فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
50

تجليات التراث الشعبي من خلال وَعْدَةْ «موسم» الولي سيدي يحيى بن صفية في منطقة أولاد نهار بتلمسان: دراسة تاريخية وفنّية

العدد 50 - عادات وتقاليد
تجليات التراث الشعبي  من خلال وَعْدَةْ «موسم» الولي سيدي يحيى  بن صفية في منطقة أولاد نهار بتلمسان: دراسة تاريخية وفنّية
الجزائر

1) سبب تسميتهم بـ «أولاد نهار» :
ترجع تسمية القبيلة بـ «أولاد نهار» إلى حادثة وقعت لسيدي محمد بن أبي العطاء –الحلقة السابعة في عمود نسب سيدي يحيى بن صفية –جد أولاد نهار– وقد تعرّضت لها كثير من الدراسات بالشرح والتفصيل، لعلّ من أهمّها ما وجدناه مثبتا في خمس دراسات، وبعض التقاليد التي تمكنّا من الاطلاع عليها، والتي اتفقت جميعها حول رواية واحدة في تعليلها لسبب التسمية.

وملخّص هذه الروايات: أن الجدّ الأعلى لسيدي يحيى بن صفية وهو سيدي محمد بن أبي العطاء كان عائدا من حجة لبيت الله الحرام، فسمع بخبره واصل بن وانزمار السويدي، وهو أحد كبار قطاع الطرق في منطقة السهوب فسار رفقة ألف فارس ليعترض سبيله وينهب ممتلكاته.

فأغار على بعض أملاك محمد بن أبي العطاء الذي كان منشغلا بالصيد بعيدا عن الرّبع (المحلة)، ولمّا رجع إلى محلّته لم يجد سوى الرعاة الذين أخبروه بما جرى فتتبّع آثارهم إلى أن التحق بهم، فانطلق نحو واصل بن وانزمار وفي أثره عدد من الفرسان من خيرة أبطال العرب وهو ينشد :
هْـوَّلـني شـوق احــبابـي
كـاتــم الـسـر قْـنُـــوطْ
مَـكـنُــو لــي دَرْعِــي
والـسَّـيـف الـمـسـقُـوطْ

فتبارز الرجلان ونشبت بينهما معركة حامية الوطيس في واد كان يسمى وادي اللوز، يقع شرق مدينة تيارت، انتصر فيها محمد بن أبي العطاء على خصمه، فقتله، وصار ينشد :
زرتْ قبـر النْبِي العدناني
في طريق مولاي سبحانُـه
بجاهه انقذْنِي سُـلطاني
فلساني فصيح في رضـاه
بْسَيفِي قْتَلتْ وَاصَلْ الكافرْ
فصار في جهنم يا ويـلاه

فأصبح وادي اللّوز منذ ذلك اليوم يسمّى بـ«وادي نهار واصل» ويطلق عليه أحيانا نهر واصل، وهو رافد من روافد وادي الشلف، وفي ذلك اليوم (يوم المبارزة) وُلِدَ لسيدي محمد بن أبي العطاء ولد سمّاه زيدا وأطلق عليه لقب (نْهَار) تيمّنا وتبرّكا بانتصار أبيه على عدوّه واصل بن وانزمار في ذلك اليوم المشهود أو (النّهار)، وعرف أولاده (أولاد زيد المكنّى بنهار) بعد ذلك بأولاد نهار، وأصبحت ذريته تحمل اسم أولاد نهار وصاروا لا يعرفون إلاّ بها، وخاصة بعد ظهور الولي الصالح سيدي يحيى بن صفية.

ودفن زيد (المكنى بـ نهار) بعد موته بجوار أبيه في عين الفضّة (جبل راشد أو جبال العمور)1.

2) سيدي يحي بن صفية جد أولاد نهار الحاليين:
ولد الشيخ سيدي يحيى بن عبد الرحمن المكنى بابن صفية سنة 935هـ الموافق لـ: 1529م، ونشأ في بيئة دينية، حيث درس في زاوية جده لأمه الشيخ سيدي سليمان بن أبي سماحة اللغة والعلوم الإسلامية على أساس أن التصوف يقتضي التمسك المطلق بالقرآن والسنة في العقيدة والسلوك معا.

ثم واصل سيدي يحيى بن صفية دراسته بوادي (غِيرْ) في زاوية مولى السهول بالقرب من مدينة بوذنيب التي تقع إلى الشرق من مدينة الرشيدية بالمغرب الأقصى، وتخرج على يد رئيسها الشيخ محمد بن عبد الرحمن السهلي، وتبعا لتوجيهات شيخه توجّه نحو الشمال لنشر العلوم التي درسها وترسيخ الطريقة الشاذلية التي اتبعها.

فاستقر بجبال تلمسان (جبال بني سنوس)، وقد أخذت سمعته تتنامى بسرعة، حيث كثر تلاميذه ومريدوه وأتباعه، يقول الجيلاني بن عبد الحكم : «ولما استقر –سيدي يحيى- بالبلد واشتهر أمره في سائر الأقطار أتته الناس من كل جهة أفواجا، وهرعت إليه من جميع النواحي والأصقاع للأخذ عنه وخدمته والجوار له، حتى تكونت منهم قبيلة ترحل برحيله وتنزل بنزوله، وكانوا ينتجعون بمواشيهم في فصل الشتاء والربيع إلى جهة الصحراء التي قدموا منها ويرجعون إلى بلدهم التي صارت مأوى لهم ومسقطا لرؤوس ذرياتهم»، وهكذا أصبحت زاوية سيدي يحيى بن صفية مزدهرة وعامرة وبلغت شأوا كبيرا.

3) التركيبة الاجتماعية لأولاد نهار :
التركيبة الاجتماعية لأولاد نهار تتكون أساسا من أبناء الولي سيدي يحيى بن صفية وأخويه سيدي أحمد وسيدي موسى (ويطلق عليهم أبناء الصّلب)، وأتباعه الذين نزلوا بزاويته واستقروا عنده بذريتهم (ويطلق عليهم أبناء القلب).
فلمّا استقر سيدي يحيى بن صفية في هذه المنطقة، واشتهر أمره أخذ الناس يفدون عليه للأخذ عنه، والنزول عنده، والالتياذ بجانبه، فبعضهم اختار المقام عنده بأهليهم وأولادهم، والبعض الآخر أخذ عنه العلم والعهد و مبادىءالطريقة ورجعوا إلى أوطانهم.

فأما من اختاروا المقام عند سيدي يحيى بن صفية، فإنّ ذريتهم تنزل مع أولاده وأولاد أخويه سيدي أحمد وسيدي موسى، ويطلق عليهم بعض المشايخ اسم (أولاد القلب) أي تجمعهم بالشيخ سيدي يحيى بن صفية وأخويه وذريتهم الأخوة الإسلامية والمحبة في الشيخ والانتساب لنفس الطريقة الصوفية، وقد كان الولي سيدي يحيى بن صفية كثيرا ما ينبه إلى عواقب القيام باتخاذ النسب الطيني ذريعة للتفرقة بين الجموع التي تلتف حوله، ويحذّر من مثل هذه الأفعال المنافية للتعاليم الإسلامية السمحاء.

يقول الجيلاني بن الحكم: «ومازال سيدي يحيى بن صفية على تلك الحالة المرضية والترقي في الدرجات والأسرار والنطق بالحكم الربانية ينهض حاله ويدل على الله مقاله، إلى أن توفاه الله واختاره لجواره راضيا في سنة 1018هـ الموافق لـ 1610م، ودفن رضي الله عنه ببلاده هذه بوادي بوغدو في جبل سيدي محمد السنوسي على بعد 15 كلم من سبدو، وعليه قبّة عظيمة يقصدها الناس للزيارة والتبرّك»2.

موسم تكريم الولي سيدي يحيى(بن صفية) «الوَعْدَة»:
تهتم القبائل الجزائرية والطرق الصوفية على حد سواء بالمناسبات الدينية، وأهمها ذكرى المولد النبوي الشريف، وليلة القدر، وليلة الإسراء والمعراج، ورأس السنة الهجرية، كما تحتفل كل جهة بذكرى وليّها أو رجلها الصالح.
والأصل في إقامة المواسم الشعبية أو«الوَعْدات»أو «الطَّعْم» أو «الزَّرْدَات» أو«الرَّكْبْ» كما يطلق عليها في بعض الجهات، هو الاعتبار بسيرة الولي الصالح، والانتفاع بذكراه وتجربته الشخصية في سيره إلى الله.

فضلا عن انتهاز فرصة التجمع الشعبي (الأفراد، الأسر، العشائر والقبائل) للتعارف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾{الحجرات/13}، وتحقيق صلة الرحم بين الناس التي أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام، والتعاون على البر والتقوى وفض النزاعات والخصومات بين الناس، والانصراف إلى الله تعالى بذكره، والتعبد له والاستماع إلى القرآن الكريم، والانتفاع بوعظ رجال الدين من العلماء والفقهاء، إلى جانب إخراج الصدقات.

