فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
52

أثر المعتقد الديني في التراث الشعبي الحكائي العُماني

العدد 52 - أدب شعبي
أثر المعتقد الديني في التراث الشعبي الحكائي العُماني
عُمان

تتأسس الحكايا الشعبية -حالها حال أي منتج إبداعي آخر-على المخيلة، وهي الأخرى تجد لها مجالا خصبا في المعتقدات الدينية والأخلاقية المتراكمة في ذاكرة شعب، عبر حقب زمنية طويلة فتنهل منها، خاصة عندما يحاول الانسان تفسير أحداث مفاجئة وغامضة كاالاوبئةوكاالموت؛ أو تفسير التشكيلات الجبلية في غرابة تكوينها؛ أو على معتقدات دينية سيما تلك التي تشكلت مع بدايات وعي الإنسان ومحاولة فهمه، لظاهرة وجوده في الكون.

في المجتمع البحري القديم بعمان، والذي يعود استيطان الإنسان به الى 3400 عام قبل الميلاد، آمن العمانيون اذ ذاك وهم يعيشون مخاطر وأهوال البحار، تحول الانسان بعد موته الى سلحفاة. جاء ذلك التفسير اثر اكتشاف مدافن رأس الحمراء البحرية بمسقط، وهو اكتشاف أثري أنجزته البعثة الأثرية الإيطالية في ثمانينات القرن الماضي، حيث ظهر وضع الهيكل العظمي للإنسان الميت على هيئة سلحفاة. ويضيف مؤلفا موسوعة في ظلال الأسلاف /مرتكزات الحضارة القديمة بعمان'العالمان الاثريان الراحلان سير ج كلوزيو وموريسو توزي: «أن السلاحف لا تزال على درجة من الأهمية في أساطير بعض مجتمعات الصيادين على السواحل الهندية المطلة على المحيط الهادي. سكان تلك الجهات يعتبرونها أسلافا للبحارة وفي بعض الحالات يعتبرونها بحارة قدماء. ويذكر الكتاب الإغريق أن آكلي السمك الذين استوطنوا على سواحل العرب يعتبرون أنفسهم بأن لهم أسلافا من الأسماك، ويمكننا القول أن السلاحف قد لعبت هذا الدور في الألف الرابع قبل الميلاد . يتضح من مخلفات الأسماك ومن اتجاهات المدافن في المقبرة، أن النتوء الجبلي في رأس الحمراء قد استوطن لنصف عام خلال الخريف والشتاء من كل عام».

أثر الاعتقادات الدينية القديمة يمتد حتى عصور الديانات السماوية الاولى بعمان وخاصة الديانة اليهودية، ففي ولاية إزكي أقدم المستوطنات الزراعية بداخلية عمان يقع كهف جرنان، وجرنان هو الاسم القديم لازكي، حتى الآن لم يستطع أحد التقدم لأعماقه البعيدة، يسري الاعتقاد الشعبي؛ بأن في هذا الكهف يختبئ العجل الذهبي؛ الذي عبده اليهود قديما، قبل إيمانهم النهائي بالله سبحانه وتعالى تلبية لدعوة نبيه موسى عليه السلام. بالطبع يشترك ذلك الاعتقاد مع كثير من الحكايا الشعبية التي لا تخرج عن تأريخ قديم للذاكرة اليهودية في عمان، أهمها زيارة نبي الله سليمان بن داؤود الى بلدة سلوت، وهو في طريقه للقاء الملكة بلقيس. قدمت دراسات مختلفة حول هذه الحكاية نظرا لما تمثله من أهمية ترافقهما مع بدايات تأسيس المجتمع الزراعي بعمان، أهمها دراسة المؤرخ البريطاني جون ولكنسون، ودراسة الباحث العُماني الشيخ خميس العدوي، الدراستان اللتان ذهبتا إلى تأويلات مختلفة لدى كل منهما. كذلك ما كشفته البعثات الاثرية في أطلال مدينة سمهرم التاريخية؛ من معابد وتماثيل لأهل القمر سين؛ الإله السامي الذي عبده أبناء جنوب الجزيرة العربية قديما، قبل إيمانهم بالديانات السماوية المتعاقبة، وعبادة ابنة الإله سين إنانا، التي ما زال يتردد صدى عبادتها في أغاني الرعاة بجبال ظفار. لاحقا سنعود إلى تحليل تفصيلي حول الحكايا ذات المنشأ الديني اليهودي، ودراسة الاّراء المختلفة في تفسيرها لهذه الحكايا.

تعيد المخيلة الشعبية تفسير عدد من الأحداث والأوبئة، إلى فقدان النواحي الأخلاقية في المجتمع، متمثلة في افتراء الإنسان وغروره وكفره بالنعمة؛التي أغدقها الله سبحانه وتعالى عليه، كما هو في تفسيره لظواهر المحل والجدب، وربطه تلك الظواهر بانهيار القيم الأخلاقية لدى الإنسان.

كارثة بلدة البسيتين:
تقع هذه البلدة المندثرة في ولاية بدبد. معاينة المكان تدل على أنه كان مكانا عامرا بالحياة، من حيث منازله الطينية المتجاورة ومساجده وآباره وآثار السواقي. المخيلة الشعبية أسست على انهيار البسيتين حكاية تبرر بها اندثاره، رابطة ذلك بانهيار الاخلاقيات الانسانية به. ما تحكيه الذاكرة أن بلدة البسيتين كان يملكها رجل ثري، وكان لهذا الرجل أخ فقير يعيش في قرية مجاورة. ذات يوم أرسل الأخ الفقير ابنه الصغير لاخيه الثري طالبا منه بعضا من الطعام. عندما وصل الصبي الى عمه وجده يطبخ قدرا كبيرا من الطعام على النار. عندما طلب منه الصبي بعضا من الطعام لأسرته حمل العم الثري الصبي ورماه في القدر الكبير الذي كان يغلي. في اليوم التالي لهذه الحادثة احترق الحي العامر بأكمله، جفت ينابيعه وماتت أشجاره، عقابا من الله على الجريمة التي اقترفها الرجل الثري ضد الصبي الفقير.

في هذه الحكاية الشعبية التي تأسست تفسيرا أخلاقيا ودينيا؛ على اندثار قرية زراعية لأسباب تتعلق بالمحل والجفاف؛ الذي يصيب القرى الزراعية في عمان عادة بين فترة وأخرى، نلحظ ثراء المخيلة الشعبية في تأويلها الأحداث إلى دوافع أخلاقية لدى البشر أولا، وإلى عقاب الهي حدث عقابا على فقدان القيم الاخلاقية في المجتمع نتيجة لذلك.

