فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
37

دور العجيب في بناء الشخصية سيرة الملك سيف بن ذي يزن أنموذجاً

العدد 37 - أدب شعبي
دور العجيب في بناء الشخصية سيرة الملك سيف بن ذي يزن أنموذجاً
كاتب وأكاديمي من العراق

تعدُّ الشخصية ركناً أساسياً من أركان النص السردي، مثلما تعدُّ عمود السيرة الشعبية، لأن هذه السيرة بنيت لرواية حياة شخصيات تاريخية مرجعية، وأضيفت لها شخصيات أخرى غير مرجعية، وشخصيات تخييلية وعجيبة، من أجل بنائها بناءً محكماً والخروج بنص سردي متكامل يعالج نوعين من الوقائع تاريخية ومتخيلة. يتضح هذا على نحو أول من أسماء السير، مثل سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد وفيروز شاه وذات الهمة والظاهر بيبرس وغيرها، حتى عد الناقد سعيد يقطين السيرة الشعبية، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن بالذات “إمبراطورية الشخصيات”(1).

وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر النقدية بشأن الشخصية، إلا أنها حافظت على أهميتها في النص السردي، الاختلاف هذا خرج بمدارس ومناهج عدَّة، لكن أغلب الباحثين يؤكدون على ثلاثة آراء في دراسة الشخصية في الحكاية الشعبية عموماً، والسيرة الشعبية على وجه الخصوص، هذه الآراء خرجت من مناهج الشكلانية الروسية والبنيوية والسيميائية، وقد اعتمدت هذه الدراسات على آراء فلايديمير بروب وغريماس ويوري لوتمان، وغيرها من المناهج. لكن هذه الدراسات جميعها، مهما حاول بعضها التقليل من أهمية دراسة الشخصية وحضورها في النص السردي، إلاّ أنها في الوقت نفسه أكدت على أن أي عمل سردي لا يمكن أن يبنى من دون وجود شخصية مركزية تكون المحور الرئيس فيه.

العجيب والشخصية

للعجيب دور رئيس في بناء الشخصية العجيبة، فهو يعيد تشكيلها، ويعطيها بُعداً مختلفاً عن الشخصية الطبيعية أو العادية في العمل السردي، فالعجيب جعل من الملك سيف، الطفل والشاب المتشرد، رجلاً واثقاً بنفسه، يخوض أيَّة معركة؛ مهما كان مَنْ يواجهه، وينتصر عليه، ويمشي في الصحارى من دون أي خوف من المجهول، ويسبح في بحار شاسعة دون أن يعرف على أية يابسة ستحط قدماه، لكنه مع هذا كان على ثقة بأن هناك قوى خفية وفوق طبيعية ستنقذه. هذا عندما تكون مؤثرات العجيب خارجية. لكن هناك مؤثرات داخلية، بيولوجية، أو مستحدثة، أو مؤثرة على طبيعة الشخصية، سواء كانت بشراً أم جاناً أم جماداً، وهو ما أكده شعيب حليفي من أن هناك قوتين تشكلان السمات العامة للشخصية العجيبة، قوة داخلية وأخرى خارجية، ف«الشخوص العجائبية يتم تركيبها بشكل دقيق يساهم فيها التصوير الباطني لها، من حيث نفسيتها وتفكيرها، وما يعتمل من مخزون يكون موسوما بالتحولات»(2).

فالحديث عن الشخصية العجيبة يفرض البحث عن مصدر العجب فيها لتكون إحدى دعامات العجائبية في النص، لهذا فإن قضية المكان والزمن عجائبياً لا تنفصل عن قضية الشخصية العجيبة، إذ إن افتراض لا واقعية المكان أو الزمن يعد - بداية - مطلباً أساسياً في النص العجائبي، لإحداث عملية اتساق متكاملة بين عناصر بناء النص السردي وطبيعة تشكله(3).

ويشير شعيب حليفي إلى أن الشخصية في الحكاية العجيبة «مرتبطة بأحداث وأفعال، وبلمفوظ له تعددية كما له وظيفته الفاعلة ايضا، يعرفها «غريماس» بأنها فواعل، أي وحدات معجمية توجد منظمة بمساعدة العلامات التركيبية. أما عند لوتمان فهي حشد للخواص الخلافية، والخواص التمييزية»(4). مضيفاً أن الشخصية العجيبة شخصية غنية، «تتضافر في خلقها كثافة تخييلية فوق العادة، موحية من حيث الدلالات التي يمكن أن تنبئ بها في كل موقف حدثي»(5). الإضافات التي أضافها الراوي في الشخصيات العجيبة جعلت منها شخصيات شبكية ترتبط نسيجياً مع باقي المكونات الأخرى تدعم بعضها البعض، كما أن نوعية هذه الشخصيات تشترك في خصائص ومميزات عامة، «تفترق في بعض الخصوصيات بين محكي وآخر بحيث تتعايش الشخصية والتيمة، في جدل فعلي، يولد طاقة تخييلية تفسح المجال أمام القارئ، كي ينشد ويتلبس التردد، والحيرة إزاء غرابة التكوين، أو الأفعال غير العادية»(6).

الشخصية العجيبة كائن مختلف، يتشكّل من خلال مدخلات لفظية عدَّة، يسعى الراوي عن طريقها ليبني شخصية مغايرة عن بنية الشخصية الطبيعية، فيجمع مخلوقات عدَّة في مخلوق واحد، ليركّب شخصية جديدة، أو يضيف روحاً على جماد مثل الياقوت والخشب، وبالنظر لما تتمتع به هذه الشخصية من خصائص تخييلية عالية فإنها تضفي على سرد السيرة تنوعاً يمكّنها من إثراء عوالمها لا بالشخصية العجيبة وحدها، بل بما ترتبط به من شخصيات طبيعية وأحداث تتسع وتمتد بناء على ما تتمتع به هذه الشخصية من إمكانات وقدرات.

وصف الشخصيات

يختلف الفعل العجائبي عن الشخصية العجيبة، فالفعل العجائبي يحدث في لحظة واحدة لا يمكن الإمساك بها، لحظة تردد وخوف، تحدث وتنتهي من دون أن يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً بتفاصيلها. في حين تكون الشخصية العجيبة ثابتة على عجائبيتها، لهذا يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً ومسترسلاً. سكون الشخصية يسمح للراوي بوصفها، كأنه يصف مكاناً ثابتاً، فالوصف فعل مكاني؛ حسب ما يرى سعيد يقطين، وهو «توقيف لزمان السرد لمعانقة ثبات المكان»(7)، هذا الوصف يترك للراوي متسعاً لإدخال نوع من الكتابة الدلالية في النص، و«التي من الممكن أن تؤول بطرق متنوعة من طرف المتلقي، أي أن الوصف يجيء مفتوحاً على نوافذ متعددة بعدد المعاني التي تتيح للمتلقي إمكانية التأويل، وتفكيك تلك الوحدات»(8). وبقراءة سيرة الملك سيف بن ذي يزن، يُلاحظ أن الراوي توقف لصفحات طويلة وهو يصف شخصيات عجيبة، إن كانت مركبة أو بسيطة، بشرية أو غير بشرية، وصفاً له تأثير مباشر على شخصيات السيرة، و«تفرض كثرة الوصف على النص المعني إخراجا سرديا الغاية منه تبرير (حالات التجزيء)، و(الحد) من انتشارها الأهوج؛ وهو ما يحدد، تبعا لذلك، شكل ظهور الشخصيات التي ستنتشر وستتعالق مع الوصف، وسيكون على السرد، من جهته، تنقيتها استنادا إلى معايير من طبيعة سردية خالصة»(9). ومن ثمَّ يدخلها الراوي في بنية السيرة لتقوم بدورها الذي سيكون إما مسانداً أو معارضاً للملك سيف. ومع هذا الوصف يثير الراوي في ذهن المتلقي أسئلة مختلفة، هذه الأسئلة هي التي ستعيد بناء الشخصية العجيبة، والتي بدورها ستنجز مهاماً جديدة في بنية السيرة، ومهاماً أخرى في خرق المألوف والقوانين فوق الطبيعية، إذ تعمل هذه الشخصيات بشكل أو بآخر على «خرق العرف الطبيعي، وخلق قوانين جديدة»(10)، كما أن هناك وصفاً آخر يقدمه الراوي لشخصيات طبيعية، لكنها تثير العجب بسبب طبيعتها الآن، كما حدث مع سام بن نوح (ع) الذي أعاده الراوي للحياة على الرغم من أنه ميت منذ قرون طويلة:

