فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
47

الزيتونة شجرة الحياة: دراسة تحليلية لحضورها الرمزي والوظيفي في عادات الموت والعدّة بجزيرة جربة

العدد 47 - عادات وتقاليد
الزيتونة شجرة الحياة:  دراسة تحليلية لحضورها الرمزي والوظيفي في عادات الموت والعدّة بجزيرة جربة

إنّ الموت باعتباره انتقالا من الزمن النسبي إلى الزمن المطلق قد عرفته الإنسانية وتعايشت معه في كلّ زمان ومكان، فلا وجود لأمّة لم يطرق بابها ولم تكتو بنار فراق الأحبّة. فهو يخلّف حزنا عميقا ولوعة كبرى ويكشف عن حيرة الإنسان وعجزه أمام القدر. فتلك هي «طبيعة الحياة، خلق، فولادة وشباب، فكهولة وشيخوخة فموت»1. ذلك أنّ الحياة تستوجب الموت وإذا كان هناك فرحة بالميلاد، كان هناك حتما حزن بالفناء. على اختلافها في الزمان والمكان، فقد عرفت كلّ الثقافات أشكالا متعدّدة وطقوسا متنوّعة وممارسات مختلفة تجمع على ضعفها وتقرّ بعجزها أمام هذا المصير المحتوم (صورة عدد 1). وقد عبّرت كلّ الثقافات عن حرقتها ولوعتها قولا وفعلا وممارسة ممّا شكّل مادّة ثريّة للبحث تناولتها مختلف الاختصاصات بالدراسة والتمحيص2. فأخضعتها إلى المنهج العلمي لتحليل مضامينها وفق مقاربات متعدّدة، فبيّنت كيفيّة تعامل مختلف المجتمعات والطوائف مع الموت والموتى. غير أنّه إذا كان الموت هو بداية النهاية بالنسبة للشخص المتوفّى، فإنّه نقطة بداية لسلسلة من الطقوس والممارسات لدى عائلة المتوفّى وخاصّة لدى الأرملة.

تتميّز عادات وطقوس الموت بهيمنة النساء على جلّ فتراتها ومراسمها. فمنذ سكرات الموت ولحظاتها الأولى، تلعب المرأة دورا مهمّا في الإعلان على الفاجعة سلوكا وفعلا وقولا. فتعمل على إظهار حزنها المطبق بشتّى الوسائل، كالحرص على ارتداء ثياب سوداء داكنة طيلة المأتم والجنوح إلى الصياح والعويل والندب3. وبقدر بسط نفوذها على المأتم داخل المنزل، بقدر إقصائها عن موكب الجنازة لاحقا. ذلك أنّ الأعراف الاجتماعيّة تأبى مرافقة النساء لموكب الجنازة وتنكر عليهنّ التحوّل إلى المقبرة ومتابعة مراسم الدفن عن قرب. يبدو أنّ هذا المنع يستند إلى تعاليم الدين الإسلامي الّذي أكّد على ضرورة ملازمتهنّ منزل المتوفّى. فبعد إلقاء النظرة الأخيرة لوداع المتوفّى، تلزمهنّ الضوابط الاجتماعيّة بملازمة المكان فلا يتخطّين عتبة المنزل ولا يبارحن المقام. فما إن يحمل النعش على الأكتاف للتوجّه إلى المقبرة، حتى تتنافسن في الصياح والندب واللّطم. يظلّ صدى صياحهنّ المولول وعويلهنّ المفزع يتابع سير الجنازة إلى آخر رمق، فيكسّر صمت الرجال ويضفي قتامة خاصّة على المشهد.

لقد اجتهد الفقهاء لتفسير دواعي هذا الحرمان، فأرجعوا ذلك إلى منع الاختلاط في الفضاءات العامّة، خاصّة أثناء المناسبات الحزينة حيث العيون الدامعة والقلوب الملتاعة. بينما أدّعى فريق آخر من الفقهاء أنّ مردّ هذا المنع هو عدم انضباط النساء قلّة صبرهنّ وردودهنّ الانفعاليّة وانسياقهنّ وراء العواطف الجيّاشة. وهو ما من شأنه أن يفضي إلى ارباك موكب الجنازة وتعطيل مراسم الدفن، والحال أنّ إكرام الميّت يقتضي الإسراع في دفنه. على أهمّيته، إلّا أنّنا لا نشاطر هذا الرأي الأخير، فنرى أنّ التأويل الأوّل أقوى حجّة وأكثر إقناعا. ذلك أنّ هذا الاقصاء لم يكن بغريب ولا بجديد، فلا يعدو أن يكون إلّا تتمّة لبقيّة الممنوعات المسلّطة على المرأة. فباعتبار أنّ المقبرة فضاء عامّ، ورد هذا الحكم متناغما مع إقصائها منه ومنسجما مع روح التشريع الّذي يدعو المرأة إلى ملازمة بيتها وينكر عليها اقتحام معترك الحياة. وبناء على ما تقدّم، نعتبر أن لا دخل للعواطف ولا للأحزان في هذا المنع. لأنّ الإنسان سواء كان ذكرا أم أنثى يتألّم لمجرّد فقدان حيوان أليف، فما بالنا لمّا يصاب في إنسان قريب وعزيز على قلبه!

رغم أنّ هذا الإقصاء الجائر قد حرمها من مرافقة أعزّاء أقرب النّاس إليها إلى مثواهم الأخير، فسرعان ما تستعيد المرأة بسط نفوذها من جديد على مجريات الأحداث خلال المأتم. فنجدها قد أحكمت قبضتها مجدّدا على مختلف طقوس ما بعد الموت والدفن، بداية من «الفرق» وهو يصادف اليوم الثالث للوفاة ونفس يوم انطلاق عدّة الأرملة. رغم ديمومتها فإنّ دورة الحياة في جزيرة جربة، تأبى إلّا أن تحطّ الرّحال في ظلّ زيتونة وارفة أغصانها تعانق السماء في زرقتها حيث تسافر الرّوح إلى أعلى من حيث أتت وتعود إلى خالقها. للزيتونة في مسار الحياة فصل في علاقة وثيقة بالموت. وهذا الفصل لا ينقطع بدوره عن دورة الحياة في الجزيرة، فهي مناسبة اجتماعيّة لها عادات وطقوس شديدة الارتباط بالزيتونة. لا يخلو الموت من عادات وتقاليد بعضها مشترك وبعضها الآخر محليّ. من ذلك أنّ أهل المتوفّى في جربة يتملّكهم حزن مطبق فيعرضون عن إعداد الطعام لمدة ثلاثة أيام يمتنعون خلالها عن إشعال النار في منزل المتوفّى اعتقادا منهم بأنها تلحق به الأذى في قبره4. فيتكفّل الأقارب والجيران بإطعامهم طيلة هذه المدّة، وهذا شكل من أشكال التكافل والتضامن الاجتماعي في مجتمع جزيريّ تحكمه الأعراف الأصيلة.