وباء بندر الجصة:
يكتب ج ج لوريمر مؤلف موسوعة السجل التاريخي للخليج وعمان وأواسط الجزيرة العربية، أفضل التقارير المقدمة عن بندر الجصة، مع رسوم تضمنتها محاضر حكومة الهند في دائرة الشؤون الخارجية لشهر فبراير 1899م: «ثمة جزيرة صغيرة قريبة من الجهة الغربية، تقع خلفها على البر قرية مؤلفة من ستين بيتا للقواسم مع بستان نخل، وتقوم هذه القرية على شاطئ رملي. عند مدخل أحد الأودية، وتضم بعض البيوت المبنية من الحجر والعديد من الأكواخ المصنوعة من الحصائر، وترتفع التلال من حول المرفأ وخلف القرية إلى بضع مئات من الأقدام... ألخ».

على مدى مئات من الأعوام شكل بندر الجصة، المكان الآمن من الرياح والأمواج، للسفن المارة بخليج عمان في طريقها خارجة جهة بحر العرب والمحيط الهندي؛ أو قادمة حتى عمق الخليج العربي، وذلك لما تمتاز به من حماية صخرية تجعل منها موقعا حصينا وهادئا وآمنا.

أصيب بندر الجصة في أوائل القرن العشرين بوباء، أغلب الظن أنه كان الطاعون أو الجدري، وأتى على القرية بأكملها. يشهد على ذلك القبور التي تستقبل زائرها على مشارف القرية، ومثلما يتضح من سلالات سكانها، أن من نجا من الوباء من كان خارجها، والذين يتواجدون الآن أقلية في القرى الساحلية المختلفة.


تقدم المخيلة العمانية سببا لهذا الوباء، كعقاب إلهي حل بها، إذ تحكي المخيلة أن سفينة لجأت إلى بندر الجصة، وهي في طريقها إلى الديار المقدسة، هربا من الأمواج حتى تهدأ، كانت السفينة تنقل حجاجا من النساء والرجال، وما حدث مسببا الفاجعة، هو أن رجلا من سكان الجصة تسلل ليلا إلى السفينة أثناء نوم ركابها، وقام باغتصاب امرأة منهم، كانت بالطبع في طريقها لأداء فريضة الحج. صباح اليوم التالي أرسل الله سبحانه وتعالى وباء الطاعون، فأتى على القرية بأكملها. أما السفينة فقد غادرت البندر، مكملة طريقها الى الديار المقدسة.

ثيمة الشجرة:
تترسخ في الذاكرة الشعبية بعمان معتقدات قديمة، تمتد إلى ما قبل الديانات السماوية، وثيمة الشجرة هي الأكثر بروزا، خاصة وأن الشجرة احتلت في المعتقد الإنساني عامة، رمزا للخلود والتقديس والعبادة. كنموذج على ثراء هذه الثيمة، نورد هذه الحكاية الشعبية من التراث الشفهي العُماني:

«مرض رجل مرضا شديدا، تعالج بأدوية كثيرة ومتنوعة، لكن كل يوم يأتي يزداد مرضه، في ليلة من الليالي، رأى أمامه نورا ضاحيا في كل الأرض، الوقت ليل وظلام وأمامه هذا النور، فخاف واستغفر، لكنه سمع صوتا يقول: هذا هو نور رسول الله، اذهب الى شجرة الزعتر، ستعطيك دواء من ثمرها، أغلي الثمر في الماء واشربه . عمل الرجل بنصيحة رسول الله، فذهب فجرا الى الشجرة وأخذ منها زعترية طريا، ابتدأ كل يوم غلي الزعتر مع الماء وشربه، لكن الرجل ظل مريضا، حتى رأى النور الضاح ثانية، بعد عدة أشهر ليلا في منامه، فقال له:نصحتني يا رسول الله بشجرة الزعتر، وها أنذا اليوم أكثر مرضا من قبل، ذهب الرسول الى الشجرة وعاتبها قائلا: أرسلت إليك رجلا مريضا ولم تعالجيه، اجابته الشجرة: يا رسول الله، الرجل كان به مئة مرض، عالجت 99 مرضا منها. وبقي في جسده مرض واحد فقط، لن أقدر ولن يقدر غيري على علاجه منه، قال لها الرسول:ما هو هذا المرض؟قالت له: الموت يا رسول الله. في تلك اللحظة شهق الرجل شهقة أخيرة وسقط ميتا».

يعيد كارل غوستاف يونج، هذه المقاربة الدينية للشجرة، من أن الأشجار في الديانات البشرية عموما، كانت رموزا إلهية مقدسة. ففي العهد القديم هناك البلوط والبطم، وهناك شجرة العليق؛التي عبرها وهي تحترق كلم نبي الله موسى عليه السلام الله سبحانه وتعالى، لذلك فالشجرة موطن أصيل تأسست عليه الكثير من الحكايا والأساطير عبر العصور.

حكايا التشكيلات الصخرية:
ثمة حكايات شعبية أخرى تنحو نفس منحنى الحكايتين السابقتين، وذلك من حيث خلق مبرر حدوث الحادثة وأسبابها؛ التي تأتي دوما كعقاب إلهي على تصرف أخلاقي سيّء . غالبا ما تحمل الغرائز الجنسية أسباب هذا السلوك. أبرز الأمثلة على ذلك الحكاية الشعبية؛التي تأسست على المنحوتات الجبلية الطبيعية، والتي اتخذت هذه المنحوتات أشكالا بشرية وحيوانية أوصت للعماني ومخيلته بالحكايات؛التي تبين الخاطئ وتفرض عقوبة الله عليه جزاء ما ارتكبه من فاحشة وانحراف. التفسير يتكرر في أكثر من موقع حجري جبلي، أمثلة ذلك التشابه منحوتة بلدة الشوعية بداخلية عمان، المتشكلة على هيئة امرأة، والحكاية التي قدمتها المخيلة تقول بأن المرأة نزل عقاب الله عليها محولا إياها الى حجر، لأنها مسحت غائط طفلها بقطعة خبز تحملها، وفي الرستاق نعثر على نفس التفسير لتشكيل حجري على هيئة امرأة وطفل، حولهما الله إلى منحوتات حجرية عندما مسحت الام غائط طفلها بقطعة خبز كانت تحملها. أعتقد أن ندرة المياه وشحها في الأودية الجبلية يدفع المخيلة لإعطاء هذا التفسير الغريب، المخيلة التي كانت تبحث عن خطأ كبير أدى الى هذا العقاب الكبير أيضا. إذ كان بإمكان المرأة استخدام حجارة الوادي في مسح غائط الطفلين لا الرغيف؛الذي هو في المخيلة نعمة من الله واحتقار النعمة يقترب من الكفر بها وبمانحها.

العقاب الإلهي يذهب الى قراءة منحوتات طبيعية جبلية أخرى، تشكلت بما يوحي بالعقاب الالهي، خاصة فيما توحيه الجبال من عزلة ورهبة، واتخاذها بسبب ذلك موطنا لعزلة العباد والزهاد.