«وعود [كذا] ثاني مرة إلى القصر فإن الملك سام منتظر عودتك تجد يده اليمنى ارتخت على صدره واليسرى مرفوعة لم يضعها مكانها فارفع الفرش الذي تحت جانبه الأيسر تجد حساماً في قربه موضوع تحت حرف الفرش فقل له يا ملك عن إذنك آخذ السيف وأجاهد به في سبيل الله ولك الثواب من الله فإن لم يرخ ذراعه فارفع السيف وتقلد به وعد إلي بسلام ولا تفعل شيء [كذا] خلاف ذلك وإن خالفتني فأنت هالك فقال الملك سيف: سمعاً وطاعة ودخل القصر ثانياً فالتقى يد الميت اليمنى نزلت على صدره والذراع اليسار مرفوع على حاله فتقدم إليه كما أمره إخميم الطالب وشال الفراش من تحت جنب الميت وأخذ السيف وتقلد به ونظر إلى جفيره وإذا هو أكلته الأرض وعلاه الصدأ فقال في نفسه: هذا الجفير عادم وأنا آخذ السيف وارمي جفيره فافتض السيف من غمده وهزه حتى دب الموت من فرنده(11) وأراد أن يرمي الجفير وإذا بالصدأ الذي عليه وقع إلى الأرض وانكشف ذلك الجفير وإذا به ذهب أحمر كأنه مصوغ في هذه الساعة ففرح الملك سيف ورد السيف في الجفير كما كان فتصايحت الخدام التي في ذلك المكان وقالوا يا ملك لا تجرده بعد ذلك هنا فآنه [كذا] يحرقنا بالطلاسم التي عليه خذه واطلع بارك الله لك فيه فعرف الملك سيف أن حامل هذا الحسام ما يقدرون عليه فوضع يده على قبضة الحسام وإذا به قدر يده لا تزيد ولا تنقص وهو ملء كفه بالسواد ففرح بذلك فرحاً شديداً ما عليه من مزيد وأراد الخروج من ذلك المكان فوسوس له الشيطان وقال في نفسه هل ترى ذلك الميت فيه روح يتحرك بها حتى أنه رفع يديه لك حتى أخذت اللوح وثانياً أخذت هذا الحسام ولكن لو كان فيه روح كان يقدر على الكلام وإن كان ما فيه روح كان بلي لحمه وعظمه وأنا أرى أن بدنه موجود بالتمام ولا بد أن أرفع عن وجهه اللثام وانظر هل هو حل بالصحة والسلام وإنما لسانه فقط معجوم عن الكلام أو يكون مات من سنين وأعوام وما بقي منه إلى مراود العظام وتحركاته هذه من جملة الكهانة وعلوم الأقلام وثانياً إذا قلت لأحد ممن اجتمع عليه مثل عطمطم وسعدون وأفراح وغيرهم من الأصحاب أنا وصلت إلى قصر سام بن نوح وأخذت منه سيف [كذا] ولوح [كذا] ربما قال لي أحد هل أنت سرقتهم [كذا] أو أعطاهم [كذا] هو لك فإن قلت سرقتهم [كذا] كذبت وإن قلت هو أعطاني يقول الناس إن سام مات من مدة أعوام فأنا لا أخرج حتى أنظر وجهه إن كان حياً أو ميتاً ثم أنه عاد حتى دخل إلى السرير وكان قد تقلد بالسيف وكان تقلده سبباً لنجاته وتقدم ورفع اللثام الأول والثاني ورفع الثالث فحصل له هيبة فتجلد حتى رفع كامل الأستار وكل لثام وأراد أن يتأمل في وجه ابن نبي الله سام ففتح عينيه شاهقاً ونظر إلى سيف بعين كأنها الدم الأحمر ونفخ فخرج من فيه شرار ونار وقائل يقول يا قليل الأدب يا أخس العرب بلغ من قدرتك أن تكشف وجه الأنبياء في هذا المكان من بعد ما والاك بالجميل»(12).

سام بن نوح شخص عجائبي، لأنه عاد من الموت وتحدث مع الملك سيف ثائراً على كشف وجهه، وقد تمكّن الراوي من وصف حالته باحمرار العينين والشرر الذي خرج منهما، واستطاع من خلال هذا الوصف «خلق مشهد عجائبي يثير الدهشة»(13).

من جانب آخر، يعمد الراوي «في كل أوصافه إلى اختيار مفردات وعلامات أسلوبية تساهم في تخصيص وصفه، انطلاقا من استعماله لاستعارات تعاقبية تتعلق بالشكل وكل الأدوات البلاغية مثل التكرار في استعمال نسقي لوحدات منفصلة، قيلت أو ستقال، والروابط التي تدفعها إلى خلق مدونات وصفية، تعطى لكل موضوع وصفي مصطلحاته الخاصة»(14). وهذا ما يمكن تلمّسه في الشخصيات المركبة التي بناها الراوي من أكثر من جنس ليخرج بشخصية عجيبة.

الشخصيات المركبة

ينحت الراوي من عدَّة كائنات كائناً مختلفاَ عنها جميعها، ولجعل الشخصية أكثر عجائبية، يقوم بتشبيهها بإحدى الحيوانات المفترسة، مثل الغيلان التي أفرد لها وادياً أسماه «وادي الغيلان»، فيصفها الراوي بقوله:

«وقام سيف وقعد على فرع من الشجرة يتفرع عن تلك الأراضي والصحراء، فرأى شيخاً مقبلا إلى نحو تلك الشجرة من دون الأشجار فتأمله الملك سيف وإذا هو شنيع الخلقة له وجه مدور كدائرة الترس، وأما حنكه وأنفه فهما في وجه قدر حنك وأنف الجاموس، وخارج له أنياب كأنها ملاليب [كذا] وآذانه كبار كأنها المطارح وله أظافر كأنها الخناجر وعلى بدنه شعر مثل شعر القنفذ، عيناه مشقوقتان، حمر الألوان كأنهما النيران، وهو كريه الرائحة والمنظر، وجهه يتوقد شرر [كذا] فلما رآه الملك سيف على هذه الحالة استعاذ بالله تعالى»(15).

هذه الغيلان اختلقها الراوي لتكون؛ فيما بعد، مساعداً مهماً للملك سيف في القضاء على عماليق وادي الطودان، هذا الوادي الذي رمى عيروض فيه الملكة شامة بناءً على أمر قمرية للتفريق بين الملك سيف والملكة شامة من جهة، والقضاء على الملك سيف برميه في وادي الغيلان. وللوصول إلى مبتغى الراوي، جعل بينهم غيلونة، وهي كبيرتهم والآمرة فيهم، وهي التي ستنقذ الملك سيف وتدافع عنه، بعد أن أوصاها أبوها بانتظار الملك سيف والدفاع عنه حينما يأتي إلى هذا الوادي بعد سنوات طويلة:

«وكان هذا غولا من غيلان ذلك الوادي وقد عرف رائحة الملك سيف وهو على الشجرة، فاقبل عليه وقصد أن يفترس به [كذا] ويأكله، ولما وصل إلى الشجرة ووقف تحتها باهتا في وجه سيف ساعة زمانية، وتركه ورجع إلى الطريق التي أتى منها فلما نظر الملك سيف إلى ذلك، حمد الله تعالى على رجوعه عنه وقعد وظن في نفسه أنه ما بقي يعود إليه، ذلك الغول وإذا بالغول تباعد مقدار ساعة وعاد معه جماعة مثله كلهم غيلان مقدار أربعين، وما زالوا مقبلين حتى بقوا عند الشجرة التي عليها الملك سيف بن ذي يزن، واحتاطوا بها من كل جانب ووقفوا وتأملوا الملك سيف ونظروا إلى بعضهم البعض وتكلموا بكلام غريب لا يفهمه عاقل، ولا لبيب وبعد ذلك انصرفوا جميعا إلى حال سبيلهم، فحمد الله الملك سيف وزال عنه الخوف وبعد ذلك عادوا مرة ثالثة ومعهم عجوز شمطاء بشعر أبيض مثل اللبن (الحليب) وبدنها كالقطن المندوف، هذا وقد أقبلت العجوز الى تلك الشجرة ونظرت إلى الملك وهو فوقها وتأملته، وحققته والتفتت الى قومها وكلمتهم بلسانها، فامتثلوا لأمرها ومضوا إلى حال سبيلهم وجلست هي تحت الشجرة وبقي الملك سيف فوقها قاعدا ينظر لها، إلى آخر النهار فأشارت له بيدها يعني ينزل عندها فقال لها: أنا لا يمكنني النزول فان الذي ينزل عند الغول يكون هالكا اما مقتول، وأما مأكول، فضحكت الغول ونطقت بلسان عربي فصيح وقالت له: انزل يا ملك سيف ولا تخف من الغيلان فانا كبيرتهم، وأنا احميك منهم لأني الحاكمة عليهم ولك مني الأمان ومن جميع الغيلان فاطمأن الملك سيف وقال لها: يا هذه أنا ما أصدق»(16).