ما هي مظاهر الحزن عند الوفاة؟ ما هو دور المرأة فيها؟ كيف يتجلّى هذا الدور ولماذا؟ ما هو موقع أرملة المتوفّى من كلّ هذا؟ كيف تعبّر عن حزنها؟ ماهي طبيعة التزاماتها الاجتماعيّة؟ هل هي دائمة أم ظرفيّة؟ ماهي الأبعاد الدلاليّة للطقوس المصاحبة لذلك؟ ما سرّ الماء وشجرة الزيتون في المشهد الأخير من الحزن؟ وما هي أبعادهما الدلاليّة؟

من المشترك أنّه عندما يموت الزوج تمرّ الأرملة وجوبا بمرحلة العدّة والّتي عرّفها الفقهاء على أنّها «فترة تربّص إلزاميّة واجبة على كلّ امرأة فقدت زوجها بوفاة أو بطلاق، تكون بعد انقضائها المرأة حرّة في أن تتزوّج من جديد»5. وقد حدّد الشرع عدّة الأرملة بأربعة أشهر وعشرة أيام استنادا على الآية الكريمة «والّذين يتوفّين منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا» 6. يتّفق الفقهاء أنّ الهدف من ذلك هو احترام روح الزوج المتوفّى من ناحية ولبيان براءة الرّحم من ناحية أخرى7، ذلك أنّ الإسلام قد حرص كلّ الحرص على عدم اختلاط الأنساب. وتتميز هذه الفترة بتراكم العادات والطقوس وتعدّد المسؤوليّات على كاهل الأرملة والّتي سنتولّى دراستها واقتفاء أثرها في منظومة العادات والتقاليد عبر تتبّع مرحلتيها الأساسيّتين في جزيرة جربة، هما تباعا مرحلة دخول الأرملة في العدّة إلى حين خروجها منها وعودتها إلى عالم الأحياء.

مرحلة الدخول في العدّة

في ظلّ حزن عميق يسود عائلة الزوج المتوفّى، تدخل الأرملة في مرحلة العدّة ابتداء من اليوم الثالث أي مباشرة بعد الفرق. لئن تميّز هذا اليوم بتجدّد نسق الحياة لدى بقيّة أفراد العائلة من ذلك دعوة العائلة والأقارب على مأدبة عشاء تلي «الختمة» ترحّما على روح المتوفّى، فإنّه يرهق كاهل الأرملة بأعباء ثقيلة من الواجبات الدينيّة والالتزامات الاجتماعيّة. فمع غروب شمس هذا اليوم، تدخل الأرملة رسميّا في مرحلة العدّة أو ما يطلق عليه محليّا اسم «ربطان العدّة». تتّسم هذه المرحلة الحسّاسة بتراكم الطقوس الدقيقة الّتي تسودها القتامة ويغلب عليها التشاؤم في ظلّ اعتقادات قديمة موحية بالشرّ وبالخطر المحدق8، بل وفي غالب الأحيان بالموت9. ذلك أنّ الأرملة تغمض عينيها وتلفّها بعصابة من القماش الأبيض كامل الليل (صورة عدد 7) ولا تنزعها إلّا صباحا. وتتواصل هذه العادة تقليديّا كامل فترة العدّة، بينما تمّ اختصارها حديثا في العشرة أيّام الأولى والعشرة أيّام الأخيرة قبل تقليصها من جديد إلى ثلاثة أيّام في البداية وفي النهاية.

بعد قضاء ليلة كاملة معصوبة العينين، تنتظر الأرملة بزوغ الشمس بفارغ الصبر لكي تنزع عصابتها وتلتحق بعالم الأحياء. ويتّسم نزع العصابة كلّ صباح بتقليد عميق المعاني، فما إن تستيقظ من النوم حتّى تبادر بفكّ العصابة ونزعها ثمّ فتح عينيها في إناء ماء. وهو تقليد مشترك وجدناه في كافّة جهات الجزيرة، ربّما يعني التخلّص من النحس والشرّ الّذي علق بها أثناء رحلتها اللّيليّة في عالم الأموات. فالماء وحده القادر على استيعاب هذه الطاقات السلبية للأرملة. ثمّ تغادر غرفتها بصمت دون أن تحدّق النظر في أيّ شيء. وحالما تصل إلى فناء «الحوش»، ترفع رأسها للسماء لتحدّق مليّا في الشمس البازغة وكأنّها تستلهم الصبر والسلوان من نورها ودفئها. وعليه يمكن أن نستخلص أنّ «ربطان العدّة» هو تعبير في محلّه لعمليّة ملموسة، وهي ربط العينين بعصابة قصد الامتناع عن النظر في اللّيل مع واجب الانتباه والحيطة خلال كامل النهار. لا شكّ أنّ عمليّة حجب العينين بعصابة بيضاء تدلّ على الاعتكاف والعزلة عن العالم الدنيوي، خاصّة وأنّه يسود الاعتقاد أنّ الأرملة تلتحق بزوجها في عالم الأموات كلّ ليلة. فتؤنس وحدته وترافقه في رحلته الصعبة إلى مستقرّه الأخير.

وبناء على ذلك، فعلى الأرملة تحمّل مسؤوليّة ثقيلة وذلك بالقيام بمهام شاقّة وواجبات مضنية طيلة فترة العدّة. تتمثّل خاصّة في ملازمة بيتها والتفرّغ قصد الانعزال عن العالم الخارجي والاعتكاف ليلا بمخدعها ليقع التواصل مع العالم الآخر. وبعد كلّ ليلة تقضّيها الأرملة مع عالم الأموات، تعود كلّ صباح إلى عالم الأحياء. لا شكّ أنّ هذه الرحلة اليوميّة بين عالم الأحياء وعالم الأموات تزيد من معاناة الأرملة وتضاعف من أزمتها الوجوديّة ممّا يعرّضها إلى أعمق حالات الاكتئاب النفسي10. وتقترن هذه العودة بنور الشمس الوهّاج وأشعّتها الدافئة فتأخذ صبغة الولادة من جديد. وشيئا فشيئا تتأكّد فكرة الولادة والانبعاث بتراكم الرموز الموحية، فالماء كما نعلم رمز الحياة والتجدّد11 والبيضة رمز الخصوبة والولادة. أمّا الشمس الّتي تشرق كلّ صباح لتنير الكون وتبعث الحرارة بتوهّجها فتدبّ الحياة طيلة يوم كامل قبل أن تميل إلى الغروب وتختفي مجدّدا في عالم الأموات. تلك هي مسيرتها وذلك هو مسلكها، فهي رمز للنّور الوضّاء ومنبع الدفء والحياة. كما أنّ دورتها اليوميّة تمثّل فضلا عن تناوب اللّيل والنهار، ترمز كذلك إلى الحياة في ديمومتها من خلال ثنائيّة الحياة فالموت ثمّ البعث من جديد12.