في منحوتة جبل الشباك بقرية الشباك بإزكي في داخلية عمان، تأخد المنحوتة الجبلية شكل حيوان مفترس في وضع هجومي، منقضا على فوهة كهف بالجبل. ذهب المتخيل إلى تفسير ذلك من أن الكهف مكان لعزلة عابد يتعبد به بعيدا عن الناس، وعندما هجم عليه الحيوان المفترس، دعا عليه العابد طالبا من الله حمايته منه، إذ ذاك تحول الحيوان مباشرة إلى تمثال من صخور الجبال.

هذه الجبال في تشكلاتها تقدم للمخيلة مادة ثرية وخصبة، لخلق عوالم سحرية ليس لها وجود في الواقع، مثلما هو في جبل الشيخ سمعون بقرية يتي في مسقط. هذه التلة الجبلية التي يتقاسمها البحر والأرض، البحر في مده والأرض في جزره، وضعتها المخيلة كمسكن دائم لجني صالح هو الشيخ سمعون؛الذي يقصده الناس من مختلف الارجاء طلبا للعلاج ويقيمون عليه النذور. هناك مريد متخصص في قراءة الأدعية يرافق المرضى إليه. وفي ولاية قريات بحصاة الصيرة، وهي نتوء جبلي في البحر، اعتقد الناس أيضا بأن وليا من أولياء الله اتخذ مسكنا بها، وأنه اعتزل العالم بها حتى وفاته ودفنه بها، لذلك دأب سكان قريات القدماء بزف العرسان إليه، والاحتفال بختان الصبيان به، وذلك عبر طقس يبدأ من المنزل سيرًا على الأقدام حتى الصيرة، حيث يتم بعد ذلك غسل العريس وخلع ملابسه القديمة وارتداء ملابس عرسه الجديدة، عائدا بها الى منزل الزوجية، تصاحبه فرقة موسيقية تزفه اليها.

ان الاعتقاد بطهارة الجن ورفقتهم لرجال الدين ومحبتهم لله سبحانه وتعالى، تتجلى أيضا في دك صخري على هيئة قبر، يوجد بجوار ضريح الإمام الصلت بن مالك الخروصي، من أئمة القرن الثالث الهجري بعمان. قدمت المخيلة الشعبية تفسيرا لهذا النتوء من أنه قبر الجني الصالح قرعون؛الذي كان مصاحبا للإمام الصلت بن مالك ورفيقا له، إلا أن ذلك يمتد بتفسير آخر أيضا، حيث توجد صخرة مشقوقة في وسطها كأنها شقت بسيف في بلدة العليا بوادي بني خروص، وهي البلدة التي عاشت تجربة العلامة جاعد بن خميس الخروصي وأبنائه، فعلى ذلك التشكيل الصخري نسجت المخيلة حكاية معركة دارت بين الشيخ نبهان بن جاعد الخروصي، وجان كان معاديا وكافرا بالله، وكان الجان محتميا بتلك الصخرة التي حطمها الشيخ نبهان بضربة سيف، فولى الجني هاربا واختفى من يومها. بل إنه حتى المنحوتات الجبلية الصغيرة، التي تتخذ شكل قدم على هيئة القدم البشري، كانت محل تفسير حكائي أيضا، فهناك أثر قدم الرسول على حجرة بوادي بني خروص، والتفسير المضاف إلى تواجدها هو مروره الكريم على الوادي أثناء رحلة الإسراء والمعراج، وهناك أيضا أثر قدم الشيطان بقرية الفورة الجبلية المهجورة بالوادي .

الحكاية هنا مع مرور الأزمنة تحولت إلى معتقد شعبي، أصبح إيمان الانسان بصحتها، جزءا من مكونه الثقافي. مثال على ذلك كتلة حجرية ضخمة تتخد هيئة مسننة، بأطراف قرية بلدة بوشر بمحافظة مسقط، هذا التشكل الصخري المختلف عن حجارة الوادي الأخرى، أوحى للنسوة العواقر بها الاعتقاد؛ بأن حك أجسادهن بها ليلا في الظلام، يعطي لهن القدرة على تجاوز مشكلة العقر.

نماذج للمنحوتات الصخرية في الأودية والجبال
العمانيةالتي تأسست عليها حكايا شعبية مختلفة:
1. كهف الرمان/سيح الصارخي /ولاية نخل
2. حصاة بن صلت /ولاية الحمراء
3. الصيره/ولاية قريات
4. جبل الشبك/ولاية إزكي.
5. سلامة وبناتها/محافظة مسندم
6. صخرة مسجد الحجرة /ولاية نزوى
7. جبل سمعون/آيتي /مسقط
8. صخرة الجني والخروصي/العليا بوادي بني خروص
9. صخور الأم وأطفالها /المجازة بولاية الرستاق
10. الراعية وشياهها/كهف الجن بفنس/ولاية قريات
11. حكاية قباقب/وادي الطائىيين
12. باب النار/جبال وادي العق /بدبد
13. أطلال البسيتين /ولاية بدبد
14. أطلال الجصة/محافظة مسقط
15. منحوتة إله القمر سين /محافظة ظفار
16. قرن الجارية /ولاية سمائل
17. مساجد العباد الطائرة/ولاية بهلا

الحكايا في اكتمالها وتنوعها:
هذه نماذج لحكايا تكتمل فيها الحكاية حتى آخر الدفق؛ أي أنها لا تكتفي لتفسير أو تأويل، رأته العين أو سمعته الأذن، إنه خلق خيالي فذ، تكتمل فيه الحكاية بكافة أبعادها السردية، مشكلة بذلك عالمها القصصي الخاص.
لذلك تفتح هذه الحكايا الأبواب للتأويل المتعدد، لأنها هي بالأساس جاءت من خيال متعدد الجذور والمنابت. وكنا قد لاحظنا في الجزء الاول من هذا المبحث سيطرة التأويل الديني الغيبي على الخيال السردي في الحكاية الشعبية. ذلك يكون واضحا عندما نكون أمام حدث محدد؛ أو تشكيل صخري محدد أيضا؛إلا أنه عندما يتسع فضاء الحكاية وتتعدد شخصياتها وأحداثها، فإن الخيال الخلاق يذهب بدوره إلى تقديم ثيمات أكثر اتساعا وقربا، من حياة الإنسان اليومية وأمنياته وطموحه، كتأويل الأحداث إلى المصالح المادية عند الإنسان؛ أو لتقديم ثيمات البطولة الخارقة في تفسير الأحداث وخلق شجاعة أسطورية لدى أبطال الحكايا؛ أو العودة بعيدا في اللاشعور الجمعي، القادم من اعتقادات غائرة وبعيدة في الذاكرة الدينية، مثل إغراء الثعبان للمرأة والذي نجده يتردد في الحكايا وهو ذو منبت عميق في التراث الديني المقدس.