ولمعرفة أصل هذا الوادي وكيف تشكَّل هذا المخلوق العجيب، تروي غيلونة قصتهم للملك سيف:

«فقالت له: يا سيدي اما الغيلان هذه فان لهم سببا عجيبا وهو أن ابانا كان حكيما من حكماء ذلك الزمان، وكان صاحب فهم وإدراك، وكانت مدينته مدينة السحر الأسود وكان أبي حاكما وملكا عليها، ورعاياه كلهم أقارب أولاد عم، وحبايب، فوقع بينهم مخاصمة وكلام وأرادوا أن يتكبروا عليه وصاروا يقطعون الطرقات ويخونون السبيل فبلغه ذلك فقبض على جماعة منهم فتعصبوا عليه جميعا، وأرادوا أن يهلكوه، فلما رأى نفسه لا يقدر عليهم وإنهم لا يوقروه، ولا يبقون عليه، رحل هو وزوجته وجماعة عشيرته، وصار إلى أن وصل إلى هذه الأرض وعمر فيها ثم بنى أماكن وسكن هو وأهله جارة، فبالأمر المقدر والقضاء الذي ما للعبد منه مهرب ولا مفر، بليت زوجته بداء الحكة في فرجها، ويبرد عليها، وفي بعض الأيام لأجل تمام الاحكام كان ابونا أنشأ بستانا في هذا المكان وغرس فيه فواكه من سائر الألوان، وكانت زوجته تأتي في كل يوم إلى ذلك البستان وتنام فيه من شدة ما بها، فيوم من الأيام قاعدة في ذلك البستان ساعة الظهر فتحرك عليها ذلك الداء في فرجها مثل العادة فأخذت عودا من الحطب اليابس، وصارت تحك به فرجها فلم يزدد إلا أكلان فكادت أن تقتل نفسها، ومن شدة ما هي فيه نامت على ظهرها ورفعت رجليها إلى شجرة وهي مرفوعة الذيل، تريد بذلك تبرد الهواء لأجل الراحة فهب عليها النسيم فنامت على ذلك الحال وارتاحت من غليان فرجها، فجعلت هذه الفعال دأبها، وبقيت كل يوم تأتي وحدها ممنوعة عن الرجال لا أحد ينظرها، وأعلمت أبانا بذلك وهل ذلك البستان برسمها وخرج [كذا] على الناس لا يدخل فيه أحد غيرهما، وأقامت كذلك مدة، فاتفق أن ذئبا دخل البستان فنظر إليها وهي نائمة على تلك الحالة فتقدم اليها وجامعها وأمنى فيها، وكانت افاقت والذئب معها في الجمال فلم تقدر أن تتحرك خوفا من الذئب ان يأكلها، ولما نزل عنها وراح، قامت على رجها [كذا] وكتمت سرها، وفي تلك الليلة قعدت تصنع طعاما في بيتها، فتحرك عليها الداء من صهد النار، فأخذت عودا من الحطب وكان قدام النار وحكت فرجها فدخل الدخان، ومنى الذئب في فرجها وانكتم، وفي ذلك الوقت دخل عليها أبونا وجامعها فاجتمع منى الذئب والدخان ومنى ابينا فحملت منهما بارادة باسط الأرض، ورافع السماء، وكمل أوقات حملها فوضعت اثنين ذكراً وانثى على تلك الصفة التي تراها من شناعة الخلقة وكراهة الرائحة، فلما نظر أبي إلى ذلك أراد قتلهما وهو حكيم فضرب تخت الرمل ليكشف خبرهما، فرأى ذلك الوادي موعودا بهم ويسمى باسمهم وأنهم يخلفوا فيه وتكثر ذريتهم، وينمو فيه إلى أن يمتلئ الوادي منهم وهلاكهم على يد شخص، يقال له سيف اليزن بن الملك ذي يزن الحميري التبعي اليمان»(17).

ومثلما خلق الراوي هذه الشخصيات، جعل العجيب أصلاً فيها، فباختلاط أصلي الذئب والإنسان والدخان، تشكل هذا الجنين الغريب، الذي لا يشبه أي أصلٍ من أصوله، فليس هو من الذئب بشيء، ولا من الإنسان ولا الدخان، بل كائن جديد يمتلك من القوة ما لا يمتلكه الكائن الطبيعي أولاً، ومن ثم تستطيع أن تخوض المعارك لوحدها، وثالثاً جعل العجيب من هذه الشخصيات كائنات منعزلة، سكنت في وادٍ مغلق لم يدخله إنسان منذ أن ولدت فيه هذه المخلوقات إلا الملك سيف لكونه المخلص الوحيد لها، أو القادر على القضاء عليها عن طريق الديك العجيب الذي اصطنعه أبوهم وخبَّأه في مكان لا يستطيع أي أحد الوصول إليه إلا الملك سيف بمساعدة غيلونة كبيرتهم:

«فينفتح الباب وتجد في قلب القفص ديكا مثل ديك الدجاج، واقفا ورقبته ملوية تحت ابطه فمد يدك اليمنى وسم باسم الله تعالى واخرج رقبته من تحت إبطه واعدلها [كذا] إلى مكانها وأنت تسمي باسم الله تعالى ولا تزل ماسكها، حتى أن الديك تلبسه الروح ويؤذن بقوته وهو كالرعد فاذا صاح أول مرة والثانية لا تخف واحذر ان يصيح الثالثة فانه يطير ولا تلحقه بعدها أبداً وأنت تعدم نفسك فارم له ذلك الحب فانه يخرج من القفص ولا يصيح ولا يتكلم فارصده وهو يلتقط الحب وامسكه ولا تخف وأغلق الباب واترك القفص وكل شيء مكانه وائت [كذا] إلي حتى أقول لك كيف تصنع وما تفعل بذلك من عمل فقال: سمعا وطاعة وسار الملك سيف كما امرته حتى اتاها بالديك وقال لها يا اماه فعلت كل ما امرتني به فماذا اصنع بذلك فقالت له اعلم يا ولدي انك تأخذ ذلك الديك وتروح إلى حال سبيلك، فاذا اصبح الصباح فإن الغيلان جميعا يأتون خلفك، منجذبين وأنا معهم أيضا لأني ما أقدر أظهر لهم شيء [كذا] من ذلك، فإذا لحقوك فاسحب ريشة من ذلك الديك وارمها عليهم، فتخرج الريشة من يدك مثل الحربة ولها شرر ونار فمهما وقعت بينهم أهلكت كل من نظرها منهم لأن كل من رآها يخرج منها شهاب فيجعله تراباً وهم خلق كثير، فإذا رأوا ذلك يهربون ثم يجتمعون ثانيا فإنهم ما لهم صبر ما دام ذلك الديك معك ويلحقونك ثاني مرة فارمهم بريشة اخرى ولا تزل تفعل بهم كذلك الى ان تقطع مسير ثلاثة أيام فتكون فرغت من وادي الغيلان فإنهم إذا رأوك خرجت من الوادي، هجموا عليك جميعا فارم الديك عليهم كله مرة واحدة فإنهم يموتون عن آخرهم، من وقتهم وساعتهم ولا يبقى بعد ذلك إلا انا وحدي بمفردي واجعل بعدهم على الله معتمدي»(18).

يسمي سعيد يقطين هذه الشخصيات «ممسوخات» وليست مركبة، ويقصد بها «الكائنات الناتجة عن تركيب أكثر من جنس، أو التي نجدها جنسا مختلف التركيب عن باقي الأجناس. ولقد برع الراوي في تركيب هذه المخلوقات وتنويعها، ومن بينها نجد العمالقة والغيلان»(19). يقطين يربط بين العمالقة والغيلان في كونها شخصيات ممسوخة، لكن العمالقة؛ وكما هو واضح في السيرة، ومن طبيعتها البشرية، ليست مخلوقات مركبة وليست ممسوخات، بل هي كائنات بشرية طبيعية تعيش في مدن، وتتزوج وتلد مثل أي إنسان طبيعي، إلا إن عجائبيتها تكمن في سمة محددة من سماتها هي ضخامة الجسم، وطولها الذي يتجاوز الستين ذراعاً كما أشار راوي السيرة. يُلاحظ في تركيب الغيلان أن الراوي لصق بهم «صفات ونعوت تجعلهم يتحولون ويمتسخون نتيجة عامل داخلي فيزيولوجي. أو عامل خارجي فوق طبيعي، فهي قبل كل شيء مشاركة في فعل وفي اطار سردي تستطيع خلق الحيرة في نفس المتلقي، ومثل هذه الشخصية تستطيع أن تقوض العديد من الوظائف في العالم التخييلي»(20).