تعيش الأرملة طيلة تلك الفترة نوعا من الثنائيّة الخطيرة الّتي تحمل في طيّاتها الشرّ الكثير للآخرين. لا شكّ أنّ هذه الرحلة اليوميّة بين هذين العالمين لا تخلو من المخاطر، فتجعل الأرملة تعيش في نوع من الحرج وحالة من التذبذب وعدم الاستقرار شبيهة بما يعرفها زوجها المتوفّى في قبره. لذلك يسود الاعتقاد في كافّة أرجاء الجزيرة أنّ الأرملة مصدر شرور وهو ما يستوجب الحرص على تفاديها، كما يجب عليها أن تغضّ البصر وتتجنب الآخرين قدر الامكان. إضافة إلى ذلك، تتحمّل الأرملة عدّة أعباء اجتماعيّة أخرى، من ذلك منعها من المبيت خارج منزلها وإلزامها بالتزهّد في الحياة بالإعراض عن كافّة مظاهر الزينة كالعطر والمصوغ واللّباس الفاخر كما تدعى للتنسّك بتعمّد اختيار الملابس الرثّة ذات الألوان الداكنة. وككلّ فترة انتقال له نهاية كما له بداية، لذلك انتبهت الجدّات إلى نهاية فترة العدّة بإقرار جملة من الاجراءات لكي تمرّ بسلام على الأرملة وعلى بقيّة أفراد العائلة كما على الآخرين.

مرحلة الخروج من العدّة

يتواصل نسق الحياة ببطء لدى الأرملة طيلة فترة العدّة، فتمرّ الأيّام رتيبة كئيبة مثقلة بالأحزان والأوجاع إلى أن يحلّ الأجل الشرعي لانتهاء العدّة فتتغيّر معه الأمور نسبيّا. قبيل انتهاء العدّة، أو ما اصطلح على تسميته محليّا «رميان العدّة»، تذعن الأرملة إلى جملة من العادات والتقاليد المتعاقبة والّتي تحمل في طيّاتها بعثا جديدا وبشائر نور وأمل لاستعادة الحياة بعين دامعة. وتتميّز هذه المراسم بثرائها وسرعة أحداثها المتتالية تبعا لقصر مدّتها الزمنيّة. فرغم كونها لا تدوم أكثر من يوم وليلة، إلّا أنّ جلّ أحداثها إن لم نقل كلّها مشحونة بالمعاني والرموز متكاملة فيما بينها وفي انسجام كلي مع الحدث الجلل.

ذلك أنّ مجموع المعطيات الّتي جادت بها علينا المقابلات الّتي أجريناها مؤخّرا أثناء العمل الميداني في جزيرة جربة تفيد أنّ مراسم انتهاء العدّة تنقسم تقليديّا إلى ثلاثة أنواع. فمنها ما هو خاصّ بالطهارة والنقاء ومنها ما هو خاصّ بالقوت والغذاء ومنها ما هو خاصّ بخلع العصابة واستعادة النظر بصورة نهائيّة. على اختلافها في الزمان والمكان، فكلّ هذه الطقوس والعادات المتوارثة عن الأجداد تدور في فلك الحياة وتنبئ بولادة جديدة وخلق وانبعاث. لعلّ أهمّ ما يميّز هذه الممارسات والطقوس هو ثراء حقلها الرمزي ودلالاتها الخصبة وآفاقها الواعدة.

1) مراسم الطهارة:

في مجتمع جزيريّ مهوس بقواعد النظافة، كما تقتضيه مبادئ المذهب الإباضي، من الطبيعي أن تبدأ نهاية العدّة بمراسم الطهارة. فتعمد الأرملة إلى الاغتسال للطهارة في نفس التوقيت الّذي توفّي فيه زوجها. ثمّ تلبس لباسا جديدا ناصع البياض، قبل أن تضع العصابة على عينيها للمرّة قبل الأخيرة. إثر ذلك تقبع كالعادة في ركنها بانتظار قدوم أفراد العائلة. وممّا يجدر التذكير به، أنّ الأرملة تستعين يومها بإحدى الأرامل الّتي عاشت التجربة سابقا. فلا تبخل عليها بالنصح والإرشاد، وتكون لها خير سند لتجاوز هذه المحنة. وفي حركة رشيقة حبلى بالمعاني، تتولّى هذه الأخيرة دهن شعر الأرملة بزيت الزيتون وتسريحه وتخضيب يديها بالحنّاء ولفّهما بعناية في خرقة بيضاء13.

2) مراسم الغذاء:

قبل أن تغتسل تحرص الأرملة على إعداد كلّ لوازم طهي الغذاء. مباشرة بعد الغسل والتطهّر وقبل الانصراف إلى وضع الحنّاء تتولّى الأرملة طبخ العشاء لجميع أفراد العائلة. وقد جرت العادة أن يكون الطبق المعدّ هو «محمّصة حارّة بالعصبان والبيض المسلوق»، وللتذكير فهي نفس الأكلة المقدّمة للضيوف عشيّة «الخمار» إثر إتمام الجلوة ودخلة العريس14. وما إنّ يحلّ غروب شمس ذلك اليوم، حتّى يحلّ ركب عائلة الزوج الفقيد. في صمت رهيب وفي أجواء تسودها الجديّة، يتقدّم الرجال تباعا إلى الأرملة بصحن فارغ. فتتولّى ملأه بالغذاء مع «عصبانة وبيضة مسلوقة» من وراء ستار قائلة لكلّ واحد منهم: «عليك الأمان وخاتم سليمان». وهي جملة تتكرّر مع كلّ متقدّم من الرجال وكلّ زائر من الذكور، للدّلالة على انتهاء الشرّ بانقضاء العدّة بسلام.