النموذج الاول: زهاد كهف الرمان.
سيح الصارخي/ولاية نخل.
مصدر الحكاية:ساكن السيح: محمد بن سالم السيابي.
كان ثلاثة من الزهاد يقضون حياتهم متعبدين في كهف يقع بعمق سيح الصارخي، كل يوم قبل حلول الظلام تسقط من السماء في حضن كل منهم رمانة واحدة. يأكل كل زاهد نصف رمانته، ويترك نصفها الآخر لفجر اليوم التالي.
ذات مساء وصل إليهم قاطع طرق، قرر البقاء معهم ليلة واحدة، كحال العباد الثلاثة عندما حل المساء، سقطت عليه هو الآخر رمانة من السماء. إلا أنه بخلافهم أكلها مرة واحدة، سأله واحد منهم: لماذا لم تبق النصف لتأكله فجر الغد؟. أجابه قاطع الطريق: الذي رزقني رمانة في المساء، قادر على أن يرزقني أخرى في الصباح. فجر اليوم التالي. وبعد أن أنهى الجميع صلاة الفجر، سقطت رمانة بحضن قاطع الطريق، إذ ذاك توجه إليه العابد الذي تحدث معه في الليل قائلا له: لماذا لا نتبادل مواقعنا؟ تعطيني سلاحك وأذهب به قاطع طريق، وتبقى أنت عابدا بالكهف. وافق قاطع الطريق على تبادل المواقع وأعطاه سلاحه. أخذه العابد ومضى، وأمام أول محاولة لسرقة أحد العابرين خسر النزال. قتله العابر واستولى على سلاحه. أما قاطع الطرق فقد استمر في الكهف مع العابدين الآخرين حتى مماته.

تعتمد ثيمة هذه الحكاية على قوة وضعف المعتقد الديني لدى الانسان، يؤدي ضعفه إلى سهولة تخلي المرء عن مبادئه، إلى درجة اتجاهه إلى النقيض، أي التحول من الإيجابي إلى السلبي، وكذلك من الجهة الأخرى التحول من السلبي الى الإيجابي، ثم ما تقضي إليه نتائج هذا التحول من نهايات مأساوية في حالة التخلي عن المبادئ الانسانية؛ التي. يحفى عليها المعتقد الديني، والذي وجد فيه قاطع الطرق موطنا آمنا للحياة.



النموذج الثاني: البطولة في الحكايا الشعبية
مجلس الجن /قرية فنس بولاية قريات
حصاة بن صلت/ولاية الحمراء
مجلس الجن: الحكاية تأسست على تكوين صخري يتكون من سبع حفر عميقة، بينهن حفرة كبرى وعميقة جدا، تدعى مجلس الجن. الجذر الذي تأسست عليه الحكاية مأساوي أيضا، يخلد شجاعة راعية غنم عندما تواجه وحيدة حيوانا مقدسا قضى على غنماتها السبع، بالطبع كان من الممكن أن يقضي عليها، لولا شجاعتها في مواجهته؛التي انتهت بموته وموتها معا. ومن خلد شجاعتها هو الله سبحانه وتعالى؛ الذي أسقط سبع نجوم على الموقع بعدد سبع شياه افترسها النمر المفترس.

(تركت راعية أغنامها بسلام لبرهة قصيرة، وذهبت لإحضار بعض الطعام. عندما عادت وجدت نمرا ينام بالقرب من جثث غنماتها السبع، بعد أن قتلها جميعا. من هول المفاجأة أطلقت صرخة ورفعت فأسها، ثم هوت به عليه. من ضربتها المفاجئة والقوية رفع قبضته اليمنى إلى جسدها، واليسرى إلى عينيها فأصابها بالعمى. لكنها وهي تسقط وجهت إليه ثانية بفأسها ضربة أخرى، شقت رأسه إلى نصفين. لاحقا وجدها أهلها والنمر ميتين، كل في حضن الآخر. لتخليد شجاعتها أسقط الله سبحانه وتعالى على الموقع، سبعة نجوم خلفت سبع حفر عميقة جدا؛على عدد غنماتها، تدعى الحفرة الكبرى: مجلس الجن).

النموذج الثالث:حصاة بن صلت /ولاية الحمراء
حكاية الشجاعة الخارقة الأخرى، تأسست على صخرة جبلية عملاقة في ولاية الحمراء. بطلها فارس يدعى صلت، له أعداء حاسدون حاولوا الايقاع به قرب الصخرة، عبر غمر الطريق الذي يسلكه على فرسه بالوحل، تمهيدا لتعثره وسقوطه والانقضاض عليه، إلا أنه تجاوز المكيدة بالقفز على قمة الصخرة؛ على حصانه مخلفا عليها حفرة حمراء، هي موقع ارتطام حوافر الفرس بها وسيلان دمه عليها.

(كان صلت فارسا شجاعا، لا يقدر أحد على مباراته، وكان أعداؤه المتربصون به كثيرين، ولكي يتخلصوا منه فكروا في حيلة للقبض عليه، من خلال عرقلة حصانه؛ الذي يمتطيه ثم الانقضاض عليه، فقاموا بغمر الطريق الذي يسلكه بالمياه، حتى تصبح وحلا. بالفعل دخل الفارس في ذلك الوحل ولم يستطع الخروج منه، حتى خارت قدما الحصان وانغرست قوائمه في الوحل، فما كان من الفارس الا أن ترجل من حصانه ودفعه بما أوتي من قوة وأخرجه من ذلك المأزق، وكانت كل الأرض موحلة ولا يوجد أمامه غير اجتياز تلك الحصاة الضخمة، لكونه محاصرا بالوحل من كل الجهات، وعندما وصل الحصان أمام الحصاة، انثنى عن تجاوزها، وهناك أدرك الفارس أنه واقع في الهلاك لا محالة.
ولكي يخلص الحصان فارسه رجع إلى الخلف وانطلق بسرعة البرق، واجتازها بعد أن ضرب برجله قمة الحصاة حتى احدثت حفرة لأثر ذلك الحصان وهي باقية بالجانب الغربي من الحصاة، إذ يوجد بها اللون الأحمر الذي هو دم الحصان الذي سال من رجله على قمتها.

نلمح دائما في المخيال الشعبي، ملاحظة أن أدوار البطولة والشجاعة، يحتلها الذكور في المجتمع الزراعي، أما النساء فلا تفسح لهن المخيلة إظهار شجاعتهن؛ إلا في المجتمعات البعيدة عن مركز السلطة الدينية والسلطة القبلية، أي المجتمعات الرعوية والبحرية؛ التي تعيش في الأطراف البعيدة للسلطة.