وإحياء هذه المواسم الشعبية (الوَعْدات)، عادة إنسانية من أصل طبائع الأمم، ومناسبة هامّة من مناسبات الانتعاش الثقافي والنفسي والاجتماعي والتجاري والفُرجوي، وهي أيضا من أهم الشعائر والمناسبات التي تناولها الباحثون الاجتماعيون والأنثروبولوجيون بالدراسة والتحليل، وقد أجمع كثير منهم على أن الموسم الشعبي (الوَعْدَة)، تتحقق من خلاله جوانب كثيرة، يمكننا إجمالها في أربع نقاط: الجوانب الاجتماعية، الجوانب الدينية والثقافية، والجوانب الترويحية والفنية، الجوانب الاقتصادية والتجارية.

وموسم تكريم الولي سيدي يحيى بن صفية لا يزال يمثل مهرجانا شعبيا، ومنبرا للكلمة الطيبة، والمواعظ الحسنة، وفضاء لتدارس سير الرجال من أهل الصلاح والتصوف والفضل، وساحة لإقامة حلقات الذكر والحضرة (السماع الصوفي)، بالإضافة إلى كونها أسواق تجارية تعمل على تنشيط الحركة الاقتصادية في المنطقة، كما يمكننا رصد بعض الجوانب الاجتماعية والثقافية والترويحية الأخرى..

1) الأصول التاريخية لهذه التظاهرة الشعبية في المنطقة:
تقول الروايات المتواترة في منطقة أولاد نهار أن هذه التظاهرة الشعبية أو (الوَعْدَة)، أول ما بدأت كانت في شكل موعد يلتقي فيه أبناء سيدي يحيى بن صفية وأتباعه عند أبيهم وشيخهم سيدي يحيى بن صفية، بعد الانتهاء من الموسم الفلاحي، وذلك منذ أواخر القرن 16م.

وبعد وفاة سيدي يحيى بن صفية سنة 1610م، استمر هذا اللقاء أو التجمع ليتحول تدريجيا إلى موسم تكريمي سنوي يطلق عليه شعبيا (وعدة سيدي يحيى بن صفية) يحضرها أحفاده وأتباعه وافدين إليها من جهات مختلفة، ويحضرها معهم ممثلوا قبائل عديدة من الجزائر، وحتى من شرق المغرب الأقصى في فترات خلت، بالإضافة إلى مشاركة الهيئات الرسمية فيها منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

فهذه الاحتفالات والمواسم الشعبية العامة في الحقيقة عبارة عن عادة جماعية مورست في مناسبة معينة، وشيئا فشيئا اتخذت صفة الممارسات الاجتماعية الرسمية، يمليها الشعور الجمعي، حيث تلتقي فيها الشعائر والطقوس والعادات والتقاليد بالتراث الشعبي..

يقول الجيلاني بن عبد الحكم مؤرخا لهذه المناسبة الشعبية: « وقد جرت عادة ذريتهم ومن معهم، ممن لهم محبة فيه منذ توفي إلى الآن أن يعقدوا عليه احتفالا باهرا تذكارا له وتبرّكا به... ويكون ذلك الاحتفال كل سنة في فصل الخريف، بموضع تربته، تجتمع فيه قبيلة أولاد نهار وغيرهم، ويضربون بيوتهم التي خفّ محملها، قرب ضريحه مفرّقة تحت الأشجار..»3.

ينتظم هذا الاحتفال الموسمي في شهر سبتمبر من كل سنة – ويعقد أحيانا في شهر أوت استثناء – وذلك بعد انتهائهم من جمع حصائل سنتهم الفلاحية، وقبل الاستعداد للموسم الفلاحي الجديد، وكانت وعدة سيدي يحيى تفتتح رسميا في منتصف الشهر القمري، واختيارهم هذا التوقيت لم يكن اعتباطا، فاكتمال البدر يكون في منتصف الشهر القمري، وبالتالي فهذا التوقيت يسمح لهم بالاستعانة بضوء القمر في احتفالهم، خاصة عند انعدام الكهرباء في الماضي.

2) الجوانب الاجتماعية في هذه التظاهرة الشعبية:
تساهم مثل هذه المناسبات الشعبية بدور بارز في تدعيم العلاقات الاجتماعية، فهي فرصة لتلاقي أفراد الوحدات الاجتماعية، وتوسيع شبكة العلاقات، وموعدا يستغل لطرح كثير من الموضوعات التي تهمّ مجتمع المنطقة من قريب أو بعيد، فهو من هذا الجانب يمثل مؤتمرا شعبيا، يتدارس من خلاله أعيان أولاد نهار قضاياهم بشكل خاص وقضايا الوطن بشكل عام، كما يمثل رمزا لوحدة الهدف في الجماعة تجاه القضايا الخارجية، فهو يبرز بوضوح ذلك التماسك الاجتماعي القوي الذي يسود بين أهل المنطقة.

وهي أيضا (الوعدة) وسيلة من أنجح الوسائل لتأييد وتدعيم نظام الوحدات الاجتماعية واستمراريته، وفي مثل ذلك يقول روس (Ross) : بأنها «الرابطة التي تجمع شتات الجماهير وإذا انحلّت هذه الرابطة تفرقت الجماهير وصارت أمورها مضطربة»4.

وتعتبر وعدة الولي الصالح والشيخ الناصح سيدي يحيى بن صفية أرضا خصبة لدراسة النسق القرابي الذي يتشكل على أساسه النظام الاجتماعي عند أولاد نهار، يتجلى ذلك بوضوح عند التوزيع الجغرافي للوحدات الاجتماعية (فرق القبيلة) في موضع الاحتفال، هذا التوزيع الثابت والمتوارث جيلا عن جيل، فحين تصل الوحدات الاجتماعية إلى مكان الاحتفال تتوزع على مناطق محددة خاصة بكل وحدة، حيث تنتشر فيها أسرها ناصبة خيامها وما تحتاجه من لوازم، وتعرف هذه المناطق المخصصة للتخييم في الذاكرة الشعبية لأهل المنطقة بـ (الحَجْرَواتْ) ومفردها (حْجِير)، وكل وحدة اجتماعية مطالبة ببناء خيمة كبيرة يتجمع فيها أعيانها لاستقبال الضيوف وإكرام الزوار الذين يفدون عليهم من كل ناحية.

ويمكننا تحديد طبيعة النسق القرابي في قبيلة أولاد نهار أيضا من خلال ممارستهم لألعاب الفروسية أثناء هذا الموسم الشعبي، حيث تنفرد كل وحدة اجتماعية تجمعها القرابة الدموية بممارسة الفروسية دون الاختلاط بوحدات أخرى أساسا، ولكن يشترك معها فرسان آخرون من وحدات أخرى أو حتى من خارج القبيلة استثناء، وتشارك كل وحدة اجتماعية بكوكبة من الفرسان يصطلح على تسميتها شعبيا بـ (العَلْفَه)، وقد لوحظ أن هذا السلوك يبعث نوعا من التنافس بين هذه الوحدات الاجتماعية، من أجل أداء جيد ومنسّق، يترجمه جمال الفرس، والانطلاقة المتوازية للفرسان، والانسجام العام عند إطلاق البارود.

ويؤكد شوقي عبد الحكيم أن إخضاع الممارسات الاجتماعية والثقافية في القبيلة للدراسة والبحث، يعين الباحث فعلا في فهم وتحليل البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق ويمكّنه من ضبطه، حيث يقول: «ولعل الملمح الأساسي لتقدّم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي كانت زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي.. بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقوسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد أو نظرية الألعاب التي كان «كروبير» أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام 1942 تساعد أكثر في إيضاح النسق القرابي»5.

وحول وظائف الاحتفالات العامة (ومنها المواسم الشعبية)، ومدى تمسك الجماعات البشرية بالقيم الاجتماعية والثقافية المتعلقة بها، تعتبر فوزية ذياب أن الوظيفة الأكثر أهمية فيها: «هي النزول بقيم الجماعة من التجريد إلى الواقع، وتفسير ذلك هو أن الاحتفالات هذه تؤثر في الأفراد فتجعلهم يتجاوبون عاطفيا مع ما تتضمنه من أفكار، وما تثيره من صور ذهنية»6.

ويساهم هذا الموسم الشعبي في الضبط الاجتماعي، بتدعيم العلاقات الاجتماعية، لتقوية أواصر الروابط وتمتينها بين مختلف الفرق أو الوحدات الاجتماعية: وقد اتفق كل من رادكليف براون ودوركايم وأحمد الخشاب.. على أهمية الشعائر في التعبير عن وحدة المجتمع، وتأكيد وتعميق القيم والمعتقدات، وتحقيق الضبط الاجتماعي بالحفاظ على تماسك النظام الاجتماعي عن طريق تقوية المشاعر والروابط والعواطف7..

