرنى وتومسون فقد تمثلت في إظهار فهارس تصنيف الحكايات. وكان لجهود علماء مدرسة سيجموند فرويد في تفسير الحكاية الخرافية من وجهة نظر التحليل النفسى أثرها الكبير، كما نقلت جهود يونج في تفسيرها للحكاية وفقًا لنظرية التعبير عن اللاشعور الجمعي هذه الدراسات نقلة جديدة. وينوه المؤلف إلى جهود عدد كبير من العلماء الآخرين الذين اهتموا بدراسة الحكاية الخرافية دراسة علمية دقيقة. ويستتبع هذا بفصل عن أصول الحكايات الخرافية فيغوص في معتقدات البدائيين ودياناتهم وتصوراتهم. فالحكاية الخرافية قديمة قدم الإنسان نفسه وإذا شاء الباحث الوصول إلى الصورة الأولى لها، لابد له من أن يمسك بأول الخيط، فينقب عنها بين جوانب الحياة البدائية. وهو يطلعنا على نماذج متعددة للأشكال الأولى للحكاية الخرافية، التي تطورت عنها الحكاية الخرافية - الفنية ذات الشكل المحدد، ويبين لنا: «أن الحكايات الخرافية لا تنفصل عن الأشكال الأخرى من أشكال التعبير عن الروح الإنسانى، وأنها تضع الأساس الذي يستمد الأدباء عنه إبداعهم».

والحكاية الخرافية في صورتها الأولى مجرد خبر أو مجموعة من الأخبار التي تتصل بتجارب روحية ونفسية عاشها الناس منذ القدم، فقد حرص الناس على الاحتفاظ بها وعلى نقلها عبر الأجيال عن طريق الرواية الشفوية. وليس في وسع كل شخص أن يقوم بعملية الرواية، وإنما الراوية الإيجابي هو الشخص الذي يجمع بين موهبة الحفظ ومتعة الرواية في آن واحد، أي أنه الشخص الذي يمتلك طاقة فنية تعادل تلك الطاقة التي يمتلكها كاتب القصة على سبيل المثال. ومن هنا ندرك أن الرواية لها أثرها الكبير في خلق الحكاية الخرافية، بل في خلق أي نوع أدبي شعبي آخر. وليس هذا معناه أن القاص حر في تأليف الحكاية وفقًا لأهوائه وإنما هو مقيد بقوانين شكلية وموضوعية خضعت لها الحكاية الخرافية منذ القدم وما تزال تخضع لها حتى اليوم. والمؤلف يتعرض لدراسة هذه القوانين الشكلية والموضوعية دراسة تفصيلية. ولما كانت الحكاية الخرافية ذات صلة - من حيث الشكل والموضوع بالأسطورة والحكاية وحكاية البطولة، فقد وجد المجال مناسبًا لعقد مقارنات طريفة بين الحكاية الخرافية وبين كل نوع من الأنواع الأخرى. وهو يميز كل نوع ويحدد مجاله النفسي والفني من ناحية، ثم يطلعنا على الصلة الجوهرية بين هذه الأنواع من ناحية أخرى.

وإذا كانت الحكاية الخرافية قد تطورت واكتمل شكلها الفني عن طريق الرواية، فإن هذا التطور يتمثل في أقوى صورة لدى شعوب الحضارات المختلفة. وقد بدأ المؤلف بتقديم نماذج لهذا الخلق الفني المكتمل عند شعوب البحر الأبيض المتوسط. فاستهل ذلك ببابل ومصر وروما، وبلاد الإغريق. ويرى أننا نملك حكايات خرافية لبابل ومصر يرجع تاريخها إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، ثم أفرد فصلاً كبيرًا لدراسة الحكاية الخرافية الهندية والصينية. ودلل على أن أقدم حكايات الهند والصين نشأت في الألفي سنة ق م، ثم تبع ذلك ظهور بوادر للحكايات الخرافية عند اليهود وفى بلاد الإغريق. ولقد كانت بعض الشعوب تمتلك موهبة خاصة في خلق الحكاية الخرافية مثل الهنود والعرب والكلتيين، إذ صاغوها في أجمل صورة فنية، كما غذوها بخيالهم وكسوها بالبهاء والروعة؛ ولذا خصص بالمثل فصلاً كبيرًا للحكاية الخرافية العربية مقارنًا بينها وبين الحكايات الخرافية الهندية بصفة خاصة. فقد اكتسبت الحكاية الخرافية العربية في القرون الوسطى (ألف ليلة وليلة) شهرة واسعة وأثرًا عميقًا في حكايات الشعوب الأوروبية. وفى وسعنا - من خلال حكايات كثيرة للشعوب - أن نستخلص كثيرًا من خصائص هذه الشعوب وطبائعها وأفكارها الخاصة وتأملاتها.

