فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
52

قواعد بيانات الثقافة الشعبية «فرض عين»

العدد 52 - التصدير
قواعد بيانات الثقافة الشعبية «فرض عين»
رئيس الجمعية المصرية للفنون الشعبية

تضم الثقافة الشعبية عناصر كثيرة، في القلب منها، ما أصبح متداولا الآن في الاستخدام وفي الوثائق الدولية من مصطلح جديد هو «التراث الثقافي غير المادي» (اتفاقية «اليونسكو» الخاصة بصون التراث الثقافي غير المادي - 2003 م). و حقيقة الأمر أن هذا التراث يمثل الجانب الحيّ من التراث الثقافي عامة، كما يمثل ذاكرة الشعوب بالإضافة إلى ما يشكله من قوة ثقافية مؤثرة، و دافعا معنويا ضروريا، ومصدرا روحيا لا ينضب ولا يتوقف عطاؤه على مدار التاريخ الإنساني. وعلى ذلك فإن صون هذا التراث هو خير وسيلة للحفاظ على هذا الجانب الثريّ من ثقافة الفرد والجماعة على السواء. ومن نافلة القول أن نشير إلى أن هذا يتطلب منا -اجتماعيا وثقافيا- العمل الجاد من أجل الحفاظ على أن يُكسب الإنسان ما يحقق به وجوده، ويؤكد هويته، وبمعنى آخر، الحفاظ على بقائه، واستمرار ثقافته.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه يمكن لعناصر هذا التراث أن تكون أساسا لنهضة اجتماعية ثقافية، تسهم في التنمية الاقتصادية للجماعة والمجتمع إذا تم توظيفها توظيفا علميا سليما لا يشوهها، ولا يسيء استخدامها، ولا ينتقص من قيمتها، وقيمة مبدعيها وحامليها وناقليها.

وقد اكتشفت شعوب أنه يمكنها الاستفادة من المعارف والحرف والأغاني والموسيقى والحكايات والاحتفالات الشعبية وغيرها من أشكال هذا التراث الثقافي غير المادي/ عناصر الثقافة الشعبية التي تمتلكها في تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة لأصحابها من مبدعين وحاملين وناقلين. ولعله لا يغيب عن الذهن أن كثيرا من الأعمال الفنية المحترمة التي لاقت انتشارا ورواجا وبقاء على صعيد الثقافة الإنسانية كلها، لها أصولها في الأغاني والموسيقى والسّير الشعبية والملاحم والرقصات التي أدّاها مغنون وحكاؤون وراقصون مجهولون.

والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها أن قضايا حفظ عناصر الثقافة الشعبية الوطنية وصونها، وتعزيز ما تعبر عنه من تنوع يُثري الثقافة الإنسانية عامة، وكذلك ملكيتها الفكرية، قد أصبحت وطنيا وعالميا أمورًا هامة و حيوية لغالبية الدول النامية وشعوبها باعتبارها المالك الأصيل لها. وعلى ذلك فهي -أي الشعوب والدول- صاحبة الحق في التصرف فيها بما يحفظ لها حقوقها، ويمنع عنها الاستغلال غير المشروع، وأعمال القرصنة التي تتعرض لها بشكل متزايد، خاصة في الآونة الأخيرة نظرا للتقدم الهائل في الوسائل الألكترونية المعاصرة وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها.

لقد طالبت الدول النامية - وما تزال تطالب - بضرورة توفير الحماية لعناصرثقافتها الشعبية فيما يمثله تراثها الثقافي غير المادي من خلال الجمع والوصف والتوثيق والصون بهدف الحفاظ على هويتها الثقافية، ومنع استغلال هذه العناصر دون مقابل وهو مادارت حوله المناقشات في الاجتماعات والمؤتمرات خلال مايزيد على نصف قرن في إطار منظمات الأمم المتحدة (منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم / اليونسكو، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية / الوايبو).