هكذا نلاحظ الفارق بين الحكايتين الاولى المرتبطة بالمجتمع الرعوي (راعية الغنم)، والثانية حيث الفارس بن صلت ابن المجتمع الزراعي القبلي الديني. العدو في الحكاية الرعوية كان النمر المفترس، في الوقت الذي يكون فيه العدو في الحكاية الثانية البشر أنفسهم. كان بن صلت فارسا يمتطي فرسا، في الوقت الذي لم تكن تملك فيه الراعية من سلاح غير الفأس، لتنتقم به من النمر المفترس . الحفرة الحمراء المضرجة بالدم في قمة الصخرة هي من خلد وأبقى ذكرى الفارس بن صلت، أما في حالة الراعية فإن الله سبحانه وتعالى، هو من أسقط سبعة نجوم، لتتحول إلى سبع حفر عميقة، خلدت ذكرى الراعية وغنماتها السبع. حول شجاعة الفارس بن صلت، فإن من أقدم على المغامرة الشجاعة هو الحصان وليس الفارس، وذلك عندما أدرك الحصان أن فارسه هالك لا محالة، اتخذ الحصان قرار القفز على الصخرة، وشجاعة الحصان في الذاكرة العربية قديمة وراسخة، وتعظيمها والإشادة بها توازي في الأهمية شجاعة الفارس. إذ عليك لتعرف سر انتصار الفارس ان تلتفت إلى فرسه أولا وتعرف السر !

الحكايتان تأسستا على موقعين جبليين معروفين، ومثلما سبق الفارق الهام، في المخيال الرعوي عنه في المخيال الزراعي، ليس في اختيار الذكر في الزراعي والأنثى في الرعوي فقط، بل في انفتاح الخيال وثرائه الرعوي، في علاقة الإنسان بالنجوم والأفلاك، لانه في المنطقة إياها فنس بولاية قريات، هناك موقع جيولوجي هام يدعى هوية نجم، واسم الموقع مأخوذ من اسمه في الذاكرة الشعبية، والتفسير الواضح من الاسم ان نجما هوى على الارض، فأحدث ذلك الشق الكبير بين الجبل والبحر المتحاذيين. الخيال الرعوي أفسح من أن يؤطر، ويدخل فيه العقل عند نسج حكاية ما؛الأمر الملاحظ في المجتمع الزراعي، حيث تتسع به دائرة الصراع، لتشمل البشر أنفسهم، أكثر من مخاوف الحيوانات كما هو في المجتمع الرعوي، لبساطة الحياة به، وبعدها عن التأطير المؤسساتي.

الأساطير المستقاة من التراث اليهودي
وما جاء من أخبار اليهود في عمان.
اولاً.أسطورة زيارة نبي الله سليمان بن داؤود إلى سلوت:
كتب المؤرخ العُماني ابو سلمة منذر العوتبي في الأنساب :«ذكر أن سليمان بن داؤود عليهما السلام، كان يغدو من إصطخر فيتغذى في بيت المقدس، ويروح من بيت المقدس فيتعشى في إصطخر، فبينما هو يسير وقد حملته الريح إلى نحو البر، قال للريح: شائمي، فهبت في برية عمان، فرأى قصرا في صحراء، وكأنما رفعت عنه اليد الساعة، وإذ عليه نسر واقع فقال للريح حطي، ثم قال لمن معه:ادخلوا القصر فدخلوا، فلم يروا شيئا فعادوا إليه فأعلموه فدعا بالنسر فقال: لمن هذا القصر، فقال ما أدري أنا عليه منذ ثمانمائة سنة هكذا وجدته. وفي نسخة أخرى أن سليمان بن داؤود عليهما السلام سار من أرض فارس من قلعة إصطخر إلى عمان في نصف يوم، ونزل في موقع القصر من سلوت من عمان، وهو بناء جديد كأنما رفع الصناع أيديهم منه في ذلك الوقت، وإذ عليه نسر فسأله نبي الله عليه السلام عنه فقال يا نبي الله أخبرني أبي عن جده أنه عهده على هذا الحال، فقال في ذلك بعض الشياطين الذين صحبوا سليمان عليه السلام:
غدونا من قرى إصطخر إلى القصر فعلناه
فمن سأل عـن القصـر فإنـا قـد وجـدناه
وللـشيء عـن الـشـيء مـقاييس وأشباه
يـقـاس المــرء بــالمـرء إذا ما المرء ماشاه.

قال ويقال والله أعلم:أن سليمان بن داؤود دخل عمان وأهلها بادية فأقام فيها عشرة أيام، وأمر الشياطين في كل يوم حفر ألف نهر، وقد أجرى فيها عشرة آلاف نهر.

قراءة المؤرخ جون ولكنسون للأسطورة السابقة:
في دراسة متميزة للمؤرخ البريطاني جون ولكنسون، حملت عنوان نشأة الأفلاج في عمان، ألقى ملخصا لها في محاضرة بمسقط نوفمبر 1980، بندوة الدراسات العمانية التي نظمتها آنذاك وزارة التراث القومي والثقافة. يكتب ولكنسون بعد عرضه الأسطورة نقلا عن المؤرخ العُماني العوتبي اطلع عليه مخطوطا:
(هذه الأسطورة تستحق من الاهتمام قدرا أكبر قليلا مما يبدو أنها تستحق للوهلة الاولى، فهي في النهاية قصة تحكي عن الماضي البعيد جدا، ومن المؤكد تقريبا أن الأحداث قد اكتسبت إضافات أسطورية أثناء تناقلها. وفي الواقع أنه بمجرد أن الأحداث قد اكتسبت إضافات أسطورية أثناء تناقلها. وفي الواقع أنه بمجرد أن يتضح مغزى قصة سليمان بن داؤود؛ فإن هذا التاريخ الأسطوري سيتفق بصورة غريبة تقريبا مع الأدلة الأثرية).
يذهب الأستاذ ولكنسون إلى أن النبي سليمان في الأسطورة، إنما هو جمشيد الفارسي، إذ أن الفترة الزمنية التي زار فيها النبي سليمان سلوت أسطوريا، هي نفسها فترة وصول حضارة بناء الأفلاج من بلاد فارس إلى عمان. لذلك فإن ولكنسون يستخلص بأن الزائر الحقيقي لسلوت هم الفرس، بدلالة أن الأسطورة تقول إنه حلق إليها قادما من إصطخر، وهي بيرسيوليس عاصمة اتشامانيد، ولم تقل الأسطورة أن النبي سليمان جاء من القدس مقر إقامته في الطريق إلى اليمن، حيث سبأ وملكتها بلقيس. إن ولكنسون يوظف هذه الأسطورة خدمة لأفكاره المسبقة؛ التي يؤكد عليها في الدراسة إياها، أنه لم تظهر حضارة جديدة في عمان؛ إلا في الألف الأولى قبل الميلاد. وهي حضارة انتقلت إليها عبر التطور الحضاري في جنوب ايران؛ التي يداعبه الدراسات الاثرية أن مستوطناتها البشرية القديمه ارتبطت لأول مرة بالقنوات المائية؛ أي الأفلاج وليس بالآبار كما كان سائدا في الأحقاب السابقة، ومنها للقرب الجغرافي والهجرات البشرية انتقلت إلى عمان. يذهب ولكنسون إلى استشهادات أعمق من ذلك حينما يدلل على أن سلوت حقا كانت مثلما يرى، أنها النقطة المحورية لتاريخ الوجود الفارسي المبكر بعمان، بزيارة له للمكان في فبراير 1973م، يكتب: (عندما كنت في عمان في فبراير 1973، ذهبت لأرى ما إذا كان بمقدوري أن أرصد أي دليل في الأرض، قد يوضح لماذا كان هذا المكان أي سلوت، هو النقطة المحورية لتاريخ الفترة الفارسية المبكرة، وعندما أوضحت الغرض من زيارتي أخذني على الفور شيخ بسيار المجاورة إلى ربوة كبيرة، وقال إنها كانت حصنا فارسيا، وأشار إلى روابي المدافن في التلال المحيطة قائلا: إنها مقابر مالك بن فهم ).