ويختم المؤلف بحثه بدراسة للحكاية الخرافية الأوروبية، ثم الحكاية الخرافية الألمانية التي يرجع بعضها إلى العصر الجرماني، أو هى ترجع إلى العصر الهندوجرماني البالغ القدم. وكذلك تركت الحروب الصليبية وفروسية العصور الوسطى آثارها في الحكايات الأوروبية. ثم كان للطبقة البرجوازية التي عاشت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أثر له دلالته. وتبع ذلك أثر آخر أدبي كبير تركته حكايات الجن الفرنسية. ويؤكد على أهمية الأدب الشعبي قائلاً «وإذا كنا قد ذكرنا أن الحكاية الخرافية والأدب الشعبي يمثلان الأدب الخالد في الحقيقة في حين ينتمي الأدب الرسمي والكلاسيكي إلى دائرة محدودة، فإن هذا لا يعني أننا نهدف إلى أن نرفع من قيمة فن الحكاية الخرافية ونضعها فوق قيمة فن الأدب الرسمي، وإنما نحن نؤمن بأن الأدب الشعبي يؤدي إلى إدراك أسس الأدب بصفة عامة، وما يزال كثير من مسائل البحث في الحكاية الخرافية في حاجة إلى حل».

ترجمتها كتاب «الماضى المشترك بين العرب والغرب»

ونعرض هنا للكتاب الثالث الذي ترجمته نبيلة ابراهيم وهو للمؤلف أ. ل. رانيلا بعنوان الماضى المشترك بين العرب والغرب: أصول الآداب الشعبية الغربية، والذي صدر عن سلسلة عالم المعرفة رقم 241 بالكويت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1999 في 415 ص. والكتاب دراسة موسعة في الأدب الشعبي المقارن يعد مؤلفها - وهو أستاذ الفولكلور بجامعة جوجنهايم - أحد المؤلفين الغربيين القلائل الذين يعترفون بالأرض المشتركة بين الثقافتين الشعبيتين: الغربية (يركز على الإنجليزية) والعربية، مؤكدًا أن «ثقافة العصور الوسطى كانت في الحقيقة إغريقية لاتينية عربية». ويتناول المؤلف أنواع القص المختلفة، حيث يوضح في المقدمة أن مسألة الأصل العربى، كأحد مصادر الثقافة الشعبية الغربية، مفروغ منها. فجسور التواصل والتلاقي بين الحضارتين التي كان من أبرزها حضارة المسلمين في أسبانيا وصقلية والتاريخ الفكري المركب الذي يعكسه الأدب العربي في العصور الوسطى، وذلك التيار الهائل من القص الشعبي كانت كلها وراء حركة التلاقي بين الحضارتين. ويخصص أول الفصول لقصة يوسف وزوجة بوطيفار (زليخة) وبين فيه أن الغرب يتقاسمون مع القرآن الكريم شخوص الكتاب المقدس، فالقرآن يحتوى على القصة التي تختلف تفصيلاتها عنها في الكتاب المقدس، ولكنها هي عينها في جوهرها. وقد أدخلت عليها إضافات ومنها ما نسجه الشاعر جامي فيما بعد في قصيدته الطويلة التي تعد نموذجًا للأدب الكلاسيكي الفارسي. وتطور الإشارة الموجزة عن زوجة بوطيفار في العهد القديم التي وردت بسفر التكوين واختلطت بأساطير هيبوليتوس فيدرا اليونانية، ثم أضاف شراح القرآن الكريم بدورهم وكذلك الكتاب المتأخرون إلى القصة التعاطف معها حتى أصبحت قصة يوسف وزليخة أكثر القصص شعبية في الإسلام. ومع أن القصة تحمل في البلاد المسيحية تفان غير عادي في حب الله، بجاذبية أساسية لقصة نجاح يوسف، وليس لقصة حب، فقد انتشرت حكاية يوسف وزليخة في القارة الأوروبية وإنجلترا في العصور الوسطى نقلاً عن النص الإسلامي.