لعلّ في استلهام قصّة سيّدنا سليمان وخاتمه الّذي وهبه له الله وأعطاه المقدرة على مخاطبة الحيوانات والتحكّم في العواصف والرياح وقيادة الجنّ والشياطين، أكثر من عبرة. فرغم خسران الملك إثر ضياع الخاتم، فقد حافظ سيّدنا سليمان على صبره وظلّ يهدي قومه إلى أن استعاد خاتمه من جوف سمكة15. لا شكّ أنّ هذه الاحالة على السجلّ الديني ولاسيما التراث اليهودي تثير التساؤلات عن سرّ هذا التوجّه. نعتقد أنّ الإجابة تكمن في الخصوصيّة الحضاريّة لجزيرة جربة، ذلك أنّ موقعها الجغرافي وانبساط تضاريسها قد جعلاها قبلة للوافدين من كلّ حدب وصوب عبر مختلف الفترات التاريخيّة. ونذكّر أنّ من أقدم الوافدين عليها الجالية اليهوديّة إثر تهديم هيكل سليمان عليه السلام وتشتّتهم في الأرض منذ القرن السادس قبل الميلاد16. ومنذ ذلك الحين واليهود يعيشون بأمان في جزيرة جربة وفي انسجام تامّ مع أهلها. وبناء على ما تقدّم فلا غرابة إذن أن يتأثّر هذا بذاك، فتلك هي مسيرة الحضارة الإنسانيّة على مرّ العصور17.

3)مراسم خلع العصابة واستعادة الإبصار:

عكس مراسم الطهارة والغذاء، فإنّ مراسم نزع العصابة تكون فجر اليوم الموالي. وبها توضع نقطة نهاية لفترة طالما أرّقت الأرامل وحطّت كثيرا من معنويّاتهنّ. ويعبّر عنها محليّا بلفظ «رميان العدّة»، وهي كلمة بليغة وجدّ معبّرة توحي بالتخلّص من الحمل الثقيل بعد معاناة استمرّت لأربعة أشهر وعشرة أيّام. قبل فجر اليوم الموالي تستيقظ الأرملة باكرا بينما الكلّ نيام، وتقودها مساعدتها وهي لا تزال معصّبة العينين إلى شجرة زيتون معمّرة تمّ اختيارها بعناية فائقة من طرف كبار العائلة. فتجلس الأرملة تحتها وهي لاتزال معصّبة العينين في انتظار اللّحظة الحاسمة. وما إن يلوح قرص الشمس في الأفق، حتّى تبادر المساعدة إلى فكّ العصابة ونزعها عن وجه الأرملة للمرّة الأخيرة. ثمّ تأذن لها بفتح عينيها والتأمّل جيّدا في نور الشمس البازغة تدريجيّا. إثر ذلك تناولها ابريق ماء فاتر18، وتساعدها على غسل وجهها وأطرافها وهما تبسملان ثلاثة مرّات وتترحّمان على روح الزوج المتوفّى.

وفي حركة رمزيّة حبلى بالمعاني، تقوم الأرملة الشابّة بكسر ابريق الماء على جذع الزيتونة إذا ما رامت الزواج من جديد. ولعمري فإنّ في ذلك تعبيرا ضمنيّا صريحا عن إرادتها الحرّة قطع علاقتها بعالم الأموات الّذي طالما أرّق ليلها وهزّ مضجعها. إنّه توق إلى الحريّة وإلى الحياة الّتي طالما حرمت منها وتكبّدت أحزانها ومآسيها. وهو ما جعلها تستجمع قواها لتعبّر بكلّ جرأة عن نيّتها في القطع مع الماضي بكلّ ما فيه من رتابة وقتامة وحزن. وما زوجها المتوفّى الّذي استقرّ في قبره بصفة نهائيّة إلّا جزء منه، لذلك فهي قد حسمت في الأمر بقرارها طيّ هذه الصفحة الحالكة السواد. وهو خيار جريء، لا يمكن أن يعكس إلّا رباطة جأش وقوّة شخصيّة19.

ثمّ تقفل الأرملة عائدة إلى المنزل مسرعة بخطاها دون أن تنبس بكلمة وأن تلتفت أبدا. وهكذا تترك وراءها أحزانها وتتخلّص من عصابة عينيها البيضاء وغطاء رأسها، يسمّى محليّا «شملول»، على جذع شجرة الزيتون المبتلّ. فينسكب الماء الزلال على الجذع الضخم وتسيل قطراته العذبة لتسقي عروقا ظمأى طالما أنهكها الجفاف وأخذ منها العطش. فتستفيق من سباتها العميق وتسري فيها الحياة من جديد. وبناء على ما تقدّم، نلاحظ جليّا أنّ شجرة الزيتون ترمز إلى انتهاء الحزن وعودة المرأة إلى الحياة الطبيعيّة والخصوبة. فبانتهاء عدّتها، تكون الأرملة قد أوفت بكلّ التزاماتها تجاه زوجها المتوفّى. وبالتالي يمكنها شرعا وقانونا أن تستأنف حياتها بالزّواج مجدّدا إذا ما ثبتت براءة الرحم.

لا شكّ أنّ أشجار الزياتين المنتشرة في كامل الفضاء الجغرافي لجزيرة جربة20 تساهم بقدر وافر في نحت الشخصيّة الأساسيّة لأهلها. فهي ليست بالشجرة العاديّة الّتي نكتفي باستعمال ثمارها وزيتها في الغذاء والدواء والتجميل فحسب. ذلك أنّ للزيتونة قيمة اعتبارية كبرى عند كافّة أهل الجزيرة. فعلاقتهم بها تتجاوز الجانب البراغماتي وتنفذ إلى علاقة روحيّة ورمزيّة أعمق. فهي وبشكلها المستدير21 وبخضرتها22 الدّائمة23 تمثّل الحياة في ديمومتها. ذلك أنّها تلازم الإنسان الجربي وتتبعه في كامل دورة الحياة ومحطّاتها الكبرى بداية من الولادة فالختان فالزواج وصولا إلى الموت24. كما ترمز شجرة الزيتون في عادات الموت والعدّة إلى تغيّر الوضعيّة الاجتماعيّة للمرأة، من فتاة عزباء إلى امرأة متزوجة. ومن أرملة كانت في عصمة رجل، إلى امرأة كسائر النساء يمكنها إبرام عقد زواج جديد فتعود بذلك للنكاح والخصوبة والإنجاب25 .