وكما افترض الراوي وجود كائنات تتكون من ثلاثة عناصر، ابتكر كائنات أخرى تتكون من عنصرين فقط، هما: بني آدم والكلاب، فخلق ما عرف بالكلبيين الذين تجمعوا أيضاً في وادٍ خاص بهم، ولهم صفاتهم الخاصة:

«يا هل ترى إيش أصل هذا الوادي ولماذا سمي وادي الكلبيين؟ فقال الملك علم النصر: أنا أعلمك يا ملك فإن عندي به علماً ويقيناً والسبب فيه أنه كان بهذا المكان كاهن من الكهان قد اصطنع عاموداً من الرخام ورسمه بعلوم الأقلام وصور فوقه غزالة من الرخام مطلسمة ونصب ذلك العامود على بركة من الماء هناك ورصد البركة أيضاً بالطلسمات ووكل بها الخدام من الجان وكان ذلك الحكيم له ولد فقال له يا أبي لأي شيء تفعل هذه الفعال؟ فقال له: يا ولدي إن هذا الوادي يتغير بخلائق صورتهم بخلاف صورة الآدميين ويقال له وادي الكلبيين فبعد مدة أيام تخلقت وتناسلت تلك الخلائق وفي هذا الوادي وذلك أنهم كان لهم أغنام وكانوا يخافون على أغنامهم من الوحوش فاتخذوا الكلاب تسرح مع الأغنام لأجل منع الذئاب عنها فاتفق أن بعض النساء اتخذت لها كلباً وكان ذلك كلباً فاجراً فصار عزيزاً عندها حتى أنها من معزته علمته جماع النساء فجامعها فحصل لها منه لذة أكثر من زوجها وهذا لأجل النافذ في قضاء الله تعالى، ثم إنها علمت بعض النساء بما فعلت بكلبها فكل من كان لها كلب تفعل به ذلك الفعل ولما زاد بهن الحال صارت كل امرأة تحتال على زوجها وتقتله وهو نائم حتى افنين جميع الرجال واستغنين بالكلاب وصرن يحملن من الكلاب وعند الوضع إذا كانت المولودة أنثى آدمية يتركها [كذا] وإن جاءت على صورة الكلاب يقتلنها وإذا وضعت ذكراً فإن جاء على صورة بني آدم قتله [كذا] وجاء على صورة الكلاب تركته [كذا] حتى بقي هذا العمل عندهن سنة لا يخالفنها وصارت النساء من بني آدم الرجال كلاباً وامتلأ الوادي ثم أن هؤلاء تركوا [كذا] القتل وصار كل من ولد يربى على أي صورة حتى صاروا على صور شتى منهم على صورة الآدمي وله شعر على جلده حتى تكاثروا وهم على تلك الصفة، فجعلوا يتناكحون مع النساء ولا يدرون أهم أمهاتهم أو بناتهم وزاد تجبرهم وتكبرهم فجعلوا يسيحون في الأرض وإذا رأوا واحداً من بني آدم يأكلونه ولا يبقونه وقطعوا الطريق وخانوا الرفيق»(21).

وفي كل مرة، هناك كاهن وحكيم يضع خطة ليأتي الملك سيف وينفذها، للقضاء على هذه المخلوقات، مثل ما حصل مع وادي الغيلان، لكن الخطة تتغير مع وادي الكلبيين:

«(قال الراوي): ثم إن الملك علم النصر قال للملك سيف بن ذي يزن: أن الكهين الذي طلسم العمود قال لوالده أنا يا ولدي قرأت الكتب والملاحم القديمة فرأيت أن يأتي إلى هذا الوادي بعض مسافرين مؤمنين على دين الخليل ابراهيم الذي أنا اتبعته وقد دلني عليه الرمل أنه هو الدين القويم والصراط المستقيم فلما علمت ذلك جعلت أصنع شيئاً يكون فيه الصلاح لأهل الايمان وهلاك الكلبيين ذوي الطغيان فصنعت هذا العمود والغزال المرصود وأرصدت مياه البركة وكل من أتى إليها من المسلمين ونظر فيها تحسنها له الخدام حتى ينزل فيها فإذا فعل ذلك فإن الكلبيين لا يقدرون أن يصلوا إليه ويبعدون عنه ولا يقربونه ورصدت العمود والغزال بما في جوفهما من الحجر والمعادن وهذا يجلب الوحوش إليه فيطوفون به مثل ما تطوف [كذا] الحجاج البيت الحرام الذي بناه خليل الله إبراهيم عليه السلام فإذا أتت إليه الوحوش وشربت من الماء ونظرت بأعينها إلى العمود تخرج من أعينها دموع تريحها ولا تؤذيها فتسيل على الأرض وتنعقد حجراً وهو حجر معدني غال وإذا أخذ منه بعض الملوك وجعلوه في أماكنهم أما في السقف أو دائرة القبة فانه نزهة وينتج منه الهيبة والوقار في منازل الملوك الكبار، وما فعلت ذلك إلا راغباً في الثواب من رب الأرباب، ولأجل أن المؤمنين ينصرون على الكلبيين وهذا ما صنعت يا ولدي من الآثار»(22).

هذه الشخصيات اختلقها الراوي من جنسين مختلفين: بني آدم والكلاب، لكنه لم يفسر سبب وجودها في السيرة، ولم يكن لها تأثير مباشر على سير الحكاية، إلا في اكتشاف الملك سيف السمكة العجيبة التي لولاها لأكله الكلبيون. لكن تشكلهم العجيب أضاف لهذه المخلوقات صفات أخرى، أولاً هي تشبه البشر في طباعهم، تتحدث وتتزوج كأي إنسان، بعضها على شكل بني آدم، والآخر على شكل الكلاب. ومن ثم جمعت بين طبيعة البشر وقوة الكلاب، فهي تأكل البشر الآخرين، ولا تأكل الأحياء من بني جنسها، بل الأموات فحسب. لهذا تجمع بين الطبيعتين البشرية والحيوانية. ويرى حليفي أن «الغاية من هذه الأوصاف للمظهر الخارجي للشخصية ترتبط بتأدية وظيفة تساهم في تأكيد الفانتاستك وسمة التعجيب في هذه الشخوص»(23).

تميز الراوي في سيرة الملك سيف بقدرته على اختلاق شخصيات وتشكيلها على خلفية الأسماء المعروفة في التاريخ العربي، فالغيلان حيوانات حقيقية موجودة، لكن ليس بالصورة التي قدَّمها في السيرة، وكذلك ما يعرف باسم الكلبيين، فهي قبيلة عربية معروفة، لكنه استعار اسمهم في خلق جنس مركب من كائنين مختلفين. هذا التركيب وغيره يبين لنا «قدرة الراوي على اختلاق وابتداع شخصياته العجائبية المتعددة. ومعظم هذه المخلوقات نجد العديد منها ذا طابع مرجعي يستمد وجوده مما تقدمه المصنفات المختلفة أو ما تراكم في الثقافة الشفاهية، الشيء الذي يجعلنا ونحن نميز بين المرجعي والتخييلي، أمام ضرورة التأكيد على أن الشخصيات في السيرة الشعبية غير قابلة لأن نضعها في خانات نهائية، فالتداخل حاصل بين مختلف هذه الأنواع بشكل مطلق. لذلك فالشخصية (المرجعية) محملة بعناصر واقعية، وأخرى تخييلية، وثالثة عجائبية. فما دامت تعايش النوعين الآخرين، وتتفاعل معهما، فإنها لابد أن تصطبغ بسمات النوعين الآخرين. ويمكن قول الشيء نفسه عن بقية الشخصيات. وهذا ما جعلنا منذ البداية نحتاط في استعمال تصنيف محدد لهذه الشخصيات وفق ما هو مألوف في الأدبيات الموجودة»(24).

لم يكن الكلبيون مؤثرين في رحلة الملك سيف، ولم يظهر منهم مساعد يقدم له بعض الخدمات لكي يستمر في طريقه، إلا أن وجودهم جعل الخضر يرسل له السمكة العجيبة التي اصطادها اثنان من الكلبيين ليأكلاها، ومن ثم ألقيا القبض عليه ليتقاسماه أيضاً، لكن الملك سيف يتحايل عليهما وينقذ السمكة، التي يتفق الخضر معها؛ فيما بعد، لتكون له عوناً في الهرب منهم. هذه السمكة التي تجمع بين طبيعة السمك وبعض صفات البشر:

«فالتقى باثنين صيادين [كذا] سمكاً [كذا] ومعهم شبكة الصيد يحملها أحدهما والثاني حامل سمكة مثل بني آدم وجهاً وصدراً ويدين ورأساً وشعراً ولها فرج مثل فرج المرأة ولها ألية مغطى بها فرجها وجسدها مثل الغضة [كذا] البيضاء النقية إلا أن رجليها مثل اذناب السمك فلما نظر الملك سيف إليهما قال لهما من أنتما قالوا له: نحن صيادان طلعنا فاصطدنا هذه السمكة وهي أحسن من لحم الضأن وفصيحة بالنطق باللسان وهي تسمى الجذع وكنا أردنا نقسمها ونأكلها وها أنت أتيتنا فأنت نظيرنا فأحدنا يأكلك والآخر يأكلها وليس لك خلاص»(25).

الوصف الذي قدَّمه الراوي للسمكة جعلها تجمع بين جنسين مختلفين: الإنسان والسمك، لكنه مع هذا جعل الصفة الإنسانية غالبة عليها، فمثلما ساعدها وخلصها من يدي الكلبيين، ساعدته أكثر من مرة ورهنت نفسها له بعدما أمرها الخضر بهذا. سمكة الجذع استقاها الراوي من الحكايات الشعبية العربية، وهي ما تعرف ب«حورية البحر»، التي عُرفت من خلال ألف ليلة وليلة، وحكايات السندباد فيها، ومن ثم وجودها في أغلب ثقافات العالم القديمة، فما توجد حكايات شعبية في أي بلد، إلا ونقرأ حكاية عن حورية البحر.

فهذه السمكة هي طبيعية كإنسان، وطبيعية أيضاً كسمكة، لكن هذا الجمع بين الجنسين جعل منها مخلوقاً عجيباً، لكن الراوي جعل منها مفرداً لا جماعة، مثل ما فعل مع الغيلان والكلبيين. ففي أغلب الوديان التي مرَّ بها الراوي، هناك جماعات تعيش مع بعضها، إن كانوا بشراً عاديين، أو عماليق، أو غيلاناً أو كلبيين، فاليابسة تسمح للخيال أن يشكل هذه الشخصيات ويعطي أسباباً لخلقها بهذا الشكل، لكن الراوي لم يعطِ أسباباً لتشكُّل سمكة الجذع، بل ترك الخيال للقارئ ليجد أسباب هذا التركيب، لهذا تركها مفردة، تعيش لوحدها في البحر، ولم يكن همها بعدما أنقذها الملك سيف إلا مساعدته في القضاء على الكلبيين وخلاصه منهم.