3) أهمية هذه التظاهرة الشعبية في حفظ التراث الشعبي:
يعتبر موسم تكريم الولي الصالح سيدي يحيى بن صفية (الوعدة)، مهرجانا شعبيا متنوعا، تتمظهر من خلاله كثير من النشاطات التي تمتزج فيها الحركة بالكلمة، فمن رقصة العْلَاوِي الرجالية إلى أغاني الصف النسوية إلى حلقات الحضرة (السماع الصوفي)، إلى حلقات المدّاحين التي تخوض في سير الصالحين وخصال العارفين وبطولات المقاومين، إلى ألعاب الفروسية والبارود (الفانطازيا)، لترسم هذه الفسيفساء في النهاية لوحة فنية عن ملامح الثقافة الشعبية بنوعيها (المادية والمعنوية) في منطقة أولاد نهار.

وسنقتصر في هذه الدراسة على تقديم ثلاث نماذج من التراث الشعبي الأكثر تجلّيا في مثل هذه المواسم الشعبية:
- أغنية الصف النسوية الحركية الأدبية الناطقة.
- رقصة العلاوي باعتبارها فنا رجاليا حركيا راقصا.
- وحلقات الحضرة باعتبارها فنا سماعيا صوفيا شعبيا.

أغنية الصَّفْ:
أغنية الصف تعتبر واحدة من أهم أشكال التعابير النسوية في الأدب الشعبي بمنطقة أولاد نهار8، بل هي أكثرهم انتشارا وتجذرا في النسيج المجتمعي للمنطقة، وما جاورها، وهي لذلك تحتل مكانة متميزة في فضاء الثقافة الشعبية المحلية.
ويلخص شاكر البرمكي الخصائص العامة للأهازيج الشعبية –وهي على العموم السمات نفسها في أغنية الصف بمنطقة أولاد نهار - فيما يلي:
- التلقائية والوضوح،
- العفوية في التعبير،
- التعبيرات الصارخة في إظهار الغضب والتمرد والرفض والصمود والسرور والنقد والإطراء والهجاء،
- طرح مفاهيم الثورات والانتفاظات الشعبية،
- التعبير عن اهتمامات الشعب وطموحاته9.

1) الأداء والمناسبة:
وهي أهزوجة جماعية تؤديها النسوة وقوفا، على شكل صفين متقابلين ومتوازيين، حيث يظهر في كل صف تداخل سواعد النساء كأنهن جسد واحد، ويعتبر «الدف» (البَنْدِيرْ) الآلة الموسيقية الوحيدة الحاضرة في هذا النمط الغنائي الذي يجمع بين الرقص والغناء أو الكلمة والحركة، فيبدو في رقصتها (الحركة) أدب وحشمة ورزانة، لا مجون ولا إثارة ولا صخب، بل سهولة وجد وبراعة، وتتميز في غنائها (الكلمة) بصفاء كلماتها وبساطة ألحانها، وسهولة أسلوبها، وإيقاع أصواتها النابض.

وتظهر أغنية الصف في المناسبات الخاصة والعامة على السواء، من المناسبات الخاصة: الأفراح العائلية؛ كالزواج، الختان، السُّبوع (العقيقة)، استقبال الحجيج وتوديعهم.. ومن المناسبات العامة: موسم تكريم جد المنطقة ورجلها الصالح «الولي سيدي يحي بن صفية».

2) أغنية الصف ومجهولية المؤلف:
أنتجت المرأة البدوية هذه النصوص الشعبية، فأصبحت رفيقها في أشغالها المضنية، وخير أنيس تجزي به الوقت في نشاطاتها الاجتماعية المختلفة، فتوارثته الأجيال مشافهة في فترات متلاحقة ومتباعدة، لهذا نجد أغلب تلك النصوص تتميز بمجهولية المؤلف، وقد يكون لعادات وتقاليد المنطقة المحافظة والمنغلقة في آن دور في تغييب مؤلِّفات تلك النصوص الغنائية.

يطلق على مؤلفات تلك النصوص؛ أوعلى الأكثر براعة وحفظا وأداء منهن اسم «الزَّرَّاعَة»، وهذا الاسم استعماله واسع في الأوساط الشعبية داخل مناطق كثيرة من الغرب الجزائري، كما يؤكد ذلك عبد المالك مرتاض: والشاعرة تزرع لهن هذه الأغاني فيثقفنها توا، ويردِّدْنها معها حالا، وتستعمل لفظة زرع في هذا الموطن استعمالا مجازيا فصيحا، لأن الذي يزرع الحب في الأرض الصالحة الطيبة، ينبت ويتوالد وينمو، فالزرع أو البذر هو الأصل، وزرع الغناء معناه بثه وإشاعته، وجعل ذلك الصوت هو الأصل في الغناء الذي تردده الأصوات10.

3) اللغة في أغنية الصف:
تمتاز تلك النصوص الغنائية بشعبيتها وارتجال نصوصها، لذلك يأتي معجمها اللغوي بسيطا وعفويا، فهو يقترب من نفس المعجم الأساسي المستعمل في الخطاب الدارج المتداول في المنطقة، وبالرغم من ذلك تجد تلك النصوص أخاذة ومثيرة، وكأنما نفخت فيها هذه المؤلفة المجهولة سحرا، وربما السر في ذلك صدق التجربة، لأن أغلب تلك النصوص صدرت عن تجربة عاشها الفرد أو الجماعة أو الوطن ككل.

فتلك الكلمات المنثورة عبر تلك المقاطع كانت تتأجج في نفسية المؤلفة أو «الزرّاعة» المنفعلة، قبل أن تهديها لأنفس أخرى لتستقبلها بنفس حرارة الإنفعال وبنفس الصدق، فمؤلفات تلك النصوص يستقين كلماتهن من الذات الجماعية وبعفوية وارتجالية، فهن لا يجلسن وأمامهن ورق ناصع ومعجم تطاردن به الشوارد لتقبرنها من جديد في قصيدة عصماء.

وعموما تتداخل المستويات اللغوية في تلك النصوص، بين الفصيح والمتفاصح والدارجة السيارة (العامية المشتركة بين عموم الجزائريين) والدارجة المحلية التي لا يكاد يعرفها إلا من يعيش داخل المجال الجغرافي للمنطقة، وهناك الكلمات الفرنسية التي دخلت اللسان الدارج بفعل الاستعمار.

تناولت المرأة البدوية من خلال أغنية الصف موضوعات مختلفة، اجتماعية وطنية، ودينية، وأحيانا تتداخل هذه الموضوعات في النص الواحد، وسنحاول أن نسلط الضوء هاهنا على حضور البعد الوطني في تلك النصوص الغنائية، والتي تبرز وعي المرأة البدوية ومدى تفاعلها مع القضايا الوطنية، وارتباطها الحميمي بآمال وآلام مجتمعها ووطنها.

شاركت المرأة في منطقة أولاد نهار الرجل، وجاهدت معه جهادا فعالا إبّان الثورة التحريرية المباركة، فأسعفت المجاهدين، وطبخت لهم وغسلت ثيابهم، ونقلت المؤن الحربية والغذائية إلى أبطال الثورة بكل شجاعة وبسالة، كما أنها عبرت عن معاناتها وانفعلت مع ثورتها المجيدة، فسجّلت أشهر أهازيجها هذا الوعي الحضاري والوطني بكل أمانة وصدق.

لقد كانت أغنية الصف حاضرة في الكفاح الوطني كشكل من أشكال الرفض الشعبي للواقع الاستعماري المرير، وكان لبساطة تركيبها وسهولة نظمها وحفظها والتغني بها،الأثر البالغ في التعبير عن مشاعر الأغلبية من أبناء المنطقة، وذلك بإظهار السخط على المستعمر الغاصب وأذنابه، وفضح أساليبه التخريبية والاستيطانية.