ويشير الفصل الثاني المعنون «سليمان وملكة سبأ» إلى أن القصة - أصلاً - تنتمي إلى التراث القصصي المسيحي الذي تختلف صورتها فيه عن صورتها في النص القرآني. ففى النص القرآني تصور الملكة بوصفها امرأة فاضلة للغاية، أما في النص العبري فتصور الملكة بشعر ساقيها غير العادي (يرتبط ظهور الشعر في الجسد في الشرق بالشياطين). وبين هذين النقيضين نشأ الغموض حول شخصية ملكة سبأ الذي أصبح عنصرًا قصصيًا مهمًا في القصة، وذلك بالإضافة إلى بركة الماء وهي موضوع شعبي قديم، وظهور عنصر زواج سليمان من ملكة سبأ في بعض الأساطير اليهودية. وتبدو شخصية سيدنا سليمان لمدة قرون شخصية مهمة في الشرق الأدنى، بينما كانت الملكة أقل أهمية. أما في الغرب فإن لقاء الملك مع ملكة سبأ، وملكة سبأ نفسها كانا أشد أثرًا على العكس مما هي حال حكايات يوسف وزليخة. فعلى الرغم من أن التراث المسيحي يركز على بلقيس، وأن التراث الشرقي يركز على زليخة، فإنه في كلتا الحادثتين كان الخيال الشعبي أسير شخصية لم تتمتع إلا بأهمية ضئيلة في النصوص الدينية نفسها، ولكن الشروح صنعت منها أسطورة كبيرة.

وكانت النقطة الأساسية في التراث الأوروبي عن الإسكندر أن إنجازات حياته التاريخية التي لا تنكر لم تكن هى السبب في شهرته، بل كانت بداية للأساطير التي حيكت حوله. فعندما كتب كاليستنس (ابن أخ أرسطو) حكايات تاريخية عن الإسكندر أعاد الرومان كتابتها بعد وفاته بثلاثمائة عام، وكانت هذه الحكايات متأثرة بالأساطير الشائعة. أما الأصل العربى لحكايات الإسكندر فيصور فيها بأسلوب عربي على غرار ما صور به في ألف ليلة وليلة هارون الرشيد وصلاح الدين. وهناك مصدر آخر للمادة الغربية التي كونت حكاية الإسكندر في الأساطير المسيحية، وهى تصويره في الإنجيل على نحو إليجوري في سفر دانيال الأصحاح الثامن، وذكر اسمه في أسفار المكابيين في السفر الأول. فإذا ما انتهى المؤلف من مناقشة التراث الدينى، ينتقل في الفصل الرابع إلى التراث الأدبي ممثلاً في سيرة عنترة بن شداد (عنتر وعبلة)، موضحًا أنها ترتبط بالتراث وأنها تمثل النموذج الأصلي لقصص الفروسية الرومانسي الأوروبي. وعنترة أحد الأبطال الشعبيين الذي يتشابه مع بطل الحكاية الخرافية. وقد عرف عنترة بالشاعر المحارب الذي عاش في القرن السادس، لكن الشعب بدأ ينسج أسطورته من موضوعات مألوفة للأبطال الشعبيين، لقد نشأت طبقة كاملة من القصاصين المحترفين الذين كانت صناعتهم رواية حكايات عن عنترة وحده. وبعد رواية مفصلة لسيرة هذا البطل يقوم المؤلف من خلال دراسة تحليلية مقارنة بمحاولة إثبات أننا نجد في حكايات البطولة الأيرلندية - كما هو الحال في سيرة عنترة - أن القوي في عون الضعيف. وعندما وصلت قصص الفروسية والحب إلى جنوب فرنسا عن طريق أسبانيا المسلمة، كان للعرب اهتمام حسي بالنساء وتسليم بالحب الجنسي وهو ما لم يعرفه الغرب. لقد ظهرت هذه السيرة باللغة العربية في بداية القرن التاسع عشر في اثنين وثلاثين جزءًا صغيرًا، وترجم تريك ملتون مختصرًا للجزء الأول من السيرة، وهو الجزء الذي سُمي عنتر وعبلة، ثم ترجم كلاوستون مختارات مختصرة لبعض الفقرات التي تتضمن الكثير من الأشعار.