الجان

يربط الباحثون الحكاية العجائبية بالجان، فلا تخلو هذه الحكاية من أحد أنواع الجان، لأنهم يمثلون التردد والخوف ولحالات الشك تمثيلاً واضحاً، وقد استحوذ «على الفكر الميثولوجي عند جميع شعوب العالم منذ أقدم العصور؛ وذلك لما يتمتع به الجن من قوة خفية تفوق قوة الإنسان مرات ومرات، مما جعل الإنسان يفكر في كنه هذا الوجود، وحقيقته وأشكاله، وتأثيره، الأمر الذي أثرى فولكلور الشعوب بحكايات الجان»(26). وفي السيرة الشعبية عموماً، وسيرة الملك سيف بن ذي يزن على وجه الخصوص، يشكل الجان محوراً رئيساً، يفوق عدد الشخصيات الأخرى، بشرية أو حيوانية؛ بسيطة أو مركبة. فهناك عوالم متعددة من الجان، فيها أنواع مختلفة منهم. فالجان يشكلون «بمختلف أجناسهم وأنواعهم عالماً متكاملاً من الشخصيات التي لا تخلو سيرة من السير من حضورهم. فهم يتفاعلون مع عالم الإنس، يقدمون له يد العون، أو يسعون إلى إلحاق الأذى به»(27). ومن ثمَّ «تضطلع بأدوار خارقة تجسدها أفعال بعينها من مثل معرفة الغيب، وطي الأرض ومحو المسافات في لمح البصر»(28). بحسب ما ترى الدكتورة الخامسة علاوي، لكن كلامها هذا لا ينطبق على الجان وحدهم خاصة بما يتعلّق بمعرفة الغيب، بل هناك الحكماء والمطلعون على الكتب والملاحم القديمة، فهم الذين يعرفون الغيب في سيرة الملك سيف بن ذي يزن وليس الجان. كما أن الأرض تطوى للأولياء والصالحين أيضاً وتمحى المسافات لهم، وليس الجان فقط من يستطيعون القيام بهذه الأفعال الخارقة.

يلعب الجان دوراً مهماً في سيرة الملك سيف بن ذي يزن، وهم ينقسمون إلى عدة أقسام، منهم من كان مسلماً يؤمن بدين التوحيد، ومنهم من يكون «في خدمة إبليس الذي يجندهم لإلقاء الفتنة، أو في خدمة أحد السحرة الذي يسوؤه ما يحقق المسلمون من انتصارات فيسعى إلى محاربته مسخرا أعتى الجن وأشدهم تجبرا»(29). وهم بهذا أقوام وجماعات، ملوكاً وخدماً، وكل ملك يسيطر على جماعات كبيرة من الجان، وله قصر ومكان معروف، يتزوجون من بعضهم، وينجبون، مثل أي جماعة بشرية معروفة.

يشكل الجان العاديون النسبة الكبرى في السيرة الشعبية، لكن هناك جاناً لهم صفات خاصة لا يمتلكها إلا هم. يمتلك الجان (العاديون) قدرات خارقة بالقياس إلى القدرات البشريّة، فهم يستطيعون دخول أي مكان مهما كان مغلقاً أو مؤمّناً؛ ما عدا الأماكن المطلسمة التي منعوا منها، ويسيرون بسرعة خارقة، فيقطعون المسافة التي يقطعها الإنسان بشهور وسنوات بأيام قليلة. ومن ثمَّ يعرفون ما يحدث في أية بقعة في العالم من دون أن يتحركوا من مكانهم. هذه القدرات هي الطبيعية بالنسبة للجان، لكن بعض الجان الذين لهم قدرات خارقة ربما لا يمتلكون بعض قدرات الجان العاديين، بل لديهم قدرات تختلف، مثل الرهق الأسود، فهو الوحيد الذي يتمكن من رفع عتلة يافث، لكنه لا يعلم بما يجري حوله من أحداث، ومنها أن النبي سليمان (ع) حبسه في عمود، وبعد أن أخرجه الملك سيف من هذا العمود سأل عن النبي سليمان (ع) وتمنى أن يسامحه ولا يسلط عليه عقاباً جديداً:

«فقال الملك سيف: نادوا في الرجال والأعوان اننا نريد الرهق الاسود والعتلة لأجل اجراء بحر النيل بهما، فانه لا يجري من غيرهما، فلما نادوا بذلك النداء وسمعت الجان بذكر الرهق الأسود تنافروا وارتعبت قلوبهم وخافوا خوفا شديدا فثبتتهم الحكيمة عاقلة وقد قالت: لا تخافوا ولا تفزعوا، فقالوا لها: يا أم الحكماء هذا الرهق الأسود شديد البأس صعب المراس وإن أراد الملك ان يخدمنا فنحن نجتهد كل الاجتهاد أكثر من الرهق ولا نتأخر في فعلنا ولا لحظة، لان الرهق الاسود نقلت الرواة ان عزمه قدر عزم أربعين رهط [كذا] من الأرهاط الكبار، وكل رهط عزمه أربعين عونا من الأعوان، وكل عون عزمه أربعين ماردا وكل مارد عزمه قدر اربعين جنيا وعفريتا، وأما الجني والعفريت فعزمهما على قدر واحد وإما الجني يزيد عن العفريت بكونه لا يتصور للإنس في اشكال يرونه فيها ويفعل في انقلابه كيف يشاء وأما العفريت فلا يمكنه أن ينقلب من صورة إلى صورة ابدا ثم قال الجان ما لنا قدرة على مقابلة الرهق الاسود ابدا»(30).

هذا المقطع من السيرة يوضح طبيعة الجان وتقسيمهم وأنواعهم، فهناك رهط، والرهط يساوي أربعين عوناً، والعون يساوي أربعين مارداً، والمارد يساوي أربعين جنياً وعفريتاً.

ويستمر الراوي في وصف قوة الرهط الأسود بقوله:

«فقالت له الحكيمة عاقلة يا ملك هو مسجون في أشد الحصار ولو كان مطلوقا ما كان أبقى على وجه الارض من الجان ولا ديار لأنه يا ملك جبار عنيد وشيطان، مريد لا يقطع في بدنه عزائم ولا اسماه [كذا] ولا سلاح ولا حديد ولا تقل يا ملك ان سيف آصف يقطع فيه ولا يؤثر ابدا في بدنه، لأنه لعين جبار وهو يعبد النار دون الملك الجبار مكور الليل على النهار وهو أقوى عزما من جميع الجان وأنه عصى نبي الله سليمان فحبسه في القصر الحديد في عمود من الرخام مجوف وهو في قلبه»(31).

قوة الرهق الأسود هذه جعلت منه الرهط الوحيد القادر على رفع عتلة يافث التي ما أن يدور حتى يجري نهر النيل ويسير إلى أراضي مصر، لكنه ليس الوحيد الذي يمتلك هذه القوة الخارقة، فهناك أيضاً السميذع الذي سجنه نبي الله سليمان (ع) أيضاً:

«فالتفت الملك سيف على [كذا] الهدهاد وقال يا حكيم الزمان وإيش يكون هذا السميذع حتى أن الجان جميعاً يفزعون منه فقال له الهدهد هو مارد جبار فاجر وهو محبوس في كنوز السيد سليمان عليه السلام فقال الملك سيف: يعني هذا يكون أشد بأساً من الرهط الأسود فقال الهدهاد: يا ملك الرهط الأسود جبار أيضاً ولكن هذا السميذع مسلسل في عمود مجنزر بمائة جنزير بالحكمة كل جنزير مشدود في عمود في مائة جنزير والمائة عمود عليها معقود قناطر هي التي حاملة قصر الديوان الذي فوق الكنوز وهي أسفلها في أراضي الكنوز وأعلاها حامل القصر فإذا تمرغ ذلك الملعون فإنه يهز الكنوز كلها ولكن الوزير آصف بن برخيا جاعل رأسه طلاء بالحكمة إذا تحرك وتمرغ في مكانه فإن الكنوز تهتز من جبر ذلك الجبار فعند ذلك يضرب الطبل على أعلى العمود الذي هو مسجون فيه فإن سمعه يدوخ وينخمد وذلك كله صانعه الوزير آصف بن برخيا وزير السيد سليمان عليه السلام فيسكن ولا يتحرك»(32).

ويستمر الراوي في وصف السميذع بعدما أخرجه الملك سيف من العمود الذي كان مسجوناً فيه:

«فخرج من العمود دخان وعبق الدخان وأظلم المكان، وتصور مارد لكن مهول الخلقة أشعث الوجه كريه الرائحة منتن الفم له يدان كالمذاري ورجلان كالصواري وفمه كالزقاق، وطوله كالنخلة السحوق»(33).