لقد كان بركان الكلمة في أغنية الصف يوازي بركان الثورة المسلحة، بما كانت تحمله من معاني الحماس والتحدي والمقاومة لمخططات الكيان الاستعماري، مثلما تصوره لنا هذه المقاطع:
زِيدُوا يا اللِّـي تَـاكْلِـينْ عْلَـى الله
ودْجَـاهـدُوا عْـلى ديـن محـمـد
زيدوا يا اللّـي مْقَوْصِـينْ للشَّـدَّة
واللّي رَافْديـــن الحَرْب والعَدَّة
سْيَـادِي صَبْرُوا للجليد وللجــوع
جـابوا الحـريّة عـلى النْجُــــوع
سْيَادِي سَمْحُوا في الـزّادْ ولَـوْلاَدْ
جــابـوا الحـريّـة لكـل بْــلادْ
سْيَادِي سوق النْصَـارى هَـزْمُـوه
وتْحـَــزْمُـوا لـلــدّيــن وتَـمُّـــوه
اموالفين برد الليالي والـجـلـيـد
والليـل والظلـمة والحـال بعـيد
ما كـان لا هَـــدْرَه لا كْـلَام
غِــلَا رَبْحَــتْ الـدْزَاير لَحْــكَام
رانـي نْخَمّمْ يا ناس مـا لاقي صْـبر
وعقلي تْودّر ما صبت كِيفاش نْدِير
لا تخمّم اليوم لا تتكلّم في ذا لامر
سَـلَّـمْ طِـيـعْ جَيـشْ التَّـحـريـرْ

رقصة العْلَاِوي
1) الجذور التاريخية لرقصة العلاوي:
يعتبر الرقص الشعبي من أبرز مظاهر الفنون الشعبية وأقدمها، رافق الإنسان من المهد إلى اللحد، فمن ترقيصات الأطفال التي تمارسها الأمهات مع أطفالهن إلى الرقصات الفردية والجماعية في المناسبات العامة والخاصة.
تتعدد أنواع الرقصات الشعبية في المغرب العربي، فلدينا رقصة الدكّات، والدَّارَسْ، والتَّارْقي، والعْلاوي.. وتمتاز كل رقصة من هذه الرقصات الشعبية، بميزتها الخاصة، في طريقة أدائها وفي لباسها وحتى في دلالاتها وإيحاءاتها.
وتعتبر رقصة العلاوي من الرقصات العربية الأكثر انتشارا وشهرة في الجهة الغربية للجزائر، كتلمسان، سيدي بلعباس، تموشنت، البيّض.. وإلى ذلك يشير عبد المالك مرتاض:«-العلاوي- هي رقصة خاصة بالرجال، ولا تؤدى هذه الرقصة إلا بصورة جماعية، ومن خصائصها الحركة القوية السريعة والارتفاع والقفز على نظام معلوم، وهي مشهورة في الجزائر كلها، وتشتهر في غربيها أكثر من شرقيها»11.

ورقصة العلاوي ليست وليدة الأمس القريب فقط، وإنّما هي موغلة في القدم، ويكفي أن نعلم أنّها كانت موجودة في القرن12ه/18م، يقول إبراهيم بهلول: هذه الرقصة كانت موجودة في عهد الحاج محي الدين أب الأمير عبد القادر وفرسان جيشه الشجعان، إذ كانت تعبيرا عن مختلف مراحل القتال، يتسلون بها بعد كل رجوع من معركة ظافرة، فيتعاطى هؤلاء الجنود حاملين سيوفهم وبنادقهم في عروض متقنة، واثبين مرة على خط مستقيم، وأخرى على شكل دائرة، يضربون الأرض ضربات متتالية، بالرجل اليمنى متبوعة باليسرى يتوقفون تارة، ثم ينطلقون إلى الأمام... ثم إلى الخلف في حركة اهتزازية مستمرة للكتفين، أي في سلسلة حركات تسيرها إشارة الرئيس المزعوم للفرقة»12.

وحول أصل رقصة العلاوي يقول الأستاذ الباحث يزلي بن عمر : «أما رقصة العلاوي والتي حسب اسمها تكون قد انحدرت من أصل عربي من سلالة علوية، غالبا ما تكون قادمة من المغرب الأقصى إثر قيام الدولة الإدريسية..»13.
وتضع قبيلة أولاد نهار رقصة العلاوي على رأس أهم مظاهر ثقافتهم الشعبية، فهم يعتبرونها سر وجودهم وعنوان هويتهم، ويتعاطون معها بنوع من التقديس والاحترام. وهناك نوع مشهور في رقصة العْلاوي يسمى (النْهَارية) نسبة لأولاد نهار، يلقى صدى وتجاوبا في كثير من المناطق الجزائرية والمناطق الشرقية من المغرب الأقصى على حد سواء.

2) مظاهر الثقافة المادية في رقصة العلاوي:
من مظاهر الثقافة المادية في رقصة العلاوي عند أولاد نهار، الآلات النفخية التقليدية، مثل آلة (القَصْبَة) وآلة (الغَايْطَة) المستعملة أحيانا، وآلة الدّف (البِنْدِير)، وهي جميعها آلات موسيقية تقليدية مصنوعة يدويا.
وثاني المظاهر المادية في هذه الرقصة؛ اللباس، وهو زي تقليدي وشعبي يدل على انتماء حضاري أصيل، لم تمحه السنين، ولا ظروف سنوات الاستعمار الطويلة من الذاكرة الشعبية.

يتمثل هذا الزي الجزائري الشعبي في العمامة البيضاء، والعباءة الفضفاضة المكممة ذات اللون الأبيض أيضا، والمرصعة ببعض الخطوط (السْفِيفَا) ذات اللون الأحمر، والتي تُشبك في الظهر والصدر، حيث تتدلى منها كرة حمراء اللون مصنوعة من الصوف تزيدها جمالا للأثر الذي يضفيه اهتزاز الكتفين ويظهر في الجانب الأيسر للراقص غمد المسدّس الذي يطلق عليه في المنطقة اسم (الكَبْر)، ويقابله في الجهة اليسرى النْجَادْ، وتسميته الشعبية في المنطقة (التَّهْلِيل)، ويطلق على هذا الزي مجتمعا اسم (الحْمَايَلْ).

ويستعملون في هذه الرقصة الشعبية «العصا»، وهي ميزة تلتقي فيها مناطق كثيرة من الغرب الجزائري، يقول إبراهيم بهلول: «كما تشترك جميع المناطق في استعمال العصا، مما يبرز روح القتال الحربي التي يمتاز بها هذا الشعب الصامد، أمام تسلط المستعمر الذي أباد البندقية وجعلها من الممتنعات بالنسبة للسكان الأصليين، فاستبدلوها بالعصا رمزا للمثابرة على الجهاد، وذلك كوسيلة لتحويل انتباه العدو، وردعه للحفاظ على استمرارية هذا التقليد البسيط»14.

3)رقصة العلاوي، الآداء والدلالات:
عُرف أولاد نهار برقصة العلاوي في العديد من الجهات الغربية لبلادنا وحتى في شرق المغرب الأقصى، نتيجة أدائهم المتقن والمتميز لهذا النوع من الرقص الشعبي، وانتشار أحد إيقاعات رقصة العلاوي وتأثيرها في بعض مظاهر الثقافة الشعبية لتلك الجهات، هذا الأداء الفني المعروف باسم (النهارية) نسبة لأولاد نهار –كما أسلفنا-.

يتم أداء رقصة العلاوي بصفّ من الرجال يقابله في الجهة الأمامية صف العازفين، ويؤدي هذا الرقص الشعبي أشواطه في ثقة بالنفس مرتكزا على حركات أساسية تؤديها الكتفان والرجلان، والرأس بطريقة عفوية.

من تقاليد رقصة العلاوي عند أولاد نهار تعيين قائد الفرقة، الذي يتميز بمهارته الفائقة في أداء هذه الرقصة، وشخصيته القوية، فهو الموجه والملهم لرفاقه، يأمر تارة بالهجوم وتارة بالتراجع، وأحيانا يبعث الحماس والحيوية في نفوس أتباعه بأصواته القوية المرتفعة، وكأنك إزّاء قائد حربي حقيقي.

وعملية الهجمة المتمثلة في تلك القفزة إلى الأمام أو إلى الوراء مع الضرب المنتظم بالرجل على الأرض تبدو كركزات مضبوطة معبّرة، وكأنهم يترجمون أحاسيسهم على صفحة أرضهم الطيبة من خلال ذلك الإيقاع، وهذه العملية يمكن ترجمتها في المصطلح العسكري «بالهجوم أو الدفاع»15.

يقوم أحيانا قائد الفرقة بدور انفرادي، كأن ينفصل عن الجماعة ليرقص وحيدا لبعض الفترات تحت مراقبة فرقة الرقص، التي تقوم بحركة أرجل رتيبة منتظرة منه الإشارة لتغيير الإيقاع أوالضرب بالأرجل بطريقة جماعية ومحددة.
تخضع ضربات الأرجل على الأرض في رقصة العلاوي إلى تسميات شعبية معروفة لدى أولاد نهار، هي من المفاتيح الأساسية في أداء هذا الفن ، لا يمكن لمن يجهلها أن يفهم أو يؤدي فنيات هذه الرقصة.