قراءة الشيخ خميس العدوي:
تصدق النظرية القائلة؛ بأن الأساطير إنما تتأسس في كثير من الأحيان على حقائق تاريخية، إذ نتيجة للتنقيب الأثري لفريق جامعة هارفرد الاميركية بسلوت، أثبتت الدراسات أن الخزف المكتشف من ركامها، يشبه ذلك الخزف المكتشف في جنوب إيران، وأن المستقر الحضري لسلوت، يعود إلى القرن الثامن أوالسابق قبل الميلاد على أقل تقدير. أي أنها كحاضرة بشرية سبق وجودها بكثير الحواضر البشرية الأخرى في المنطقة؛أو ربما كانت مجايلة لها أو امتدادا طبيعيا عضويا، لحواضر أكبر مجاورة كبهلا؛ التي هي اليوم المركز السياسي والديني والاقتصادي؛ للحواضر المحيطة بها. كسلوت على سبيل المثال.

لم تتحدد إلى الآن جغرافية سلوت بشكل دقيق؛ إلا أن البحث العلمي يمكن أن يستنتج منه، ثلاثة خرائط مصورة لسلوت، أميل في تحديدها إلى الرأي القائل، بأنها المنطقة الممتدة من جبل الكور غربا وحتى إزكي شرقا، ويحدها من الشمال الجبل الأخضر، ومن الجنوب تمتد إلى الصحراء، وتعرف قديما بصحراء سلوت. هذه المنطقة عرفت في العصور الوسيطة بأرض الجوف، وتدخل فيها بهلا وكدم ونزوى ومنح وازكي، التي هي إذن الارض الواسعة؛ التي نزل بها الأزد اليمانيون، وهي الارض التي دارت بها الحروب الفاصلة بينهم وبين الفرس.



الاسم سلوت ينتمي للغة اليمنية القديمة، وهو يأتي على الوزن الصرفي فعلوت، ومنها رخيوت وضلكوت وريسوت في جنوب عمان، وجحلوت وحلوت وفيوت في شمال عمان. على أن هذا المسمى الجامع مع مرور الزمن تشظى، وأفرزت الظروف الجغرافية والهجرات، أسماء للمواقع المأهولة منه بحسب الموضع، فكانت كدم بسبب إلتفافها بالجبال الحجرية الضخمة، وبهلا الاسم الذي خلفه الفرس على المنطقة؛التي استوطنوها وكانت عاصمة معسكرهم في إقليم الجوف، وهكذا.

فيما أعتقد أن أسطورة زيارة النبي سليمان عليه السلام إلى عمان، وهي أسطورة نقف عليها في كافة المصنفات التاريخية العمانية؛ قد تمت في حصن بهلا، وهو مثلما نعلم أقدم الحصون في عمان وأكبرها. وقد توصلت الاكتشافات الاثرية فيه؛ إلى أنه يعود إلى حقب متقدمة من الزمن، وقد كان للفرس اليد الطولى عليه، قبيل الهجرات اليمنية، ولكن فيما يبدو أن الحصن أقدم من ذلك، وأسطورة زيارة النبي سليمان تشف عن قدمه من جهة، وتشف كذلك عن أن السكان الأصليين أقدم من الازد والفرس.

قراءة الباحث سماء عيسى
أذهب إلى صحة استنتاج الشيخ خميس العدوي؛ إلى أن نزول مالك بن فهم إلى عمان، لم يكن بقلهات الساحل، إنه حقا أمر مستبعد، نظرا للبعد الجغرافي و موقعها البحري الحصين؛ الذي لا يسمح اجتيازها بمجاميع كبيرة من العوائل المتنقلة. لذلك من المرجح أنه نزل بقلهات سلوت، مثلما يذهب الشيخ العدوي، وهي منطقة مجاورة أخرى تسمى قريات كقلهات الساحل؛ التي تجاور قريات الساحل. وما أود إضافته الى ما تقدم، أن تاريخ النبي سليمان قد تشكل في سلموت اليمنية، هناك حيث تقبع في جبال سلمى حتى الآن آثار قصور بلقيس ملكة سبأ. وما يسرده التاريخ عن زيجة النبي بها هو تاريخ أسطوري أيضا. المهاجرون اليمانيون مع انتقالهم من هناك الى هنا، أي من سلموت اليمنية إلى سلوت العمانية، والتي كانت هي أيضا سلموت قبل أن تختفي الميم جراء الحديث، نقلوا معهم أسطورة النبي والقصر والنسر. أي أن الزيارة تمت أسطوريا في سلموت اليمانية، والقصر هو قصر الملكة بلقيس الواقع في جبال سلمى.

عودة الى سفر الملوك الأول بالعهد القديم، من قام بالزيارة هي ملكة سبأ للنبي سليمان وليس العكس؛ التي جاءت مذهولة بما سمعته عن ثرائه وقوة ملكه وحكمته، وقالت للملك بعدما رأت ما رأت: «صدق الكلام الذي سمعته في أرضي عن أقوالك وعن حكمتك، ولم أصدق ما قيل لي حتى قدمت ورأيت بعيني، فإذا بي لم أخبر إلا بالنصف...إلخ». وأعطت له من الهدايا ذهبا وصندلا من أوفير وحجارة كريمة، استخدمها جميعا لبيت الرب وبيت الملك، وعندما قررت العودة إلى أرضها سبأ، أجزل لها العطايا بكرم يعادل كرم عطاياها.