هذه الصفات العجيبة جعلت من السميذع الأقوى بعد الرهق الأسود، وهو الذي سيقتله بأمر الملك سيف. لكن قوى السميذع الخارقة تجعله فوق طبيعيٍّ بشكل ملفت، لأن الرهق الأسود رهط يساوي في قوته أربعين رهطاً، ومن ثمَّ سيساوي السميذع؛ وهو المارد، أربعين مارداً في أربعين عوناً في أربعين رهطاً، بمعنى أنه يساوي أربعين وستين مارداً من نوعه هو، حتى يتمكن من الوصول لقوة الرهق الأسود.

القوة المفرطة التي امتلكها كلٌّ من الرهق الأسود والسميذع ليست كافية لتغيّر بنيتيهما الجسمانيتين، بل بقيا يشبهان الجان في كل شيء سوى تميزهم بهذه القوة، لكن هناك جاناً متفرداً ولد من أمه عاقصة وأبيه عيروض، اللذين تزوجا بأمر من الملك سيف بعد رفض عاقصة لهذا الزواج لسنوات طويلة، لكن بعد أن قدم لها مهرها، وهو فستان الملكة بلقيس الذي كان هدية النبي سليمان (ع) في ليلة زفافهما، ومن ثمَّ إعفاء الملك سيف له من الخدمة، وتتويجه ملكاً. هذا الزواج أسفر عن ولادة عفاشة الذي ولد بيد ثالثة كانت كافية ليكون متفوقاً على الجان، فقد أضافت له هذه اليد قوة خارقة، وإمكانية تحولها لأي شكل يريده، ومن ثم جعلت منه متحولاً لأي شكل يريده، وفي الوقت الذي يحتاجه:

«(قال الراوي): فلما سمع المارد منه ذلك الكلام قال له أنت عاجز غلبان ولا لك يدان ولا رجلان وإيش هذا الهذيان فاسكت عن شقشقة اللسان وإلا أجلد بك الأرض يا ذليل يا مهان ويا قطاعة الجان قال فلما سمع عفاشة منه ذلك الكلام أقسم على يده أنها تكون عليه أثقل من الجبل فثقله حتى بقي كأنه الجبل الراسخ فعند ذلك برك المارد من هذا الثقل العظيم فقال عفاشة ليده صيري سيفاً قاطعاً فصارت فأمرها أن تضرب رقبة ذلك المارد الذليل ففعلت به ذلك الأمر النكير وفي الحال تزيا بزي ذلك المارد ولبس ملبوسه وصار في صفته وسار إلى أن وصل إلى المتمسح في بيت الرصد»(34).

كان العجيب مؤثراً في بنية عفاشة حدَّ أنه تفوق على المارد، وهو الذي يعد أربعين جاناً حسب وصف الراوي، وقضى عليه عن طريق القدرة الخارقة التي أعطتها له يده الثالثة وإمكانية تشكّلها لتكون كثقل الجبل أولاً وتحولها سيفاً ثانياً، ومن ثمَّ تحول عفاشة نفسه إلى شكل المارد ليتمكن من دخول رصد الساحر الذي أمر بسجن الملك سيف في مدينة النحاس، وهو الوحيد القادر على الدخول لمدينة النحاس وإنقاذ الملك سيف، بسبب القدرات التي أضافتها له يده الثالثة.

قدَّم الراوي أنواعاً مختلفة من المخلوقات غير البشرية، مثل الجان بأنواعهم، وكان هذا «التنويع في خلق الأحجام والأشكال والصور والهيآت يجعلنا فعلاً أمام شخصيات عجائبية تتفاعل معها الشخصيات المرجعية، وتدخل إلى فضاءاتها الخاصة وتحاربها أو تتصارع معها.

وإذا كانت صور الجان بمختلف أشكالها معتادة لدى القارئ، فإن الراوي لم يدخر وسعا في تخيل كائنات أكثر عجائبية»(35). فكان الراوي بهذه النماذج وغيرها، قد تمكَّن من أن يبدع في خلق شخصيات لم تكن موجودة سابقاً.

الأولياء والصالحون

أشكال العجيب وتمثلاته تختلف من مخلوق لآخر في السيرة، فبنية المخلوقات المركبة تختلف عن بنية الجان، وبنية الجان تختلف عن الأولياء والصالحين بكراماتهم التي تمثل عجيباً من نوع آخر، فهؤلاء يتمثل بهم العجيب من خلال تشكلهم الروحي وطبيعتهم التي تختلف عن الطبيعة البشرية لتستثمر السيرة بذلك محمولات الثقافة الاسلامية عن الأولياء والصالحين الذين مثلّوا إلى حد كبير صورة مثالية للعبد في استجابته لإرادة المعبود، فهم يطوفون في الأرض وكأنها تحت أمرتهم، تطوى لهم، وتُختصر المسافات، ويكون الفضاء محوراً خاصاً لهم. وأفضل من يمثل هؤلاء (أبو النور الزيتوني)، رفيق الخضر. فالولي الصالح لا يقل حضوره «في السيرة الشعبية «عن حضور الجن والسحرة، وكأني بتوظيف الراوي لهذا النوع من الشخصيات العجائبية يريد تحقيق نوع من التوازن في صنع الأحداث وتحريكها. فإذا كان الساحر يستعين بثقافته السحرية، وبخدامه من الجن فالولي يستعين بما وصل إليه، نتيجة العبادة والزهد، من عناية ربانية. لذلك نجد قدرته ومعرفته أسمى وأعلى مما نجد عند الساحر. وإذا كان الساحر يركب زير النحاس لقطع المسافات البعيدة، يطلب الولي الصالح من البطل أن يغمض عينيه، ويذكر اسم الله، ويفتحها ليجد نفسه قطع مسافات أبعد وأطول. وفي كل اللحظات التي تظهر فيها شخصية الولي تتحقق جلائل الأعمال ومستحيلاتها»(36). لهذا قدَّم الراوي أبا النور الزيتوني وكأنه يتصرف كما يتصرف الخضر تماماً، بصورة تفوق صورة الساحر، على الرغم من أعداد الجان التي يتحكم بها، لأنه رسول الخضر الدائم للملك سيف بن ذي يزن:

«هذا وسار الملك طالب السواد الذي أوصوه عليه ولم يزل سائراً إلى وقت الأصفرار، فالتقى مدينة بين يديه فأقبل إلى بابها، وكان قد أمسى المساء، فنام على بابها وهو وحيد فريد، متوكل على الله الحميد المجيد، ولما طلع النهار، انتبه الملك سيف من منامه، وتأمل يميناً وشمالاً، فرأى على رأسه شخص [كذا] جالس [كذا] على صفة الصالحين فلما رآه الملك سيف خجل منه، ولكن ثبت جنانه، وتقدم وقبل يديه، وقال من أنت يا سيدي، فقال له: يا ملك الزمان أنا من أخوانك المنقطعين بهذا المكان وأنا أخوك في العهد والميثاق، وما أرسلني إليك إلا شيخنا بالأتفاق، فقال له: ومن هو شيخنا، قال شيخنا الخضر عليه السلام وقد أرسلني، وقال: أمض للملك سيف وساعده على ما هو طالب، فأتيت يا ملك ممتثلاً لما أمرني»(37).

الخضر أرسل أبا النور الزيتوني ليقدم له ذخيرته التي ستنقذه في رحلته لإنقاذ خادمه عيروض الذي ذهب إلى كنوز النبي سليمان (ع) ليجلب بدلة بلقيس مهراً لعاقصة، وهذه الرحلة كانت بحاجة لقدح الأكل ولجانٍ مختلف يستطيع أن يحمل الملك سيف عبر جبال قاف والبساتين والأماكن المطلسمة، لكن أبا النور الزيتوني لا يحتاج لأي وسيط عجائبي، فهو يستطيع أن يفعل أي شيء بمجرد أن يطلب:

«ثم إن الأستاذ، قال: يا عمار هذا المكان أئتونا [كذا] بشيء من الزاد نسد به رمق الفؤاد ولو من التمر فما أتم كلامه حتى ظهر قدامه طبق من الخوص وفيه تمر أحلى من الشهد ثم التفت الشيخ إلى الملك، وقال له كل من هذا وأرم نواه على ما تستطيع فصار يأكل التمرة ويحذف بنواه في جهة، وكان غالب الحذف جهة الشرق، فقال الأستاذ يا ملك سيف أعلم أن الأرض التي حذفت فيها نوى التمر فإن وزير أبيك بنى فيها مدينة، وكان أسمه يثرب وأنت حذفت فيها ذلك النوى وأنه بقدرة الله تعالى كل نواة منه يخلق الله منها نخلة تطرح مثل هذا والناس يأكلون ويزرعون نواه حتى يكثر النخل في تلك الأرض وما يليها ويكون غالب مؤنة سكانها من ذلك التمر، (وأعلم) يا ولدي أنه يسكنها رجل مسعود من أشرف عدنان وهو نبي آخر الزمان ويأتي بكتاب صحيح وآيات وبرهان وعلى يديه يثبت الإيمان وأمته أشرف الأمم (ص)، فيا سعادة من عاش إلى أيام نبوته وتكون دانية على شريعته فأن أصل إيجاد الوجود الذي اصطفا [كذا] الله من كل موجود وأنا أول ما أقول أني آمنت به وبرسالته، وأسأل الله تعالى أن يقبض روحي على ملته فلما سمع الملك سيف هذا الكلام بكى، فقال له الأستاذ: لا تبك فأنك أعطاك الله تعالى إيمان فاحمد الله العزيز الديان، فقال الملك: سيف بن ذي يزن الحمد لله رب العالمين وبعدها قال الأستاذ قم حتى نقابل الملك شاه الزمان، فأنه لك في الانتظار وقد أحاطت به أعداؤه وهم عباد النار فقم بنا حتي ننصره كما نصرك، لأجل أن يبقى لك عليه منه نظير منته، فقام الملك سيف، ووضع يده في يد الشيخ أبي النور فأشار الشيخ إلى النهر فانطوى وصار كأنه الخلخال، بساقية وخطاه الشيخ وتبعه الملك سيف وهو يتعجب من هذه الكرامات.