من تلك التسميات الشعبية، نذكر :
- البُونْت: ويعني ضربة واحدة بالرجل على الأرض.
- العْرِيشَة: هو اسم لناحية تقع في منطقة أولاد نهار (بلدية العريشة)، وفي رقصة العلاوي تعني ثلاث ضربات سريعة بالرجل على الأرض.
- سْبايْسِيَّة: تعني عدّة ضربات سريعة تخضع لإيقاع معين يضبطها، وهذا الاسم يرمز إلى نوع من التشكيلات الفرسانية لفرق الخيّالة من الجزائريين في الجيش الفرنسي المعروفين باسم (سْبَايس Spahis).
تقوم هذه الرقصة كما أسلفنا على ضرب الأرجل ضربا قويا على الأرض أو رمي الجسم متصلبا مثل الخشبة، أو قنص الظهر إلى الأمام، أو تأدية قلبات جانبية هوائية، هذه الحركات تلازمها دائما حركة اهتزازية قوية من الكتفين، تجعل تلك الخيوط الحمراء المثبتة فوق الأكتاف تتراقص كأنها الأمل النابض من قلب مشحون بالعزة والتفاؤل والشهامة.
تتكون رقصة العلاوي من إيقاعات كثيرة تفوق العشرين أداء، مما جعل هذه الرقصة تشكل لوحدها مهرجانا فلكلوريا متنوّعا،وهي لا تبدو كالرقصات الترفيهية، التي عادة ما تمارس في الاحتفالات الخاصة بانتهاء المواسم الفلاحية، بل هي ذات طابع حربي، تعبر عن الاستعداد الدائم للحرب والدفاع عن الأرض، وقد تكون أيضا تعبيرا عن استراحة المحارب، نستشف ذلك كله من خلال رموز كثيرة:
- دلالات الحركات حيث عملية الهجمة بالقفز إلى الأمام والرجوع إلى الوراء، وضربات الأرجل القوية على الأرض بشكل جماعي ومحدد، تحت صيحات قائد الفرقة المزعوم، الذي يضبط ريتم الرقصة وإيقاعها بكل جدية وحزم، ما يجعله يتماهى ودور القائد الحقيقي في المعركة.
- دلالات اللباس التقليدي المستمد من الزي الإسلامي الأصيل المرصع بالخطوط الحمراء، وغمد المسدس، واستعمال البندقية أو العصا.
- كذلك دلالات إيقاع رقصة العلاوي الذي يتميز بالصرامة وإذكاء الحماس والبعد كل البعد عن إيقاع الرقصات الشعبية الترفيهية، إيقاع يتماهى والإيقاعات العسكرية المصاحبة للجيوش أثناء المعارك والحروب.

وبموازاتة رقصة العلاوي نجد في منطقة أولاد نهار رقصة شعبية أخرى تسمى بـ(الدّارَه)، يؤديها الرجال على شكل دائري، ولباس هذا النوع من الرقص يختلف عن لباس رقصة العلاوي، حيث يرتدي الراقصون نوعا من البرانس ويحملون البنادق، وعند نهاية الرقصة يطلقون البارود، لذلك تسمى أحيانا بـ(البارودية)، وما يميز هذه الرقصة هو الإيقاع الرزين المستوحى من أصوات حوافر الخيل أثناء الركض وهي متجهة نحو المعركة، وكأنها بذلك ترمز إلى عملية اشتباك كوكبة الفرسان مع العدو، والتي تتوج عادة بإطلاق البارود.

شعر حلقات الحضـــرة -اجتماع، استماع، انتفاع:
أشار الشيخ محمد بن سليمان الصائم التلمساني في مخطوطه «كعبة الطائفين» إلى الحضرة (السماع الصوفي) باعتبارها إحدى الممارسات الأكثر انتشارا في تلمسان أثناء القرن 11ه/17م، فقد أخبر المؤلف أنه كان يمارسها بمعية شيخه موسى اللالتي وبعض الفقراء (المريدين) بحرم الشيخ سيدي أبي مدين كل ليلة جمعة (وقد وضعوا لها آدابا وشروطا)16.

فمن النفوس من ترقّ وتلين وتهذّب بالحضرة أكثر من أي شيء آخر، فيسهل قيادتها إلى التأمل والمعالجة، وهدف «الشيخ وغايته إعانة النفوس بما يقتضيه حالها.. لأن الطباع مختلفة وأحوال السالكين طريق الله متباينة»، ومما ينسب إلى الولي سيدي يحي بلحاج17
الحضـــــرة طْـبَــل الصالحيــن
لَـيــهَــا يْــتُـــوب عْــجَــالـــة
فيـهـا المجـذوبـين والسـالكـين
واهْــلْ الحـــالْ مــع الحــالـــة
اِيَّـاوْ للحضرة عْطُـوهـا قْـلُوبكم
ولَا تْغِيـبُـوا فِـينْ، عَنـهـا تْحَـزْمُـوا
اِيكَّفْ الرّحمـنْ بهـا ذْنُوبكـم
وتربحوا الحسنات منها وتغنـمـوا
ويقول الشيخ أحمد شهاب الدين الزوي في نفس المعنى:
وإن وجــدت حضــرة مقــامـــة
بالذكر فاجلس تحظى بالكرامة
واذكر بقلب ولســـان معهــــم
أو استـمـع فـالخـير يـرجـى منهـم
فـهــؤلاء تحــفّــهــم مــلائــك
إلـى السـماء كـمـا رواه مـالـك
ولـيـس يـشـقـى جـالـس ببـاهـم
وإن أســا فــيرحــمـنّ بجـاههــم18

1) الحضرة: المصطلح والأداء:
المصطلح:
يعني مصطلح الحضرة الحضور، أوالاقتراب والدنو، وهي تعني عند الصوفية اقتراب الإنسان من الذات الإلهية، ويكاد الصوفية يجمعون على أهمية الذكر في الوصول إلى حضرة الله، من ذلك قولهم:
كقولنا لعالم ذي غفلة
الذكر مفتاح لباب الحَضْرة
فالذكر مفتاح لباب الحضرة الإلهية «واعلم أن المراد بحضرة الله تعالى، حيث أطلقت في لسان القوم شهود العبد أنه بين يدي الله تعالى، فما دام هذا مشهده، فهو في حضرة الله، فإذا حجب عن هذا المشهد فقد خرج منها»19 أي استشعار المؤمن أنه حاضر بقلبه بين يدي الله، هائم ونشوان في رياض القرب من الله.

فيما يتعلق بتسمية حلقات الذكر والإنشاد أو ما يسمى بـ مجالس السماع باسم «الحضرة»، فقد أرجع أهل التصوف تسميتهم للذكر باسم الحضرة إلى المثول في حضرة الله، اقتداء بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك ترجع التسمية إلى محاولة تخلص المريد المتصوف من العالم الدنيوي ليتحقق بمقام الحضور، لذلك يفضل تسمية هذا الذكر الجماعي باسم «الحضرة» حيث كلمة ذكر يمكن أن تطلق على أشياء كثيرة.

يقول محمود الصباغ: كلمة ذكر لا تطلق على ذكر الإنسان فحسب بل تطلق على ذكر الحيوانات والجوامد والنباتات، أما الحضرة فاختص بها الإنسان لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا جليس من ذكرني»20.
نشير إلى أن حلقات الحضرة تعرف في جهات أخرى باسم العِمارة أو الخمرة أو الزار...

الأداء:
تمارس الحضرة في الغالب من طرف طائفة من الفقراء والمقاديم والشيوخ في المنازل أو في الزوايا، تقام أسبوعيا عند رأس كل ليلة جمعة بعد صلاة المغرب، كما تقام في المناسبات الدينية، كرأس السنة الهجرية وذكرى المولد النبوي الشريف والمواسم الشعبية (تكريم الأولياء)...

بعد تحية الحضور لبعضهم البعض، وجلوسهم على شكل حلقة، تبدأ الحضرة بقراءة حزب الفلاح قراءة جماعية، ثم تفتح الحضرة رسميا بذكر اسم الله المفرد، وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، بعد ذلك تنشد مقطوعات شعرية صوفية تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، تلك النصوص الشعرية من نظم شعراء متصوفة مشهورين في الغرب الجزائري وجنوبه الغربي، من أمثال: سيدي أحمد بن موسى الكرزازي، سيدي لخضر بن خلوف، سيدي الشيخ، سيدي يحي بلحاج...
وفي بعض المناطق من تلمسان (منطقة أولادنهار بتلمسان) يقوم فقراء الحضرة بإطفاء النور، حيث يمارسون الذكر في الظلام لفترة معينة21، إما بالتهليل أوبذكر اسم الجلالة، وتختم حلقة الحضرة بالأدعية والاستغاثات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم22.