أما الفصل الخامس فقد خصص لـ «مجالس المتعلمين» كما وردت في كتابين شهيرين أهمهما «ألف ليلة وليلة» الذي وضع أمام العالم الغربى حكايات جديدة كانت بذورًا مهمة لتطوير فن القصص. وبعد أن يفصل تاريخ ترجمات كتاب ألف ليلة وليلة بدءًا من أول ترجمة بالفرنسية على يد جالاند عام 1704، يتحدث عن الكتاب المهم الآخر وهو مجالس المتعلمين الذي ترجم إلى اللاتينية عقب عام 1106، فكان لحكاياته تأثير كبير في الأدب الأوروبي يفوق تأثير حكايات ألف ليلة وليلة. وكان مصنف هذه الحكايات ويدعى بيتروس النونصص وهو يهودي الأصل تلقى ثقافة عبرية لاتينية قد هاجر إلى إنجلترا حيث كان في موقف مميز لأن ينقل التراث العربي إلى الغرب بعامة. ولقي الكتاب نجاحًا، وصدرت له مخطوطات مبكرة يبلغ عددها ثلاثة وستين مخطوطًا، ثم استنسخ وترجم إلى اللغات العامية، وقلد في كل أنحاء أوروبا فأصبح أصل السلسلة المتلاحقة الطويلة لكتب الأمثولات التي صارت أكثر النماذج الأدبية شهرة في العصور الوسطى. ويلقي كتاب ألف ليلة وليلة اهتمام المؤلف في الفصل السادس، فيشير إلى انتشار ترجمة جالاند بالفرنسية، وإلى الترجمة الإنجليزية التي تبعتها للكتاب، وبذلك أصبحت حكايات ألف ليلة وليلة في العالم الغربي بمنزلة المدخل للعالم العربي، وأصبح الصغار والكبار يعرفون الكتاب، وطبع أربعمائة مرة بلغات غرب أوروبا في غضون مائتى عام. وكانت ألف ليلة دافعًا على تطور الفولكلور والقص بوصفهما حقلاً للدراسة، وأدت إلى نشأة مدرسة كاملة لما سمي بالروايات والحكايات الشرقية. وكان تأثيرها هائلاً على الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر وأعيدت طباعتها وأخذت عنها مسرحيات ورقصات باليه وأوبرات وأفلام ومسرح عرائس... إلخ. ويبدو الأصل الثاني للحكايات الشعبية الأوروبية هو كتاب كليلة ودمنة، فقد ظلت الترجمة العربية التي ظهرت في القرن الثامن الميلادي على يد ابن المقفع، هى الأهم بالنسبة للعالم الغربي، عندما ترجمت على يد بالدو إلى اللغة اللاتينية في القرن الثامن عشر. وأما أهم الأعمال التي أخذت عن كليلة ودمنة، فهي تتضمن المجموعة اليونانية، وخرافات إيسوب (القرن الثالث عشر)، وديكامرون الإيطالية من القرن الرابع عشر، ثم حكاية الوزراء الأربعة التركية، ثم مآثر الرومانيين عن القرن الخامس عشر، وفلسفة دونى الأخلاقية في إنجلترا، وأنوار كانوبس في القرن التاسع عشر وهى كلها من سلالات كليلة ودمنة.

ويأتي الفصل الأخير مخصصًا لحكاية المنجم العربي المأخوذة من كتاب نفح الطيب الذي يرى رانيلا أنه الكتاب الوحيد المتبقي عن اسبانيا الإسلامية، والذى ترك أثره في ثقافة الغرب كما يظهر في حكايات واشنطن إيرفنج التي صيغ أكثرها من مزيج من موضوعات الحكايات الشعبية العربية ونمط حكايات

شرقية تقليدية، وهى حكاية الساحر، وفى صياغة الشاعر الروسي الشهير بوشكين في الحكاية الروسية (حكاية الديك المسحور الذهبي). وبهذا يكشف الكتاب عن مدى تغلغل تراث العرب الشعبي في جانبه الديني والأدبي في صياغة الحكاية الشعبية الغربية.