(قال الراوي) ومكث الأستاذ يتحدث مع الملك بن ذي يزن ساعة وإذا بالنهار أضاء، فقال الأستاذ: هذه مدينة صاحبك الملك شاه الزمان فنظر الملك سيف بن ذي يزن فوجد بين يديه غبرة ثائرة وخياماً منصوبة، وخيلاً مجنونة وأموراً تدل على حروب ثائرة فالتفت للأستاذ، وقال له: يا سيدي إيش هذا، فقال الأستاذ يا ملك لم يكن لي فيه لأني أنا شغلي فرغ ولم يبق إلا شغلك أنت لأن هؤلاء قوم مجوس يريدون أن يهلكوا شاه الزمان ويأخذوا أرضه وهذا المكان وها أنت أتيته وأنت ملك هذا الزمان وحاكم الأنس والجان، وأما أنا فقصدي السياحة لأتبع أستاذي فلا تؤاخذني لأن الملامة أخذت حقها ومني عليك السلام كلما ناح الحمام ثم أن الأستاذ قال: يا ملك سيف لا تسأل عني ودخل في مغارة في وسط الجبل ونظر الملك سيف إلى أفعاله فارتاع من أعماله(38).

أبو النور الزيتوني لا يختلف كثيراً عن الشيخين جياد وعبد السلام اللذين كانت لهما كرامات عجيبة قبل أن يتوفيا، لكن كراماتهما استمرت بعد وفاتهما، فحولهما الراوي لطائرين رافقا الملك سيف وأنقذاه أكثر من مرة. فأبو النور الزيتوني والشيخان يعلمون الغيب وتطوى لهم الأرض، كما يمكن أن يتمثلوا بأي شكل يريدون، ومن ثم يستطيعون الظهور بمختلف الصور والأشكال، إن كان في الحقيقة أم في المنام. إن «المعرفة بالغيب، وطي الأرض، والظهور في المنام للإخبار بشيء ما، أو لمخاطبة شخصية ما لفعل شيء ما، هي بعض من الأعمال العجيبة التي تقوم بها هذه الشخصيات لتوجيه الأفعال أو تحريك الأحداث وجهة معينة. إن الولي سواء كان حيا، أو ميتا يساهم بدور هام في أحداث السيرة الشعبية. وهم جميعا، بصورة أو بأخرى يعملون مستقلين أو جماعات تحت إمرة «ولي الأولياء» الخضر أبو العباس (ع)»(39).

كما أن هناك شخصيات عجيبة تلجأ «في بعض الأحيان إلى تحقيق ذاتها من خلال الرؤى الصوفية وتتجاوز محدوديتها الإنسانية، بتحولها إلى كائن عجائبي له قدرات خارقة. ونجد شخصيات عجائبية أسطورية، ينبع العجيب منها من تحدي الإنسان للطبيعة في كسر قوانينها، ويمتزج الواقع بالوهم، لتدخل في عالم غير مألوف أشبه بعالم الأبطال الأسطوريين الملحميين»(40). ويشير ميخائيل باختين إلى أن صورة الإنسان في الخرافة «تُبنى دائماً، على ما في الفولكلور الخرافي من تنوع، على موضوع التحول والثبات (مهما تنوّع المضمون المشخص لهذين الموضوعين). وينتقل موضوع التحول - الثبات من الانسان إلى العالم الإنساني - إلى الطبيعة وإلى الأشياء التي يصنعها الانسان ذاته»(41).

ولا يتوقف الراوي عن طرح العجيب بثياب جديدة في كل مرة، فمثلما صوَّر الولي الصالح والساحر والكاهن بصور متنوعة، صوَّر أيضاً شخصيات مرجعية جاءت لخدمة الملك سيف مثل سطيح الكاهن الذي كان بانتظاره ليدله على المركب الذي يعبر من خلاله البحار الواسعة ليكمل رحلاته التي انتهت بنشر دين التوحيد وإقامة العدل في أكبر مملكة وصلها إنسان، على حد وصف الراوي.

الحيوانات

قدَّم الراوي نماذج مختلفة من الحيوانات العجيبة، بعضها مركب وبعضها بسيط، لكن بساطتها هذه لم تمنع الراوي من أن يضيف لها صفاتٍ خاصَّة تجعلها أنموذجاً عجيباً وله موقع مهم في السيرة الشعبية. كما أن هناك بعض الحيوانات كانت بشراً، مثل الشيخين جياد وعبد السلام اللذين تحولا لطائر رافق الملك سيف حتى آخر السيرة، وقدما له الطرائق الناجعة لإنقاذ حياته أكثر من مرة. ومثلما حولت الثريا الزرقاء الملك سيف لغراب من أجل السيطرة عليه والانتهاء من محاولاته المتكررة لقتلها ونكاية بابنة عمها الثريا الحمراء التي كانت تحب الملك سيف:

«(قال الراوي) فلما سمعت الزرقاء كلام كيهونة رأته صواباً وقامت على حيلها وأخرجت طاسة مطلسمة وملأتها من الماء وعزمت عليها وهمهمت وتكلمت وأقبلت إلى عند الملك سيف وكانت قد جعلت له قصراً عندها برسمه وأخذت مفتاحه معها خوفاً من الأعداء ومن هروبه من حين خرجت إلى الثريا الحمراء، ثم أن الثريا الزرقاء أقبلت على الملك سيف بن ذي يزن بالطاسة ورشته بالماء الذي فيها وقالت له: أخرج من هذه الصورة الآدمية إلى صورة غراب مثل غربان البرية وتكون شديد السواد منقار وأظافر وريش وأجنحة طير. فما أتمت كلامها حتى أن الملك سيف ارتعش وانتفض فصار غراباً وذهبت صورته الأصلية وصارت حالة غير مرضية وبقي غراباً كما قالت له الثريا الزرقاء، واراد الملك سيف أن يقول لها: إيش ذنبي معك حتى فعلت معي هذه الفعال فما نطق إلا بقوله قاق وهذه لغة الغراب»(42).

تحول الملك سيف إلى هذه الصورة منحته حرية التجول في البساتين، وتمكن من أن يتعرف على حياة الآخرين، ومن ثمَّ؛ وبسبب تحوله هذا، من أن يجمع مساعديه جميعهم، ليقضوا على الثريا الزرقاء التي كانت ترفض ترك دينها وتصير على دين التوحيد.

ربما لم يكن شكل الغراب الذي تحول إليه الملك سيف مختلفاً عن أشكال الغربان الطبيعية، لكن هذا التحول أعطاه قوة ودفعاً ليصر على المضي بطريقه، ويجري نهر النيل ويجعل الممالك التي يمر بها على دين إبراهيم الخليل (ع). ولكن في الوقت نفسه هناك طيور أخرى تمتلك صفاتٍ خاصة تدخلها في العجيب، فيغير من طبيعتها وطريقة حياتها، مثل طائر السمردل الناطق:

«ونظر الى أعلى الشجرة وإذا بالمتكلم طائر قدر الجمل ومن جناحه إلى الجناح الثاني قدر الرمح الطويل فتقدم الملك سيف فرأى الشجرة وأسفلها ملتف عليها ثعبان ورأسه إلى فوق وهو يريد الصعود الى تلك الشجرة فما أن رأه تعجب منه ومن كبره وعلم أن الثعبان عدو هذا الطائر فقصد اليه بسيف سام بن نوح عليه السلام وضربه به على عاتقه فأخرج يلمع من علائقه فوقع قطعتين وانفصلت رأسه عن بدنه وصار شطرتين فعندها صاح الطائر من أعلى الشجرة لا شلت يداك ولا شمتت بك أعداك كما خلصتنا من هذه الآفة المرقطة والبليلة [كذا] المسلطة ولكن يا سيدي اقطع لي لحمها حتى اطعم منه أفراخي لأن هذه كانت تريد أن تأكل أولادي فأذن الله تعالى أن أولادي تأكلها مع ضعفهم وقوتها، ...........، فقال الملك سيف: ما اسمك بين الطيور؟ فقال له: يا سيدي انا اسمي الشمردل وما أحدا [كذا] من الطيور ينطق مثلنا لأنه قليل وجودنا وما نسكن العمار أبدا وجنسنا لا يوجد إلا قليلا»(43).