2) الشروط والآداب:
الحضرة في منطقة أولاد نهار لها شروط وآداب يراعيها ممارسوها23، منها:
- تحرير النية، فلا يقصدون بها شيئا غير وجه الله وإصلاح الحال وجلب البركة.
- لا يشترط في حلقات الحضرة أن يكون الفقراء المجتمعين من طريقة صوفية واحدة.
- قدسية الزمان؛ كأن يكون الاجتماع ليلة الجمعة، أوالمناسبات الدينية، ومواسم الأولياء(الوعدات)...أي يترصدون الليالي الفاضلة والأوقات الشريفة.
- قدسية المكان؛ مثل الزوايا، أو منازل السالكين (أهل الله) من الشيوخ والمقاديم والفقراء.
- التزام الحضور الأدب مع الله ومع بعضهم البعض، والتزام الصمت والابتعاد عن اللغو وعن كل ما يشوش القلب ويبعده من الحضرة.
ونشير إلى أن الحضرة عند جماعات أخرى، لا تشترط أكثر من ضرورة توفر الطهارتين الكبرى والصغرى، والنية الصادقة، وعدا هذين الشرطين فإن الحضرة مفتوحة لكل الناس، فالحضرة حضرة الله ولا يملك أحد فيها شيئا على الإطلاق، فإذا كانت مقامة في المنزل يظل الباب مفتوحا لا يغلق أبدا أثناء الحضرة وبعدها.

3) الوظيفة الروحية:
لقد تبين من خلال المعاينة الميدانية وباستعمال أسلوب الملاحظة بالمشاركة... مع فقراء ومقاديم الحضرة دور هذه الحلقات في توفير الراحة الروحية للفرد والاطمئنان النفسي، فالفرد أثناءها يحاول التملّص للحظات من العالم المادي ومن كل الشواغل الدنيوية بالاحتشاد النفسي والعصبي.

تعتبر الحضرة بمثابة الغذاء الروحي لفقراء الحضرة ومقاديمها ومرتاديها، إذ تعمل على تهدئة النفوس وطمأنة القلوب، وبعث السكينة في الحضور، فالحضرة من هذه الزاوية تعتبر زادا حيويا لإشباع الحياة الروحية، التي ستنعكس حتما على تقوية الجوانب النفسية والجسمية للفرد، وهنا نلفت النظر إلى أن جماعات الحضرة تعتقد كثيرا في أهمية هذه الممارسات الروحية وأثرها الفعال في شفائهم من مختلف الأمراض، ودفع البلاء وقضاء الحوائج وجلب المنافع، وهم لا يشترطون في ذلك إلا استحضار النية الصادقة.

زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب، وتهز له الجوارح، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على إثر البكاء24.
فالاجتماع في حلقات الحضرة والسماع حصن للمريد من التراجع، فالاجتماع مع الشيخ والسالكين من المريدين يؤثر في الطباع والفكر والسلوك، فيجعل المريد السالك ميالا إلى أحوالهم من دون أن يشعر «لأن الطباع تسرق الطباع والمرء على دين خليله» «ومن تحقق بحال لايخلو حاضروه منه»، وقديما قالوا: حلقات الصوفية فيها اجتماع واستماع واتباع وانتفاع.

ومما ينسب في هذا السياق إلى سيدي يحي بلحاج النهاري نسبا الكرزازي مشربا وطريقة:
حَـضْـرَتْـكُـم تـشـفـيـني
جَمعْكُــــــم كَـونيــة
عَرْفُــــــوني فــــي ربــــي
السَّـــــــادة الصـــوفيـة
مـن جَـا لحَضْـــرتْنا يَبْـــرَا
يمشـي بْقَلــب مَسْتَامَــنْ
يْجِي نْحَاس ويرجع نُقْــــرة
والمُصطفى هو الضّامــنْ
الحضرة هي سباب الخَيرْ
الدّاوي المريــد من كَسره
اللي يجي لَيْهَا بالصّدق يْنال
يَصْفَى قلبَه ما يْشُـــوف اغْيَارْ
ويقول أيضا:
الحضرة فيـهـا الـدْوَا بـقـول سْـيَـادي
وعَمْـدَه يـا منـهـا بخيـــر سِـيرْ بْحَالـي
داخـلـهـا يــالنّـــاس ضُـــرّه يَبْـــرا
وبَعْد يْكون مْريض قاع قلبه خاسر

4) مصادر شعر الحضرة:
أجمع مقاديم وفقراء الحضرة في منطقة أولاد نهار بتلمسان على أن النصوص الشعرية التي يتغنى بها في حلقات الحضرة تكاد تتوزع بين شاعرين صوفيين كبيرين، هما الشيخ سيدي أحمد بن موسى الكرزازي، والشيخ سيدي يحي بلحاج:
- سيدي أحمد بن موسى الكرزازي: ولد سنة 1502م بكرزاز بالجنوب الجزائري وتوفي بها حوالي 1610م، بعد حياة قضاها متعبدا وزاهدا، ينتهي نسبه إلى الإمام إدريس بن إدريس الأكبر الحسني نسبا، تلقى علوم اللغة العربية والفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن، والتصوف ومبادئ الطريقة الشاذلية على يد الشيخ محمد بن عبد الرحمن السهلي، أسس لأتباعه طريقة صوفية تعرف بــ «الكرزازية» نسبة لمنطقة كرزاز، أو «الموساوية» نسبة إليه. له ديوان شعري شعبي ضخم، لا يزال جانب مهم منه مخبوء في صدور فقراء الحضرة وأتباع الطريقة الموساوية الكرزازية25.

- سيدي يحي بلحاج: هو سيدي يحي بن الحاج بن عبد القادر بن بوبكر بن سيدي يحي بن صفية جد أولاد نهار (تلمسان)، ولد حوالي منتصف القرن 18م بنواحي منطقة العريشة، كان فقيها عالما وصوفيا شاعرا، وهو أحد شيوخ الطريقة الموساوية، ضريحه موجود قرب قرية بلحاجي بوسيف بتلمسان، عليه قبة عظيمة، يقصده الناس للتبرّك والزيارة من مختلف مدن الغرب الجزائري، كان مقامه في الماضي مسلكا دينيا هاما ومنتجعا صوفيا مباركا، خاصة للمريدين الذين يقصدون زاوية كرزاز الوافدين من الجهة الغربية للجزائر.

وحسب بعض الروايات فإن إنتاجه الشعري فاق الخمسمائة قصيدة شعبية في موضوعات الزهد والتصوف، أغلب تلك النصوص أصبحت مادة حيّة تغذّي حلقات الحضرة، ويرتوي من منابعها فقراء ومقاديم تلمسان بما تحتوي عليه من قيم روحية.

وعليه نرى أن النصوص الشعرية الصوفية التي يتغنى بها في حلقات الحضرة في تلمسان تعود زمنيا إلى القرون الخمسة الماضية، وهي الفترة التي ازدهر فيها التصوف الشعبي في المجتمع الجزائري بكل طقوسه وممارساته ونصوصه.

5) موضوعات شعر الحضرة:
كان الشعر وما زال معينا لا ينضب يرده الصوفية للارتواء من نبع التعبير الصادق، ووسيلة جادة لتصوير أدق مبادئ الطريق الصوفي بقواعده وآدابه وحقائقه، «هذه الحقائق التي تلوح لقلوب أتقياء هذه الأمة في ارتحالهم الذوقي لمنابع النور الإلهي، سيرا بأقدام الصدق والتجرد عن الأكوان، وطيرا بأجنحة المحبة لاختراق سماوات الأحوال والمقامات ..حتى تحط عصا الترحال والسفر عند خيام القرب من الله»26.

ومن هنا جاءت نصوص حلقات الحضرة لتعكس لنا طبيعة التجربة الصوفية وتجلياتها، وهي في غرضها العام لا تخرج في جوهرها عن كونها منهاج للتصوف والتربية والسلوك، وعليه فإن ما يتضمنه هذا الإنتاج الشعري الشعبي ذي النزعة الصوفية من قصائد طويلة أو قصيرة، يتراوح عموما بين موضوعات مثل: التوبة، المجاهدة، تزكية النفس، الدنيا، الذكر، القلب، المدائح النبوية، الاستغاثات والأدعية، التعليم..

وسنستعرض بعض النصوص الشعرية الصوفية الشعبية التي تدور حول موضوع «التوبة» على سبيل الذكر لا الحصر:
- التوبة: تمثل التوبة عند الصوفية نقطة البداية في طريق السير إلى الله، وللعارفين من أهل الحقيقة كلام طويل، ومفاهيم دقيقة فيما يخص التوبة من حيث شروطها وآدابها ومنازلها، يقول القشيري: «التوبة أول منزل من منازل السالكين، وأول مقام من مقامات الطالبين..»27.