بعد الدراسة العميقة والتحليل المستفيض، نتبيّن إذن غيابا كليّا للنوّاحات26 أو «لموظفّات الموت»27على حدّ تعبير الأستاذ محمد كرّو، وذلك بفضل صرامة المذهب الإباضي المتغلغل في الجزيرة. كما أنّ عادات وطقوس الموت بجزيرة جربة ليست في قطيعة تامّة مع الحياة ولا في مفارقة مع شجرة الزيتون الرمز الخالد للحياة. فهي في مجملها طقوس مشحونة بالرموز ومثقلة بالدلالات، تفيض بمختلف معاني الحياة وبقيمها السامية. ولا أدلّ على ذلك من أنّ ديمومة الحياة لا تستقرّ بصفة كليّة إلّا بانقضاء هذه الفترة الانتقاليّة من حياة الأرملة. فبانتهاء مراسم الخروج من العدّة، تطوي هذه الأخيرة آخر صفحة من هذه الصفحات القاتمة في حياتها وتنتهي بذلك الشرور وتزول مظاهر التطيّر وأوجه الشؤم والنحس28.

فبعد أداء هذه الزيارة الأخيرة لعالم الأموات في آخر ليلة من العدّة، تحرص الأرملة على طهارتها فتغتسل في بيتها ثمّ ترتدي لباسا جديدا أبيض تمهيدا لرجوعها النهائي إلى عالم الأحياء. وهو تقليد قديم مطابق لما جرى للزوج المتوفّى وهو مسجّى في بيته. فهو الآخر قد غسّل وعطّر وكفّن بقماش أبيض قبيل تشييع الجنازة وإتمام مراسم الدفن. وهكذا تتراكم المؤشّرات والدلائل لتؤكّد سلامة هذا الاستنتاج. فلا نعتقد البتّة أنّ تطابق زمن اغتسال الأرملة مع زمن وفاة الزوج وصعود روحه إلى السماء قد كان محض صدفة. إنّما هو اختيار واع ومتعمّد لا يخلو من الحكمة والحصافة. إذ هو يعكس وعي الأجداد بثقل الحمل على الأرملة ومعاناتها طيلة فترة العدّة. لذا أرادوا رفع الضيم عنها وإنصافها بانتشالها من عالم الأموات وإقحامها مجدّدا في عالم الأحياء، خاصّة وهي واهبة الحياة.

كما أنّ مواظبة الأرملة على حمل عصابة بيضاء على عينيها طيلة ليالي العدّة واغتسالها وارتدائها لثياب جديدة ناصعة البياض يوم انقضاء عدّتها لا يخلو كذلك من رمزيّة الديمومة. ذلك أنّ تواتر اللّون الأبيض وتكراره في العصابة والثياب الجديدة لم يكن أبدا مجرّد مصادفة. لأنّ الأبيض كما هو معلوم يعني النّور، وهو اللّون الأكثر تداولا في مختلف طقوس العبور. وهو ما قصده تماما مؤرّخ الديانات الروماني «إلياد مرسيا» حين قال: «إنّ اللّون الأبيض هو لون المرحلة الأولى، أي مرحلة مقاومة الموت. وهو كذلك اللّون الّذي يتخذّه الكائن القاصد لوجهة ما، وحين يصل إلى وجهته يبادر بتغييره»29. وما ارتداء الأرملة لثياب بيضاء ناصعة إلّا امتدادا لهذا الإرث الحضاري وهذه القيم المشتركة بين عديد الشعوب. وكذلك هو الشأن لاستعمال الحنّاء في أهمّ المراحل الانتقاليّة في الحياة، كالولادة والختان والزواج فالموت.

نتّفق في هذا الإطار كلّ الاتفاق مع الدراسات السابقة، وندعم ما ذهبت إليه الباحثة القديرة عزيزة بن تنفوس حين قالت «أنّ الحنّاء هي التحوّل بالمعنى الصحيح، لأنّ اللّون لا يظهر إلّا من الغد. فالميّت ينظر إلى لون الحنّة في قبره ليتحوّل إلى العالم الآخر. والأرملة سوف تنظر بدورها في حنّتها لكي تعود من جديد إلى عالم الأحياء»30. كما أنّ الأرملة حريصة على صلة الرحم، فتستدعي عائلة الزوج المتوفّى يوم انتهاء العدّة لتكرم وفادتهم بالطعام والشراب. تماما كما هو معمول به يوم الفرق، أي نفس اليوم الّذي انطلق فيه احتساب أجل العدّة! ثمّ أنّ طبق الغذاء المقدّم للضيوف «محمصة بالعصبان والبيض المسلوق»، هو نفسه الّذي يقع إعداده يوم الزفاف قبيل الدخول واستهلاك الزواج وهو كذلك نفسه المقدّم للزائرين والمهنّئين بالولادة في اليوم السابع!

الخاتمة

لئن تميّزت منظومة العادات والتقاليد المتعلّقة بالموت في جزيرة جربة بتعدّدها وتكاملها وثرائها الرمزي والوظيفي، فإنّها دون شكّ تتجاوز تعاليم الدين الاسلامي. فهي أقدم منه بكثير، وتستمدّ جذورها العميقة من طقوس واعتقادات وثنيّة. فقد كان سائدا الاعتقاد في تواصل الأرواح وتناسخها في حياة أخرى تلي الموت، حيث يسافر إليها المتوفّى في رحلة عسيرة ليستقرّ بها نهائيّا31. ولعلّ أهمّ ما يميّز هذه الرحلة هو طابعها الأزلي. ذلك أنّ امتدادها في الزمن إلى أجل غير معلوم قد جعل فترة الحزن لدى الأرامل أبديّة في القديم. بل أنّ بعض الديانات قد اتّصفت بالمغالاة والقسوة في هذا المجال، حتّى أنّها كانت تحكم على زوجات الرجل المتوفّى بالموت. فيقع دفنهنّ معه في نفس اليوم وبنفس الضريح وكأنّهنّ جزء لا يتجزّأ من الأثاث الجنائزي32!

وقد سادت هذه الاعتقادات طويلا مدمّرة حياة عشرات الآلاف من النساء، إلى أن جاء الدين الإسلامي وشرّع تعاليم جديدة اجتثّت العديد من المعتقدات البالية والمجحفة في حقّ المرأة. من ذلك إلغاؤه الحزن الأزلي وتحديده مدّة العدّة بأربعة أشهر وعشرة أيّام. ومن هنا تكتسب تعاليمه السمحة بعدا ثوريّا من خلال تحديده لفترة الحزن من حيث الزمن. ففقدت بذلك صبغتها المطلقة وأضحت نسبيّة محدودة في الزمان وفي الأشخاص. وبذلك يكون الدين الاسلامي قد أنقذ المرأة من براثن الموت ومن عتمة القبور وقتامة حزن أبديّ جائر. ولم يكتف الاسلام بوضع حدّ لهذه الفظائع المرتكبة في حقّ المرأة، بل كرّمها ورفع من شأنها. فلم تعد مدينة للرّجل في حياتها ولا من توابعه ترحل برحيله. إنّما اكتسبت إنسانيّتها وكرامتها، حتّى أنّ الرسولﷺ قد أوصى خيرا بالنساء في خطبة الوداع حيث قال: «استوصُوا بالنساءِ خيراً، فإنهن عندَكم عَوانٌ»33.