لا يرد في العهد القديم ذهاب نبي الله سليمان إلى سبأ، بل ما يرد ذهاب ملكة سبأ إلى أورشليم دون ذكر اسمها! والمدينة العمانية التي يرد ذكرها هي أوفير؛ التي جلب منها الملاحون الذهب والصندل والحجارة الكريمة. إضافة إلى ذكر مدينة عمانية أخرى هي ترشيش، إذ أن سفن ترشيش في الجنوب العُماني كانت تأتي مرة كل ثلاث، سنوات، حاملة ذهبا وعاجا وقرودا وطواويس، مثلما جاء في سفر الملوك الأول بالعهد القديم، كما جاء ذكر اسم مدينة جازر المحافظة على اسمها حتى اليوم بالجنوب العُماني، ومدينة صور في الشرق العُماني، إذا ما ذهبنا الى اعتبار أنها هي المقصودة وليست صور في لبنان، مثلما يذهب الى ذلك بعض الباحثين؛ الذين أعادوا قراءة العهد القديم برؤى مختلفة مثل كمال الصليبي وفاضل الربيعي. الأهم في دلالات هذه الأسطورة هو ما تحمله من ضرورة بحث عميق وحاد عن الجذر اليهودي في عمان، كما هو الجذر المسيحي أيضا. ذهابا إلى عبادات الآلهة الأسطورية، آلهة ما قبل الديانات السماوية؛التي عثر على تماثيل لآلهتها، في حفريات مدينة سمهرم التاريخية، كتمثال إله القمر سين.



ثانياً: ذكر زيارة نبي الله موسى والخضر عليهما السلام
إلى عمان بحرا، وبعض ما ذكر وكتب عن اليهود:
كتب. المؤرخ العُماني ابو منذر سلمه العوتبي في مؤلفه الأنساب: «قال عبدالرحمن بن قبيصة عن أبيه عن ابن عباس؛ في حديث موسى والخضر عليهما السلام. قال فانطلق موسى والخضر ويوشع بن نُون؛ حتى إذا ركبوا السفينة ولججوا، خرق الخضر السفينة وموسى عليه السلام نائم، فقال أهل السفينة ماذا صنعت؟ خَرقت سفينتنا وأهلكتنا وأيقظوا موسى، وقالوا ما صحب الناس أشر منكم، خرقتم سفينتنا في هذا المكان، فغضب موسى حتى قام شعره، فخرج من درعته واحمرت عيناه، وأخذ برجل الخضر ليلقيه في البحر فقال: «خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا أمرا». قال له يوشع بن نُون يا نبي الله اذكر العهد الذي عاهدتم، قال صدقت. فرد غضبه وسكن شعره، وجعل القوم يغرفون من سفينتهم الماء وهم منها على خطر عظيم. وجلس موسى في ناحية السفينة يلوم نفسه، يقول له كنت في غنى عن هذا في بني اسرائيل، أقرأ له كتاب الله غدوة وعشية فما أدناني إلى ما صنعت، فعلم الخضر ما يحدث به نفسه، فضحك ثم قال: «ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا». أحدثت نفسك بكذا وكذا؟قال موسى: «لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا». فانطلقوا حتى انتهوا إلى عمان، وكان الملك يريد أن ينتقل منها، وكانت كلما مرت سفينة أخذها وألقى أهلها، فإذا الناس على ساحل البحر كالغنم لا يدرون ما يصنعون، فلما قدمت سفينتهم قال أعوان الملك: اخرجوا عن هذه السفينة! قال ان شئتم فعلنا ولكنها مخرقة، فلما رأوها وخرقها قالوا لا حاجة لنا بها، فقال أصحاب السفينة جزاكم الله عنا خيرا، فما صحب قوم قوما أعظم بركة منكم. وأصلح الخضر السفينة فعادت كما كانت، إلى أن قال وكان الملك الذي ذكره الله في كتابه، يأخذ كل سفينة غصبا هو مالك بن فهم الأزدي، وكان ينزل قلهات من شط عمان، وينتقل من هناك إلى ناحية أخرى. وقيل هو الجلندي بن المستكبر، ويقال المستنير بن مسعود بن الحرارية عبد عز بن معولة بن شمس. قال العوتبي: والقول الأول أشبه دلالة وأوضح حجة وأقرب في النظر صحة القول الأخير. قال لان الجلندي هذا كان قبل الاسلام بيسير، وقيل إنه أدرك الاسلام، وأبناؤه عبد وجيفر أدركا الاسلام، وإليهما كتب النبيﷺ، على يد عمرو بن العاص، وقصة السفينة كانت في عصر موسى عليه السلام، وبين موسى ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم أعوام كثيرة.

الزيارة هذه المكتوبة على. امتداد صفحات كتب التاريخ العُماني، ابتداء من الأنساب للعوتبي، وحتى تحفة الأعيان للسالمي، مستمدة من سورة الكهف في القرآن الكريم، ابتداء من الآية 59، ولكن دون ذكر للخضر عليه السلام، ففي القرآن الكريم: {هو عبد من عبادنا. آتَيْنَاه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}. ثم أن العوتبي يضيف من المخيلة أن السفينة انتهت إلى عمان، وكان بها ملك، يكتب العوتبي أنه مالك بن فهم، وهو على ما كتب العوتبي جاء لاحقا ذكره في الاية 78 {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}. نحن إذن أمام التأكيد على صحة نزول المهاجرين الأزد بقيادة مالك بن فهم إلى قلهات الساحل، وليس إلى ما يذهب إليه الشيخ خميس العدوي أن الأزد حلوا بقلهات الداخل الواقعة ببهلا. رغم أن سير الأحداث لاحقا خاصة معركة سلوت الشهيرة ترجح صحة فرضية الشيخ العدوي.

يتواصل حضور الخضر عليه السلام في الكتابات التاريخية العمانية، تتسع عند الحديث عن التنبئ بحدث ما، لذكر ورع وتعفف يندر تواجده لدى الغير من المسلمين، يمتد ذلك الى محاولة إثبات نسبه الى بلاد السر بعمان.

كتب نور الدين السالمي في التحفة: «وفي بعض الكتب أن البدوي كان من بني قتب، وأنه كان رجلا صالحا في دينه، وان أثر القدم التي رآها كان طولها ذراعا أو أكثر، فسار في طلبه، فوجد رجلا في ظل شجرة فكر جنبه منه لما رأى من عظم صورته وشعره والأنوار ساطعة لائحة في وجهه، فقال له السلام عليك يا عبد الله، فقال له وعليك السلام يا عبد الله. فقال له أنت من الجن أم من الإنس؟فقال له من الإنس، فقال له: من أين أقبلت؟ فقال من البرية. فقال له: من أنت؟ فقال له :أنا الخضر هل من حاجة؟ فقال له لا، ثم قال له القتبي: هل من حاجة لك؟ فقال له: نعم اقرئ مني السلام الإمام ناصر بن مرشد، وذكر في آخر كلامه أن الإمام جعل للبدوي فريضة له ولأولاده لأجل البشارة.