وتنتظم تحت موضوع التوبة جملة من النصوص الشعرية التي يُتغنّى بها في الحضرة، حيث يتطرق من خلالها الشاعر إلى مصير الإنسان بعبارات واضحة، غير معقّدة، فيعبر عن صدق عاطفته، وصدق توبته، متخذا في مرّات عديدة من نفسه محورا لكلامه، مثلما تعكسه لنا هذه الأبيات:
يا نفـسي يَهديـكْ توبــي للغفّـــــارْ
نْوَصّيك ونْوَصّيكْ ما اعْظَم الآخره
وْ كَان بْغِيتي خـير لـك خُـذي الاخْـبارْ
طِيعـي ربّـك لا تْمُـــوتـِي مَغـــرُورَه
لا بـدّ تَـاتيـك قَصّــابَـةْ لَعْمَـــــــارْ
راه القْــبَر شْحِـيــحْ والـنّـارْ اشْـرِيــرَه

الشاعر في هذه الأبيات ينطلق من نفسه، ملحا عليها إلحاحا شديدا على ضرورة التوبة والإقلاع عن المعاصي، متوعدا إياها بحقائق لا يتمادى إليها شك أو ارتياب، مثل حتمية الموت وسكراته، والقبر وضمته، والآخرة و أهوالها، وهي حقائق تذكر كلها هذه النفس بفنائها المحتوم.
ونفس الشيء نلامسه في المقاطع التالية:
الشَّيْبْ راه بْـدَا مـن اللّحـية والـرَّاسْ
والسَّنِّــين اعْــدَادْ مـن فُـمّي طَاحُــوا
يا وين الصحّة مـا بْـقَـات الّا للـفـاسْ
والخـَدْ اللّـي كـان يَضْـوِي مَصْبَاحُـو
يا توبْ لْرَبي بَرْكَـاك مـن الوَسْـواسْ
يـا هَـذِي مَــاهِي دَايمة لِيكْ نْـرُوحُـوا

الشاعر في هذا النص الشعري نراه يمهد لغرضه المنشود بمقدمات تطعن في العالم الحسّي «الدنيوي» مجتهدا في كشف ملامح فناء بني البشر، بمؤشرات قرب الرحيل إلى العالم الآخر، بمفردات مثل: الشيب وتساقط أسنان الفم، (كناية عن التقدم في السن)، فقدان الصحة وقوة وبهاء الشباب ونشاطه، كل هذا ليصل إلى الهدف المنشود، وهو إذكاء المشاعر الروحية، ودفع النفس إلى العلو والتسامي، وذلك بالرجوع أولا عن المعاصي والتوبة منها، والإقبال على الطاعة والعبادات، فالإنسان عندما يستشعر معاني مثل ذكر الموت وقصر الأمل، ينبعث في قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة.

مما يدخل في باب التوبة ما يشير إلى ذم النفس الأمّارة والتحذير منها، وما يتعلق بمضارها وطرق علاجها، نسوق هذا النص:
يا ذا النفس تْفكري في يوم التّذكارْ
خـافي لا تحضـاي عــنـده مَحْـشُـورَه
فعلـك راه يحضـر لـك في الغـــارْ
ليلة تَتْمَسّاي به في الظلمـة مقـْبُـورَه
مْسَطّح تَسطاح بالطُّوبْ والاحْجارْ
رَدْمُـــوه بَمْسَــاحْ كِيلّي مَطْمُــورَه

محور الخطاب وغايته في هذا النص ينحصر في تذكير النفس بالموت، لردها عن غيّها وكبح شهواتها، ويأتي الابتداء بلفظة «النفس» متوافقا مع النبرة الوعظية، وذلك أنّ القصد كله يتجه إلى الحرص على تأكيد فنائها، لهذا كان الحرص على تقديم لفظة النفس والابتداء بها في سياق النص.

وتأتي ألفاظ مثل: تفكري، خافي، محشورة، الغار، الظلمة، مقبورة، متوافقة مع الجو العام للنص، والمشحون بمعاني التحذير والتذكير، وهو في نفس الوقت الهدف الذي يرومه صاحب النص الشعري.
وبنفس أسلوب النص السالف وطريقته، تأتي هذه الأبيات:
يـا نفْسِـي هَــنِّي هْـنَاكْ وتُــوبي لله
اقّنـعي باللّـي اعطـاك واحمـدي لله
هذا النَّفس لْيَا طْغَات ربي وَاشْ دْوَاهَا؟
فكّــرها بالمَمَات والحْسَاب وْراهَـا
يا نفسي خذي الحْدود واحسن لك ترتاحي
اتْفَكري لَيلة اللْحُـودْ في حُفرَة تَلْتَاحِي

إن طريقة مجاهدة النفس وترويضها عن طريق اتّباع أسلوب تذكيرها بفنائها المحتوم، وزوالها المعلوم، طريقة تربوية سلوكية تعج بها مصنفات شيوخ التصوف، يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: «قصّر أملها – يقصد النفس- وقد أطاعتك إلى ما تريد منها، عظها بموعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، اجتهد في تقصير الأمل وتقليل الحرص وذكر الموت»28.

6) الإيقاع في شعر الحضرة:
طغت الصناعة الإيقاعية على نصوص الحضرة ذات النزعة الصوفية طغيانا، حتى لكأنك تسمع أنغاما وألحانا تستثير القلوب، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن النصوص الشعرية الصوفية ترتبط ارتباطا وثيقا بالموسيقى، وخير دليل على ذلك «التائيات الصوفية» التي تحوّلت إلى مقامات موسيقية يُتغنّى بها في المهرجانات العالمية للسماع الصوفي، مثل: تائية الجيلاني، تائية ابن عربي، تائية ابن الفارض (الكبرى والصغرى)، تائية عبد القادر بن محمد المدعو (سيدي الشيخ) الموسومة «الياقوتة في التصوف»،تائية أحمد العلاوي29.

يؤكد مختار حبار على موسيقية النص الصوفي قائلا: «إن النص الصوفي في بنيته الكلية هو بالأساس نصّ سماعي يعتمد في تشكيله على الطاقات الإيقاعية والموازنات الصوتية منها والمعنوية، بوصفها عناصر إثارة، تستدعي استجابة وجدانية وانفعالات، أكثر مما هو نص معنى ودلالات»30.

يرى عبد الله ركيبي أن الشعر الشعبي الصوفي، عند تأليفه كان يراعي فيه الشاعر وينشد هدفا أساسيا، وهو توفير الإيقاع الموسيقي بهدف التأثير في المتلقي لتحقيق حالات الجذب والوجد أثناء حلقات الذكر والإنشاد: «كثير من قصائد هذا الشعر، وخاصة الزجل إنما أُلّفت بقصد الغناء والتلحين، وبوجه خاص.. الشعر الديني مدحا أو تصوّفا خالصا، لأن الهدف هو الوَجْد الصوفي الذي يقتضي تمايلا واهتزازا خاصا، يصاحب الإنشاد أو يدعو إلى ترديد تعابير معينة بهدف التأثير والاندماج والتجاوب مع الشاعر أو المنشد..»31.

كثرت البكائيات في شعر الحضرة؛ خاصة في تلك الموضوعات المتصلة بالموت والقبر، الدنيا الغرارة النفس الأمّارة، السلوكات الجتماعية المنحرفة.. وهو في حقيقته بكاء على أحوال المجتمع والعامة من جرّاء الفتن التي ألمت به، وعلى الدين الذي هان وضعف في نفوس الناس، فشعراء الحضرة بدت لهم ذنوبهم أثقل من الجبال، وخُيّل إليهم أن رحمة الله لا تدرك إلا بالدمع والأنين.
لقد بدت لنا الإيقاعات الموسيقية بوجه عام في شعر حلقات الحضرة حزينة هادئة ومؤثرة، وهي إيقاعات تتلائم عموما وطبيعة تلك المجالس الصوفية التي تحاول أن تسدل على فضاءاتها معاني الصدق والهيبة والقداسة.