رغم تناقضها الصارخ مع تعاليم الاسلام، فإنّ هذه الطقوس القديمة قد تحدّت عامل الزمن فتواصل حضورها إلى اليوم. ذلك أنّها لم تندثر تماما، إنّما تأقلمت مع هذا الواقع الجديد. وهو ما يفسّر امتدادها في الزمان واستقطابها لمريدين حافظوا عليها وتوارثوها لأجيال متعاقبة. إلّا أنّ المواظبة على هذه الطقوس لا يعني أبدا إدراك كنهها ومحافظتها على معانيها الأصليّة. فقد فقدت روحها وجوهرها واتّخذت أنماطا أخرى، فبدت فيها بشكل باهت لرواسب واعتقادات قديمة. بل أنّنا اكتشفنا من خلال المقابلات الّتي أجريناها خلال العمل الميداني أنّ اتّباعها قد غدا آليّا دون فهم معانيها ولا أصولها34. وهي الآن في تقهقر ولا نستغرب اندثارها مستقبلا نتيجة التحوّلات الحضاريّة العميقة الّتي تعرفها الجزيرة. فعلى غرار عديد العادات القديمة الأخرى يبدو أنّ طقوس العدّة لن تصمد كثيرا أمام غول العولمة، وستؤول بدورها إلى السقوط في غياهب النسيان. وهو ما دعانا إلى دراستها وتوثيقها بغية فهم محتواها ومعانيها ونقل أثرها إلى الأجيال اللّاحقة.

الهوامش

 

1. أستاذ بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي ورئيس جمعيّة ثقافيّة تعنى بالتراث الرمزي.

2. سلّام، (علي)، البكاء والدموع في الفلسفة والأدب والحياة الاجتماعية، مركز الاسكندرية للكتاب، 2005، ص 42.

3. النهدي، (حبيب)، الموت كما يعيشه المجتمع التونسي، أطروحة دكتورا في علم الاجتماع، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 2001، ص 28.

4. ارتبطت هذه الصورة القاتمة بالمرأة في الموروث الشفوي وخاصّة في الأمثال الشعبية لعديد الشعوب. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نكتفي بمثلين الأوّل من تونس ويقول منطوقه: "اللّي ما تعرفش تندب، علاش يموت راجلها" ومعناه من لا تجيد الندب لماذا يموت زوجها. أمّا المثل الثاني فمن المغرب الأقصى، ويقول: "البنات للممات".

5. GOUJA, (Zouheir), Communauté noire et traditions socioculturelles ibadhite de Djerba, Thèse de Doctorat en Ethnomusicologie, Université Paris VIII, 1996, p 246.

6. الزحيلي، (وهبة)، الفقه الاسلامي وأدلّته، دمشق، دار الفكر المعاصر، 1995، ص 90.

7. سورة البقرة، الآية 234.

8. إذا ما كانت الأرملة حاملا عند وفاة زوجها، فعليها إعلام الجميع بذلك قبل مغادرة موكب الجنازة لمنزل الزوج المتوفّى. ونظرا لحالة الحداد ولحساسيّة الموقف، يتّخذ هذا الاعلام شكلا رمزيّا موحيا. ذلك أنّ الأرملة من فرط صدمتها ومن شدّة حزنها لا تقوى على الكلام، فتكتفي بالمرور تحت النعش أمام الملأ قبل انطلاق الجنازة إلى المقبرة. ونشير أنّ هذا التقليد لازال قائما في جزيرة جربة، وقد حضرنا شخصيّا على هذا الموقف المؤثّر.

9. يسود الاعتقاد في كامل الجزيرة أنّ الأرملة مصدر للشرّ وهو ما يفسّر التطيّر منها ويدعو إلى ضرورة تجنّبها. من ذلك أنّ الانسان الّذي أصابه نحس، كأن تركد تجارته أو أن تلحقه خسارة يقال أنّه "أصيب بلعنة معدادة". بل تذهب العادات والتقاليد أبعد من ذلك، بأن تحمّل الأرملة مسؤوليّة عجز جنسي أو ضعف فحولة أو عقم أصاب أحد الرجال لمجرّد أن يبدأ يومه بملاقاتها في طور عدّتها. ولا يقف خطرها عند هذا الحدّ، لأنّ أذاها يمكن أن يطول كلّ الكائنات الحيّة. فلا تنجو منها الحيوانات ولا النباتات إذا ما أطالت فيهم النظر وحدّقت فيهم بتركيز، كأن يجفّ ضرعها أو أن يصيبها مرض خطير فتموت.

10. يعتقد أنّ الأرملة نذير شؤم وأنّ نحسها أكثر ما يطال الأشخاص الّذين يمرّون بفترة انتقاليّة في حياتهم، كالعرسان والنساء الحوامل والرضّع. فهي تمثّل خطرا محدقا عليهم، لذلك تعمد الأمّهات الحديثات العهد بالولادة إلى التهرّب منها واخفاء الأطفال الرضّع عنها لحمايتهم منها. فلا يلحقهم أذاها ولا يصيبهم مكروه أو أيّ مرض خبيث قاتل.

11. السكافي، (فاتن)، "معنى الحياة في علم النفس"، مجلّة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 37، بيروت، مركز جيل البحث العلمي، 2017، ص ص 25-38.

12. الزين، (أميمة)، "الماء وحضارة المجتمعات الانسانية"، مجلّة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 1، بيروت، مركز جيل البحث العلمي، 2013، ص ص 51-63.

13. CHEVALIER, (Jean) et CHERBRANT, Ibidem, 891.

14. نشير إلى أنّ الذاكرة الجماعية تحتفظ بصورة مشرقة للحنّاء، ذلك أنّها ارتبطت في الثقافة الشعبية بالجنّة. وتستند هذه الصورة الإيجابية للحنّاء على تراث ديني ثريّ وحافل، من ذلك أنّه ممّا يروى عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان مولعا بهذه النبتة حتّى أنّها كانت شجرته المفضّلة.

15. NAJAR, (Sihem), Pratiques alimentaires des djerbiens ; une étude socio-anthropologique, Thèse de Doctorat en Sociologie, Université Paris V, 1993, p 176.

16. الزحيلي، (وهبة)، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دمشق، دار الفكر المعاصر، 1997، ص 276-277.