نُطْقُ طائر الشمردل وطبيعة حياته، جعل منه طائراً مختلفاً، فقد كان فصيحاً ويفكر مثل أي إنسان، وله شخصية مختلفة وقوية، فبعد أن ساعده الملك سيف وقتل الثعبان، ساعده أكثر من مرة، ووفاءً له بقي مرابطاً عنده ورفع جناحه ليحميه من حرارة الشمس بعد أن غفا الملك سيف بسبب تعبه من رحلته الطويلة، ومن ثم حمل الملك سيف وأوصله إلى أماكن عدَّة. فالعجيب الذي اصطنعه الراوي، والصفات التي أعطاها للشمردل، نطقه وكبر جسمه وأجنحته الواسعة، جاءت بفائدة كبيرة على الملك سيف وأصبح أهم المساعدين له.

لم يقف خيال الراوي عند تحول الملك سيف لطائر، أو جَعْل طائر ينطق مثل البشر، لكنه أوجد حصاناً عجيباً من جمع أحجار الياقوت مع بعضها ليتشكَّل كأي حصان طبيعي:

«فقال له الملك شاذلوخ: يا ملك الزمان أنا عندي ذخيرة وهي تنفعك في أي مكان فإنه لا ينفعك غيرها وهو حصان مصنوع من الياقوت الأحمر فإذا كنت مسافر تعشق رجليه في جثته وكذلك ذيله في رقبته وتقول له كن حصان [كذا] بحق ما على خاتم سليمان فيصير حصاناً من الياقوت الأحمر وترى سرجه مفصلاً من الجوهر والزمرد والأخضر ولجامه من الذهب الأحمر فتركبه وتسير به أينما شئت وأما إذا أردت الإقامة فتقلعه اللجام فيغطس في البر والآكام ثم أن الملك شاذلوخ وضع يده على منطقته وقال: يا ملك الإسلام الحصان الذي قلت لك عنه هذه صورته وأخرج له ثمان قطع ياقوت فالكبيرة هي بدن الحصان والأربع هما الرجلان واليدان واحدة رقبة برأس واحدة ذنب والثامنة قضيب صغير فلما عشق السبع قطع ضربه بالقطعة الثامنة وقال له: كن حصاناً فما شعر الملك سيف إلا وهو حصان من الياقوت الأحمر وسرجه مفصل من الجوهر والركاب من الياقوت واللجام من الذهب والرأس والسرج من شرائط الذهب وهو من أعجب العجب»(44).

كانت المخلوقات العجيبة تتشكل من كائنات حية، إن كانت مركبة أو بسيطة، لكن الراوي خلق حصاناً من الياقوت، تدبُّ فيه الروح ما أن يُضرب بالياقوتة الثامنة، وقد اختلق الراوي هذا الحصان، لأن الحصان الطبيعي لا يستطيع عبور الربع الخراب الذي يجب على الملك سيف أن يقطعه ليستمر في رحلته. وبالفعل يعبر الحصان الياقوتي الربع الخراب، لكن بعد عبوره الربع الخراب يتهالك ولا يقوى على الاستمرار:

«(قال الراوي) إن سبب كسل الجواد في هذا النهار هو أنه في هذه المدة قطع فيه الربع الخراب ودخل به على جبال الكافور وأن الجواد دوخته رائحة الكافور فأصبح عديم القوى والحيل فصار ينفخ الأرض والملك سيف طارده ولا يسأل عنه وأخيراً ابرك [كذا] الحصان الأرض فحركه الملك سيف وإذا به ميت»(45).

على الرغم من أن الحصان من الياقوت، لكن روحه كانت حساسة إلى درجة أنه لم يحتمل رائحة الكافور، وفي الوقت نفسه استطاع أن يكمل مهمته وينقذ الملك سيف بعبوره الربع الخراب. جبال الكافور كانت لها رائحة تُميت أي حيوان يمر بها، ولكي يكمل الراوي رحلة الملك سيف، لا بد أن تكون هناك واسطة نقل يعبر الملك سيف عن طريقها جبال الكافور، فيختلق له جواداً خشبياً لا تؤثر به الرائحة:

«وكان أبي يقال له الكهين الزنزلخت فإنه أحضر أخشاباً على اسمه زنزلخت وصنع منها على صفته جوادا وهو هذا وكان يركبه مدة حياته لأنه جواد مرصود ولا يقطع أرض الكافور غيره وبعد موت أبي احتويت أنا عليه إلى الآن وفي هذه الليلة أتاني رجل وقال لي: يا سيسبان ارجع إلى طريق الإيمان واستغن عن هذا الحصان وأعطه لملك الإيمان وهو الملك سيف بدايتي فجدد اسلامك على يديه وأعطه هذا الحصان حتى يسلك على ظهره وادي الكافور ويبقى لك الأجر والثواب من العزيز القهار فانتبهت من منامي فلم أجد غيرك قدامي، ..............، خذ هذا الخاتم وضعه في أصبعك وإذا ركبت عليه فضع يدك بين عينيه واشر له قدام فإنه يسير كما تأمره وأما أن رفعت يدك إلى فوق فإنه يصعد إلى جهة السماء وهكذا ثم أن الملك سيسبان قام ورحب وعلم الملك سيف طريقة مسيره في البراري والقيعان وكذلك الملك سيف علمه قواعد الإيمان»(46).

كان للعجيب دور كبير في بناء الحصان الياقوتي والجواد الخشبي، فمن دونه لا يمكن أن يصنع الراوي هذين الحصانين من جماد وتدبُّ فيهما الروح، ومن دونهما لم يستطع الملك سيف عبور الربع الخراب ووادي الكافور.

الهوامش

1 ينظر: قال الراوي.. البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997، ص92.

2 شعرية الرواية الفانتاستيكية، شعيب حليفي، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، دار الأمان- الرباط، منشورات الاختلاف- الجزائر، ط1، 2009، ص202.

3 ينظر: العجائبي في الرواية العربية، نورة بنت إبراهيم العنزي، المركز الثقافي العربي والنادي الأدبي بالرياض، ط1، 2011، ص142.

4 شعرية الرواية الفانتاستيكية، م. س، ص198.

5 م. ن، ص197.

6 م. ن، ص200.

7 السرد العربي مفاهيم وتجليات، سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت، دار الأمان- الرباط، منشورات الاختلاف- الجزائر، ط1، 2012، ص171.

8 شعرية الرواية الفانتاستيكية، م. س، ص175.

9 سميولوجية الشخصيات الروائية، فيليب هامون، ترجمة: سعيد بنكراد، تقديم: عبد الفتاح كيليطو، دار الحوار، دمشق، ط1، 2013، ص120.

10 الفنطازية والصولجان.. دراسة في عجائبية الرواية العربية، د. فاطمة بدر، دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2013، ص22.

11 فرند: الفِرندُ: وَشْيُ السيف، وهو دخيل. وفرند السيف: وشيه. قال أبو منصور: فرند السيف جوهره وماؤه الذي يجري فيه، وطرائقه يقال لها الفِؤَنْد وهي سَقاسِقُه. الجوهري: فِرِنْدُ السيف وإِفْرِنْدُهُ رُبَدُهُ ووَشْيُه. والفِرِنْد: السيف نفسه.

لسان العرب: مادة فرند.

12 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1985، ج1، ص152- 153.

13 الفنطازية والصولجان، م. س، ص22.

14 شعرية الرواية الفانتاستيكية، م. س، ص174.

15 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج1، ص191.

16 م. ن، ج1، ص191.

17 م. ن، ج1، ص192- 193.

18 م. ن، ج1، ص194- 195.

19 قال الراوي، م. س، ص102.

20 شعرية الرواية الفانتاستيكية، م. س، ص199.

21 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج2، ص234.

22 م. ن، ج2، ص234- 235.

23 شعرية الرواية الفانتاستيكية، م. س، ص174.

24 قال الراوي، م. س، ص103- 104.

25 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج2، ص238.

26 البناء الأسطوري للسيرة الشعبية.. سيرة الملك سيف بن ذي يزن نموذجاً، دكتور خطري عرابي، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، ط1، 2009، ص107.

27 قال الراوي، م. س، ص100.

28 العجائبية في الرواية الجزائرية، د. الخامسة علاوي، دار التنوير/ الجزائر، 2013، ص326.

29 قال الراوي، م. س، ص100.

30 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج3، ص146- 147.

31 م. ن، ج3، ص147.

32 م. ن، ج3، ص249- 250.

33 م. ن، ج3، ص250.

34 م. ن، ج4، ص79.

35 قال الراوي، م. س، ص103.

36 قال الراوي، م. س، ص101.

37 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج2، ص9.

38 م. ن، ج2، ص51- 52.

39 قال الراوي، م. س، ص102- 103.

40 الفنطازية والصولجان، م. س، ص48- 49.

41 أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل بختين، ترجمة: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، سوريا، 1990، ص43.

42 سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن، م. س، ج2، ص309.

43 م. ن، ج2، ص153.

44 م. ن، ج2، ص262.

45 م. ن، ج2، ص263.

46 م. ن، ج2، ص264.

الصور

من الكاتب

أعداد المجلة