الهوامش

1. -ينظر :
  - الجيلاني بن عبد الحكم ، المرآة الجلية، ص: 38، 39، 40.
  - أحمد بن محمد العشماوي، السلسلة الوافية والياقوتة الصافية، ص:265-266.
  -خليفة بن عمارة ، سيرة البوبكرية (1) أجداد أولاد سيدي الشيخ ، ترجمة : محمد قندوسي، مكتبة جودي مسعود ، وهران، (د.ط)، 2002، ص:92.
  -Jaques Berque : l’intérieur du Maghreb 15-17 siècle, p : 336-337.
  - Capitaine Noel – Document historique sur… B.S.G.O, Sep/Dec, 1917, p: 248.
  - تقاييد أولاد نهار .
2. ينظر : الجيلاني بن عبد الحكم، المرآة الجلية ، ص: 42
3. الجيلاني بن عبد الحكم، المرآة الجلية ، ص: 42.
4. فوزية ذياب ، القيم الاجتماعية ، مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، (د.ط)، 1980، ص: 182.
5. شوقي عبد الحكيم، الشعر الشعبي الفولكلوري عند العرب، دراسة ونماذج، دار الحداثة ، بيروت، لبنان، ط7، (د.ت، ص:248.
6. -فوزية ذياب ، القيم الاجتماعية، ص:182.
7. منال عبد المنعم جاد الله، التصوف في مصر والمغرب، منشأة المعارف، الإسكندرية، (د.ط)، (د.ت)، ص:91.
8. بموازات أغنية الصف، توجد أهازيج نسوية أخرى، يطلق عليها في الثقافة الشعبية للمنطقة اسم (التَّبْرَاشْ)، تغيب فيها الرقصة، وتكون مناسبتها غالبا ذكرى المولد النبوي الشريف، أو أثناء هدهدة الأطفال أو ترقيصم وتنويمهم.
9. شاكر البرمكي، الأهزوجة العراقية، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد الخامس، السنة التاسعة،1978، ص: 38، 39.
10. عبد المالك مرتاض، العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981، ص: 93.
11. عبد المالك مرتاض، العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر، 1981، ص:91.
12. إبراهيم بهلول، فن الرقص الشعبي في الجزائر ، (ج1)، ترجمة: أسماء سفاوي ، دار المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ط)، (د.ت)، ص:06.
13. يزلي بن عمر، صدى الثورة الجزائرية في الأهازيج النسوية لولاية تلمسان ، منطقة ترارة نموذجا معهد الثقافة الشعبية، جامعة تلمسان، 1990-1991، ص:25.
14. -المرجع نفسه، ص:06.
15. شاكر البرمكي، الأهزوجة العراقية، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد العراق، العدد الخامس، السنة التاسعة، 1978، ص: 37، 38، 39.
16. محمد بن سليمان الصائم التلمساني الملقب بالجزولي، كعبة الطائفين وبهجة العاكفين في الكلام على قصيدة حزب العارفين (ج1)، دراسة وتحقيق: قيداري قويدر، (رسالة دكتوراه مخطوطة)، إشراف عكاشة شايف، شعبة الثقافة الشعبية، قسم التاريخ وعلم الآثار، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، تلمسان. 2013/2014، ص: 37.
17. أحد شيوخ الطريقة الكرزازية "الموساوية" وأحد أحفاد الشيخ سيدي يحي بن صفية (جد أولا نهار) (عاش في ق 18م)
18. أحمد شهاب الدين الزوي القادري، المرشدة اللطيفة لزائر الأضرحة الشريفة، مطابع الجماهيرية، سبها، ط1، 1997 ص: 27.
19. عبد المجيد الشرنوبي، شرح الحكم العطائية، تعليق: عبد الفتاح البزم، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ط1، 1988، ص: 45.
20. منال عبد المنعم جاد الله، التصوف في مصر والمغرب، ص: 275-276.
21. فيما يتعلق بالذكر في الظلام لفترة معينة، يعتقد فقراء الحضرة أن بقاء النور لفترة طويلة قد يشوش على نفوسهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى الاحتشاد الروحي والقلبي، بسبب تشتت الخاطر والحواس، كما يعتقدون حضور الأرواح الشريفة، الملائكة، سيدنا الخضر..، نستشف مثل هذه الاعتقادات من خلال نصوص كثيرة في شعر الحضرة:
الحضـرة والـذكر في دار سيـدي *** تعالى يا مبغاه الله يجيها
يحضروا فيها الانبياء وسيدي العروسي *** والخضر بالدوام عليها
22. تأتي هذه الأدوار في حلقات الحضرة بشكل هادف، فالتهليل تكمن أهميته في كونه يساعد على ترسيخ معنى التوحيد، وذكر الاسم المفرد يساعد على الاستغراق في الله والانقطاع عمن سواه، والصلاة على النبي يراد منها ترسيخ وتعظيم محبته عليه الصلاة والسلام وتثبيتها.
23. بعض تلك الآداب أخبرنا بها بعض مقاديم الحضرة، وبعضها استنتجناه من خلال الملاحظة بالمشاركة والمعاينة الميدانية.
24. منال عبد المنعم جاد الله، التصوف في مصر والمغرب، ص:144
25. Louis Rinn- Marabouts et Khouan-Etude sur lislam en Algerie ; Adolphe Jourdan ;Librairie éditeurs-Alger-1884 ;p :342-547
26. يوسف زيدان، ديوان سيدي عبد القادر الجيلاني –القصائد الصوفية، المقالات الرمزية- مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، دط، 1990، ص: 5.
27. أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دار الكتاب العربي، بيروت، دط، دت، ص: 45.
28. ينظر: عاصم إبراهيم الكيالي، الحقائق الإلهية في تائيات الصوفية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007.
29. الشيخ عبد القادر الجيلاني، الفتح الرباني والفيض الرحماني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1997، ص:140.
30. ينظر: عاصم إبراهيم الكيالي، الحقائق الإلهية في تائيات الصوفية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007.
31. عبد الله الركيبي، الشعر الديني الجزائري الحديث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1981، ص: 491.
المراجع:
- إبراهيم الكيالي عاصم ، الحقائق الإلهية في تائيات الصوفية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007.
- البرمكي شاكر ، الأهزوجة العراقية، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد الخامس، السنة التاسعة،1978.
- بهلول إبراهيم، فن الرقص الشعبي في الجزائر ، (ج1)، ترجمة: أسماء سفاوي ، دار المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ط)، (د.ت).
- الجيلاني بن عبد الحكم،، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدنا يحي بن صفية، دط، تلمسان، مطبعة ابن خلدون، 1364ه.
- الجيلاني الشيخ عبد القادر، الفتح الرباني والفيض الرحماني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1997، ص:140.
- ذياب فوزية، القيم الاجتماعية ، مع بحث ميداني لبعض العادات الاجتماعية ، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، (د.ط)، 1980.
- الركيبي عبد الله، الشعر الديني الجزائري الحديث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1981.
- زيدان يوسف، ديوان سيدي عبد القادر الجيلاني –القصائد الصوفية، المقالات الرمزية- مؤسسة أخبار اليوم، القاهرة، دط، 1990.
- الشرنوبي عبد المجيد ، شرح الحكم العطائية، تعليق: عبد الفتاح البزم، دار الهدى، عين مليلة، الجزائر، ط1، 1988.
- شهاب الدين الزوي القادري أحمد ، المرشدة اللطيفة لزائر الأضرحة الشريفة، مطابع الجماهيرية، سبها، ط1، 1997.
- شوقي عبد الحكيم، الشعر الشعبي الفولكلوري عند العرب، دراسة ونماذج، دار الحداثة ، بيروت، لبنان، ط7، (د.ت).
- العشماوي أحمد بن محمد – السلسلة الوافية والياقوتة الصافية- المأخوذة من كتاب : «مجموع النسب والحسب والفضائل والتاريخ والأدب» (في أربعة كتب)، جمع وتأليف الشيخ بالهاشمي بن بكار، مطبعة بن خلدون، تلمسان، (د.ط)، 1961
- العلوي إسماعيلي مولاي عبد الحميد، تاريخ وجدة وأنقاد في دوحة الأمجاد ، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1985.
- بن عمارة خليفة، سيرة البوبكرية (1) أجداد أولاد سيدي الشيخ ، ترجمة : محمد قندوسي، مكتبة جودي مسعود ، وهران، (د.ط)، 2002.
- بن عمر يزلي، صدى الثورة الجزائرية في الأهازيج النسوية لولاية تلمسان ، منطقة ترارة نموذجا معهد الثقافة الشعبية، جامعة تلمسان، 1990-1991.
- القشيري أبو القاسم، الرسالة القشيرية في علم التصوف، دار الكتاب العربي، بيروت، دط، دت.
- قيداري قويدر، بستان الأزهار في سيرة سيدي يحي بن صفية ومسيرة أولاد نهار، دراسة تاريخية وأنثروبولوجية، دار الغرب الجزائري، وهران، ط1، 2009.
- محمد بن سليمان الصائم التلمساني الملقب بالجزولي، كعبة الطائفين وبهجة العاكفين في الكلام على قصيدة حزب العارفين (ج1)، دراسة وتحقيق: قيداري قويدر، (رسالة دكتوراه مخطوطة)، إشراف عكاشة شايف، شعبة الثقافة الشعبية، قسم التاريخ وعلم الآثار، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، تلمسان. 2013/2014.
- محمد بن الحسن بن يحيى بن سيدي يحيى بن صفية- البستان الطيب في مناقب أبي يحيى وأبي الطيب- (مخطوط).
- مرتاض عبد المالك، العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981.
-
- Jaque Berque, Ulemas fondateur de Maghreb 17ème siècle, Bibliothèque arabe sindebad , Paris , 1982.
- Capitaine Noel, « Document Historique sur les tribus de l’annexe d’El aricha », B.S.G.O (Bulletin trimestriel de la société de la géographie et d’archéologie d’Oran), fondée en 1878, imprimerie L Fouque –Oran , Sep/Dec 1917.
- Louis Rinn, Marabouts et Khouan : Etude sur lislam en Algerie, Adolphe Jourdan Librairie éditeurs, Alger, 1884. 

أعداد المجلة