17. VALENSI, (Lucette) et UDOVITCH, (Abraham), Juifs en terre d’islam ; les communautés de Djerba, Paris, Archives contemporaines, 1984, p 14.

18. بن صالح، (عماد)، "من أجل بعث متحف الزيتونة لحفظ الذاكرة والتعبير عن الهويّة"، مداخلة بصدد النشر ألقيت في المؤتمر الدولي "الزيتونة في الفكر والثقافة" المنعقد بجزيرة جربة في دورته الأولى من 30 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2018.

19. إضافة إلى المعنى الظاهر للماء كوسيلة للطهارة، فإنّ له معنى باطن يتجلّى خاصّة في معاني الماء ورموزه المتعدّدة. ذلك أنّ الماء يرمز إلى الحياة والخصوبة من خلال السائل المنوي. وهو ما يتوافق تماما مع المعتقدات القديمة الّتي كانت تعتبر المطر المني الخصب لأب السماء. فكلّما كان المطر قويّا، ترتوي الأرض وتزداد خصوبتها فتعطي وافر الانتاج. وذاك هو واقع الزوجين فكلّما كان الجماع منتظما إلّا وتوّج بقذف جيّد للمني في رحم المرأة، وهكذا تشبع رغبتها الجامحة ويزداد حضّها في الانجاب.

20. زواج الأرملة يبقى مستهجنا في المجتمعات التقليديّة. فقد احتفظت لهنّ الذاكرة الجماعيّة بصورة قاتمة، حتّى أنّها ضيّقت عليهنّ الخناق وتكاد تصادر حقّهنّ في الزواج من جديد. وقد لخّص لنا المأثور الشفوي وخاصّة الأمثال الشعبيّة هذا الموقف السلبي من الأرملة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نورد المثل القائل: " لا تاخذ هجّالة، لو يكون خدّها مشموم".

21. نذكّر أنّ غابة الزيتون بجزيرة جربة تضمّ 000 800 شجرة تغطّي كامل مساحة الجزيرة الّتي تبلغ 540 كلومتر مربّع، أي بمعدّل كثافة يقارب 1481 شجرة في الكلومتر المربّع الواحد. وهو رقم مرتفع يفوق المعدّل الوطني بأضعاف المرّات باعتباره لا يتجاوز 491 زيتونة في الكلومتر المربّع الواحد.

22. عكس بقيّة الأشكال الهندسيّة، فإنّ الدائرة تخلو من الزوايا وكلّ الأشكال الحادّة والمذبّبة. كما تتميّز الدائرة بتواصلها واستمرارها، فلا نقطة بداية بها ولا نقطة نهاية لها. فهي بانسيابها وتواصلها ترمز إلى المرأة وإلى الخصوبة والحياة، خاصّة وأنّ معايير جمال المرأة تقليديّا تتلخّص في استدارة الجسم وبدانة الجسد وبياض البشرة ونعومتها.

23. يكتسب اللّون الأخضر بالغ الأهمّية من خلال موقعه في الدائرة اللّونية. فهو يتوسّط حرارة الأحمر وتوهّج الأصفر من جهة وبرودة الأزرق وسكون البنفسجي من جهة أخرى. وهو بذلك لون وسطيّ يرمز إلى الاعتدال وإلى قيم جمالية وأخرى حضارية منها الخير والبركة والخصوبة والحياة. فهو لون حيّ يتّقد نشاطا وحيويّة، يغذّي الروح ويحرّك العواطف الجيّاشة فيضفي عليها معان سامية ودلالات عميقة. من ذلك أنّه يرمز للأمل وللرّبيع من خلال جمال الطبيعة الحبلى وعودة الروح إليها واستئناف الحياة فيها بعد خمول الشتاء. وانطلاقا من هذا المعطى، فقد اكتسب اللّون الأخضر منحا روحيّا أضفى عليه بعدا قدسيّا. وهو ما لاحظناه فعلا من خلال تواتره وكثافة استعماله في الزّوايا عموما وفي الأثاث الجنائزيّ للأضرحة على وجه الخصوص. فلا تكاد تخلو قبّة ولا سارية ولا ضريح ولا سنجق من هذا اللّون المثقل بالرّموز والمعاني. وممّا يجدر التذكير به، أنّ اللّون الأخضر قد اتّخذ بعدا كونيّا. فغدا رمزا للسّلم وللحوار والتعايش، وهو ما عبّر عنه ببلاغة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في حركة رمزيّة حبلى بالمعاني. لمّا رفع غصن الزيتون في منبر الأمم المتّحدة يوم 13 نوفمبر 1974 قائلا "لا تتركوا الغصن الأخضر يسقط من يدي".

24. تنتمي شجرة الزيتون إلى فصيلة الأشجار الّتي لا تسقط أوراقها في الخريف. فتحتفظ بأوراقها طيلة السنة، لذلك فهي تظلّ مخضرّة دائما تسرّ العين وتنشي الروح. من هنا اكتسبت رمزيّة الحياة والديمومة، وهي تشترك في هذه الصفة مع المرأة باعتبارها رمز الجمال والخصوبة وواهبة للحياة.

25. بن صالح، (عماد)، "الزيتون الرمز بجزيرة جربة بين الأمس واليوم: زيتونة 'العظام' نموذجا"، مواقع ومعالم جزيرة جربة: أعمال الملتقى الدولي البشير التلّيلي، تونس، المركز الجامعي للنشر، 2019، ص ص 18-32.

26. BEN SALAH, (Imed), « L’olivier porteur de mémoire et de valeurs d’usage », in Pensée Méditerranéenne, Université de Tlemcen, n° 4, mai 2013, pp 53-67.

27. إضافة إلى مهامهنّ الكلاسيكيّة في البكاء الصراخ والندب واللّطم تمزيق الشعر والثياب إلى حدّ التعرّي النصفي، تتولّى النوّاحات مهمّة تعديد خصال الفقيد المعنويّة والماديّة بل وحتّى الجنسيّة منها.

28. KERROU, (Mohamed), « La mort au féminin », in Cahiers des Arts et Traditions Populaires, n° 10, Tunis, I.N.A.A, 1990, pp 34-49.