والحقيقة التي ينبغي أن تكون واضحة تماما، أن مسؤولية صون عناصر الثقافة الشعبية العربية التي يمثلها التراث الثقافي غير المادي وحمايته لما يعبر عنه من هوية، ولما له من قيمة ثقافية، وتاريخية، واجتماعية، واقتصادية يتطلب تضافر الجهود على الصعيد القومى عن طريق العمل المشترك لاتخاذ اجراءات عملية - علمية وقانونية - تؤكد أن هذا التراث يمثل جانبا كبيرا، غاية في الأهمية من ثقافتنا الشعبية التي تشكل في جوهرها هويتنا المستمرة عبر التاريخ.

وأن هذا يقتضي بالضرورة :
أولا: العمل على زيادة الوعي بقيمة عناصر هذه الثقافة الشعبية على الصعيد الإنساني عامة، وعلى الصعيد الوطني اجتماعيا واقتصاديا خاصة، بكل الوسائل المتاحة سواء عبر مناهج التعليم، ووسائل الاتصال المرئية والمسموعة والمكتوبة، والمؤتمرات والندوات، وورش العمل وغيرها. وهنا ينبغي الاعتراف بأن هذه المجلة تقوم بسد فراغ هائل في هذا المجال وتنهض على نحو علمي بدور هام ملحوظ في تعميق الوعي بالثقافة الشعبية وأهمية الحفاظ عليها واحترامها ودراستها، إلى جانب شقيقات لها في المجال ذاته.

ثانيا: أن يتم -في كل بلد عربيّ- إنشاء قاعدة بيانات علمية وطنية تسجل عناصر الثقافة الشعبية فيما يمثله التراث الثقافي غير المادي لكل بلد عن طريق جمع هذه العناصر، ووصفها وصفا علميا دقيقا، وتوثيقها وتصنيفها، تمهيدا لإنشاء قاعدة بيانات عربية تضم عناصر هذا التراث و تعتمد - أو تُبنى - على هذه القواعد الوطنية الخاصة بكل بلد.

ولعله ينبغي أن يكون واضحا أننا عندما ندعو إلى جمع عناصر الثقافة الشعبية العربية، وصونها، وحمايتها بإنشاء قواعد بيانات تضمها إنما نصدر في الحقيقة عن واقع ثقافي اجتماعي يتسم بالتنوع الثريّ، و تؤكده هويّة عربية مشتركة ماضيا وحاضرا، وهوما يجب تأكيده وتعميقه والحرص على استمراره وإثرائه. هذا بالإضافة إلى إتاحتها بشكل منظم موثوق به يحقق الاستفادة منها وتنميتها على نحو علميّ مدروس بما يناسب الحاجات الإنسانية في الحاضر والتي تستجد في المستقبل، دون إهدار لحق الفرد المبدع أو الجماعة التي حافظت على هذه العناصر من آداب وفنون ومعارف وتقاليد وتناقلتها عبر أجيال.

والذى لا شك فيه، ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن، أن الهدف من إنشاء قواعد البيانات التي تتضمن عناصر الثقافة الشعبية بهدف صونها وحمايتها مما أشرنا إليه لا يقتصر فقط على مايمكن الحصول عليه من منافع مادية أو عوائد اقتصادية؛ ذلك أن الحفاظ على الثراء والتنوع الذي يميز الثقافة الشعبية العربية ويؤكد هويتها ويصونها أهم كثيرا من التركيز على المنافع والعوائد الإقتصادية رغم أهميتها التي لا نتنكر لها ولا نقلل من شأنها.

لقد استقر الأمر علميا وعالميا على أن قواعد البيانات الخاصة بعناصر الثقافة الشعبية هي الأسلوب العلمي المعاصر الذى يتم عن طريقه التعرف على هذه العناصر المجموعة جمعا ميدانيا موثقا ومن ثم حمايتها، كما أنها هي الوسيلة الإيجابية المعتمدة لحفظ هذه العناصر وتنظيم الجهود المبذولة للاستفادة بها في الدراسات العلمية وفي دمجها في مجالات الاستثمار الاقتصادى المتعددة لتحقيق تنمية مستدامة للمجتمع أفرادا وجماعات. هذا إلى جانب أنها الوسيلة الوحيدة الموثوق بها - فيما نرى - للحفاظ على إبداع ثقافي وفنيّ يوشك أن يضيع أو يختفي مع ما له من قيمة وطنيا وإنسانيا.

أعداد المجلة