وفي كتاب للقاضي بن عبيدان، ذكر فيه من حضره من علماء أصحابنا الإباضية قال: أخبرني محمد بن طالوت عن نجدة النخلي؛ أن الخضر عليه السلام كان من أهل السر من قرية بعمان، ومن ورعه وتعففه رضي الله عنه، أنه كان يعطي نفقة له ولعياله من بيت المال، ولم تكن له قدر يطبخون فيها طعامهم، فكانت زوجته تنقص من النفقة يسيرا يسيرا، حتى باعته. واشترت به صفرية، فلما رآها الإمام سألها من أين لك هذه الصفرية؟ فأخبرته بما صنعت، فقال لها: أتستعملينها وهي لبيت المال!وأمر وكيل الغلة بنقص من نفقتهم قدر ما كانت هي تنقصه.

حول الفتنة العمانية الشهيرة بسبب خلاف فقهي دار بين علمائها، حول هل القرآن الكريم مخلوقا أم أنه قديم ليس بمخلوق. كتب نور الدين السالمي: «هي مسألة جيء بها من البصرة، فانتشر الكلام فيها، وعظمت بها البلية في عمان وغيرها». وبعد نقاش مستفيض حول هذه المسألة الفقهية يسرده نورالدين السالمي، مفصلا مجريات الاجتماع التاريخي؛ الذي دار في بلدة دما وما أفضى إليه، يكتب محملا اليهود هذه الفتنة: «سببها شبهة ألقاها إلى أهل الحديث في البصرة أبو شاكر الريصاني، هو يهودي تظاهر بالإسلام لأجل الدس وإلقاء الفتنة بين المسلمين، وما تَرَكُوا مسلكا إلا سلكوه، ولا سيما اليهود والفرس المجوس».

حول وصايا الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يعيب عليه نور الدين السالمي افتخاره بقتل أهل النهروان، كافتخار اليهود بقتل عيسى«وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم».

وهو. أي السالمي يرى في اليهود قدرة على التنبئ ومعرفة الغيب، عندما يورد لقاء بين يهودي عماني وبين عمرو بن العاص: «كان عمرو بن العاص عاملا للنبيﷺ على عمان، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال: أرأيتك إن سألتك عن شيء أخشى علي منك؟ قال لا، قال اليهودي:أنشدك بالله من أرسلك إلينا، قال: اللهم رسول الله، قال اليهودي والله أنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو: اللهم نعم. فقال اليهودي:لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم. فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه، وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهود فيه ما قال، ثم خرج بخضراء من الازد وَعَبَد القيس يأمن بهم، فجاءته وفاة رسول اللهﷺ».

في الذاكرة الجمعية ما زال لليهود ذكر واسع وثري بعمان، بخلاف المسيحية التي لا تحظى بذلك الحضور، كان ذلك في تراثهم الشفهي أم في كتابات المؤرخين العمانيين. أهم هذا التواجد الأسطوري كهف جرنان بإزكي، حيث يشاع بأن في داخله أي عمقه البعيد خبأ اليهود القدماء معبودهم العجل الذهبي، عندما عصوا الله سبحانه وتعالى أثناء غياب نبيه موسى في جبل سيناء، لإحضار وحي الشريعة من الله، لاحقا مثلما جاء في سفر الخروج بالعهد القديم: «فلما اقترب من المخيم رأى العجل والرقص، فاضطرم غضب موسى، فرمى باللوحين من يديه وحطمهما في أسفل الجبل، ثم أخذ العجل الذي صنعوه فأحرقه وسحقه حتى صار كالغبار، وذراعه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل».

ارتبط اليهود في الذاكرة أيضا بالمكر والخداع، وتسلل ذلك الى الذاكرة إنما مصدره النصوص الدينية اليهودية أولا فالإسلامية ثانيا كمثال الحكاية التالية: «لم يعرف سكان قرية حميم أن بينهم يهوديا، في صباح عيد الأضحى ذهب الجميع لأداء صلاة العيد في المصلى الذي يقع بأطراف القرية، إذ ذاك تخلف اليهودي وقام في غيابهم بالحفر في أحد زوايا المسجد؛لأنه كان على معرفة بوجود كنز مخبأ في المسجد. نجح اليهودي في استخراج الكنز، لكنه وهو يزمع الهرب، فوجئ بعودة رجال القرية من أداء الصلاة؛ الذين قاموا فورا بإلقاء القبض عليه قبل فراره. منذ ذلك التاريخ ومسجد القرية يطلق عليه مسجد اليهودي».

يلاحظ بساطة الحبكة في الحكاية السابقة، وخلوها من الإبداع وعناصر الخيال التي تثري السرد الحكائي الشفهي، كأنها وضعت بهدف مسبق محدد، هو تشويه صورة اليهودي في المجتمع.
ما نخلص إليه هو سيادة المعتقد الديني، كأثر خلاق على ثيمات وتشكيل الحكايا الشعبية، وتوظيفها عبر العصور. هو الجذر الذي غذى مخيلة الإنسان، وفتح لها أبواب التأمل والسرد الشفاهي؛ الذي به تختزن الآلام والآمال جنبا الى جنب وعلى حد سواء.

المراجع
- Serge cleuzion &maurizio tosi
- ‏In the shadow of the ancistors
- ‏Ministry of heritage and culture
- ‏Sultanate of Oman 2007
- نشأة الافلاج في عمان/جون ولكنسون/حصاد ندوة الدراسات العمانية 1980م
- حوار مع الشيخ مالك بن هلال العبري/عضو مجلس الشورى/جريدة عمان/2014/12/28 م
- Folktales Hatim Altaie&joan Publishing house
- العهد القديم/الكتاب المقدس/دار المشرق /بيروت/لبنان /1989م.
- عبدالله بن حميد السالمي/تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان/مكتبة الاستقامة/مسقط 1997م.
- ابو منذر سلمه العوتبي/الأنساب /وزارة التراث والثقافة /مسقط1984م.
- سيناريو فيلم سلوت الوثائقي/الشيخ خميس العدوي.
- سيناريو فيلم سلوت الوثائقي/سماء عيسى.
- حكايا :كهف الرمان، شجرة الزعتر، وباء الجصة، كارثة البسيتين. جمع وتوثيق قام به الباحث.
- السجل التاريخي للخليج وعمان وأواسط الجزيرة العربية /دار غازيت للنشر/إنجلترا /1995م.
- سر الزهرة الذهبية/كارل غوستاف يونغ-ريتشارد فيلهلم/ترجمة عدنان حسين/دار الحوار2013م.

الصور

.2. 3. 4. 5. الصور من الكاتب
1. https://i.pinimg.com/564x/f6/a9/5d/f6a95d57dc944d251a0d4933521cc217.jpg
3. موقع وزارة السياحة الإلكتروني عُمان
6. https://static.arabic.cnn.com/sites/default/files/styles/sw_780/public/2020/06/22/images/Artboard%203.jpg?itok=vrtCfz2b
7. https://photos.smugmug.com/Travel/Oman/Oman-5-Sur-and-Dhow-building-yar/i-Gqk9P6t/2/1d7e472f/L/Sur_Oman_IMG_8608-L.jpg

أعداد المجلة