29. لعلّ أشنع مظهر لتلك الصورة القاتمة هو لمّا تموت الأرملة دون أن تنهي عدّتها، "فتموت مغمومة وتتحوّل إلى غولة". فقد احتفظت لها الذاكرة الشعبية بأوضع المراتب وأبشع الصور. ذلك أنّ الشرور الكامنة في الأرملة المتوفّاة تتحوّل إلى كائن خرافيّ، فيما يشبه "العبّيثة" العطشى للدّماء. ومن فرط غضبها فهي لا تتردّد في الانتقام من الجميع، فيطول شرّها كلّ شيء ولا يكاد ينجو منه أحد. وبسؤالنا عن الاجراءات الواجب اتخاذها في هذه الحالة، اختلفت ردود الأفعال وتباينت الأجوبة. نذكر أنّ أبرز ما ظفرنا به من الأجوبة يتمثّل في تطوّع إحدى الأرامل الحديثات بمواصلة عدّة الأرملة المتوفّاة إلى نهايتها. فتتحمّل الأرملة المتطوّعة نفس التزامات الأرملة المتوفّاة، وتحرص على القيام بكلّ الطقوس وبنفس الطريقة السالف ذكرها. عندها فقط ترجع الأمور إلى نصابها ويستتبّ الأمن لدى "أهل الحومة". في اعتقادنا فإنّ هذه الوسيلة "الدفاعيّة" الّتي ارتآها المجتمع لتحصين نفسه من شرور الأرملة المتوفّاة دون إكمال عدّتها لا تخلو من الذكاء ولا من الطرافة. ذلك أنّها تحترم مبدأ توازي الشكليّات، كما تعكس بعمق مستوى الخوف والهلع الّذي أصاب المجتمع. وهو ما دفعه إلى الاجتهاد لتوفير الحلّ المناسب للخروج من هذه الأزمة بأخفّ الأضرار.

30. MIRCEA, (Eliade), Le mythe de l’éternel retour, Paris, Folio, 1989, p 280.

31. بن تنفوس، (عزيزة)، "من عادات الموت بجربة: العدّة"، مجلة العادات والتقاليد الشعبية، تونس، المعهد القومي للآثار والفنون، عدد 9، 1987، ص ص 25-32.

32. FANTAR, (Mohamed-Hassine), Eschatologie phénicienne punique, Tunis, I.N.A.A, 1970, p 13.

33. FANTAR, (Mohamed-Hassine), Ibidem, p 90.

34.

35. حديث متّفق عليه، رواه البخاري ومسلم.

36. الأغلبيّة السّاحقة للنساء المستجوبات (تسع نساء من عشرة)، أكّدن جهلهنّ لمعاني هذه الطقوس وفسّرن كثرة تداولها بمجرّد أنّها "عادة الجدود".

 

المصادر

 

- - 1القرآن الكريم.

- - 2البخاري، (أبو عبد الله محمد بن اسماعيل)، الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه، بيروت، دار طوق النجاة، 2001.

 

المراجع

 

- - 1 بن تنفوس، (عزيزة)، «من عادات الموت بجربة: العدّة»، مجلة العادات والتقاليد الشعبية، تونس، المعهد القومي للآثار والفنون، عدد 9، 1987، ص ص 25-32.

- - 2 بن صالح، (عماد)، «الزيتون الرمز بجزيرة جربة بين الأمس واليوم: زيتونة ‹العظام› نموذجا»، مواقع ومعالم جزيرة جربة: أعمال الملتقى الدولي البشير التلّيلي، تونس، المركز الجامعي للنشر، 2019، ص ص 18-32.

- - 3 بن صالح، (عماد)، «من أجل بعث متحف الزيتونة لحفظ الذاكرة والتعبير عن الهويّة»، مداخلة بصدد النشر ألقيت في المؤتمر الدولي «الزيتونة في الفكر والثقافة» المنعقد بجزيرة جربة في دورته الأولى من 30 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2018.

- - 4 الحلواني، (عامر)، جمالية الموت، كليّة الآداب والعلوم الانسانية بصفاقس، 2004.

- - 5 الرابحي، (رضوان)، «تمثلات الموت من خلال الأمثال الشعبية»، الثقافة الشعبية، عدد 36، المنامة، 2017، ص ص 100-107.

- - 6 الزحيلي، (وهبة)، الفقه الاسلامي وأدلّته، دمشق، دار الفكر، 1995.

- - 7 الزحيلي، (وهبة)، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، دمشق، دار الفكر المعاصر،1997 .

- - 8 الزين، (أميمة)، «الماء وحضارة المجتمعات الانسانية»، مجلّة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 1، بيروت، مركز جيل البحث العلمي، 2013، ص ص 51-63.

- - 9 السكافي، (فاتن)، «معنى الحياة في علم النفس»، مجلّة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية، عدد 37، بيروت، مركز جيل البحث العلمي، 2017، ص ص 25-38.

- - 10 سلّام، (علي)، البكاء والدموع في الفلسفة والأدب والحياة الاجتماعية، مركز الاسكندرية للكتاب، 2005.

- - 11 النهدي، (حبيب)، الموت كما يعيشه المجتمع التونسي، أطروحة دكتورا في علم الاجتماع، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بتونس، 2001.

- Bibliographie en langue française

-

- 1 - BEN SALAH, (Imed), « L’olivier porteur de mémoire et de valeurs d’usage », in Pensée Méditerranéenne, Université de Tlemcen, n° 4, mai 2013, pp 53-67.

- 2 - CHEVALIER, (Jean) et CHERBRANT, (Alain), Dictionnaire des symboles, Paris, Seghers, 1973.

- 3 - FANTAR, (M’hamed-Hassine), Eschatologie phénicienne punique, Tunis, I.N.A.A, 1970.

- 4 - GOUJA, (Zouheir), Communauté noire et traditions socioculturelles ibadhite de Djerba, Thèse de Doctorat en Ethnomusicologie, Université Paris VIII, 1996.

- 5 - KERROU, (Mohamed), « La mort au féminin », in Cahiers des Arts et Traditions Populaires, n° 10, Tunis, I.N.A.A, 1990, pp 34-49.

- 6 - MIRCEA, (Eliade), Le mythe de l’éternel retour, Paris, Folio, 1989.

- 7 - NAJAR, (Sihem), Pratiques alimentaires des djerbiens ; une étude socio-anthropologique, Thèse de Doctorat en Sociologie, Université Paris V, 1993.

- 8 - VALENSI, (Lucette) et UDOVITCH, (Abraham), Juifs en terre d’islam ; les communautés de Djerba, Paris, Archives contemporaines, 1984, p 14.

 

الصور

 

- الصور من الكاتب.

- - الصورة عدد 1 مأخوذة من أرشيف المعهد الوطني للتراث.

- -الصور عدد 2، 3، 4، 5، 6، 10 مأخوذة من فيلم وثائقي بعنوان «نانا ماتت» للمخرج جلال بالسّعد.

- - الصور عدد 7، 8، 9 مأخوذة من فيلم وثائقي

 

أعداد المجلة