جهد نبيلة ابراهيم في الإشراف العلمي

قدمت نبيلة ابراهيم خلال رحلتها العلمية جهدًا كبيرًا من خلال إشرافها العلمي على العديد من الأطروحات الأكاديمية في عدة مجالات منذ عام 1970، وقد تنوع إشرافها العلمي على العديد من الطلاب العرب من مصر والجزائر والعراق وغيرها، ومن بين الأطروحات التي أشرفت عليها أطروحة الماجستير لعبد الحميد بورايو حول القصص الشعبي في منطقة بسكرة: دراسة ميدانية (1970)، وأطروحة الماجستير لوفاء علي سليم في العام نفسه حول حكاية أيوب بين النصوص الدينية والروايات الشعبية، كما أشرفت على عبد الباسط عبد الرازق بدر في أطروحته للماجستير أيضًا في موضوع شعر بدوي الجبل: محمد سليمان الاحمد (1973)، ثم أطروحة مجدي محمد شمس الدين حول السحر في ألف ليلة وليلة (1975)، وأطروحة فتوح أحمد فرج حول المأثورات الشعبية الأدبية للطفولة والأطفال: دراسة ميدانية بالسنبلاوين(1976). وأطروحة صبري مسلم حول أثر التراث الشعبي في رسم الشخصية في الرواية العراقية الحديثة(1978). وفي عقد الثمانينات أشرفت نبيلة ابراهيم على مجموعة أطروحات جديدة منها أطروحة على ابراهيم محمد الدسوقي حول المتغيرات الاجتماعية وأثرها في أغاني الزواج عند المنوفيين (1981)، وأطروحة شوقي إمام حسنين عبدالنبى حول الشعر الفكاهي في مجلتي الفكاهة والاتنين من سنة 1926 إلى سنة 1939 (1984). وكان أول إشراف على أطروحات الدكتوراة عام 1988 للباحث محمد عبد السلام ابراهيم حول أطروحته «السيد احمد البدوي في المأثورات الشعبية»، ثم أطروحة الماجستير لسوزان السعيد يوسف حول الطقوس الدينية والاجتماعية في الفولكلور اليهودي في العهد القديم (1989)، وفي العام نفسه ناقشت رسالة خطري عرابي حول الأغنية الشعبية في الواحات البحرية: دراسة ميدانية فنية، ثم أطروحة الدكتوراة لفتوح احمد فرج حول كامل كيلاني وأدب الأطفال في مصر (1989). وفي عقد التسعينات أشرفت نبيلة ابراهيم على أطروحة الدكتوراة لحمودة عبد العزيز يونس المحمودي حول المأثورات الشعبية المصرية وعلاقتها بالفن التشكيلي المصري المعاصر (1993)، وفي العام نفسه أطروحة الماجستير لعبد العزيز رفعت حول الحكايات الشعبية والحواديت في منطقة شلقام: جمع وتصنيف. كما ناقشت أطروحة الدكتوراة لخطري عرابي حول موضوع سيرة الملك سيف بن ذى يزن: دراسة في بدايتها الأسطورية(1995). وفي مطلع هذا القرن ناقشت نبيلة ابراهيم أطروحة الدكتوراة لهاني السيسي حول روايات للسيرة الهلالية في مصر - ليبيا - تشاد: دراسة مقارنة (2000). ثم أطروحة الدكتوراة لذكاء الأنصاري حول أنماط الحكاية الشعبية في القرن التاسع الهجري (2001). وهذه نماذج لجهد أستاذتنا الجليلة في الإشراف العلمي ومعظمها تم بكلية الآداب جامعة القاهرة وأكاديمية الفنون المصرية، وهناك إشرافات أخرى بالطبع إذ يحتاج الأمر لتتبع جميع نشاطاتها في الجامعات المصرية والعربية.

فن السيرة الذاتية

اهتمت نبيلة ابراهيم بتسجيل جانب من سيرتها الذاتية في كتابها «ذات الهمة في القرن العشرين: يوميات د.نبيلة إبراهيم». وقد نشرتها في كتاب مطلع هذا القرن (2000) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة السيرة الذاتية رقم 15، وتناولت فيه بيت العائلة الكبير، والنشأة الأولى والثانية، ثم سفرها للدراسة في ألمانيا. ويُختتم الكتاب بملحق يتضمن مجموعة من الصور الشخصية التي تتضمن تاريخها العلمي ومحيطها الأسري. وهو كتاب على صغر حجمه وقلة عدد صفحاته يحمل من خلاصة تجربتها العلمية والحياتية والإنسانية ما يستحق القراءة والنظر والتأمل. كما اهتمت نبيلة ابراهيم بتسجيل السيرة العلمية لسهير القلماوي من خلال كتاب صدر ضمن سلسلة نقاد الأدب عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة وهو كتاب مرجعي حول أستاذتها سهير القلماوي التي تتلمذت بدورها على يد طه حسين الذي اشرف عليها في أطروحتها حول ألف ليلة وليلة.

رحم الله هذه الرائدة الجليلة التي أعطت للثقافة الشعبية العربية جهدًا علميًا رفيعًا كان له الأثر الواضح في حركة الفولكلور العربي المعاصر.

أعداد المجلة